العودة الى الصفحة السابقة
سفراء المسيح

سفراء المسيح

أُو.س. فون بيبرا ترجمة: خدام الرب في لبنان

تأليف 

Bibliography

سفراء المسيح. أُو.س. فون بيبرا. Copyright © 2006 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى. 1971. Order Number SPB4661ARA. German title: Die Bevollmächtigten des Christus. English title: The Ambassadors of Christ. Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 . Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com - .

نَشيدْ المحبة

إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ ٱلنَّاسِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ. وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ ٱلأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ ٱلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ ٱلْجِبَالَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً. وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً. ٱلْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. ٱلْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. ٱلْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِٱلإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. ٱلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً.

(رِسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس الأصحاح 13 :1-8).

عندما نتأمّل في هذه الآيات الهامة نعترف بأنّنا كثيراً ما نستعمل في حياتنا المسيحية مقاييس بشرية بعيدة عن روح الإنجيل، طائفية ولاهوتية وتاريخية. والمؤسف، أننا نحكم غالباً في حياتنا المسيحية بحسب مقاييس التقوى التقليدية وبحسب علم اللاهوت المستعمل كعلم جاف قائم بحدّ ذاته. وهذا ما أوصلنا إلى الجمود الروحي والإكتفاء الفردي والبر الذاتي وغير ذلك من الامور الشائعة في كنائسنا في هذا العصر. وإننا نفتقر إلى التوجيه الإلهي، لأَننا أهملنا المقياس الأصلي الروحي. فنحن بلا شك في حاجة إلى الإيمان الحقيقي والتعليم الصحيح، للحصول على الخلاص، ولبقاء الكنيسة ودوام رسالتها. ولكن المطلوب منا أن نتحقق من كتاب العهد الجديد بأن المقياس الذي به يقيس الرب كنيسته، ليس هو التعليم الصحيح وممارسة الأسرار ولا هو الإيمان (1 كو 13: 2)، ولا هو مواهب الروح القدس، مثل التنبؤ أو التكلم بألسنة، بل هو المحبة الالهية وحدها. لأنّ الرب يقول: «بِهٰذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يو 13: 35 - قارن أيضاً 1 يو 3: 14 ورؤ 2: 4).

لقد حان الوقت، الذي فيه يترتب على الكنيسة، أن ترجع إلى المقياس الالهي الصريح، والذي لا يقبل تحويلاً، لئلا تعود الكنيسة وتتورط وتقع في حبائل الغرور. ولكن علينا نحن المبشرين بالإنجيل ورعاة الكنيسة قبل غيرنا، أن نقيس حياتنا الخاصة بهذا المقياس. وبناءً عليه، يجب أن نضع في نور كلمة اللّه خدمتنا، التي لا يمكن أن نفهمها تماماً، إلا متى علمنا أن المحبة الالهية هي نقطة الانطلاق وفحوى الخدمة. ولا يمكن أن نقوم بها، إلا بقوة هذه المحبة وحدها.

فلنفحص إذن جوهر خدمتنا من الوجوه الخمسة التالية:

أساسها - مؤهلاتها - مضمونها - غايتها - ونتائجها.

وهدفنا من ذلك، هو بيان المقياس الوحيد، الذي يقرره الكتاب المقدس، وليس رسم صورة مثالية، ولا وصف الحقيقة التي نختبرها، فمن الواضح أن أسلوب فحصنا غير مرتبط بالتقاليد الكنسية، ولا الاختبارات الشخصية، أو المنتَزَعة من تاريخ الكنيسة، ولا أحد أساليب التقوى، بل بالكلمة الإلهية الصريحة، العهد الجديد، الكلمة فقط.

العلامات الخمس الفارقة لخدام الرب الأمناء

أولا: أساس خدمتهم

إن خدمة الكلمة، لا تعني أن خادم الكلمة خادم لشيء ما، بل خادم للرب. لأن الرب، هو الكلمة بالذات (يو 1: 1 ورؤ 19: 13) فالذي يريد أن يدخل في خدمة الرب المقدسة، يجب أن يكون مدعوّاً من الرب ذاته. فإن اللّه الثالوث الأقدس، قد احتفظ لنفسه بحق دعوة سفرائه. وأما من يجرّب أن يخدم اللّه بدون الدعوة الالهية، فليحذر أن لا يتم فيه قول الرب في (إرميا 23: 21 و22) «لَمْ أُرْسِلِ ٱلأَنْبِيَاءَ بَلْ هُمْ جَرُوا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ بَلْ هُمْ تَنَبَّأُوا. وَلَوْ وَقَفُوا فِي مَجْلِسِي لأَخْبَرُوا شَعْبِي بِكَلاَمِي وَرَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمِ ٱلرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ».

