العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب الأول: ولادته وصبوّته

الدكتور. جورج فورد


List of Tables

1.
2.

Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب الأول: ولادته وصبوّتهالدكتور جورج فورد. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7351 ARA. German title: Geburt und Kindheit (Heft 1). English title: His Birth and Early Years (booklet 1). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة «نداء الرجاء»

1 - مقدمة: الحاجة إلى المسيح

مرت السنون والإنسان يزيد ظلماً وتعاسة، بسبب زيادة بُعْده عن الكمال. وقد عجزت الفلسفة البشرية عن بلوغ الكمال وإصلاح الحال. ويظهر هذا مما قاله سقراط، الحكيم اليوناني الشهير، لتلميذه ألسبيادس: «يا عزيزي ألسبيادس، إني لا أستطيع أن أبيِّن لك كيف تحصل على الخير الأعظم، لأني لا أعلم. لكنني موقن أن الخالق مُحسن. وأنه بناء على إحسانه سيرسل في الوقت المناسب معلماً يعلّم الإنسان كيف يحصل على ذلك الخير».

علّم الإختبار هذا الفيلسوف أن الناس الفاسدين بطبيعتهم ليسوا أهلاً لإصلاح ما هو فاسد، وقد قال الشاعر العربي:

Table 1. 

هل يُرتَجَى الإصلاح من فاسدفالشهد لا يُجنَى من الحنظل

قد وضع قادة الأمم شرائع لإصلاح الحال، كما نقرأ عن عصر حمورابي وفلاسفة اليونان وحكماء مصر ومشترعي الرومان ومجوس فارس وبراهمة الهند وغيرهم. لكن حكمة هؤلاء كلهم لم تبلغ المطلوب. ومع أن شريعة موسى شريعةٌ إلهية، إلا أنها كانت قاصرة عن الإصلاح الكامل، لأن القصد منها كان تعريف الإنسان بخطئه، وحثّه على طلب الكمال، وإرشاده إلى مصدر الإصلاح، فلم يبْقَ هناك إلا الواسطة الوحيدة التي عيَّنها الله لبلوغ الإنسان درجة الكمال، وهي إرسال المعلم السماوي، إبن محبته، يسوع المسيح، الذي جاء بما لا يستطيع أن يأتي مثله حكيمٌ بشري. فإنه فضلاً عن جلال شريعته وكمالها، لم يرتكب - بفكر أو قول أو عمل - أمراً مخالفاً لنقطةٍ واحدةٍ مما أوجب على الناس حفظه. وهذا ما قصر عنه كل مصلح سواه.

حاجتنا العظمى إذاً ليست إلى من يعلّمنا طريق الكمال، بل إلى من يسير أمامنا في تلك الطريق، لنحتذي مثاله ونقتفي آثاره. ولم تطأ أرض البشر قدوس كامل غير يسوع ابن مريم، الكامل في ذاته وصفاته. وشتّان ما بين تأثير علم الكلام وعلم المثال، لأن عِلم الكلام نظري شفهي، أما علم المِثال فحسّي عملي، ولذلك أصبح المسيح مطمح أبصار العالم الفاسد بأسره، ليمنحه الصلاح والسعادة وبلوغ درجة الكمال. فالأمر الهامّ هو معرفة ما عمله المسيح لأجلنا، وما علّمه. وبعبارة أجلى درس حياة المسيح لنرى فيها طريق الإصلاح والسعادة. إن كل شيء تقريباً يحتمل المبالغة إلا الكلام عن المسيح، فإن بلاغة كل بليغ تصغر عن وصف تلك الحياة السامية الكاملة. وأعظم مكافأة يتوقعها إنسان هي أن يكون وسيلة لاقتياد الناس إلى المسيح راعي نفوسهم وأسقفها، ورسول المحبة السماوية، لننال به الكمال الحقيقي والخلاص المجاني، ونتمتع معه بالحياة الأبدية المقدسة في الأمجاد السماوية. وقد وصف أحد المرنمين السيد المسيح بالقول:

Table 2. 

قُمْ ونغِّمْ يا مرنّمباسم فادينا الحبيب      
برخيم اللحن عظِّمْذلك الشخصَ العجيب      
ذلك السامي السجاياصاحب المجد الرفيع      
خالق كل البرايالطفه محيي الجميع      
أبديٌّ أزليكان من قبل الجبال      
وهو قدوس زكيلابسٌ ثوب الجلال      
شمسُ برٍ ذو جمالكوكب الصبح المنير      
وحده حاوي الكمالما له أصلاً نظير      

وقد قرأ المسيح نبوّةً من سفر إشعياء، جاءت عنه قبل مجيئه للعالم بسبعمائة سنة، تقول: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ ٱنْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ ٱلنَّائِحِينَ» (إشعياء 61: 1 و2).

وقال الإنجيل عن المسيح:

«نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱللّٰهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي ٱلَّذِي ٱحْتَمَلَ مِنَ ٱلْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هٰذِهِ لِئَلَّا تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ» (عبرانيين 12: 2 و3).

«تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1 بطرس 2: 21).

ولهذا نقول إننا محتاجون للمسيح للأسباب الخمسة التالية:

  1. لأن المسيح هو القائد الديني الذي امتاز بحبه للبشر. ونجاح رسالته اليوم في العالم هي نتيجة حبِّه المتفاني وحضوره الحقيقي الدائم مع أبناء شعبه.

  2. لأن المسيح هو موضوع الإنجيل الذي هو أعظم بشارة سمعتها آذان البشرية، لأنها بشارة اهتمام اللّه بخير الجنس البشري زمنياً وأبدياً.

  3. لأن المسيح هو المخلِّص الذي لبس طبيعتنا البشرية اختيارياً، ليتقرب من الناس، وليتمكن من إنجاز وظيفته كمخلّص الجميع، لأنه يحب كل بني آدم الساقطين.

  4. لأن المسيح هو الذي عيَّنه اللّه منذ الأزل، والذي أرسله في ملء الزمان، ليعلن للبشر محبة اللّه التي لا تُحد ولا تُوصف، وليتمّم عمل الفداء.

  5. لأن المسيح هو كلمة اللّه المتجسّد، المولود الوحيد الذي لا يكون إلا على صورة المولود منه، الذي وصفه الإنجيل بأنه «محبة». في شخص يسوع المسيح أظهر اللّه لنا المحبة الإلهية المتفانية، دون تمييز مذهبي - ليس نحو محبّيه فقط - بل نحو مبغضيه وصالبيه أيضاً، وأورث البشر بعده مبدأ المحبة للجميع حتى الأعداء، وأدرج ذلك في تعاليمه، وأيَّده في سلوكه، فأعلن أن المحبة هي تكميل الشريعة.

تضع بعضُ المذاهب الدينية التنبير على قدرة الإله الذي يعبدونه، وبعضها على قداسته، وغيرهم على حكمته، وآخرون على رحمته. وأما المسيحية، فمع مجاهرتها بهذه كلها، تخصِّص فوقها وتقدِّم عليها ما أتى يسوع المسيح ليعلنه جلياً، وهو محبة اللّه الأبوية التي تعمُّ البشر والتي تسعى لتردَّهم جميعاً حتى أشرّهم عن الضلال، وتخلّصهم من الهلاك (يوحنا 3: 16).

ولا يحقُّ لأحدٍ أن يُسمَّى مسيحياً ما لم يكن على مبدأ المحبة لجميع الناس حتى الأشرار والأعداء، للخدمة والتضحية في سبيل الخير الحقيقي للآخرين.

2 - وصف شخصية المسيح

كلما كان ادّعاء الإنسان كبيراً صعُبَ عليه أن يبرهنه، وسهُلَ على الغير إثبات خطئه، لذلك يتجنَّب كلُ عاقلٍ الادّعاء الكاذب، خشية الفشل، وتعرُّض زعيمه للاحتقار.

والمسيحية أصعب المذاهب في ما تدَّعيه لزعيمها. فإنْ صحَّ هذا الادّعاء أصبحت سيدة المذاهب، وزعيمها سيد الزعماء. أما إثبات ما تتطلبه المسيحية فيتوقف على مطالعة تاريخ حياة المسيح الذي قال: «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متى 7: 16). فعلى أقوال السيد المسيح وأفعاله ونتائج ما قال وفعل، يُبنَى الحكمُ في مقدار عظمته الحقيقية - وليس على ما ينعته به المحبون، أو يطعنه به المخالفون.

يوم كان المسيح معلماً جليلياً فقيراً أوثقه خصومه، رؤساء اليهود، وأحضروه مخفوراً مكتوفاً إلى الوالي الروماني الصارم بيلاطس البنطي، طالبين الحكم عليه بالصَّلْب. وبعد المحاكمة صرّح بيلاطس ببراءة المسيح، وقال للشاكين: «أنا لستُ أجد فيه علةً واحدة». فألحُّوا عليه أكثر حتى جدَّد المحاكمة ثم قال: «وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلا هِيرُودُسُ (الملك) أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ» (لوقا 23: 13-15). ثم أوصتْ زوجة بيلاطس بالمسيح بسبب حُلْمٍ آلمَها، وسمَّتْهُ «ذٰلِكَ ٱلْبَارَّ» (متى 27: 19). ثم بعد ذلك قال بيلاطس ثالثة: «إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ» (لوقا 23: 22). ولما رضخ أخيراً لطلب اليهود بغير رضى وسلّم المسيح للصلْب، لم يفعل إلا بعد محاولة أخرى لتهدئة ضميرِه الثائر، إذْ أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلاً: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ» (متى 27: 24).

فحص بيلاطس وكانت نتيجة فحصه أنه وجد المسيح باراً، وهذه النتيجة التي وصل إليها بيلاطس في نهاية حياة المسيح الأرضية هي مفتاحٌ ضروري في معرفة الشخص الذي سمَّاه هذا الوالي الروماني وامرأته «ذلك البار». ومعلومٌ أن العالم الراقي بأسره يؤيدهما في حكمهما في صلاح يسوع المسمَّى المسيح. وشهادات اليهودي والمسلم والوثني والكافر مجمعةٌ على هذا القرار.

فأين الحل المعقول للمشكل الدائم المتعلِّق بهذا الشخص، وهو التوفيق بين حُكم العالم بأسره بصدق المسيح وقداسته، وبين كل ما (أ) ادَّعاه لنفسه مما لا يجوز لمجرد بشر أن يدَّعيه، و (ب) كل ما فعله ممّا لا يستطيع أن يفعله مجرد بشر، و (ج) كل ما قَبِل أن يقوله فيه الآخرون أو يفعلوه له، مما لا يجوز أن يُقال في مجرد بشر أو يُفعل لهم؟

لا يختلف اثنان على أن ادّعاء الإنسان بأكثر مما له، أو بغير ما له، يكون خداعاً أو غباوة أو اختلالاً عقلياً. وبالطبع لا يخطر ببال أحد أن يتهم يسوع المسيح بشيء من هذه، فكراً أو قولاً أو فعلاً.

ولا يخفى أن الرسل والأنبياء: كلما تقدموا في الصلاح، زاد تواضعهم وانكسار الروح فيهم بسبب زلاتهم أو تقصيراتهم، لأن التواضع من أسمى الفضائل، والاعتراف بالخطأ من أول الواجبات. والصلاح يولّد الشعور الدقيق في الضمير. فكما يشمئزُّ المتمدن من أقذار لا يبالي بها المتوحش، هكذا يستغفر الصالح على أمور تُعتبر طفيفة عند الأقل صلاحاً، وتكون عند الأشرار موضع الافتخار. ففي سيرة أعظم الأنبياء والرسل الذين ورد خبرهم في كتاب الوحي، نظير موسى وداود ودانيال وبطرس وبولس، ترى اعترافات مؤثرة جداً، واسترحاماً كثيراً - وذلك يزيد اليقين بصلاحهم الحقيقي، لأن ليس بينهم من ادَّعى لنفسه الكمال. ولكن المسيح يختلف في هذا عن جميع الصالحين، وهذا الاختلاف يتطلب تفسيراً مقنعاً، وإجابةً للسؤال: من هو يسوع هذا؟

ولا يغيب عن البال أن الذين وصفوا المسيح بالكمال، هم الذين لازموه نهاراً وليلاً، صيفاً وشتاءً، زُهاء ثلاث سنين، فتيسَّر لهم أن يعرفوا بواطنه وظواهره. ولم يكونوا من المتساهلين الذين يسدلون الستار على التقصيرات والهفوات أو يسكتون عنها، بل هم الذين بينما يشرحون سيرة المسيح، ويؤيدون سموَّ كماله، كانوا يذكرون سقطاتهم وتقصيراتهم. وفي هذا دلالة كافية على إخلاصهم وحكمتهم واستقامتهم، ومستندٌ كافٍ لوضع شهاداتهم عن المسيح محل اليقين والاحترام.

من غرائب التاريخ أن الدين المسيحي دام واستمر ونجح، رغم أنه قاسى في كل ماضيه، ولا يزال يقاسي، أمرَّ المقاومات وأشدها من خصومة الأقوياء، الذين قصدوا أن يحقّروه ويضعفوه، بل ويلاشوه، لأنه منذ يوم حاول هيرودس الملك قتل الطفل يسوع في بيت لحم إلى يومنا هذا، لم ينفكَّ أعداء المسيحية العديدون المقتدرون، عن محاربة الكنيسة المسيحية وتعاليمها بذات القصد الذي ساق هيرودس إلى ما فعل.

ولا يخفى على كل مطَّلع مفكّر أن جميع أبواب الاعتراض على التعاليم والعقائد المسيحية فُتحت قديماً في العصر الرسولي. وكانت تنام وتستيقظ جيلاً بعد جيل، وبعضها يموت لسخافته عند بيان ما يدحضه تماماً. وكان أنصار هذه الاعتراضات الكفرية وزعماء هذه المقاومات يزعمون ثم يفتخرون بأنهم قد هدموا أركان المسيحية حتى أصبحت ملاشاتها أكيدة، مدَّعين أن كل احترام لكتابها المقدس قد زال، وأن أهل العالم قد رفضوا أهمَّ القضايا المُدرجة فيه. ولكن تعليم الإنجيل عن شخص المسيح اجتاز كل امتحان وثبت.

وقد قال المسيح في صلاته: «أَيُّهَا ٱلآبُ، هٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا 17: 3). وقال الرسول بولس إنه يحسب كل ما في الدنيا نفاية لكي يعرف المسيح حق المعرفة (فيلبي 3: 8).

ويوحنا الرسول، الذي صوَّر بقلمه أجمل الصور الأربع للمسيح، يقول في آخر كلامه: «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31).

فحبذا إن توصَّل كل إنسان إلى الإيمان الشخصي الحي بهذا المخلّص المنفرد عن البشر، مع كونه أيضاً شريكاً للبشر في طبيعة بشرية حقيقية، لأن هذا الإيمان يضمن لصاحبه الحياة الأبدية، باسم المسيح الذي كتب فيه الرسول بولس أن الله «رَفَّعَهُ وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 9-11).

3 - مصادر حياة المسيح

وصلتنا الأخبار الحقيقية عن يسوع المسيح من أربعة مصادر تُسمَّى أناجيل أو بشائر لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا.

وكلمة «الإنجيل» لفظة يونانية معرَّبة، ومعناها «البشرى» أو «الخبر المفرح» وأول ما استُعملت له هو بشرى الخلاص الذي جاء المسيح به - بمعنى التعاليم التي تحتوي حقائق تلك البشرى، ثم سيرة المسيح التي جسَّدت تلك البشرى.

وكلمة الإنجيل بهذا المعنى، لم تَعْنِ بالأصل أي كتاب، بل هي البُشرى نفسها ونَقْلها. وقبل تدوين الإنجيل كتابة كان الإنجيل الشفهي - أي نقل البُشرى شفهياً على لسان الرسل وتلاميذهم وكان قد انتشر في الإمبراطورية الرومانية كلها. لم يكتب السيد المسيح إنجيلاً ولم يطلب من تلاميذه أن يكتبوا، فوحي المسيحية ليس في الدرجة الأولى وحي كتاب يُنزَّل حروفاً وكلمات، بل وحي شخص حي، هو المسيح نفسه. ويقول الرسول بولس إن الله الذي كلَّم الآباء، قديماً بواسطة الأنبياء مراراً كثيرة وبطرق شتى، كلمنا نحن أخيراً بمن هو نفسه كلمة الله. ويقول الرسول يوحنا في مطلع رسالته الأولى غن الذي سمعه الرسل ورأوه بعيونهم وتأملوه ولمسته أيديهم، بشروا به العالم، ناقلين إليه الإنجيل، أي بشرى الرجاء والخلاص.

ولكن قادة المسيحية شعروا بضرورة تدوين أخبار حياة المسيح لتبقى مرجعاً وثيقاً للجماعات المسيحية، بعيدة عن كل شبهة أو تلاعب أو تحريف. وكان لا بد من العمل في زمن رسل المسيح أنفسهم، وهم الذين تلقُّوا البشرى وعايشوها وعاشوها قبل أن ينقلوها لغيرهم، فعمد البعض بوحي من الروح القدس إلى تدوين الإنجيل كتابة، فكانت الروايات الأربع التي نسميها الأناجيل الأربعة، الموجودة هنا اليوم بالكتاب المقدس - فليس في المسيحية إلا إنجيل واحد - أي البشرى التي حملها المسيح لنا، وجسَّدها في حياته، ولقَّنها في تعليمه. وبهذا المعنى لم يرد لفظ الإنجيل إلا مفرداً في العهد الجديد، بمختلف أسفاره. إلا أن نقل تلك البشرى إلينا وصل في روايات أربع تتفق جوهراً وموضوعاً. الإنجيل البُشرى واحدٌ إذاً. أما مدوّنوه فأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا - متى ويوحنا من تلاميذ المسيح الإثني عشر. مرقس تلميذ الرسول بطرس، ولوقا تلميذ الرسول بولس - وقد كتب مرقس ولوقا تحت إشراف الرسولين بطرس وبولس.

كتب متى قصة البشرى لبني قومه من اليهود، وهذا واضح من اهتمامه بنبوات التوراة عن السيد المسيح، وكيف تحققت كلها بمجيء المسيح. أما مرقس فقد دوَّن قصة البشرى عندما كان في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، ووجَّهها للمسيحيين الذين جاءوا من خلفية رومانية. ولذلك فإن مرقس ينبّر على ما يستدعي انتباه الرومان من مظاهر قوة المسيح وعظمته. ودوَّن لوقا البشرى للمسيحيين الذين جاءوا من خلفية يونانية، ولذلك تراه يشدد على الإرادة والقلب اللذين بدونهما لا يكتمل الإنسان، واللذين بهما ظهرت محبة اللّه للبشر، حتى سُمِّي إنجيل لوقا بإنجيل الرحمة. أما يوحنا فقد كتب البشرى بعد انتشار المسيحية، فكتب لتوضيح بعض الأمور، وللرد على بعض الأفكار التي دخلت إلى التعليم المسيحي.

بشارة متى

«كِتَابُ مِيلادِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ دَاوُدَ ٱبْنِ إِبْراهِيمَ»(متى 1: 1).

كتب متى بشارته للمؤمنين من اليهود، وهو يصوّر لنا حياة المسيح، لا كحادثة مستقلة بذاتها، بل كإتمامٍ لسلسلة تاريخية ونبوية بدأت من قديم الزمان، وعلى هذا فهو كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم جدّ اليهود. ويشير متى دوماً إلى أسفار التوراة ليُظهِر كيف تمت النبوات في المسيح، فصار المسيح «مكمِّل كل بر» أي مكمل كتابات موسى والأنبياء. وقد اقتبس متى من العهد القديم 75 آية توضح أن المسيح تتميم البركة الموعودة لإبراهيم ونسله، وأنه جاء ليؤسس ملكوت السموات ليصحح خطأ اليهود الذين ظنوا المسيا الآتي سيؤسس مملكة سياسية مركزها أورشليم. ومتّى واحد من تلاميذ المسيح الإثني عشر.

بشارة مرقس

«بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (مرقس 1: 1).

لم يكن مرقس من رسل المسيح، ولم يُذكر اسمه مطلقاً في البشائر الأربع. كان اسمه العبراني يوحنا، واسمه اليوناني (المتفق مع الروماني) مرقس. وقد ورد ذكر هذا الكاتب أول مرة بعد صعود المسيح ببضع سنين. وكان ابن امرأة مؤمنة بالمسيح اسمها مريم، أخت برنابا اللاوي القبرصي الذي اشتهر كثيراً في التبشير. ويقول الرسول بطرس عن مرقس إنه ابنه، وهي تسمية حُبّية تدل على أن مرقس اهتدى إلى الإيمان بواسطة بطرس. وقد اتفقت كتابات الآباء المسيحيين على أن مرقس كان تلميذاً لبطرس، وأنه كتب بشارته بتوجيهه، وهذا هو السبب في عدم كتابة بطرس بشارة باسمه.

أما مقدمة مرقس فتقول: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن اللّه». ومنها نتبيّن أن سيرة المسيح هي إنجيل، أي بشارة مفرحة مثلثة، ظاهرة في الاسم المثلث الوارد في هذه المقدمة أي: يسوع، ومسيح، وابن اللّه.

  1. يسوع: وقد أُطلق على المسيح اسم يسوع (أي مخلّص) بأمر الملاك الذي كرر هذا الاسم عندما بشّرَ بقُرْب ولادته. وفسّرَ تخصيص هذا الاسم لهذا المولود بقوله: «لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى 1: 21) فيكون خلاصه خلاصاً أبدياً.

  2. المسيح: ويُسمَّى «المسيح» لأنه ابن داود، الموعود به من زمن آدم فما بعده، إذْ قد مسحه اللّه نبياً وكاهناً وملكاً. وأرسله إلى العالم حسب تلك النبوّات الثمينة التي قدمها للآباء والأنبياء، في سلسلة متواصلة كريمة، جيلاً بعد جيل.

  3. ابن اللّه: ويُسمَّى ابن اللّه بحق، لأنه لم يأخذ هذا الاسم الجليل من بشر، بل بإعلان إلهي ورد على لسان الملاك الذي بشر العذراء الطاهرة بأنها ستلد ابناً يكون عظيماً «وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى» (لوقا 1: 32). ولما طلبت إيضاح هذا الأمر المستحيل عندها، حقّقه لها جبرائيل بالتكرار، لأنه كان من الضروري إعلان مقامه الإلهي الحقيقي قبل مجيئه، فليس بين كل أخبار التاريخ البشري خبر يستحق أن يُسمَّى إنجيلاً كخبر المسيح، فهو حقاً بشارة. ولا عجب أن النبي الإنجيلي إشعياء السابق للمسيح بنحو سبعمائة سنة قال فيه: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ» (إشعياء 61: 1) ولا عجب أن الملاك لما أخبر رعاة بيت لحم بولادته قال: «أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لوقا 2: 10). ففاتحة مرقس هذه المكوَّنة من ست كلمات، تلخص ما هو ضروري أن نعرفه عن يسوع المسيح.

بشارة لوقا

«إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلامِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ» (لوقا 1: 1-4).

ولوقا مثل مرقس، غير مذكور في البشائر الأربع، لكن لنا لمحات عن حياته في سِفْره الثاني (أي سفر أعمال الرسل) تُبيّن أنه رافق الرسول بولس في أسفاره التبشيرية. ثم نعلم من إحدى الرسائل أنه كان طبيباً محبوباً (كولوسي 4: 14). والظاهر أنه كان من أهل العلم، لأن لغة كتابته في اليونانية تمتاز بالفصاحة.

ومقدمة بشارته رسالة وجيزة إلى صديقه اليوناني صاحب السمو ثاوفيلس. المؤمن بالمسيح، بيَّن فيها لوقا أنه قصد من كتابتها إفادة ثاوفيلس وتثبيته في إيمانه الجديد، فأكَّد له أنه اجتهد ليقف على الأخبار الراهنة عن المسيح، فقال: «تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلامِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ» (لوقا 1: 1-4).

بشارة يوحنا

«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يوحنا 1: 1 - 4).

والبشير الرابع هو يوحنا الرسول، الذي كان من تلاميذ يوحنا المعمدان سابقاً، وأحد الشخصين اللذين سبقا الجميع في التتلمذ للمسيح. وهو الذي نال لقب «التلميذ الذي كان يسوع يحبه» (يوحنا 13: 23). ومع أنه صياد سمك، إلا أنه لم يكن من الفقراء، إذ كان لأبيه زبدي سفن وعمّال. وكانت أمه سالومة ترافق المسيح ورسله لكي تعولهم من مالها، وقد خصَّ المسيحُ يوحنا بالكثير، فهو الذي اتكأ على صدره في العشاء الأخير (يوحنا 13: 23)، وله سلّم أمه وهو على الصليب ليعتني بها (يوحنا 19: 27). وتفوح بشارة يوحنا برائحة المحبة واللطف.

كتب يوحنا بعد زملائه الثلاثة بعشرين أو ثلاثين سنة، بعد أن كان اليقين بناسوت يسوع الحقيقي قد رسخ، وساد في أفكار المؤمنين، وزال الخوف من أن يتزعزع. لكن لما كان التطرُّف دأب البشر في أكثر الأمور، ولا سيما في الدين، فقد تحول كثيرون من المسيحيين من المجاهرة بناسوت المسيح إلى إنكار لاهوته، لذلك رأى يوحنا من الضروري أن يُضمِّن بشارته كثيراً من الكلام في لاهوت يسوع، إصلاحاً للخطأ الذي كان قد تسلَّل إلى الكنيسة.

وفاتحة بشارة يوحنا تُعَدُّ من أفخر أقوال الإنجيل وأشهرها، ولها وقع عظيم في نفس كل محب للدين، وفيها يتذكر الكاتب الموحَى إليه، بدء الخليقة. وفاتحة كتاب الوحي تقول: «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين 1: 1). ولكن يوحنا يصوّر لنا بدءاً سابقاً لذلك البدء، إذ يقول: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 1-3).

4 - نسب يسوع المسيح البشري

يلاحظ القارئ المتعجِّل فرقاً بين سلسلة نسب المسيح في بشارة متى وبشارة لوقا. أما بشارة يوحنا فيظنُّها تغفل سلسلة النسب تماماً. والواقع أن يوحنا لم يغفل نسب المسيح، بل عاد به إلى أصله الأزلي، كما أنه لا خلاف حقيقي بين سلسلتي نسب متى ولوقا، كما سنرى هنا.

سلسلة نسب بشارة يوحنا

والحقيقة هي أن يوحنا لم يغفل نسب المسيح، فقد أتى بلقب جديد ليسوع، لم يستعمله غيره من كتَبة الإنجيل، إذْ سماه «الكلمة». وهو لقب مناسب جداً، لأن الكلمة تعلن فكر المتكلم الذي لا يظهر بدونها. وهكذا يعلن يسوع الظاهر في الجسد «الإله الذي يرى ولا يُرى». وقد أعلن المسيح بتصرفاته قولاً وفعلاً صفات الله، كقدرته وحكمته وجودته وقداسته، فصحَّ أن يكون من جملة أسمائه الوصفية اسم «الكلمة»، وهو القائل: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا 14: 9).

كنا نظن أن يكون اللقب «الكلمة» في صيغة المؤنث، لكن من الفعل المذكر والضمير المذكر، ومن القول إن «الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب» نرى أن يوحنا قد حوّل اسم الكلمة عن المعنى المألوف، وجعله يعني شخصاً حقيقياً هو يسوع المسيح.

وختم يوحنا مقدمة إنجيله مؤكداً أن الله روح لا يُرى قط، لكن هذا الكلمة، الابن الوحيد من الآب، قد أعلنه، وهو أهلٌ لذلك، لأنه ساكن في حضن الآب فيعرفه حق المعرفة. ولكي يعلنه للبشر «صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا» (يوحنا 1: 14) وهذا الحلول يُسمَّى التجسد أو التأنُّس.

سلسلة نسب بشارة متى

«كِتَابُ مِيلادِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ دَاوُدَ ٱبْنِ إِبْراهِيمَ. إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ ٱلْمَلِكَ. وَدَاوُدُ ٱلْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ ٱلَّتِي لأُورِيَّا. وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحُبْعَامَ. وَرَحُبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ ٱلَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ. فَجَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى ٱلْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً» (متى 1: 1-17).

أما متى، كاتب سلسلة نسب المسيح، فقد كان في الأصل عشاراً يهودياً، اسمه العبراني لاوي، واسمه اليوناني متى، واسم أبيه حلفى، وكان عمله في خدمة الحكومة الرومانية يستلزم أن يكون صاحب معرفة، ولا سيما في الأمور المالية والتجارية، كما كان من ذوي اليُسْر المالي.

وتبدأ مقدمة بشارة متى بالقول: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم. إبراهيم ولد إسحق، وإسحق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته». ثم يذكر أربعين شخصاً من رجال ونساء آخرهم «يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح». وواضح أن متى يتابع سلسلة نسب المسيح من يوسف، خطيب العذراء مريم. بينما يملُّ القارئ المتعجِّل من مطالعة هذا الجدول، يدرك العاقل أهميته الفائقة، لأن فيه إيضاحات مهمة للأصل البشري، الذي منه تسلسل هذا الشخص العجيب الذي «صار جسداً وحلَّ بيننا». ويسوع هو الإنسان الوحيد في التاريخ البشري الذي حُفظ قيد تسلسله من أب البشر آدم. وهو الوحيد الذي - بالإضافة إلى جوهره الأسمى - تتوقف قيمته الإنسانية على سلسلة أجداده، لأن منها نعرف أنه ابن داود، المخلص المنتظر.

سلسلة نسب لوقا

«وَلَمَّا ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ بْنِ هَالِي، بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاوِي بْنِ مَلْكِي بْنِ يَنَّا بْنِ يُوسُفَ، بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ عَامُوصَ بْنِ نَاحُومَ بْنِ حَسْلِي بْنِ نَجَّايِ، بْنِ مَآثَ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ شِمْعِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوحَنَّا بْنِ رِيسَا بْنِ زَرُبَّابِلَ بْنِ شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي، بْنِ مَلْكِي بْنِ أَدِّي بْنِ قُصَمَ بْنِ أَلْمُودَامَ بْنِ عِيرِ، بْنِ يُوسِي بْنِ أَلِيعَازَرَ بْنِ يُورِيمَ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاوِي، بْنِ شِمْعُونَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونَانَ بْنِ أَلِيَاقِيمَ، بْنِ مَلَيَا بْنِ مَيْنَانَ بْنِ مَتَّاثَا بْنِ نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ، بْنِ يَسَّى بْنِ عُوبِيدَ بْنِ بُوعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ، بْنِ عَمِّينَادَابَ بْنِ آرَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارِصَ بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ، بْنِ سَرُوجَ بْنِ رَعُو بْنِ فَالَجَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالَحَ، بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَكْشَادَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لامَكَ، بْنِ مَتُوشَالَحَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (لوقا 3: 23-38).

وقد أورد لوقا في بشارته جدولاً آخر لنسب المسيح يختلف بعض الاختلاف عن الذي أورده متى. ولكننا نقول إن الجدولين متفقان في أن يوسف رجل مريم أم يسوع هو الحلقة الأخيرة فيهما. ويتفقان أيضاً في حلقات النسب بين إبراهيم وداود. ويتفقان في اسمي شألتئيل وزربابل في وقت سبي بابل، لكنهما يختلفان اختلافاً فرح له المنتقدون. من هذا الاختلاف أن متى يقدّم أسماء الأجيال من يسوع راجعاً إلى إبراهيم، وأما لوقا فإلى آدم. ويتبع متى سلسلة سليمان بن داود، أما لوقا فيتبع سلسلة ناثان بن داود. ويذكر متى أن يوسف (خطيب مريم) ابن يعقوب، أما لوقا فيجعله ابن هالي والد مريم، وكان اليهود أحياناً ينسبون الرجل لوالد زوجته (قارن ما حدث مع عائلة برزلاي عزرا 2: 61 ونحميا 7: 63). والحلقات في متى بين داود ويوسف تنقص كثيراً عنها في لوقا. فالأمر ظاهر أن بعض الحلقات متروكة، لأن كلمة «ابن» وكلمة «وَلَدَ» تردان أحياناً في هاتين السلسلتين بالمعنى الواسع، مثل القول إن يسوع ابن داود ابن إبراهيم، لأن متى يذكر أربع حلقات فقط في أيام القضاة بين راحاب وداود، مع أن المدة 450 سنة. كما أن جدول لوقا يختصُّ بمريم، والآخر في متى يختص بيوسف، لأن بيان تسلسل الاثنين ضروري.

على أن البشيرين متى ولوقا يوضّحان أصل المسيح الإلهي، فمتّى بعد أن يقول في كل الحلقات السابقة «فلان ولد فلان» لا يقول - كما كان يُنتظَر - يوسف ولد يسوع، بل «يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يدعى المسيح» ولوقا يقول: «وهو على ما كان يُظَنُّ: ابن يوسف».

ولو كان بالجدولين ما يستحق الهجوم والمعارضة لفعل قادة اليهود ذلك من البدء، خصوصاً وأن تسلسل النسب يبرهن أن يسوع هو ابن داود المخلص الآتي. وصَمْت اليهود عن مهاجمة سلسلتي متى ولوقا دليل على صحتهما.