وإثباتاً لذلك يبين لنا الرسول بوضوح في (أف 4: 11) إن الرب نفسه، هو الذي يعيّن في كنيسته الخدمات المتعددة. كما أن الرسول يضع أهمية كبرى على حقيقة دعوته الالهية الخاصة بقوله: «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ ٱلآبِ» (غل 1: 1) وعلى غير الرسل أيضاً أن يتأكّدوا من أساس خدمتهم ودوافع أعمالهم. ونجد أيضاً في بقية رسائل بولس، أنه يبيّن المرة بعد الأخرى أن للّه وحده السلطة على إرسال شهود المسيح الحقيقيين. ففي (2 كو 5: 20) يقول الرسول «إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا» وفي (2 كو 2: 17) يقول «لأَنَّنَا لَسْنَا كَٱلْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، لٰكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَسِيحِ» .

قال الأستاذ اللاهوتي شلنك بصدد كلمة المسيح القائم من الأموات كما أرسلني الآب أرسلكم أنا (يوحنا 20: 21): هذه الكلمة تحول الناس الخطاة إلى سفراء المسيح... وهذا لا يمكن أن يتصوره إنسان... أما من يجعل نفسه «سفيراً، يجدف على الله تجديفاً مريعاً... فسفراء الله يعيّنهم الله وحده».

وقال لوثر في تفسيره لرسالة رومية: «ما دامت الوظائف المقدسة سامية بهذا المقدار، فمن الواضح أن نحذر من الدخول في إحداها بدون دعوة إلهية، أكثر مما نحذر من الوقوع في أشنع أخطار الدنيا والآخرة. لا بل يجب أن نعتبره أشد الأخطار وأعظمها. ولكن يا للأسف، لقد زال الشعور بذلك عند الكثيرين، الذين لا يعيرون ذلك أدنى تفكير أو اهتمام! وما دام المدعوون أنفسهم غير آمنين، فماذا نقول عن الآخرين؟ وأين يكون مصيرهم؟ الويل لأولئك التعساء!»

وبذلك تمتاز خدمة الكلمة مبدئياً على كل الوظائف العالمية الأخرى. فإذا أراد الإنسان أن يصبح قاضياً أو مدَّعياً عاماً، فيكفيه أن يتعلم بعض الفصول من علم الحقوق، وأن يجتاز الفحوص المطلوبة. وبعد أن ينهي الدورة التدريبية، تستخدمه الحكومة. وإنه بإمكان الإنسان أن يصير محامياً أو مهندساً أو معلماً أو فناناً أو فلاحاً أو حتى كاهناً أو لاهوتياً بمجرد عزمه على ممارسة هذه المهنة. ولكن بحسب العهد الجديد، لا يستطيع أحد أن يصير خادماً لكلمة اللّه إلا متى دعاه اللّه مباشرة. وعند عدم الحصول على هذه الدعوة الالهية لا يكون للرسامة أي فائدة.

وليس المهم أن يعرف الشخص كيف ومتى اختبر دعوة اللّه له، إنما المهم أن يكون متأكداً من نوالها فعلاً. إذ ليس من الممكن أن نعيّن نحن الطرق المتنوعة، التي بواسطتها يدعو اللّه الناس إلى خدمته. وليس لدينا جواب قاطع على السؤال، الذي يبحث كثيراً في كيفية تأكد الإنسان من دعوته الالهية. ومما لا شك فيه، أنها لا تتم بمجرد التوظيف الرسمي في الكنيسة. فالرب الإله، لا يسمح لأحد أن يملي عليه تعيين من يريد أن يدعوه للعمل في كرمه. وهو غير مضطر لأن يقر خدمة أصحاب الرتب الكنسيّة، بواسطة الرسامة أو التوظيف إن لم يرسلهم هو. إذ أنه يحتفظ لنفسه بهذا السلطان المطلق، ويدعو شهوده بموجب قصده الالهي حينما وحيثما يشاء. وبديهي أن اللّه متى دعا خادمه، فعلى الجماعة أن توافق على دعوته وإرساله. وكثيراً ما كانت هذه الموافقة، سبب تعزية عظيمة وسنداً للكثيرين في الأوقات الحرجة.