دروس من سلسلة النسب

يُستخلَص من جدولي متى ولوقا من ذِكْر اسم راعوث الموآبية أن للفقراء وللأغراب عن الجنس الإسرائيلي نصيب في لائحة الشرف الملكي المسيحي. وأيضاً من اسم راحاب التي كانت قبلاً زانية، واسميْ ثامار وبثشبع أن للأشرار التائبين توبة حقيقية محلاً في هذه القائمة الشريفة، مهما كان ماضيهم معيباً. فقد اعتنى المسيح بضعفاء القوم، وغفر لكثيرين من البعيدين عن الصلاح، وقال: «لا يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى» (متى 9: 12) و «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 10).

ونجد محور الإنجيل كله في العبارة الجوهرية التي أوردها يوحنا في مقدمته «كان الكلمة الله. والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا».

وبما أن المصدر الوحيد لأخبار المسيح هو الإنجيل، وبما أن كتبة الإنجيل جميعاً متفقون على القول بلاهوته، يستلزم الإنصاف أن تُفسَّر حوادث حياته وفقاً للقول بلاهوته.

5 - جبرائيل يبشّر زكريا

«كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هٰارُونَ وَٱسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. وَكَانَا كِلاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلا لَوْمٍ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا.

فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، حَسَبَ عَادَةِ ٱلْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ ٱلْبَخُورِ. فَظَهَرَ لَهُ مَلاكُ ٱلرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ ٱلْبَخُورِ. فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا ٱضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. فَقَالَ لَهُ ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَٱمْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلادَتِهِ، لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلَهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً». فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاكِ: «كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» فَأَجَابَ ٱلْمَلاكُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهٰذَا. وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلامِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ».

وَكَانَ ٱلشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً.

وَلَمَّا كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ. وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ ٱمْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: «هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ ٱلرَّبُّ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ» (لوقا 1: 5-25).

نُفاجأ بشروق النجوم دون علامات سابقة بخلاف شروق الشمس ملكة الأنوار، فإن طلائع الفجر تتقدمه. هكذا فاجأ ظهور الأنبياء العظام جوَّ التاريخ البشري، فلم يرِدْ خبرٌ سابق لظهور إبراهيم أو موسى أو داود أو إيليا (باستثناء يوحنا المعمدان). لكن ظهور المسيح سيّدهم - الذي من جملة ألقابه العديدة لقب «شمس البر» - لم يكن فجائياً، لأن النبوَّات العديدة المتواصلة كوَّنتْ فجراً عجيباً سابقاً لمجيئه. وفي الوقت ذاته، وخارجاً عن دائرة هذا الفجر، كان الظلام الأخلاقي والروحي قد بلغ أشُدَّه قبيل مجيئه. فجاء هذا النور السماوي الفائق في وقت شدة احتياج العالم وشوق أتقيائه إليه.

وتستحق المقدمات النبوية القديمة السابقة لظهور المسيح أن نراجعها بكل عناية، لكن ضيق المقام يضطرنا أن نكتفي بالنبوات والأدلة التي منها عُرف أن المسيح المنتَظر صار على الباب.

كانت رسل السماء الملائكية قد احتجبت تماماً عن الظهور للبشر مدة خمسمئة سنة، لكن لما قرُبَ تأنُّس المسيح تواردت بعددٍ أوفر ومجدٍ أبهى مما حدث في كل الأزمنة، منذ الخَلْق إلى الآن، لكي تُنْبئ بقُرب مجيء ملك الملوك ورب الأرباب إلى مقاطعته الأرضية، ظاهراً بهيئة بشرية. وفي ذلك يقول الإنجيل: «مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين 1: 6) هذا هو الذي قال عنه نبي التوراة دانيال: «سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لا يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 14). فلاق أن يتقدم هذا الملك رسلٌ من أمام عرشه السماوي، يبشرون أهل العالم بقدومه القريب. وملأ صوت هذه البشرى السماء، واهتزَّ له الجند العلوي قبلما سُمع في الأرض أو رنَّ في آذان بني آدم.

أصابت القرعة زكريا أن يحرق البخور العطر على المذبح الذهبي في هيكل أورشليم فدخل خلف الستار الثقيل الذي حجبه عن أبصار الساجدين، ووقف أمام مذبح البخور يصلي، ودخان البخور ورائحته الزكية يصعدان نحو السماء. فرأى بغتة رئيس الملائكة جبرائيل العظيم، واقفاً عن يمين مذبح البخور، فاضطرب ووقع عليه خوف، لأن اضطراب الإنسان عندما يرى ملاكاً من السماء أمر طبيعي، مهما كانت درجة تقواه وصلاحه. فليس صالحٌ إلا ويعرف ذاته خاطئاً، والضمير الحي يجعل صاحبه جباناً في حضرة الأطهار، إذْ يبكّته على أقل الهفوات، وعلى التقصير عن الكمال التام، ويجعله يقشعرُّ عند مفاجأة الملاك له. لئلا يكون جاءه ليطالبه بحقوق الله عليه، أو ليجازيه على ذنوبه.

وكان آخر ظهور ملائكي قبَيْل هذا، ظهور جبرائيل ذاته منذ نحو خمسمئة سنة، وبذات غرضه الحالي - وذلك لدانيال، آخر الأنبياء العظام قبل المسيح. ظهر كرجل «لابِساً كَتَّاناً، وَحَقَوَاهُ مُتَنَطِّقَانِ بِذَهَبِ أُوفَازَ، وَجِسْمُهُ كَٱلزَّبَرْجَدِ، وَوَجْهُهُ كَمَنْظَرِ ٱلْبَرْقِ، وَعَيْنَاهُ كَمِصْبَاحَيْ نَارٍ، وَذِرَاعَاهُ وَرِجْلاهُ كَعَيْنِ ٱلنُّحَاسِ ٱلْمَصْقُولِ، وَصَوْتُ كَلامِهِ كَصَوْتِ جُمْهُورٍ» (دانيال 10: 5 و6).

انتدب الله جبرائيل ليكلم زكريا لذات الغرض. وفي هذا دليل واضح على اهتمام السماء بمجيء المسيح إلى العالم. وحالما رأى زكريا جبرائيل، خاف فأسرع الملاك لتسكين روعه وقال له: «لا تخف». ثم أعلمه بأن صلاته وصلاة زوجته أليصابات لأجل النسل قد استُجيبت، مع أن سنهما يجعل هذه الاستجابة مستحيلة في أعين البشر وأعينهما.

ثم أعطى جبرائيل لزكريا الاسم الذي يجب أن يطلقه على ولده. وأعلن له عن مستقبل ابنه أنه لا يسبّب فرحاً وابتهاجاً لوالديه فقط، بل أيضاً لكثيرين غيرهما. وأنه يكون عظيماً، ليس في أعين الناس فقط بل أمام الله، إذ يمتلئ من الروح القدس الإلهي من أول أيام وجوده، ويكون للرب نذيراً عفيفاً طوال حياته. وينجح نجاحاً باهراً في العمل الوحيد الذي هو محور الاهتمام الإلهي في العالم، أي ردّ كثيرين إلى الرب إلههم.

وزاد جبرائيل لزكريا ما هو أعظم من ذلك، إذ قال له إن هذا الصبي الموعود به يكون المبشِّر بظهور المسيح الآتي، فيتقدم أمامه متمّماً النبوة التي كان يتمسك بها كل يهودي تمسُّكاً شديداً، بأن إيليا يأتي قدام المسيح ويهيء للرب شعباً مستعداً. قد بشر ملاك في القديم أكثر من مرة أحد الأبوين بولدٍ سيولد لهما، لكن أمامنا المرة الوحيدة التي فيها بُشِّر أبٌ بولدٍ تكون وظيفته أن يبشر بقدوم آخر أعظم منه جداً (الذي هو المسيح) وهذا دليلٌ على تفوُّق المسيح على كل البشر.

ولم يصدق زكريا هذه البشارة، مع أنه سمعها من جبرائيل رئيس الملائكة الواقف قدام الله، والمرسَل منه لهذا الغرض الخصوصي، لأن الموانع الطبيعية كانت عظيمة جداً. لكننا نلوم زكريا لأنه يعلم جيداً ببشارةٍ نظيرها جاءت للشيخين إبراهيم وسارة، وآمن إبراهيم أبُ المؤمنين بتلك البشارة. ولما لم يصدق زكريا، ضرب الله لسانه بالخرس، وتحدّدت مدة قصاصه هذا بتسعة أشهر، إلى أن ينظر بعينيه ويسمع بأذنيه البرهان الحسي الذي كان يطلبه على صدق قول الملاك.

وبسبب هذه المقابلة الغريبة بين الملاك وزكريا، طال انحجاب الكاهن عن الجمهور المصلِّي خارجاً، والذي كان ينتظر الانصراف عند خروج الكاهن من وراء الستار ليعطيهم البركة «فتعجبوا من إبطائه». لكن زاد عجبُهم لما خرج إليهم عاجزاً عن النطق بالبركة المفروضة عليه، أو عن إخبارهم بسبب إبطائه، فجعل يشير لهم ويومئ بقدر ما أمكنه «ففهموا أنه قد رأى رؤيا».

ولما كان زكريا أميناً لخدمته لم يعتذر عن إكمالها بسبب ما جرى له، أو بسبب شوقه إلى أن يخبر امرأته في البيت، بل بقي حتى كملت أيام خدمته، وبعدها رجع إلى بيته.

ونتصور انزعاج أليصابات العجوز الصالحة لما استقبلت زوجها زكريا في البيت عند رجوعه فاقداً قوتي النطق والسمع، ثم دهشتها عندما كتب أمامها ما أعلنه له الملاك جبرائيل. ولا بد أنه أنذرها أيضاً كتابةً أن لا تشك في هذا الكلام لئلا يقع عليها العقاب الذي وقع عليه هو.

انشغل فكر زكريا وأليصابات بكلام البشارة عن مجيء المسيح، الذي يبشر به ابنهما يوحنا، ويجّهز الطريق له، والذي سمّاه الملاك «الرب» - ولا بدّ أنهما تساءلا: متى يظهر وأين وكيف؟ عن قريب سيأخذان العلم بذلك، ليس من الملاك جبرائيل، بل من نسيبةٍ لهما، سوف تصبح أشهر نساء التاريخ البشري وأسعدهن.

لا يسلِّم العقل أن المعجزة الفائقة التي هي تأنُّس المسيح الابن الأزلي تحدث دون أن تحوطَها معجزات أخرى ترافقها وتثبّتها، فمعجزة البشارة لزكريا ثم قصاصه، وحبَلُ أليصابات العجيب، هي مقدمة المعجزات التي أحاطت بولادة المسيح ابن مريم.

وهذه كلها تسهّل تصديق تلك المعجزة الأعظم التي تتبعها قريباً - وهي ولادة المسيح من عذراء، فتتحقَّق فيه النبوات القديمة العديدة، وتتم الرموز الكثيرة الدقيقة. وليس في التاريخ البشري شخصٌ غيره تنطبق عليه تلك النبوات أو تلائمه تلك الرموز. كذلك حقَّ الحكمُ بأن يسوع الناصري هو المخلص الذي تنبأ أنبياء التوراة بمجيئه. ويتَّضح لكل من يراجع توراة اليهود بإمعان، أن المسيح الموعود به في ذلك الكتاب الموحى به ليس كأحد الأنبياء، مجرد بشر، بل هو شخص إلهي.

6 - جبرائيل يبشر مريم

«وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاكُ وَقَالَ: «سَلامٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلامِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».

فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» فَأَجَابَ ٱلْمَلاكُ وَقَالَ لَهَا: «اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ». فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاكُ» (لوقا 1: 26-38).

زار رئيس الملائكة جبرائيل الكاهن الجليل زكريا، وبشَّره بولادة يوحنا من زوجته العاقر أليصابات. وكان زكريا باراً ومكرَّماً ورئيساً بين قومه. فأيُّ عظيمٍ أعظم من هذا الكاهن يزوره جبرائيل بعد ذلك؟ هل يزور أحد الملوك والأمراء، أو شهيراً من الرؤساء، أو حكيماً من العلماء أو عظيماً من الأغنياء؟ كلا! بل زار فتاة عذراء من بيت جماعة فقراء، لا أهمية سابقة لها عند قومها فوق سائر عذارى البلاد، ولا ذِكْر لها قبل زيارة جبرائيل، ولا أهمية لها مطلقاً لولا هذه الزيارة. أُرسل إليها ليبشرها أن الله قد اصطفاها في قضائه الأزلي ليدخل مخلص العالم الوحيد إلى العالم بواسطتها .

أنعم الله على هذه العذراء بأن ألبسها أعظم شرفٍ نالتْه امرأة في الزمان، وهو شرف لا تساويه ألقاب الأمراء وأوسمتهم ولا تيجان الملوك وعظمتهم. لذلك هنأها جبرائيل بقوله: «سَلامٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا» (لوقا 1: 28). قدم الله باختياره مريم برهاناً للجنس البشري بأن العظمة الحقيقية لا تنشأ عن المركز والبيئة، ولا عن الأصل والأجسام، ولا حتى من العقول السامية، بل من النفوس الطاهرة.

أغلب الظن أن مريم كانت وحدها في بيت أبيها لما فاجأها الملاك وألقى عليها السلام. وربما كانت هذه التقية تصلي في تلك الساعة، لأن اليهودي التقي كان يختلي ثلاث مرات في النهار للصلاة. فكانت تحية جبرائيل لهذه الصبية الفقيرة أبلغ من تحيته للكاهن الموقر زكريا، إذ قال له: «لا تخف يا زكريا». أما لمريم فقال: «سلامٌ لك أيتها المنْعم عليها. مباركةٌ أنت في النساء». وفي الوقت ذاته ظهر في كلامه أن الامتياز الذي نالته فوق سائر النساء كان إنعاماً لا استحقاقاً.

اضطربت هذه العذراء الطاهرة لرؤية الملاك، وتحيّرت لتحيته، فطمأنها حالاً كما فعل مع زكريا بقوله لها: «لا تخافي» ثم ناداها باسمها «يا مريم». وكرر تهنئتها، ثم أضاف خبراً لم تتصوره ولا حلُمَت به قبلاً، وهو أنها ستحبل حبلاً أعجب من حبل نسيبتها أليصابات، وتلد ابناً بقوة الروح القدس وهي عذراء. وهذا الابن لا يكون فقط عظيماً كابن أليصابات بل «يُدعى ابن الله» (لوقا 1: 32) ولأنها من نسل داود سيكون ابنها الخَلَف الأعظم لداود كملكٍ مُلْكُه أبدي.

ربما شاركت مريم سائر النساء من نسل داود في شيء من الآمال بأنها ستلد المسيح. ولا سيما أنها مخطوبة لرجل صالح هو أيضاً من نسل داود، فيأتيها هذا الإمتياز المشتهى بطريقة طبيعية بعد زواجها من خطيبها يوسف. فلما أعلن لها الملاك بأن حبَلَها يكون في الحال، وقبْل أن تتزوج، اضطربت، وكان اضطرابها طبيعياً وشريفاً، إذ رأت أن عليها أن تدافع عن عفتَها، وتستوضح من الملاك كيف يمكن تصديق قوله، فكانت حشمتها إكليل فضائلها، وتواضعها تاج جمالها.

لقد اصطفى الله مريم من بين كل عذارى شعبها بعد أن أسس في روحها الاستعداد لهذا المقام الجديد الذي تفوق رفعتُه الوصف، ثم حدّد لها إنعامه لتكون الأم للطبيعة البشرية في المسيح الذي هو أيضاً ابن العلي. والله دوماً يؤهِّل الذين ينتقيهم لما ينتدبهم إليه، فأسبغ على مريم بغزارة إنعاماته المتواصلة، ليمكنها من القيام بما يُطلَب منها في أحوالها الجديدة.

وقد جاوب جبرائيل مريم بأن الروح القدس يحلُّ عليها، وأن قوة العلي تظللها فتلد ابن الله.. ولم يخفّف جواب الملاك شيئاً من غرابة بشارته، ولم يقرّب التصديق للعقل البشري، واكتفى بأن أكّد لها أن حبلها يكون بفعل الروح الخالق عز وجل، وعلى صورة استثنائية لا مثيل لها من قبل أو من بعد. وقال لها ثانية إن الذي تلده سيُدعى «ابن الله». لكن لئلا يؤخذ هذا الاسم العظيم بالمعنى المجازي الذي يسوغ استعماله لمجرد بشر، ولأنه يولد من الروح القدس سمَّاه «القدوس» وهو اسمٌ لا يُعطى مطلقاً لبشر أو لملاك.