ومن الواضح أن العهد الجديد لا يشترط لقبول الطالب النجاح في الإمتحانات اللاهوتية، بل الدعوة الإختبارية بالروح القدس (أع 13: 1 - 3 و 20: 28) وقد فرض على الجماعة، أن تفحص وتتأكد من حقيقة هذه الدعوة (قابل رؤ 2: 2).

قال الأستاذ اميل برنر (1): كان يعيّن للخدمة في زمن بولس الرسول، من حصل على موهبة الروح القدس فقط. أما الآن فالحصول على الروح للقيام بوظيفة كنسية معينة، صار مرتبطاً بوضع الأيادي. بمعنى أننا اقتربنا من تعليم كبريانوس القائل: من له الوظيفة يُعطى الروح للقيام بها... وهكذا صرنا نتحكم بالروح القدس، سهواً أو قصداً، لأننا نجهّز الذي نوظفه بالروح القدس بواسطة الرسامة.

1 - وُلد عام 1889 وكان من اللاهوتيين البارزين في الكنيسة الإنجيلية المصلحة. وأستاذاً في كل من زوريخ وبرنستون وطوكيو. واشترك اشتراكاً فعلياً في المؤتمر الكنيس العالمي الذي عُقد في مدينة أكسفورد عام 1937.

وقال الأسقف ديبالويس (1): «إن السبيل للتخلّص من الموظفين الكنسيين غير النافعين، الذين هم ليسوا إلا لعنة لا بركة للرعية، هو التدقيق في اختيارهم منذ البداية... وليس المهم أن نزيد عدد الرعاة، بل أن يكون لنا رعاة صالحون. لذلك من الضروري أن نمتحن الراغبين في دراسة اللاهوت. ونتأكد إذا كانوا مستحقين بحسب الكتاب المقدس. وإلا فيكون قد فات الأوان، لتصحيح الخطأ».

1 - وُلد سنة 1880 وعُين سنة 1025 رئيساً للكنائس في برلين. وفي سنة 1933 أبعده هتلر عن الأراضي الألمانية. وفي سنة 1945 انتخب أسقفاً لبرلين. وفي سنة 1949 أصبح رئيساً لمجلس الكنائس الإنجيلية في ألمانيا وأحد أقطاب المؤتمر المسكوني في إفنستون.

وبناء عليه، لا يرسل الرب عاملاً إلى كرْمه دون أن يجهّزه بالمؤهلات الكاملة للخدمة. وبما يتم ذلك؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نرجع إلى تجهيز المسيح للخدمة، بواسطة مسحه بالروح القدس. في نهاية عظة المسيح على الجبل، نقرأ في (مت 7: 28 و29) «بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» . وقد أعطى اللّه الآب إبنه يسوع الناصري سلطاناً للقيام بخدمة مسيح الرب، ليحل الذين قيدهم الشيطان نفساً وجسداً من لعنة السقوط. وذلك بينما يتكلم، ويعمل باسم الذي جاء من لدنه. وبالاجمال كان له سلطان على الأرض أن يغفر كل خطية ويشفي كل مرض (مت 9: 2). ونفس السلطان هذا قد دفعه الرب إلى تلاميذه (قابل يو 20: 12 - 32 ومت 10: 1) فأصبحوا غير معتمدين على قوتهم الخاصة، بل صاروا يتكلمون ويعملون بقوة ربهم وبمسحة روحه القدوس، وهذا يعني بسلطان المحبة الإلهية (قابل 1 كو 2: 4 و 2 كو 3: 5 و 4: 7 و 10: 4 و 21: 9 و 31: 4 وفي 4: 13).

وعلى هذا السلطان يتوقف نجاح الخدمة أو فشلها. وبالاجمال نقول: إن أساس خدمة التلاميذ، هو دعوة اللّه لهم وإعطاؤهم السلطان الإلهي.

قال الأستاذ شنيوند: «يكمل تلاميذ المسيح عمل سيدهم». ويُقال في الكتاب المقدس عن واجبات الرسل، كما يقال تقريباً عن أعمال يسوع في الشفاء (متى 10: 1 و9: 35 و36) أي أن لهم السلطان كما للمسيح نفسه إذ تُستعمل لفظة السلطان للمسيح وتلاميذه أيضاً.

ثانياً: مؤهّلات خدمتهم

(1) إن سفراء اللّه قد دفنوا أنانيتهم مع المسيح فلا يطلبون ما هو لأنفسهم.