وهنا كان ردُّ فعل مريم لكلام الملاك مختلفاً عن ردّ فعل زكريا، فقد شكّ زكريا في بشارة الملاك له، لكن مريم طلبت إيضاح طريقة إتمام الوعد الإلهي فقط، فأعطاها الملاك علامةً مفرحة، هي خبر المعجزة التي حصلت لأليصابات البعيدة عنها في جانب البلاد الآخر. ثم ختم جبرائيل خطابه بتذكير مريم أن ليس شيءٌ غير ممكن لدى الله. وهل يعسر على من أوجد الكون من العدم أن يوجد ابناً لمريم دون أب بشري؟ ومع أنّ كلام الملاك لمريم لم يتضمن شيئاً يسهِّل عليها التصديق إلا أنها سلّمت تماماً وصدقت يقيناً، إذْ قالت والملاك منصرف: «هوذا أنا أمَةُ الرب. ليكن لي كقولك». سلّمت تسليماً أعمى لله. وهذا عين الحكمة وكمال الفخر، بينما التسليم الأعمى للبشر يكون جهالة وذلاً.

فما أعظم ابتهاج هذه العذراء الطاهرة في هذه الساعة المباركة. ها المسيح رجاؤها ورجاء شعبها ورجاء العالم على الباب. فكيف لا تبتهج، وقد اختارها الله من بين جميع المؤمنات الإسرائيليات في نسل داود لتلد المسيح؟ فهل لابتهاجها حدّ؟

لكن ليس في الدنيا فرح كامل. فلا بد من امتزاج بعض الخوف مع الابتهاج في صدرها الطاهر. إنها تخاف غضب خطيبها وانفصاله عنها متى ظهر سِرُّها. وليس لديها من وسيلة لإثبات الحقيقة التي لا يمكن أن يصدقها أحدٌ على الإطلاق!

ثم أن صلاحها الممتاز يضيف خوفاً آخر شريفاً. لأنها رأت نفسها غير مستحقة لهذا الامتياز الفائق، فخافت أن تعجز عن القيام بما يستدعيه مقامها الجديد كوالدة المسيح. ولا ريب أنها ضاعفت التجاءها إلى المراحم الإلهية ليفعل لها ربُّها في مشكلتها الجديدة ما ليس في استطاعتها أو استطاعة غيرها من البشر.

حيرة يوسف

«أَمَّا وِلادَةُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَكَانَتْ هٰكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً. وَلٰكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، إِذَا مَلاكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا). فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ ٱلنَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاكُ ٱلرَّبِّ، وَأَخَذَ ٱمْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ. وَدَعَا ٱسْمَهُ يَسُوعَ» (متى 1: 18-25).

ماذا كان تفكير يوسف خطيب مريم، بعد أن عرف أن خطيبته حامل؟

لسنا نعرف كيف عرف يوسف سِرَّ خطيبته مريم، ولكننا نعلم أنه وقع كما وقعت هي في خوف عظيم بسبب خطورة كلا الأمرين اللذين اضطُرَّ أن يختار بينهما.

في حبه الصادق يودُّ من كل قلبه تصديق رواية مريم عن بشارة الملاك، لولا الصعوبة الكلية في ذلك. واختباره صفاتها الممتازة يجعله لا يظن فيها السوء.

ولأنها خطيبته يجب أن يحميها بكل قوته من كل كدر وضرر. فلو وقَّع عليها أخف درجات القصاص بتركها جهاراً، وكانت روايتها صادقة، فإنه بذلك يظلمها ظلماً فاحشاً. ثم أيُّ شرفٍ يكون له أن يولد المسيح العظيم في بيته؟

ومن الوجه الآخر لأنه «رجل بار» يحافظ فوق كل شيء على احترام الناموس الإلهي والوصايا المقدسة، والشرف والصيت الحسن، يكون عليه أن يوقِّع على مريم عقاباً بحسب نصوص الشريعة، فما أعظم حيرة يوسف واضطرابه. إلا أنه بعد التروّي الكافي ساقه حبه وشهامته إلى اختيار ألطف درجات القصاص، إذْ قيل إنه «أراد تخليتها سراً».

وهنا تدخلت عناية الله الذي لا يغفل عن أصغر الأمور وأحقرها في عالمه الواسع. مرة أخرى نرى اهتمام السماء بأهل الإيمان على الأرض، فقد صدر الأمر الإلهي لأحد الملائكة (لعله جبرائيل) أن يزور يوسف ليلاً، فظهر له في حلم وأعلن له أن الذي حُبل به في مريم هو من الروح القدس، ولذلك فالاقتران بها أوجب من الافتراق عنها. إذاً ما كان يحسبه للآن عاراً عليهما، هو بالحقيقة أعظم فخر لهما. ومثل ذلك كثير من العار الذي يتحمله رجال الله، من الذين يجهلون الحقائق.

وكرر الملاك ليوسف ما أوصى به مريم: أن يعطي ابنها، متى وُلد، اسم «يسوع» لأن الحق الأول في تسمية المولود يكون للرجل، فيجب أن يعرف يوسف أيضاً إرادة الله بخصوص هذا الاسم، لكي تتحقق تسمية الصبي بالاسم الذي يعلن وظيفته الخصوصية ويوافقها.

واسم يسوع ويشوع اسم واحد، وهو اسم قديم من أكرم الأسماء عند اليهود، ومعناه مخلِّص. فهو أسمى الأسماء البشرية، لأنه يدل على أسمى عمل يُعمَل على الأرض وهو تخليص البشر من خطاياهم. فالذي اسمه يسوع (أي مخلِّص) هو الطبيب الشافي الذي يخلّص من داء الخطية الوبائي القتَّال المستولي على جميع بني البشر.

كان اليهود يحدثون أطفالهم بمسيحٍ يأتي من سبط يهوذا ومن بيت داود ليخلّصهم من مصائب هذا الدهر، كالفقر والمرض والتعب والذل، ومن سلطة الأعداء. وكان انتظارهم هذا سبب ثورات دموية أثارها مسحاء كذبة بدافع التهوُّس الوهمي والطموح الشخصي أو الطمع المادي. وكانت هذه الثورات تأتي عليهم دائماً بالوبال. وقد نفى كلام الملاك هذه التخيُّلات الذميمة، وأعلن حقيقة وظيفة المسيح الموعود به وعمله. وذلك أعظم جداً من كل ما كانوا يتصورونه، وهكذا تحققت نبوة إشعياء النبي بأن المسيح سيُولد من عذراء، وأنه بسبب طبيعته العجيبة يُسمَّى «عمانوئيل» ومعناه «الله معنا» (إشعياء 7: 14).

وأطاع يوسف أمر ملاك الرب وأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. فبناء عليه عرف الجميع أن يسوع هو ابن يوسف كما أنه ابن مريم، وبهذا صان شرفه وشرف مريم ومولودها، كل مدة سكنهم في الناصرة. فما أعظم الجائزة التي نالها يوسف البار بسبب اختياره خطيبةً ذات خُلق، على رغم فقرها المادي، ثم بسبب طاعته للأمر الإلهي - على رغم صعوبة هذه الطاعة دون برهان حسي - آمن بالله كما آمن جده إبراهيم فحُسب له براً.

مريم تزور أليصابات

«فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلامَ مَرْيَمَ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلامِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ» (لوقا 1: 39-45).

ذهبت مريم في تلك الأيام لزيارة أليصابات، لترى بعينها صحة خبر الملاك عن حبلها العجيب في شيخوختها. فإن صحة قول جبرائيل لزكريا يزيد يقينها بأن قوله لها صحيح. فضلاً عن ذلك، فهي ترغب في تهنئة أليصابات والاشتراك معها في أفراحها الجديدة، بسبب حظها الممتاز. ثم أنها تغتنم هذه الفرصة الحسنة للاستفادة من نسيبتها بعد أن تكشَّف لها سرُّها العميق.

استغرقت الرحلة من الناصرة إلى مدينة يهوذا خمسة أيام، وهناك وجدت مريم أليصابات في الشهر السادس من حبلها العجيب. وقد اشتهر أمرها الآن بين قومها فزال عنها عار العُقم. وبسبب المعجزة السارة التي حدثت معها، نالت كرامة عظيمة، كأحد القديسين المختارين من الله، وامتلأت ابتهاجاً جديداً نتيجة لآمالها الجديدة. ولما ألقت مريم سلامها على أليصابات وهنأتها لما نالته من الالتفات الإلهي، تحرَّك في رحم أليصابات الطفل الذي لم يولد بعد. فاتّخذت ذلك دليلاً على أن هذه الزيارة غير المنتظرة هي ممن سوف تكون والدة المسيح المنتظر، لأن الروح القدس حلّ عليها بقوة وأنار عقلها وأطلق لسانها، فهتفت بصوت عظيم، وكررت حرفياً تهنئة الملاك السابقة لمريم في بيتها في الناصرة. وأضافت القول: «ومباركة ثمرة بطنك». ثم طوّبت مريم على الإيمان الذي أظهرته عندما بشّرها الملاك.

نرى في تهنئة أليصابات لمريم تواضعاً جميلاً، وإلهاماً روحياً سامياً، لأنها قالت: «من أين لي أن تأتي أمُّ ربي إليَّ؟». فقد انعكست آية الاحترام. أليصابات في مقامها كامرأة كاهن جليل، وفي سنّ الشيخوخة، وفي منزلة الإكرام الإلهي الفائق، تقدِّم الآن احتراماً كاملاً لفتاة فقيرة لم يعرف لها أحدٌ بعد امتيازاً إلا في حسن الصفات! ومن قولها: «أم ربي» عرفنا أن هذا الاحترام لم يكن لاستحقاق في مريم، بل إكراماً للذي سوف تلده، واعترافاً بمقامه الإلهي. وهذا قول كبير جداً من فم امرأة يهودية فهيمة تقية مثل أليصابات، لا يمكن أن تقوله إلا لأن الروح القدس الحالَّ فيها قد ألهمها به.

«فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ ٱلأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (لوقا 1: 46-55).

وبعد أن أكملت أليصابات تسبيحتها حلَّ الروح القدس على مريم أيضاً، فترنَّمت بنشيد ارتجالي، يُعَدُّ بين أشعار الإنجيل القليلة، أجملها وأسماها، إذ تضاهي هذه الترتيلة أفخر مزامير جدِّها داود، كما أنها تبيّن ما جمَّلها الله به من الذكاء العقلي والشعور الروحي. في هذا النشيد تذكِّرنا بمريم أخت موسى التي ترنَّمت بعد عبور بني إسرائيل البحر الأحمر. ولهجة مريم العذراء في هذه الترنيمة بعيدة عن التعظُّم وعامرة بالتواضع. فهي تشعر الآن بصغرها أكثر من قبل، وتبيّن أن ليس هي بل الرب هو الذي تعظَّم بهذا العمل. تعترف في فاتحة ترنيمتها بأنها كغيرها تحتاج إلى مخلّص، وأنها قد لجأت إلى الله لأجل خلاصها الشخصي. فلا يُنتظَر منها أن تخلِّص الآخرين.

قالت مريم: «تعظّم نفسي الرب» فهي تشعر بعدم استحقاقها لهذا الإنعام الإلهي، فقد اختارها الرب رغم وضاعة منزلتها، ورفعها إلى أوج العظمة بإنعامه الإلهي. وهي أول من شعر واعترف بهذا الإنعام، فقالت: «إن الرب نظر إلى اتضاع أمَتِه، لأن القدير صنع بي عظائم».

ولقد برهنت هذه الكلمات على عظمة مريم، لأنها لم تصنع معجزة كالرسل والأنبياء وغيرهم من القديسين، ولم يُذكَر لها كلام ذو شأن بعد هذا الحادث، ولا قُدِّم لها إكرام خصوصي. وبعد قيامة المسيح سكت الوحي عنها تماماً، إلا في ذكْرٍ بسيطٍ ساواها بغيرها، أنها كانت ضمن 120 تلميذاً اجتمعوا لأجل الصلاة في العلية.

يجب أن نتعلم من مثال إنكار الذات في مريم التقية. حتى في ساعة أعظم ارتفاعها، قالت: «واسمه قدوس» فقد كان كل افتكارها في الرب، ابتهاجاً بما صنع. لقد أعلنت أن الله لا يحابي بالوجوه، ويعمل بفكره الإلهي الذي يخالف أفكار البشر «يُنزِل الأعزّاء عن الكراسي ويرفع المتّضعين». يُغني الفقراء ويُفقر الإغنياء. يرفض الذين يظنون أنهم يستحقون التفاته الخصوصي، ويقبل الذين يُحسَبون غير مستحقين. «هو إلهٌ يحفظ العهد والرحمة إلى جيل الأجيال للذين يتقونه». فيحقُّ للكنيسة المسيحية أن تفتخر بتسبحة مريم هذه، وتحسبها أنفس الترنيمات الإنجيلية.

7 - ولادة المسيح

«وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ. وَهٰذَا ٱلٱكْتِتَابُ ٱلأَّوَلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ ٱلْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ ٱلَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتِهِ ٱلْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي ٱلْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ» (لوقا 2: 1-7).

كانت مريم في بيت يوسف مدة أشهر الحمل. وقرُبت أيامها لتلد وهُما في وطنهما الناصرة، لكن نبوَّة كتبها ميخا النبي قبل هذا الوقت بنحو سبعماية سنة قالت إن المسيح يولد في بيت لحم (ميخا 5: 2)، وهي بعيدة عن الناصرة.

يقول المسيح إن السماء والأرض تزولان، ونقطة واحدة من قول الله لا تزول (متى 24: 35). وقال النبي إشعياء: «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لا تُفْقَدُ. لأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا» (34: 16).

فأيُّ دافع يكفي ليسوق يوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم محتملين مشقّة سفر أربعة أو خمسة أيام في أول فصل الشتاء، ومريم على وشك الولادة؟

أن الله يستخدم لإتمام مشيئته - ليس الملائكة فقط - بل الملوك أيضاً. ألم يقل الحكيم: «قَلْبُ ٱلْمَلِكِ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ»؟ (أمثال 21: 1) فسخَّر اللّه أعظم ملوك الأرض ليتمم النبوة المتعلِّقة بمحل ولادة المسيح، وكلف أوغسطس قيصر الإمبراطور الروماني أن يأمر بإحصاء عمومي لرعاياه. ومراعاةً لمطالب الشعب اليهودي سمح بأن يؤخذ الإحصاء عندهم في الوطن الأصلي لكل سبط وعائلة، حفظاً للأنساب في محل سكنهم، بغضِّ النظر عن موطنهم الأصلي. وبما أن يوسف ومريم كانا من نسل داود، لذلك اضطرا أن يذهبا للإحصاء الجديد في بيت لحم، مدينة داود.

الولادة في بيت لحم

في مدة الألف سنة، منذ عهد داود تفرع وتفرق في أنحاء العالم عددٌ غفير من سلالة داود الملكية، وازدحمت بيت لحم بعودة الكثيرين منهم في وقت واحد لأجل الإحصاء، فلم يجد يوسف ومريم مكاناً لهما في الفندق العمومي، ولم يقبلهما أحد في بيته، لأن فقرهما الظاهر حال دون ذلك. وزِدْ على ذلك أن أهل اليهودية كانوا يزدرون بالجليليين الذين كان يوسف ومريم منهم، فبات يوسف ومريم في إصطبل الفندق.

وبينما هما في الإصطبل تمَّت أيام مريم لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته بالقليل المتيسِّر لديها، وأضجعته في المذود لعدم وجود سرير تضعه فيه.. فأيُّ فقر أعظم من هذا؟ لكن هذا يوافق القصد الإلهي في التأنُّس لأجل إثبات الحب العجيب الذي تنازل إلى هذه الدرجة بقصد تخليص الخطاة.

لم يشعر أحدٌ بولادة هذا الطفل سوى مريم ويوسف، بينما شعر الجميع بالمنشور القيصري الذي ساق هذا الجمهور إلى بيت لحم، فاهتمَّ جميع الناس به وتحدثوا عنه من كبيرهم إلى صغيرهم. أما اليوم فالأمر بالعكس. لقد نسي الناس منشور القيصر تماماً، لولا اقترانه بولادة هذا الطفل، وصار سؤال البشر جميعاً لا عن ذلك المنشور، بل عن هذا المولود ومنزله الوضيع. ويتقاطر اليوم جميع المتمدنين، لا إلى قصر أوغسطس، بل إلى مذود المسيح.

فلنتأمل في هذا المذود ونسأل: هل ذلك الفقير هو ذات الشخص الذي نراه الآن بعد ألفي سنة، موضوع عبادة أعظم ملوك الأرض وأغنى سكانها وأشهر علمائها؟ إنهم يفتخرون أن يسجدوا أمام صليبه، وأن ينتسبوا إليه، وأن يخضعوا لتعاليمه. والحق يُقال إننا نرى فيه وهو ابن يوم واحد موضوعاً لمزيد الإحترام الحبي، لأنه آدم الثاني داخلاً إلى العالم كآدم الأول دون أب بشري، ودون خطية أو شبه خطية، لكي يُصلِح ما أفسده آدم الأول بسقوطه، ويجدد نسلاً روحياً، ويُعيد الفردوس أخيراً إلى عالمنا الحزين.

الملائكة يعلنون الخبر للرعاة

«وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ ٱللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاكُ ٱلرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. فَقَالَ لَهُمُ ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ. وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».

وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلامُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ».

وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، قَالَ ٱلرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ ٱلآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْوَاقِعَ ٱلَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ». فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي ٱلْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلامِ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ. وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذَا ٱلْكَلامِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ثُمَّ رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ» (لوقا 2: 8-20).

صاحَبَ ميلادَ المسيح العديدُ من الحوادث السماوية، فقد جرت في السماء أعظم حركة.

لقد سبق بيان اهتمام أهل السماء بحوادث الأرض، وتكرر مجيء كبير الملائكة ليبشر بقُرب هذه الولادة العجيبة. لكن هذه هي المرة الوحيدة التي أرسل فيها الله إلى العالم جمهوراً من الملائكة، وسُمع على الأرض ترنيم ألحان السماء.

فمن هم الذين نالوا هذا الحظ الفريد، وبهرت أبصارهم رؤيةُ هذا الجمهور، وشنّفت أسماعهم هذه الترنيمة الوحيدة السماوية التي بلغت آذان البشر؟ ليسوا أكابر القوم ولا علماءهم ولا رؤساء الدين المُنزَل. لم يحْظَ بذلك هيرودس الملك في قصره المجاور، ولا رئيس الكهنة في الهيكل القريب الباهر، بل قد جاء هذا الشرف وهذا السرور لأشخاص تشابه أحوالهم الخارجية أحوال هذا المولود، لكي تتمّ هيئة الاتضاع التي تمثّل تنازُل الإله لأجل خلاص الإنسان.

لما تأسست الأرض ووُضع حجر زاويتها، ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله، لكن هذا الهتاف والترنيم لم يطرقا آذاناً بشرية. إنما لما تأسس الفداء، ووُضع حجر زاوية الخلاص للبشر الخطاة بتأنُّس الابن الأزلي، سُمع فوق سهول بيت لحم هتاف ملائكة الله في آذان رعاة متبدِّين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم.

وبينما كان هؤلاء الرعاة ساهرين على أغنامهم وقف بهم ملاك الرب، وأضاء حولهم مجد الرب. فيحقّ لهم أكثر من مريم وزكريا أن يخافوا خوفاً عظيماً. لكن الملاك قال لهم كما قال للمذكورَيْن: «لا تخافوا» ثم قال: «ها أنا أبشركم بفرح عظيم». بشر جبرائيل زكريا ثم مريم بأمرٍ مفرح جداً سيكون قريباً. لكن هذه البشارة أعجب، لأن موضوعها أمر. وأخبرهم أن هذا الفرح يشمل جميع شعب الله الذين يفرحون بهذه الولادة.

كرر الملاك الكلمة الجوهرية التي أعلنها لزكريا عندما سمّى هذا الطفل «قرن خلاص» والتي قالها لمريم ثم ليوسف لما سمَّاه «مخلِّصاً» وقال الآن للرعاة: «وُلد لكم اليوم مخلِّص». وأفهم الرعاة أن هذا المخلص من مدينة داود، فهو إذاً من نسله. وأنه «المسيح» - إذاً هو الموعود به من قديم، وأنه «الرب» - إذاً ليس هو مجرد بشر. ثم أعطاهم علامة دون سؤال منهم، وهي الهيئة التي يرونها عندما يجدون هذا المخلّص.

وحالما أكمل الملاك هذا الموضوع الخطير، ظهر بغتةً جمهور من الجند السماوي، لا ليعلنوا إعلاناً جديداً، بل ليثبّتوا الإعلان الأول. ظهروا مسبّحين الله.. إن تسبيح الله هو عملهم الخصوصي في السماء، ولما جاءوا إلى الأرض كان هذا أيضاً عملهم، فقالوا: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».

وهذه العبارة الوجيزة تتفق مع قول بولس الرسول إن «مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ» (رومية 14: 17). لأن مجد الله برُّه أي قداسته، وثمر البر هو السلام والسرور.

ليس للملائكة أن يمكثوا مع البشر مهما اشتهى البشر رفقتهم، فرجعوا إلى السماء. وكان تأثير زيارتهم أن الرعاة أسرعوا إلى البلد، حسب إشارة الملاك ليمتّعوا أعينهم بهذا المنظر الذي جمع بين المجد والتواضع، فصاروا شهوداً للزيارة الملائكية، ثم للإعلان المثبّت لحقيقة هذا الطفل غير الظاهرة في شيء من أحواله الخارجية. فلو وُلد هذا الطفل في قصر ملكي، يناسب مقامه الحقيقي، لما سمح أحدٌ لهؤلاء الرعاة في ملابسهم الفقيرة وهيئتهم الخشنة أن يدخلوا لينظروه-ولكن مَنْ يمنعهم عن زيارة الإصطبل؟ جاءوا مسرعين فرأوا ما أخبرهم به الملاك تماماً، وحكوا لمريم ويوسف وغيرهم ممَّن صادفوهم خبر ما حدث لهم في ذلك الليل في البرية. فتعجب كل الذين سمعوا مما قيل لهم من الرعاة. أما مريم، الوالدة السعيدة فكان لها هذا الخبر في المنزلة الأولى من الأهمية لإثبات صحة بشارة الملاك لها بخصوص مولودها.

ثم رجع الرعاة إلى قطعانهم وهم يمجدون الله ويسبحونه، كما فعل الملائكة في مسامعهم، فكانوا أول من بشَّر بمجيء راعي النفوس ورأس الكنيسة العظيم.

نتصوّر هؤلاء الرعاة من الأتقياء رغماً عن فقرهم واضطرارهم أن يهملوا كثيراً من طقوس الدين العديدة والثقيلة. لا بل يجوز الظن أيضاً بأن الأغنام التي كانوا يرعونها هي المخصَّصة لخدمة الهيكل، المُعَدَّة للتقديم على المذبح المقدس. وهنا نرى علاقة لطيفة بين هذه الأغنام المعدة للذبح في الهيكل، وهذا الطفل الذي سماه المعمدان «حَمَلُ ٱللّٰهِ» وسماه يوحنا الرسول «الحمل المذبوح» (يوحنا 1: 29، رؤيا 5: 6).

ختان الطفل

«وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ ٱلْمَلاكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي ٱلْبَطْن» (لوقا 2: 21).

في اليوم الثامن بعد ولادة هذا الطفل، أُجري له فرض الختان الذي جعله الله لإبراهيم علامةً لإفراز شعبه من الأمم الوثنيين حولهم. هذه هي المرة الأولى من مرات عديدة فيها خضع مؤسس العهد الجديد لفرائض العهد القديم. وهذا لكي يربط في شخصه العهدين، كما تتَّحد في شخصه أيضاً طبيعتا الخالق والمخلوق.

زيارة الطفل للهيكل

«وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لا يَرَى ٱلْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ. فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ وَقَالَ: «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلامٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاصَكَ، ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلانٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلامَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ» (لوقا 2: 22-35).

أخذ يوسفُ ومريم المسيحَ إلى الهيكل في أورشليم لإداء الطقوس الدينية المطلوبة. ولم تنته هذه الزيارة الأولى من رب الهيكل إلى هيكل الرب دون حوادث فوق العادة تناسب وتؤيد ما سبقها من معجزات. فقد التقى سمعان الشيخ بيوسف ومريم، وهو رجل بار تقي كان الروح القدس عليه، وينتظر مجيء المسيح الموعود به. وكان قد أُوحي لسمعان الشيخ بالروح القدس أنه يرى قبل موته مسيح الرب. فشعر في ذلك النهار أن هذا الروح يجذبه إلى الهيكل، ثم يهديه إلى هذا الطفل. فأخذ الصبيَّ وحمله على ذراعيه كأنه يقدمه للرب، وبارك الرب وقال: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك». ثم في خاتمة تسبيحته المختصرة أوضح عمومية هذا الخلاص، إذ قال: «نور إعلان للأمم».

ولما أظهر يوسف ومريم التعجُّب من مضمون هذه التسبيحة، ومن معرفة سمعان لمقام هذا الطفل ومستقبله باركهما سمعان كما يبارك الكبير الصغير، ثم كشف لمريم بكلام خصوصي سراً عميقاً ومهمّاً جداً متعلقاً بشخص المسيح وعمله، وهو: كما أن المخلّص يُقيم كثيرين، فهو أيضاً يُسقِط كثيرين، وأنه سيكون موضوع أشد المقاومة والاضطهاد، ويسبّب كشف كثير من مكنونات القلب، وأن مريم أمه ستشترك في آلامه حتى كأن سيفاً يخترق قلبها.

«وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لا تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَهِيَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ» (لوقا 2: 36-38).

وبعد هذا الحادث تقدمت نبية اسمها حنة بنت فنوئيل من سبط أشير كانت طاعنة في السن، وقد ترمَّلت قبل هذا بنحو أربع وثمانين سنة، صرفتها في التعبُّد لله. ولما رأت الطفل مع أبويه وسمعت كلام سمعان الشيخ وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم. وبهذا الحادث أصبحت حنة بكر المؤمنات بالمسيح بعد ولادته، وباكورة جيش النساء الفاضلات اللواتي خدمْنَه في كل العصور.

وبعد هذه الزيارة للهيكل في أورشليم عاد يوسف ومريم والطفل يسوع إلى مدينة أجدادهم بيت لحم. وبزوال الازدحام الوقتي، تيسَّر لهذه العائلة المباركة مقرٌّ هناك غير الإصطبل.

8 - زيارة المجوس ليسوع الطفل

«وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بِٱلنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ ٱلصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».

حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ ٱلْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ ٱلنَّجْمِ ٱلَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: «ٱذْهَبُوا وَٱفْحَصُوا بِٱلتَّدْقِيقِ عَنِ ٱلصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ ٱلْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا ٱلنَّجْمُ ٱلَّذِي رَأَوْهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ ٱلصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا ٱلنَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً، وَأَتَوْا إِلَى ٱلْبَيْتِ، وَرَأَوُا ٱلصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، ٱنْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ» (متى 2: 1-12).

في فجر التاريخ البشري لم يطِقْ إبليس أن يرى أبوينا الأولين طاهرين سعيدين في جنة عدن، فاحتال عليهما وأسقطهما مع نسلهما جميعاً تحت عبودية الخطية. فهل يمكن أن يسكت لولادة المسيح، آدم الثاني، الأعظم من الأول بما لا يُقاس؟ أوَلَيْس هذا عدوَّه المقتدر الذي قال عنه الرسول: «لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ»؟ (1 يوحنا 3: 8). حقاً إن سكوت إبليس في هذا الوقت مستحيل، فلا بد من هيجانٍ جديد في دوائر الجحيم.

ولا يحتاج هذا الرئيس إلى رسل من عالم الأرواح لإجراء مشيئته في إهلاك هذا الطفل الفريد، لأن عظماء القوم في البلاد هم في قبضة يده يستخدمهم كما يشاء في إتمام مقاصده المهلكة. ومَنْ هو أقدر على الإعدام من الملوك؟ أوَلَيْس ملك البلاد هيرودس الكبير الشرير الظالم الدموي طائعاً تماماً لمشيئة ملك الشياطين؟ فما حاجة إبليس إلى غير عبده هذا الملكي الذي يفتخر ويكتفي به ليُجري له مرامه الآن؟ وبما أن أجَلَ هذا الملك الشرير اقترب، فلذلك لا يتباطأ إبليس في استخدامه.

وفي ذات يومٍ في أواخر أشهر الشتاء وقع اضطراب عظيم في أورشليم وفي قصر الملك، بسبب ظهور قومٍ غرباء في أورشليم آتين من المشرق، كانوا على ما يرجَّح من أهل العِلم والرُّتب الرفيعة اسمهم المجوس. ولا يقال من أي مشرق أتوا: أمن بلاد فارس أم الهند أم بلاد العرب؟ ولا يُقال كم كان عددهم: هل إثنا عشر حسب بعض التواريخ، أو ثلاثة حسب الرأي الغالب. والذين يصرُّون على أنهم ثلاثة يبنون حكمهم على أن تقدماتهم كانت من ثلاثة أنواع. ويحسبون أنهم مثَّلوا أقسام البشر الثلاثة: أي بني سام وبني حام وبني يافث، كما مثَّلوا أقسام العمر الثلاثة أي: الشباب والرجولة والكهولة.

يُرجَّح أنهم كانوا من المهتمّين، كسائر علماء عصرهم، بدرس علم الفلك ومراقبة الأجرام السماوية. وقد يكونون من الذين سمعوا من اليهود المتغربين في بلادهم عن المسيح العظيم المنتظَر، وأنهم من أمثلة الوثنيين الذين يقول فيهم كتَبَةُ اليهود والرومان إنهم كانوا يتوقَّعون ظهور شخص عظيم في بلاد اليهود.

أما أهل أورشليم فقد اعتادوا مجيء الزائرين من كل بلدان العالم حيثما كان الشعب اليهودي مشتتاً، لأن شهرة مدينتهم جعلتها مطمح أبصار الكثيرين من غير اليهود، الذين يريدون التفرُّج والاتِّجار. لكن قدوم هؤلاء المجوس أوقع اضطراباً عاماً بسبب السؤال الذي سألوه وغرضهم من هذه الزيارة. كان سؤالهم: «أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له».

أثار هذا السؤال خوفاً عظيماً في قلوب الذين سمعوه، بسبب ما توقعوا أن يفعله الملك الشرير هيرودس متى سمع بملكٍ جديد غيره. لا بد أن فنون جنونه تتجدَّد بذلك. ولا يعلم أحد على من تقع ضرباته البربرية المهلكة. كان جواسيسه المأجورون يبلغونه حالاً بكل ما يمسُّه أو يهمُّه، فلما بلغه خبر مجيء المجوس وسؤالهم، هاج خوفاً على عرشه وعلى حياته، فجمع حالاً كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب ليعرف منهم إن كان في كتب الأنبياء إشارة إلى مكان مولد المسيح. وإطاعة لأمره سردوا له قول النبي ميخا: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2).

ولا بد أن هيرودس دعا المجوس إلى قصره وأكرمهم - رغم شدة هيجان حنقه الداخلي عليهم - ليعرف منهم موعد ظهور النجم. ونعتقد أنه كان يهينهم ويعذبهم ويهلكهم لولا مَكْره الذي أوعز إليه أن يستخدمهم لإهلاك المولود الجديد الذي يهدد عرشه، فأخفى عنهم غيظه وأرسلهم إلى بيت لحم، ثم بمزيد الخبث والمكر أوصاهم: «أن يفحصوا بالتدقيق عن الصبي» وبمنتهى الرياء قال: «ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له» فقدَّر لنفسه يوماً قريباً فيه يأخذ من المجوس الخبر الذي طلبه منهم، فيذهب بنفسه متظاهراً بقصد السجود، ليقتل الصبي، وربما المجوس أيضاً الذين أزعجوه.

كنا نود أن نعرف أفكار المجوس لما وصلوا إلى العاصمة اليهودية، ووجدوا أن لا علم لأحد بميلاد الملك الجديد، من سكان القصر الملكي إلى أحقر رجل في الشارع. لماذا لم يأسفوا على سياحتهم ومشاقها ويعودوا على أعقابهم إلى بلادهم خجِلين؟ لماذا لم يفتكروا أن نجمهم أضلَّهم فيندمون على ما فعلوا؟ ربما استأنسوا بقول هيرودس إنه يريد هو أيضاً أن يسجد لهذا المولود، فتجددت آمالهم بعد أن علموا أن الملك هيرودس نفسه يريد أن يأتي ويسجد له. فذهبوا مستعدين أن يفعلوا ما أوصاهم، وشكروه على التسهيلات التي قدمها لهم.

وفي طريقهم إلى بيت لحم عاد النجم الذي رأوه في المشرق إلى الظهور، وتقدَّمهم «حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. ففرحوا فرحاً عظيماً جداً» ولا بد أنهم استدلّوا من النجم، لما رأوه في بلادهم، أن وُجهتهم يجب أن تكون أورشليم، وأن النجم لم يرافقهم إليها. رأوه في المشرق وودّعهم هناك، ولذلك سرَّهم جداً ظهوره الآن بعد انحجابه.

وبما أن ليس في أحوال العائلة المقدسة الخارجية، ولا في منظر الصبي، ما يؤيد أصله العجيب ومقامه السماوي، نرجح أن «أبويه» لم يكونا قد أظهرا هذه الأسرار لأهل بيت لحم، وأنه لا يمكن أن يهتدي المجوس إلى مكان المسيح بدون هداية النجم. فإلى أي طفل من جميع أطفال بيت لحم ينبغي أن يسجدوا؟ لذلك ظهر لهم النجم من جديد ليثبِّت إيمانهم، وليدُلَّهم على البيت الذي يجب أن يزوروه. فلم يكن النجم مجرد أعجوبة، بل كان وسيلة ضرورية للوصول إلى نتيجة مهمة.

ونلاحظ أنهم لما دخلوا البيت الذي هداهم النجم إليه لم يسجدوا إلا للطفل، وقدموا له وحده الهدايا، فقدَّموا مُرّاً ناسب مقام هذا الطفل النبوي، ولباناً وافق مقامه الكهنوتي، وذهباً لائم مقامه الملكي.

وقد بحث العلماء كثيراً في موضوع هذا النجم العجيب، ودقّق الفلكيون في حساب الظهورات الجوية النادرة، ليروا أيّها يجوز اتخاذه تفسيراً لهذا الظهور. وعُلم أن في نحو ذلك التاريخ حدث اقتران في النجوم السيارة، لا يحدث إلا مرة بين مئات السنين. وظن بعضهم أن هذا الاقتران كان دليل المجوس. وعُلم أيضاً أن نجماً خارقاً في لمعانه ظهر في نحو ذلك الزمان، وبقي وقتاً وجيزاً ثم اختفى، فظنّه آخرون أنه نجم المجوس، وزعم غيرهم أنه كان من ذوات الأذناب التي لم يرد خبر ظهور بعضها في التاريخ إلا مرة، خلافاً للبعض الآخر التي لضيق حلقة دورانها، تعود إلى الظهور في فلكنا في مواقيت معلومة. ولكن لا يعرف أحد بالتأكيد شيئاً كافياً عن هذا النجم.

كم فرح المجوس برؤية هذا الطفل الذي رأوا نجمه أولاً في مشرقهم البعيد. لقد حصلوا على نور جديد يفوق كثيراً الأجرام السماوية التي كانوا يراقبونها. وهذه نتيجة اهتمامهم بالدين، لذلك أُوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم. ولا نعرف كيف ودَّع المجوس الأغنياء العائلة المقدسة الفقيرة.

«وَبَعْدَمَا ٱنْصَرَفُوا، إِذَا مَلاكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ ٱلصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَٱنْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ٱبْنِي» (متى 2: 13-15).

حال انصراف المجوس ظهر ملاك الرب ليوسف في حلمٍ ثانٍ، كما ظهر قبل هذا في الناصرة، وأمره بالذهاب إلى مصر، وأعلن له سبب ذلك، فلم يتباطأ يوسف في طاعة الأمر الإلهي.

لا بد أن مجيء المجوس وما فعلوه أثّر في جميع سكان بيت لحم، وزاد احترامهم لعائلةٍ ربما كانوا قبلاً يحتقرونها، ولا سيما للطفل الذي اعتبره المجوس ملك إسرائيل الجديد، فسجدوا له وأتحفوه بهدايا ذات قيمة مهمة.

ولولا هدايا المجوس الثمينة ما كان يوسف يقدر أن يقوم بنفقات هذا السفر البعيد والتغرُّب في مصر. فجاءت هذه الهدايا شاهداً جميلاً لتدبير العناية الإلهية العجيبة متى مسَّت الحاجة لإتمام مشيئته المقدسة.

قتل أطفال بيت لحم

«حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ ٱلْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ ٱلصِّبْيَانِ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ٱبْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ ٱلّزَمَانِ ٱلَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ ٱلْمَجُوسِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي ٱلرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلادِهَا وَلا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ» (متى 2: 16-18).

ماذا جرى في قصر هيرودس بعد أن ترك المجوس بيت لحم، وماذا فعل يوسف ومريم؟ لنعُدْ بالفكر إلى القصر الملكي في أورشليم، فنرى هيرودس منتظراً بفروغ صبر عودة المجوس، ليعرف ماذا يعمل لكي يُهلك المولود ملك اليهود. ولما انتهت المدة المتّفَق عليها بينه وبينهم لم يعودوا إليه، يرجَّح أنه أرسل إلى بيت لحم يسأل عنهم. ولما أخبره رسوله أنهم انصرفوا على غير طريق أورشليم، أدرك أن المجوس خدعوه، فاغتاظ جداً لأن هذا أضاع فرصته لمعرفة أي صبي في بيت لحم يجب أن يُقتل.

ولا شك أن هيرودس سعى ليعرف من أهل بيت لحم البيت الذي زاره المجوس. ولما أُخبر أنهم كانوا غرباء من الجليل، وأنهم سافروا ليلاً إلى جهة مجهولة، لم يصدق ذلك، بل نسب إليهم الخداع، حسب عادته المشهورة في التطرُّف في إساءة الظن، واعتبر أن هذه الإجابة محافظةٌ على أحد أولادهم، فحمي غضبه أكثر، وقصد أولاً أن يتأكد من قَتْل الطفل يسوع. وثانياً أن ينتقم من أهل بيت لحم بعد أن ظن أنهم قاوموه بالخداع، وقبلوا سخرية المجوس به، وهو الملك العظيم. فأرسل رجاله ليقتلوا جميع الصبيان الذين في بيت لحم والذين في كل تخومها (لئلا يكون قد تحذَّر أحد فهرب إلى خارج) من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس.

يرى البشير متى في هذا الحادث المريع وهذه الفظاعة الهيرودية، إتماماً ثانياً لقول إرميا: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي ٱلرَّامَةِ، نَوْحٌ بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلادِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلادِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ» (إرميا 31: 15) وقد حسبهم البعض باكورة الشهداء المسيحيين لأنهم ذُبحوا في سبيل المسيح.

عودة إلى الناصرة

«فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ ٱلصَّبِيِّ». فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاوُسَ يَمْلِكُ عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، ٱنْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي ٱلْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً» (متى 2: 19-23).

لم يطل الوقت إلا ونال هيرودس الظالم الدموي الشرير عقابه الذي يستحقه، لأنه مات موتاً مخيفاً في قصره في مدينة أريحا، معذّباً عذابات لا توصف من خارج ومن داخل. فمن يقدر أن يتصور لسعات ضمير الشرير في ساعات الموت، وخصوصاً متى طالت هذه الساعات، وكانت علته لا ترحمه؟ ظن هيرودس لما قتل أطفال بيت لحم أنه يعيش وأن الصبي الذي خشي أن يهدد عرشه قد قُتل. لكن بعد أيام قليلة كان هيرودس في قبره، بينما كان الصبي يسوع حياً محروساً، قد عظُم شأنه حسب ما نراه في هذا اليوم.

ولم يطل تغرُّب العائلة المقدسة، فقد جاء ليوسف في مصر ملاكٌ قال له في حلم: «قم وخذ الصبي وأمه» لكنه لم يقل: «اهرب» بل «اذهب». وأمره بالرجوع إلى أرض إسرائيل باطمئنان، لأن الذي أراد أن يقتل الصبي قد مات، فسمع يوسف وأطاع.

ونعتقد أن يوسف ومريم أرادا أن يستوطنا في بيت لحم، مدينة أجدادهم، مدينة داود الجميلة المكرمة، الواقعة على حدود المدينة المقدسة أورشليم، وبقرب هيكل الله العظيم، وبجانب المدارس العالية التي يلزم أن يتخرج فيها كل من قصد التقدُّم في المراتب الدينية، فقد كان تقدُّم المسيح مطمح أبصارهما، وهذه هي المدينة التي وضع الله اسمه فيها منذ أيام داود الملك والنبي العظيم، أفلا يوافق أن يتربى فيها أو في جوارها وارث داود الأعظم؟ ولكن بما أن ملك اليهود الجديد أرخيلاوس بن هيرودس الذي قام في أول ملكه بأعمال كثيرة حسنة، ليؤيد سلطته ويحفظ عرشه، تغيَّر سريعاً، وأظهر من القساوة ما ماثل تصرفات أبيه، خاف يوسف أن يستوطن تحت ظله.

ويظهر أن يوسف كان في حيرته يلتجئ إلى الصلاة طلباً لإرشاد الله، فكان الله يجيبه وينيره بواسطة أحلامه. وقد شعر الآن بعظمة المسؤولية التي عليه للمحافظة على يسوع وحُسن تربيته. وفي هذه الحيرة أتاه الإرشاد الإلهي في حلم، فرجعوا إلى وطنهم الأول في الناصرة وسكنوا هناك. ويقول متى البشير إن الإقامة في الناصرة حققت قول أحد الأنبياء إن المسيح سيُدعى ناصرياً (متى 2: 23).

طفولة فريدة

تتضح طفولية يسوع الفريدة عن كل طفولية سواها في التاريخ لمن يتتبع قراءتها بإمعان، فمنها الكلام العجيب الذي جاء أولاً في النبوات القديمة التي تحققت بصورة مدهشة في تفاصيل هذه الطفولية، ثم جاء في النبوات الجديدة من ملائكة وبشر قبل ولادته مباشرة، ثم في الأناشيد الممتازة لأليصابات وزكريا ومريم.

ومنها الحوادث العجيبة التي ابتدأت بظهور الملاك لزكريا وعقابه بالخَرس لعدم إيمانه، ثم تلا ذلك حبل أليصابات العجيب، وشفاء زكريا من خرسه، وظهور الملاك لمريم وحبلها العجيب، والتعليمات الضرورية الصادقة التي وردت ليوسف في الأحلام، والأمر الإمبراطوري بالإحصاء وحفظ القيود النَسَبيّة اليهودية، وظهور الملائكة للرعاة، وحوادث التقديم في الهيكل، وزيارة مجوس المشرق، ومنها التنوُّع العجيب في الاحتفاء بولادة هذا الطفل: أولاً اشتراك الملائكة ممثلي أهل السماء، ثم الكاهن ممثل رجال الدين، ثم الرعاة ممثلي فقراء العالم. ثم مريم وأليصابات ممثلتيْ الشابات والعجائز ثم المجوس ممثلي الأغنياء والعلماء والأشراف، وممثلي الأمم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الإسرائيليين الأتقياء، وحنة ممثلة الأنبياء، والنجم ممثل الطبيعة غير العاقلة.

يُضاف إلى هذا مناسبة الوقت الذي جاء فيه هذا المولود، ليس فقط أنه الوقت الذي اتفق مع النبوات الصريحة المختصة بالمسيح الموعود به، بل أن المناسبة ظهرت من أوجه أخرى عديدة، أوضحها الرسول بولس بعد ذلك في قوله: «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية 4: 4).

جاء المسيح رئيس السلام في وقت سلام عمَّ الأرض نادر الوقوع. وجاء في وقت توطَّد فيه الأمن العام، وتوفّرت المواصلات في الداخل والخارج تسهيلاً لأسفار رسله والمبشرين بإنجيله، وذلك بواسطة امتدادٍ لا مثيل له في التاريخ لسطوة سياسية موحَّدة منظمة شاملة، هي سطوة الإمبراطورية الرومانية في عِزِّها. ومن محاسن هذا الحكم إطلاق الحرية التامة الدينية.

وكانت اللغة اليونانية، أفضل اللغات القديمة، منتشرةً مع فلسفتها البليغة في البلدان المختلفة، تسهيلاً لتوزيع إنجيل المسيح والتبشير به، ولا سيما أن اليهود كان لهم في الشتات ترجمة توراتهم العبرانية إلى اللغة اليونانية.

جاء المسيح في وقت تفاقم فيه الشر في العالم لتتضح شدة احتياجه إلى مخلِّص مقتدر يقدم فداءً كافياً، ويُظهر سلطةً وافية ليكون مخلص البشر أجمع.

جاء المسيح في وقت تمّت فيه الوسائل الأخرى التي استخدمها الإله سبحانه لردِّ البشر عن شرورهم. وكانت هذه الشرور تزداد، فامتلأت صدور الأتقياء القليلي العدد يأساً، جعلهم يتوقعون بفروغ صبر المسيح المخلص.

جاء المسيح في وقت تشتَّت فيه الشعب اليهودي في كل المعمور، وهو شعب متمسك بالتوحيد الإلهي، يكره العبادة الصنَمية. وباعتبار التوراة الكتاب المُنزل كان رسل المسيح يبدأون باليهود في التبشير بمجيء مسيحهم، ويستعينون بمن يؤمن منهم لنشر البشارة بين الأكثرية الوثنية. وفي ذات الوقت كان الحكم الروماني العادل الصارم حاجزاً منيعاً أوقف رؤساء اليهود الذين أرادوا أن يخنقوا المسيحية في مهدها وأن يطفئوا ذكر المسيح.

فبناءً على الأمور المار ذكرها وأمثالها، هل من عجب أن افتتح البشير مرقس تاريخ حياة هذا المولود بقوله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله؟».

9 - صُبُوَّة المسيح

بعد أن ذكر الإنجيل حوادث ميلاد المسيح ذكر حادثة ذهاب المسيح إلى هيكل أورشليم، وله من العمر اثنتي عشرة سنة، ثم صمت الإنجيل تماماً عن ذكر أي شيء من حياة المسيح حتى بلغ الثلاثين من عمره وبدأ خدمته الجهارية بين الناس، يشفي المرضى ويقيم الموتى ويعلّم الناس.

ويتوق كل إنسان إلى أن يرى عملاً ولو واحداً، وأن يسمع قولاً ولو كلمة، عن مرحلة طفولة المسيح وصُبوّته. لكن ليس للعالم شيء من ذلك قبل بلوغ المسيح سن الإثنتي عشرة، لأن الوحي أسدل ستاراً حجب عن العالم ما افتكره المسيح وقاله وفعله في تلك المدة كلها.

ويجوز أن نخمِّن بعض أمور أُهمل ذكرها، منها التحاقه في سن السادسة بالمدرسة كسائر أولاد اليهود، مراعاةً لقانون الدين، الذي جعل تعليم الأولاد إلزامياً، فأصبح يسوع شريكاً لجمهور الأولاد في المدارس، ونموذجاً لهم في الدروس والسلوك، يعرف تجاربهم ويشعر معهم فيها، لأنه تجرّب مثلهم فيرثي لهم. ومنها أيضاً امتيازه بين زملائه علمياً وأخلاقياً.

في عمر الثانية عشرة

ولما بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره ذهب مع مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، ثم مرَّ على هذا الحادث نحو ثماني عشرة سنة، سكت الوحي تماماً عن أخبارها. ولم نقُلْ «سكت البشيرون» لأن سكوتهم لم يكن طبيعياً. ولا يفسره إلا أنهم كانوا منقادين بروح الوحي إلى هذا السكوت. وأما الكتبة الغير الموحى إليهم، الذين كتبوا بعدهم، فاتَّبعوا النسق الطبيعي، ولفّقوا أخباراً عديدة تتعلق حسب قولهم بتلك السنين.

ولم يرْضَ مسيحيو الأجيال المظلمة عن هذا السكوت، فلفّقوا أخباراً مفصَّلة مطوَّلة، وكتبوا أناجيل ورسائل تحتوي قصصاً خرافية عن طفولية يسوع، تورد أقوالاً وأفعالاً تلائم تصوُّراتهم السخيفة، المضادة لنصوص الإنجيل الحقيقي، فقد ظنوا أن المعجزات التي اخترعوها تزيد من أمجاد المسيح، لكنها في الواقع تشهد بسخافة تلك القصص.

ولكننا نتساءل: لماذا سكت الوحي عن أخبار هذه السنين، مع أن الوسائل لمعرفة حوادثها كانت متوفرة؟ وجواباً لذلك نقول إن حوادث طفولية يسوع أظهرت ملامح طبيعته الإلهية الضرورية لأجل صلاحيته كمخلِّص، فصار من الضروري أن تنحجب هذه الملامح مدة كافية لأجل إيضاح إنسانيته الحقيقية. لذلك انْحجَب لاهوته عن عشرائه أثناء سنوات استعداده الثلاثين، إلى أن برز للخدمة، فتجدّدت براهين لاهوته الحقيقي، في ما بقي من حياته بين الناس.

وهذا السكوت من أهم براهين خطأ الذين يزعمون أن عمل يسوع الأعظم والأهم كان تقديمه قدوة للناس يتمثَّلون بها، فلو أن هذا كان صحيحاً لكان من الواجب إعلان ما قاله المسيح وفعله في السنين التي قضاها في العيشة العادية كأحد العامة، يمارس مهنته كنجار في الناصرة.

ولم يقصد البشيرون تدوين حوادث حياة المسيح تاريخياً، بل قصدوا أن يبيِّنوا أنه المصلِح والمخلِّص. لذلك اكتفوا بالتاريخ الذي ابتدأ عند مباشرته أعماله علانية ورسمياً، بعد بلوغه سن الثلاثين، مع أن الأخبار التي أهملوها كانت تفيد وتلِذُّ العالم كثيراً لو أنها سُجِّلت.