لقد تأكدوا بواسطة روح الحق من فساد كيانهم الكلي، وانساقوا إلى انكسار أنانيتهم. حتى إنهم لم يعودوا يحبون أنفسهم، بل أصبحوا يبغضونها حقاً (رؤ 12: 11 ولو 14: 26) فبينما يرعى كثيرون من الرعاة أنفسهم، ويشتغلون في الواقع لمنفعتهم الشخصية (حز 34: 2 وفي 2: 21) يوجد من يصفهم الرب إنهم رعاة حسب قلبه (إر 3: 15) لأنهم تحرروا من أنانيتهم، تحرراً جعلهم في أداء خدمتهم يفتكرون قبل كل شيء في المعلّم وإخوته الأصاغر (في 2: 4 و 1 كو 10: 24 و 33) وهذا أصبح جائزاً، لأنهم سلّموا أنانيتهم للموت بكل عزم وعلى الدوام. وهكذا استطاعوا أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند اللّه (رو 6: 4 - 6 و12: 1) وإن يضعوا حياتهم على المذبح ذبيحة تامة للرب (لو 9: 42 و 14: 33).

وهم يمارسون هذا التسليم كل يوم، لذلك لا يخشون أن يُظهِروا كل خطية معروفة لديهم بصراحة تامة. ولأجل ذلك، ولنجاح الخدمة أيضاً، يطلبون الشركة الأخوية لبُنيان النفوس والاشتراك في الصلاة. فلا يستطيع أحد أن يبني الآخرين روحياً، سوى الذي قد قبل البنيان الروحي لنفسه شخصياً. الذي التهب قلبه روحياً على المذبح بنار اللّه (رؤ 12: 11).

قال الأستاذ هنس أسموسن (1): «لو توصلنا إلى فهم الاشتراك في الصلاة وممارسته كجزء من واجباتنا في الخدمة، لكنا طعنا أنانيتنا اللعينة في الصميم - تلك الأنانية التي تجسمت فينا نحن الرعاة، أكثر مما في العوام. نعم هذا هو العمل المبارك! ولست أرى سبيلاً آخر يؤدي إلى تحقيق أخوية الرعاة التي نحن بأمس الحاجة إليها والتي طالما تمنياها».

وقال مارتن لوثر (2): «لا أريد أن يمنعني أحد عن الاعتراف بخطاياي، ولا أقبل أن أستبدل هذا الاعتراف بكل غنى العالم. لأني أعرف مقدار التعزية والقوة، التي أنالها منه. ولا أحد يعلم مدى قدرة الاعتراف، إلا الذي كافح ضد الشيطان مرات كثيرة. فلو لم يحفظني الاعتراف، لكان الشيطان قد قضى عليّ منذ أمد بعيد».

وقال أيضاً ديترخ بونهوفر (3) وهو أحد الذين استشهدوا في زمن حكم هتلر: «وحتى لا يقع خادم الرب الذي يستمع للاعتراف في الخطر المخيف الكامن في الاعتراف فعليه أن يحذر من الإصغاء إلى اعتراف الآخرين إن لم يعترف هو بخطاياه، لأن المنكسر القلب فقط يقدر أن يصغي إلى المعترف دون أن يجلب ضرراً لنفسه».

تعريف بشخصيات هؤلاء الشراح الثلاثة:

(1) الأستاذ هنس أسموسن

وُلد سنة 1899 وكان من اللاهوتيين المرموقين ومن قادة الكنيسة، الذين قاوموا مبادئ هتلر النازية. وقد شغل منصب رئيس مكتب الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا حتى سنة 1955.

(2) مارتن لوثر

عاش من 1483-1546. وهو مصلح الكنيسة الغربية. تعلم الحقوق وأصبح فيما بعد راهباً ليُرضي الله بسبب خوفه منه ومن دينونته. وقد درس الكتاب المقدس ونال سنة 1512 لقب دكتور في اللاهوت. وفي بحثه في الكتاب المقدس ثبت له أن النعمة هي قوة الله، التي تهبنا بره في المسيح المصلوب. ونادى بالتوبة والإيمان. وعلق في سنة 1517 على باب كنيسة وتنبرغ وثيقة تحوي 95 بنداً، يدحض فيها تعاليم التوبة المزيفة التي كانت تمارسها الكنيسة الكاثوليكية. وفي سنة 1521، دُعي للمثول أمام مجلس الأمة في مدينة ورمس. ولما تعرض لخطر الموت، هرب واختفى في قلعة وارتبورغ حيث ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية. وبعدها ألف كتب عديدة، ونشر نشرات كثيرة ونظم ترانيم كنسية. وإن الكنيسة التي أسسها لا تقوم على التقاليد الدينية، بل على كلمة الله وحدها كما في إنجيل يسوع المسيح.

(3) ديترخ بونهوفر

عاش من عام 1906-1945. وكان في سنة 1935 مدير لكلية لاهوتية في ألمانيا، يدرب قسوساً أبوا أن يخضعوا للحكم النازي. وقد قاوم هتلر وطغيانه وأعلن كلمة الله بكل صراحة، وأخيراً استشهد في المعتقل على أيدي المعذبين النازيين.

(2) روح اللّه يدفع المدعوّين الحقيقيين إلى تأدية الشهادة.

ما أكثر الرعاة الذين يخدمون الرعيَّة بطريقة آليَّة وبدون فرح! فهؤلاء يعتبرون وظائفهم عبئاً ثقيلاً، ولا يقومون بواجباتهم إلا بدافع المسؤولية المفروضة عليهم ولقَبْض الراتب فقط. ولهذا فهم عائشون تحت ضغط خارجي، وما أعظم الفرق بينهم وبين الذين يتّخذون شعارهم قول الرسل: «لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أع 4: 20) - لهؤلاء دافع قلبي، ويشعرون بسعادة في حياتهم عندما يحملون بشارة فاديهم يسوع المسيح العجيبة من مكان إلى آخر. وهذا هو واجبهم المقدس الذي اختاروه. وهكذا يكتب بولس عن نفسه «إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ» (1 كو 9: 16) ورغم ذلك لا تكون خدمته إضطرارية وثقيلة عليه، بل هي فرح ورضى في أعماق قلبه (رؤ 10: 10) ونقرأ عنه في نهاية سفر أعمال الرسل إنه كان كارزاً بملكوت اللّه ومعلماً بأمر الرب يسوع المسيح، بكل مجاهرة بلا مانع.

قال الأسقف مارن نيملر (1): «قد اتخذت طريقي إلى المنبر بدافع داخلي اضطراري، لا تقليدي ولا يدافع الشعور انني أستطيع أن أقدم شيئاً من اختباراتي، ولكني فعلت هذا لتأكدي من أننا جميعاً لا نقدر أن نعيش أو نموت بدون كلمة الله».

وقال القس شنيبل: «إن سر المسيح هو أنه كملك يهب لخدامه فرحاً داخلياً عظيماً دون أن يطلبوه».

1 - وُلد سنة 1892 واشترك في الحرب العالمية الأولى وكان فيها قائد غواصة ألمانية. وفي سنة 1931 أصبح قسيساً في مدينة برلين. وفي سنة 1937 أمر هتلر بإلقاء القبض عليه وزجّه في المعتقل. وبقي هناك حتى نهاية الحرب في سنة 1945. وبعد الحرب أصبح رئيساً لكنيسة مقاطعة «هسن - نسو» ومدير الشؤون الخارجية لكنائس ألمانية الإنجيلية. وقد اشترك في المجامع الكنسية المسكونية سنة 1948 في أمستردام وسنة 1954 في إفنستون. وفي سنة 1961 انتخب ليكون أحد الستة البارزين من رؤساء مجمع نيودلهي.

(3) المدعوّون متحرّرون من خدمة الوجوه.

إنهم عرفوا أن الرب نفسه يحملهم في وظيفتهم لذلك ليسوا في حاجة إلى مدح الناس وإطرائهم، ولا لتخفيف حدة الغضب والعثرات التي لا بد منها (1 كو 1: 23)، عند رافضي الخلاص، ليس في رسالتهم فحسب بل في سيرتهم أيضاً كسفراء المسيح، ما داموا مظهرين بذلك انفصالهم المبدئي المخالف لآراء هذه الدنيا (غل 6: 14 ورؤ 12: 2 و 1يو 2: 15 - 17) ويذيعون بشارتهم في وقت مناسب وغير مناسب (2 تي 4: 2) غير مهتمين، سواء قوبلت البشارة بالرضى أم بالرفض. ولا يبالون أيضاً بما قد يحصل لهم من سيئات، بل يبقون في كل حين غير هيابين وغير متزعزعين كجنود شجعان لملكهم يسوع المسيح (2 تي 2: 3). إن من دواعي القلق غالباً، أن ينساق الجمهور إلى المبالغة في مدح أي واعظ كان، لأن الرب قال «وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ» (لو 6: 26). وقال بولس في (غل 1: 10) «لَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ» .