ومع أن الناصرة مدينة حقيرة بالنسبة إلى كثير من مدن البلاد، إلا أنها كانت تناسب من أوجه عديدة تربية الصبي ثم الشاب يسوع فيها، فقد كانت زُمر الكهنة تجتمع فيها من مساكنهم المتفرّقة، عندما يأتي دورهم ليخدموا في هيكل أورشليم، ومنها يذهبون معاً لأورشليم. والذين يتعذَّر عليهم الذهاب إلى أورشليم كانوا يقضون أسبوع خدمتهم في أداء الفروض الدينية في الناصرة، على إحدى الطرق الرئيسية الموصّلة بين المناطق الداخلية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، فكانت تمرُّ فيها القوافل المسافرة إلى البلاد الفينيقية وإلى مصر، فيرى يسوع من الحركات العمرانية ما يفقِّهه في أحوال البشر الزمنية. وقد أدَّى سكنه في قرية حقيرة في أطراف البلاد إلى نموِّه في التواضع وفي البساطة الدينية، لبُعده عن مركز اليهود الديني حيث كان الفساد مستفحلاً، لأن الادعاءات الرياسية، والغطرسة الريائية، والسفسطة التقليدية، والتفنينات الطقسية، كانت قد استولت على قادة الأمة في عاصمة دينهم، فخنقت التقوى الحقيقة، وضاع من بينهم روح الدين بسبب استعبادهم للحرف، وقد أوضح يسوع أفكاره في هذا كله يوم زار أورشليم، ودان أولئك الرؤساء على ذلك بكلام قارص جداً.

ويظهر أن أصل يسوع السماوي كاد يبرح من أفكار مريم ويوسف في سني حداثته. ولا عجب، لأن حياته كانت تسير على أسلوب اعتيادي، ما خلا تفوُّقه في الصلاح، فاعتاد أهله النظر إليه كإنسان فقط. وكان في هذا الإغفال خير، إذْ أدَّى إلى أنه اختبر أحوال البشر المتنوعة، عندما اختلط بقومه في أطوار حياته التي تدرَّج فيها. ونتيجة لذلك تجرب في كل شيء مثلنا. فلو كان أبواه يفطنان في كثير من الأوقات إلى حقيقة طبيعته لأصبحا في ارتباك دائم في معاملته، ولكانا يحسبان أنه يجب عليهما الخضوع له في الرأي، وأن يقدّما له الطاعة، وليس بالعكس. وكان إذْ ذاك قد تربى تربية أبعدتهُ عن سائر البشر، وأفقدته الاشتراك التام في الشعور مع الأولاد والشبان والرجال.

ولا نشك أن يسوع كان في حداثته في الناصرة متّقداً حرارة وغيرة وإشفاقاً لرؤيته مصائب الناس وآلامهم، ولذلك نُدهش أكثر لصبره العجيب، وامتلاكه عواطفه تلك السنين كلها التي كان فيها محتجباً في الناصرة، ومؤجلاً عمله الخطير الذي نزل من السماء لأجله، والذي شغل كل أفكاره.

كان عليه أن يمارس يومياً حرفة النجارة ليكسب رزقه، حتى أطلق اليهود عليه لقب «النجار ابن مريم». وتعلَّم القناعة بحالته الفقيرة، والخضوع للأكبر منه سناً. ومما يؤيد استنتاجنا أن حياته كانت اعتيادية تماماً، أن إخوته لم يؤمنوا به، كما أن صيته لم يمتدّ في البلاد المجاورة، لأن نثنائيل في قانا الجليل على بُعْد ساعات قليلة، لم يكن قد سمع به كل تلك السنين، ولا أهل كفر ناحوم وبيت صيدا الأبعد قليلاً بالنسبة إلى قانا. وقد تلخَّص تاريخ حداثته في قول البشير لوقا: «وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ». وقوله: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ (في عقله) وَٱلْقَامَةِ (في جسمه) وَٱلنِّعْمَةِ (في روحه)، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (لوقا 2: 40 و52). وهذا الكلام يدل على أن المسيح تدرج في ذلك تدرُّجاً طبيعياً. وبذلك كان حائزاً - ليس فقط على الرضى الإلهي - بل على الإستحسان البشري أيضاً.. وكإنسان نتصوّره في كل تلك المدة يحبه جميع الناس، مستعداً لخدمتهم في كل أمر حسن، يبتعد عن كل ما يكدّرهم، ويصبر على هفواتهم، ويعاملهم باللطف في سيئاتهم. لم تأت ساعته بعد، التي تطلب منه مقاومة الشر جهاراً، فتثير عليه حنق الأشرار، ولم ينَلْ بعد الشهرة والأهمية التي تهيّج عليه حسد الكبار.

زيارة هيكل أورشليم

«وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ ٱلرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ ٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ ٱلْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ ٱنْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!»فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». فَلَمْ يَفْهَمَا ٱلْكَلامَ ٱلَّذِي قَالَهُ لَهُمَا.

ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (لوقا 2: 41-52).

في عمر الثانية عشرة سافر يسوع من الناصرة إلى هيكل أورشليم. وكان يوسف - رأس هذه الأسرة الناصرية الصغيرة - مكلَّفاً رسمياً أن يصعد إلى أورشليم سنوياً في الأعياد المهمة، وعلى الأخصّ في عيد الفصح، أكبر الأعياد، ولم تكن مريم مكلَّفة بذلك، شأنها شأن سائر النساء، كما كان الصبيان غير مكلَّفين قبل أن يدخلوا تحت «نير الناموس» في سن الإثنتي عشرة.

وفي تلك السنة وقع عيد الفصح في 8 نيسان. إلى هذا العيد إذاً صعد به «أبواه» أول مرة. نحب أن نتصور اهتمام الثلاثة بالاستعداد لهذه الزيارة الأولى - زيارة هذا الولد العجيب - إلى المقام الديني الموقَّر. ثم نتصور رحلتهم برفقة القافلة المؤلَّفة من الجيران، مع كثيرين من بلاد أبعد وراء الناصرة.

وكان على هذه القافلة أن تختار إما الطريق الأقصر الذي يمرُّ في بلاد السامريين المكروهين، وذلك يعرّضهم للإهانة والمضايقة، التي كان يتعرض لها اليهود الصاعدون بزيارات دينية إلى مدينة أورشليم من أهل السامرة. أو أن تفعل فِعل اليهود المتديّنين، وتختار المرور على الطريق الأبعد الواقع شرقي الأردن، فتضطر أن تعبر هذا النهر مرتين. وفي الحالتين يشرف هذا الجمهور على أورشليم في اليوم الرابع أو الخامس.

ولا بد أن يسوع فرح وهو يرى الهيكل الفخم الجميل، والعابدين القادمين من مختلف بلاد العالم، ويسمع فرق الترتيل تعزف بالآلات الموسيقية وترنم بألحان مطربة مردّدة مزامير جدِّه داود. هنا يشاهد خدمة صفوف الكهنة، ولا سيما رئيسهم الأعظم، وهم مخصصون لخدمة الله، وخدمة الشعب في الأمور الروحية، وعليهم دون غيرهم تتوقف المصالح الدينية في البلاد. وكل فرد يطلب المصالحة مع الله وغفراناً لخطاياه كان مضطراً أن يقدم بواسطة هؤلاء الكهنة فقط الذبائح المفروضة عليه لينال هذه البركات.

كان يوسف ومريم ويسوع يقضون أيامهم في المدينة مع المعيِّدين، ويحرصون بكل تدقيق على مواقيت الصلاة القانونية في الهيكل، مع سائر الفرائض المذهبيَّة العديدة المتعلقة بهذا العيد، ولا سيما التقدمات والذبائح. ولا بد أن رغبة هذا الصبي الذكي التقي اتجهت بالأكثر إلى السبب الخصوصي من هذه الزيارة، وهو فريضة الفصح المقدسة. ولا بد أنه كان يعلم أنه هو حمل الفصح الحقيقي، وأن كل تفاصيل هذا الاحتفال بالفصح ترمز إليه، وأن فيه تنتهي هذه السُنَّة القديمة التي مارسها شعب الله بكل تمسُّك مدة ألف وخمسمائة سنة. فكيف لا تكون عواطفه الدينية عامرة ابتهاجاً واشتياقاً إلى الاشتراك لأول مرة في فروض هذا العيد العظيم؟

لكن ما كان أبعد كل أفكار الجمهور الذي اختلط به هذا الصبي من التصوّر بأن هذا هو مسيحهم الموعود به والمنتظر. وكان من الواجب ألاّ يعرفوا ذلك الآن، لأنهم لو عرفوا لما سمحوا له أن يعود ويكمل مدته المعينة لاستعداده الكافي لعمله المقبل.

يظهر أنه كان ينفرد عن «أبويه» في النهار، وهما لا يهتمان لذلك، لعلمهما بصفاته وثقتهما التامة فيه، فلم يلاحظا كم كان يقضي أوقاتاً في غُرف التدريس الديني الملاصقة للهيكل، حيث كان أعظم علمائهم يعظون ويدرّسون. وهو الآن يهتم فوق كل شيء بالاستفادة، فلا بد أنه رأى لأول وهلة الفرق الكلّي بين أفكاره وأفكارهم، وكشف سطحية ديانة هؤلاء المعلمين، فشعر بالحاجة إلى تعاليم روحية جديدة، على نسق جديد، وإلى بيان العلاقة الجوهرية بين التقوى وصلاح السيرة.

وأخيراً انتهت أيام العيد، وتمَّ الاستعداد للرجوع للناصرة، وسافروا صباحاً جمهوراً ليس بقليل، فلم يلاحظ أحدهم - حتى ولا «أبواه» - أن الصبي لم ينضمَّ إليهم، ولا علم أحدهم أنه كان قد ذهب إلى الهيكل «ليسمع المعلّمين ويسألهم». ولكن لما لم يجدوه مساء، بعد التفتيش عنه بين جميع الأقرباء والمعارف، رجع «أبواه» إلى المدينة منزعجَيْن. وهناك لم يجداه في كل الأماكن التي تصوّرا أنه يتردّد إليها، حتى بعد مواصلة التفتيش الجدّي عنه يومين. إلى أن وجداه في اليوم الثالث في دائرة الهيكل جالساً بين علماء أمتهم وقد حصل على احترامهم وتعجُّبهم. كانت أفكاره متَّقدة بالمواضيع الدينية الجوهرية، يسأل العلماء بشغف، ويجيب على أسئلتهم بحكمة فائقة. فلما دخل «أبواه» إلى ذلك المكان الموقَّر لم تمتلك مريم نفسها، بل أسرعت إلى توبيخه، قائلة: «يا بُنيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذبَيْن».

لا نلوم أُمّاً احتدت على ابنها في أحوالٍ كهذه، إلا إذا كان ابنها يسوع، لأن معرفتها سموَّه العقلي والأدبي، كان يجب أن توقِفها عن توبيخه. ومن جوابه عرفنا أنها ملومة، لأن جوابه لم يكن اعتذاراً عمّا فعل أو حُجّةً لترضى بأن يبقى في أورشليم، إذْ رجع حالاً معهما وكان خاضعاً لهما. بل كان من باب التوبيخ اللطيف، إشعاراً لهما أنه مع صِغر سنّه يقدِّم إرادة الله على إرادة الأهل، وأنه لا يعتبر يوسف أباً حقيقياً له، بل أن أباه هو ذلك الذي وُلد من روحه. وجَّهَ لهما اللوم بأنه مع عِلمهما أن يوسف ليس أباه، نسيا أنه ينبغي أن يكون في ما لله أبيه الحقيقي، وليس في ما ليوسف أبيه المجازي، فلو كان يوسف أباه لقال: «ما لأبي السماوي» تمييزاً.

ولا بد من القول إنه لو كان يسوع مجرد بشر، مولوداً من أب وأم بشريين، لاستحق اللوم على ما فعل وعلى ما قال، إذْ لا يحقُّ لابن الإثنتي عشرة أن يستقل عن والديه في الغُرْبة ويسبّب لهما عذاباً كهذا، ولا أن يكتم عنهما رغبته في أن ينفصل عنهما ويبقى في المدينة. ولا يحقّ له أن يجيب أمه كما أجاب يسوع مريم بعد أن وجدته في الهيكل، لأنه بكّتها على إتمامها أقدس واجباتها الوالدية والدينية - أي الاعتناء بولدها والتفتيش عنه، ونسب إليها الجهالة في قوله: «ألستما تعلمان؟». فكأحد أولاد البشر، كان يجب أن يندم على ما سبَّبه لهما من التعب والهم، وأن يُظهر لهما إكراماً لائقاً، ولا سيما بالنظر إلى حالة والدته، والمحنة الشديدة التي حصلت لها بسببه.

إن مريم هي المصدر الوحيد لحفظ هذا الخبر ونشره. وقيل عنها في الوقت ذاته إنها لم تفهم كلامه. لكنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. فلماذا تخبر بما يخجلها؟ ولماذا اهتمَّ البشير والوحي الإلهي بإيراد هذا الخبر الذي يُرينا ولداً لم يقُم تماماً بمقتضيات الإحترام نحو والدته؟

إذا اعتبرنا هذا الصبي كما صوّره لنا البشيرون في أخبار طفوليته أنه ليس مجرد بشر، تنحل هذه العقدة، لأن الطبيعة الإلهية فيه توجب عليه أن يذكِّر أمه ويوسف أيضاً عند قولها: «أبوك وأنا»، أن يوسف ليس أباه، وأنه ليس تحت سيطرتهما كغيره من الأولاد مع والديهم، ولذلك يجب على مريم، ثم على البشير أن يخبرا بما جرى، مما ينبّه الأفكار إلى أصله الإلهي، وأنه حقاً نزل من السماء ليولد من مريم. ويؤخذ من قوله لأمه: «ألستما تعلمان؟» أن السر الجوهري المتعلِّق بأصله السماوي كان معلوماً عنده، فهل كان يا ترى معروفاً عند «والديه»؟

يجب أن نهتم كثيراً بهذه الألفاظ الوجيزة من فم يسوع، لأنها أول ما حُفظ لنا من كلامه. ويُلاحَظ أن قوله: «ينبغي أن أكون فيما لأبي» هو فاتحةٌ تناسب كل حياته فيما بعد، وهو القانون الذي اتخذه لنفسه، ولم يحد عنه مطلقاً في كل الزمان، من أول سني إدراكه، إلى أن اختفى من أبصار تلاميذه متمماً إرساليته بصعوده إلى السماء.

10 - يوحنا المعمدان يجهز الطريق

«وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّماوَاتِ. فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». وَيُوحَنَّا هٰذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ ٱلإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنّ، وَٱعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.

فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَا أَوْلادَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ. وَلا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاداً لإِبْراهِيمَ. وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ. ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأُ» (متى 3: 1-12).

قبلما بزغ نور المسيح العظيم، الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 8: 12) لاح فجره في شخص نسيبه يوحنا المعمدان، الذي كان مثله - ولو أنه أقل منه كثيراً، وقال عن نفسه: «لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (مرقس 1: 7). سمّاه يسوع: «ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (يوحنا 5: 35). وقال فيه الرسول يوحنا إنه «إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ» (يوحنا 1: 8).

كان هذا الفجر المبشَّر به منتظراً، بسبب النبوَّات التي سبقت ظهوره. والمعمدان هو الوحيد غير المسيح الذي جاءت عنه نبوات قبل ظهوره بمئات السنين. أشار البشيرون إلى نبوَّة منها وردت في كتابة إشعياء، أعظم الأنبياء الذين كتبوا بعد موسى وأشاروا أيضاً إلى كلام نبيٍ ثانٍ بعده بثلاثمائة سنة. وهو ملاخي، آخر الأنبياء الذين كتبوا بالوحي. ونبوّته هي الحلقة الموصّلة بين العهد القديم وأسفاره والعهد الجديد وأسفاره (إشعياء 40: 3 ، ملاخي 3: 1 ، 4: 5).

تقرَّر مقام المعمدان أولاً بواسطة هذه النبوات، وتقرَّر أيضاً بواسطة سلسلة المعجزات الممتازة التي رافقت ولادته. ثم بواسطة القوة الفائقة التي ظهرت فيه حتى جذب الجماهير إلى وعظه ومعموديته، لأنه تسلط تسلُّطاً روحياً وأدبياً على الشعب وعلى رؤسائهم، حتى على ملكهم الشرير هيرودس أنتيباس. فصار اليهود يتساءلون قائلين: «ألعل هذا هو المسيح؟» ونال هذه المكانة، دون شيء من الظواهر المجيدة التي كان اليهود يصوّرونها لمسيحهم متى جاء، ودون أن يفعل معجزة واحدة في زمانه.

أما الذي أيَّد عظمة مقام المعمدان تأييداً صريحاً كاملاً، فهو شهادات المسيح له، فقد قال عنه للشعب: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ... اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ!» (متى 11: 7-11) كانت عظمته من النوع المُشار إليه في قول دانيال النبي: «وَٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال 12: 3).

يتقدم يوحنا المعمدان بروح إيليا ونشاطه، أمام ملك إسرائيل الحقيقي، حباً واحتراماً، عند قدومه إلى مملكته الأرضية، وكان غرض يوحنا كغرض إيليا: تبكيت شعب الله على حيدانهم عن شرائعه تعالى، وعلى انقيادهم إلى العادات الفاسدة التي اقتبسوها من الأمم حولهم.