(4) إنهم متعلِّقون في خدمتهم بالرب وروحه فقط.

هؤلاء لا يسمحون لأنفسهم أن ينقادوا بأفكارهم الخاصة ولا بالآراء البشرية بل بالروح القدس مباشرة (أع 16: 6 و 8) كما مكتوب «كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رو 8: 14). وهكذا تكون طاعتهم الدائمة السارة للّه شيئاً معلوماً لديهم، فلا يريدون عند تقديم كلمة اللّه أن يُظهِروا ما يختص بهم، أو أن يتباهوا بمعلوماتهم السامية، بل يسعون إلى ما يقوله الروح القدس في حينه (مت 10: 20 ويو 14: 26 و16: 13) وبينما يجرب الآخرون أن يعوّضوا عما ينقصهم من القوى الروحية بإظهارهم حكمتهم الخاصة واستخدام وسائل البلاغة والألفاظ الجذابة، نجد سفراء اللّه المدعوين، غير مضطرين أن يعتمدوا على مواهب خاصة، عقلية كانت أم خطابية. وعندما يخصهم الرب بموهبة ما، يستخدمونها لمجده تعالى فقط. ولكن يلزم أن ننتبه دائماً إلى خطر تسرُّع السامعين في حماسهم واندفاعهم النفساني بجنون، وراء شخصية جذابة تسحر الألباب ببلاغة التعبير. وما أجمل قول بولس بهذا الخصوص في (1 كو 2: 1-5) «لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُّوِ ٱلْكَلاَمِ أَوِ ٱلْحِكْمَةِ مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ ٱللّٰهِ... وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُّوَةِ، لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ ٱلنَّاسِ بَلْ بِقُّوَةِ ٱللّٰهِ» . فمن يكرز بحكمة الكلمات الرنانة، يسلب صليب المسيح قوته (1 كو 1: 17). ولذلك يريد شهود يسوع بعزم، أن يبقوا في الخفاء لكي يستطيع ربهم ومعلمهم أن يتجلى في أبصار سامعيهم. فالعمل يجب أن يكون عمله هو، طبقاً لقول الرسول «لأَنِّي لاَ أَجْسُرُ أَنْ أَتَكَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ ٱلْمَسِيحُ بِوَاسِطَتِي لأَجْلِ إِطَاعَةِ ٱلأُمَمِ» (رو 15: 18).

(5) إنهم على يقين بأنهم في حاجة إلى التكميل بواسطة الجماعة الممتلئة بالروح القدس.

يتبين لنا جلياً في (1 كو 12)، كيف يترتب على جميع أعضاء جسد المسيح أن يخدموا ويكملوا بعضهم بعضاً، كل واحد بالموهبة التي ينالها من الروح القدس (أفسس 4: 7 و 16). «لاَ تَقْدِرُ ٱلْعَيْنُ أَنْ تَقُولَ لِلْيَدِ: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ». أَوِ ٱلرَّأْسُ أَيْضاً لِلرِّجْلَيْنِ: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَ» (1 كو 12: 21). ويصف بولس الرسول اجتماعات الكنيسة العادية بما يلي «فَمَا هُوَ إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ؟ مَتَى ٱجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ: فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ» (1 كو 14: 26).

يقول الأستاذ برنر: «هنالك أمر ضروري، يجب أن لا نتغافل عنه، وهو أن يكون الجميع خداماً عاملين. لذلك لا فصل هناك، حتى ولا تمييز بين خادمين وغير خادمين، بين عاملين ومهملين، بين معطين وآخذين. ففي الكنيسة الحقة واجبات وحقوق ورغبات عامة للخدمة، وبنفس الوقت نجد تعدداً في أنواع الخدمات. وهذا يشير إلى أن الجميع كانوا مشتركين في العمل طوعاً. وكان كل واحد، يقدم قسطه في الاجتماعات الدينية. لذلك لم يسمح لأحد، بأن يحتكر كل الخدمات. وهذه الاجتماعات لم تعرف التمييز بين كاهن وعامي، بل اعتبرت كل واحد كاهناً في هيئة الكهنوت المقدس» (قابل أيضاً 1 بط 2: 5 و9).

ويقول الأستاذ شمتس: «