يسوق الضمير البشر ليُصغوا إلى الواعظ الذي يأتيهم بروح الأنبياء العظماء، مثل موسى الذي «قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَاَ» (أعمال 7: 38). وبروح الرسول بطرس الذي كتب: «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (1 بطرس 4: 11).

الواعظ المملوء من الروح القدس - نظير المعمدان - لا يفتقر إلى سامعين، لأنه لا يشغل نفسه بالمقالات الفلسفية، ولا يتكلم من نفسه، ولا يعظ لأن الوعظ حرفته التي يرتزق منها ويُرضي الناس بها، بل يعظ كمن يسمع كلام الله الذي يقول له: «فَٱلآنَ ٱذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (خروج 4: 12) وكمن يشعر مع بولس لما كتب: «وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ» (1 كو 9: 16).

تيتَّم المعمدان صغيراً، وليس له إخوة ولا أخوات. ولما بلغ سنّ الرشد لم يتبع أباه في رتبة الكهنوت، لأنه علم أنه نذير الله، فاتّخذ البرية مسكنه، والجراد والعسل البري طعامه، وثوباً من وبر الإبل لباسه، والجلد حزاماً لوسطه، والزهد في الدنيا طباعه، فاختلف في ذلك عن المسيح الذي قضى سنيه كلها بين إخوته وأخواته ومواطنيه في الناصرة، يمارس صناعته بينهم، ويختلط بهم كأحدهم، ثم يتجول في المدن والقرى بين الجماهير في أنحاء البلاد. ويلاحَظُ أن قصة المعمدان كقصة المسيح تخلو من الأخبار بين طفوليته وسن الثلاثين، فالقول الوحيد الذي ورد عن المعمدان في هذه المدة كلها هو: «وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ. أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ» (لوقا 1: 66 و80).

ومع أن المعمدان لم يماثل المسيح في معيشته الخارجية، إلا أنه ماثله في التمسُّك التامّ بالأمور الروحية، والاهتمام بخير الناس، والغيرة على إصلاحهم، والجرأة في الانتصار للحق والبر، ومحاربة الشر على أنواعه بين كل طبقات البشر. وكان نصير المساواة بين الناس، يحطّ المترفّع منهم، وينهِض المتواضع، ويقوّم المعوّج، ويمهّد الطريق إلى الصلاح، ثم إلى السماء. وكان نصير السلام، يردُّ القلوب المتباعدة بعضها إلى بعض. وفي كل هذا أتمَّ النبوات التي وردت بشأنه، ومنها أنه يجهز الطريق لمجيء المخلّص الذي هو المسيح الرب. وقد قرن يوحنا المعمدان في معموديته الغفران بالتوبة، فليس الغفران أمراً مؤجلاً يناله الخاطئ عند موته، أو في المستقبل بعد أن يُظهِر حقيقة توبته بالأفعال الصالحة، بل هو هبةٌ إلهية تُعطَى حالما تتولّد في قلب الخاطئ ندامة صادقة مخلصة تقود النادم للالتجاء إلى الله.

ولا بد أن الفكر المنتشر في البلاد وقتها بأن ظهور المسيح قريب كان من أسباب ازدحام الجمهور حول المعمدان. ولما قال علانية إن المسيح قد جاء، زاد الحماس الديني في أفكار الناس، فتقاطروا إلى هذا المبشر أكثر فأكثر. لكنه لم يدارِ خاطراً ولم يراعِ مقاماً في توبيخاته القوية الصريحة على الشرور المتنوعة، فبرهن بجرأته وعدالته أهليته للوظيفة النبوية. وفي إنكار ذاتٍ أعلن أنه ليس أكثر من «صوت صارخ في البرية» ينطق بأوامر إلهية تسلَّمها ليسلّمها للشعب، كما صُرِّح عنه في النبوة القديمة المشيرة إليه. ونبّههم إلى أن الوقت قد حان لوضع الفأس على أصل الشجرة التي لا تثمر أثماراً صالحة، وأن بيد مسيحهم القادم رفشاً لتنقية بيدره، وإحراق البطالين بنار لا تُطفأ، بعد جَمع الصالحين إلى مخزنه (متى 3: 7-12).

صوت المعمدان هذا هو الصوت الصارخ في البرية، وهو صدى الرعود على جبل سيناء عند إنزال الشريعة الطاهرة على موسى، فحَرك الناس ليفتكروا بالنجاة. ولما رآهم المعمدان مرتعبين سألهم مؤنّباً: «من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟». وأعلن أن النجاة لن تكون بالهروب، بل بإصلاح سيرتهم، وأكّد لهم أن مجرد تسلسلهم من إبراهيم لا يخوّلهم البركات التي وعد الله نسل إبراهيم بها، لأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم. ولكن لا يمكنه أن يحسب نسلاً لإبراهيم أناساً يخالفون إبراهيم وصلاحه. فظهر تأثير وعظه في المسائل التي تقدمت له لإجل الإرشاد الديني من صفوف الناس المختلفة، وظهرت حكمته في أجوبته.

ولم يكن كل وعظ يوحنا إرهاباً، فقد بشَّر الناس بالعمل الفائق الذي يقوم به المسيح متى ظهر. وأنه هو يقدر أن يعمدهم بماءٍ للتوبة، لكن معمودية الماء ليست إلا رمزاً وتمهيداً للمعمودية التي يفتقر إليها كل خاطئ لأجل الخلاص، وهي معمودية الروح القدس، التي يستحيل على أعظم الرسل والأنبياء أن يعمّد بها، لأنها عمل الإله وحده، فلما قال يوحنا إن المسيح يعمّد بالروح القدس أعلن للناس أن يسوع المسيح حقاً هو الإله المتأنّس، ولما قال إن المسيح الذي يأتي بعده كان قبله، قدَّم برهاناً آخر بأن يسوع لم يكن مجرد بشر.

لا شك أن المعمدان مهّد طريق المسيح كثيراً، لأن تأثير وعظه خلق استعداداً داخلياً في كثيرين لسماع تعاليم المسيح وقبوله فيما بعد. وكان وعظه بأن ملكوت الله قد اقترب ذات الوعظ الذي افتتح به المسيح خدمته.

اختار الله المعمدان من النسل الكهنوتي ليهيئ طريق المسيح المخلّص، ويوصّل بين العهدين القديم والجديد، فأقامه نبياً لا كاهناً، وجعله الأخير في سلسلة الأنبياء، والأول في سلسلة المبشرين الجديدة. اختاره من أنسباء يسوع في الجسد، تكريماً وتعزيزاً للعلاقات العائلية بين البشر، فالعائلة هي أساس المجتمع الإنساني، وأقدس فروعه، وهي أساسٌ في الدين أيضاً. فرأس كل عائلة هو كاهنها ورئيسها الديني لا الزمني فقط. فالدين في المدارس حتى في المعابد أيضاً تابعٌ للدين في العائلة.

رنَّ صوت المعمدان الصارخ في البرية، فملأ البلاد إلى أقاصيها، فجعله صيته مهوباً عند الجميع، من الملك هيرودس أنتيباس إلى رجل الشارع. وفي ذات يوم أتاه المسيح إلى بيت عبرة على ضفة الأردن من الناصرة على بعد سفر يوم - وكان قد أكمل السنين الثلاثين الإستعدادية. طال انحجاب حقيقة أمره عن أبصار العالم، وعن ذويه في وطنه فلم يعرفوا عظمة عمله المقبل، وهكذا يطول انحجاب البذرة في الأرض بحسب أهمية الشجرة التي ستكون منها.

المسيح يطلب من يوحنا أن يعمده

«حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلٰكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: « ٱسْمَحِ ٱلآنَ، لأَنَّهُ هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: « هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متى 3: 13-17).

حان زمان ظهور المسيح ليباشر عمله الخلاصي، فامتزج مع الجمهور الفقير الكبير المحيط بالمعمدان في البرية. نظرهم يتقدمون ويعترفون للمعمدان بخطاياهم، وينالون منه المعمودية بالماء إشارة إلى المغفرة، ثم النصائح المناسبة لكل واحد. رأى رهبة هذا النبي الجديد واحترام الجموع وخضوعهم له، وسمع لهجة سلطته الروحية في كلامه، فتقدم المسيح إليه ليطلب أن يعمده، لكنه لم يقدم شرط المعمودية أي الاعتراف والتوبة. فكيف يعمّده المعمدان؟ لاحظ المعمدان أن يسوع مزيَّن بهيبة القداسة، فبدلاً من أن يطالبه بالتوبة، اعتبره أعظم منه وأطهر، ورفض أن يعمده وقال: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» (متى 3: 14).

كان يوحنا ذا مقام رفيع، لأنه من السلالة الكهنوتية الممتازة، ومن منطقة اليهودية أشرف أقسام الأرض المقدسة. ومع ذلك لا تتعجب من كلامه هذا، لأنه علم أن الذي يخاطبه هو المسيح الذي طالما نادى بقرب مجيئه، وأطنب في وصفه، وتشوَّق إلى رؤياه. لكن اعتراف المعمدان الصريح بأنه لم يكن يعرفه يجعلنا نُعجب أنه وجَّه كلاماً كهذا إلى نجّار مجهول من وطن حقير. لم يتذلل المعمدان أمام رؤساء البلاد، حتى ولا أمام الملك ذاته. قد سمعنا صوته بالأمس للرؤساء بين الجمهور قائلاً: «يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟» فكيف يتذلل الآن أمام النجار الناصري، ويقول لهذا الشاب الغريب: «أنا محتاج أن أعتمد منك؟».

في قوله هذا أظهر أنه مع كل تقواه وغيرته ونجاحه في خدمة الدين وانتصاره للصلاح، وحياته التقشُّفية يشعر أنه خاطئ، ويفتقر إلى من يعمده هو بمعمودية التوبة. برهن تواضعه على عظمته، فإن التفوق في الشعور بالخطية يرافق دائماً التفوُّق في الصلاح. وكان جواب المسيح على اعتراض المعمدان بالرزانة والحكمة، كأنه معلم يخاطب تلميذاً له. قال: «ٱسْمَحِ ٱلآنَ، لأَنَّهُ هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ» (متى 3: 15).

لا بد من الوقوف تُجاه هذه العبارة، لأنها أول كلام حُفظ لنا من كلام المسيح عندما بلغ سن الرجولية، وهي القول الثاني فقط المدوّن من فمه العزيز. من قوله: «هكذا يليق» نعرف أن المسيح اعتمد لياقة لا وجوباً، واختياراً لا اضطراراً. فلم يقُل كما قال المعمدان: «أنا محتاج أن أعتمد منك». ولكنه طلب المعمودية ليشجع خدمة المعمدان، ويزيد تأثيره الحسن بين الناس، ويقوّي بقدوته تيار القادمين إليه ليسمعوا وعظه ويطلبوا معموديته، فيمكّنه بذلك أن يتمّم هذا القسم من رسالته، وهو تهيئة طريق المسيح.

كان في معمودية يوحنا معنيان (أ) أصغرهما يشير إلى التطهير من الخطية. وثانيهما وأكبرهما (ب) يشير إلى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد الذي سوف يقيمه المسيح، وإلى حياة جديدة يحياها المعتمد.

بالمعنى الأول، معنى التطهير من الخطية، يعتمد المسيح لا شخصياً بل نيابياً ورمزياً، فقد أخذ المسيح محل الخاطئ بعد أن اتّخذ شبه جسد الخطية... عند اليهود كان الطاهر يتنجس إن لمس ميتاً. ولما لمس يسوع جنسنا الخاطئ اعتُبر خاطئاً لأنه حسب كلام النبوة «أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة» (إشعياء 53: 12) وهكذا اشترك في معمودية التوبة نائباً عنا. وبهذا المعنى قال الرسول بولس إن الله: «جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (2 كورنثوس 5: 21).

ولكن بالمعنى الثاني، معنى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد، يعتمد المسيح جدياً وشخصياً، لأنه يدخل الآن في خدمته الجهارية الخلاصية في إنشاء هذا الملكوت والترأس فيه. كان غيره من المعتمدين يدخل على حياة جديدة بواسطة ما يناله، إلا أن حياة المسيح الجديدة تقوم بما ينيله للناس. وفي معموديته أخذ المسحة القانونية التي تتطلّبها وظائفه الثلاث: كنبي وكاهن وملك.

عمد يوحنا يسوع بالماء، وصعد يسوع للوقت من الماء عالماً بما لهذه الساعة من الأهمية الفائقة في مستقبل حياته الأرضية، ومستقبل تاريخ البشر. أما معظم أفكاره فكانت متَّجهة إلى غير هذه المعمودية. كان كابن الإنسان يعرف حاجته إلى معمودية الروح القدس كشرط ضروري في كل معمودية مسيحية ثابتة، فشعر في هذه الساعة بقرب الآب منه ورضاه التام عنه. ولذلك كان أمراً طبيعياً أن يصلي وهو صاعد من الماء بعد العماد.

ومن الاستجابة التي نالها عرفنا أن صلاته كانت لأجل حلول الروح القدس عليه.

لما قرع باب السماء بصلاته انشقَّت وانفتحت له. وحلَّ عليه الروح القدس حسب طلبه.

ويظهر أن يوحنا كان موعوداً بعلامة بها يعرف المسيح، لأنه قال: «اٰلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 33 و34). هذا الوعد كان سبباً كافياً لاتّخاذ الروح القدس هيئة جسمية، لأن المعمدان حالما شاهد ذلك عرف دون أدنى ريب أن هذا هو الذي قال عنه سابقاً إنه يأتي بعده، الذي كان قبله، الذي يعمد بالروح القدس.

ومع حلول الروح القدس على الابن الأزلي المتأنّس، سمع حالاً صوت الآب مستحسناً: « هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متى 3: 17). ثم تحقيقاً لإيمان المعمدان كان هذا الصوت ضرورياً لتحقيق الرؤيا وتفسيرها. وهذه هي أولى المرات الثلاث في تاريخ المسيح التي فيها سُمع صوت الله من السماء.

بمجيء هذا الصوت اجتمعت الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، على صورة جلية ومؤثرة للغاية، عند تكريس المخلِّص. وبناء على هذا الظهور في اعتماده، نرى يسوع يوصي تلاميذه أن يعمّدوا كل من يؤمن به «بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متى 28: 19). ولم يقل «بأسماء» الآب والابن والروح القدس.

مسابقة الكتاب

إن أرسلت إلينا إجابة صحيحة على عشرين سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين داخل المظروف وليس على غلافه فقط، لنرسل لك الجائزة.

  1. لماذا كانت شريعة موسى قاصرة عن الإصلاح الكامل؟

  2. اذكر سببين يجعلاننا محتاجين إلى المسيح.

  3. اذكر شهادة قالها بيلاطس الوالي الروماني عن كمال المسيح.

  4. أطلق مرقس البشير في فاتحة إنجيله ثلاثة ألقاب على السيد المسيح. ما هي - وما معنى كل منها؟

  5. ماذا كانت وظيفة البشير لوقا، ولمن كتب إنجيله؟

  6. لماذا كان لقب « الكلمة» مناسباً للسيد المسيح؟

  7. لماذا أصاب الخرس زكريا؟

  8. لماذا لا يستجيب الله لكل صلاة؟

  9. ما هي مقدمة المعجزات التي رافقت تأنُّس السيد المسيح؟

  10. كيف حبلت مريم بالمسيح وهي عذراء؟

  11. ماذا فكر يوسف خطيب مريم أن يفعل لما عرف أنها حامل؟

  12. كيف أوضح الله الموقف ليوسف؟

  13. ماذا حدث لجنين أليصابات عندما زارتها مريم، وما معنى هذا؟

  14. اذكر فكرة من النشيد الذي رتلته مريم العذراء في بيت أليصابات.

  15. ما الذي جعل يوسف ومريم ينتقلان من الناصرة إلى بيت لحم قبل ولادة المسيح، وما معنى هذا؟

  16. لماذا ظهر الملاكئة للرعاة أولاً؟

  17. ماذا قال سمعان الشيخ إنه سيحدث لمريم العذراء؟

  18. اكتب النبوة التي أوردت مكان ميلاد المسيح، مع شاهدها الكتابي.

  19. ما هو تأثير زيارة المجوس على (أ) هيرودس الملك - (ب) أهل بيت لحم - (ج) يوسف ومريم؟

  20. لماذا سكت الوحي عن أخبار حياة المسيح من عمر 12 سنة إلى عمر 30 سنة؟

  21. في ماذا فكر المسيح عندما رأى الذبائح في هيكل أورشليم؟

  22. ماذا تفهم من قول المسيح: «ينبغي أن أكون في ما لأبي»؟

  23. اذكر حقيقة قالها المسيح عن يوحنا المعمدان.

  24. ماذا نتعلم من قول السيد المسيح للمعمدان: «هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر»؟

  25. كيف ترى الثالوث الأقدس وقت معمودية المسيح؟

أرسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل. ونحن بانتظار إجابتك.


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany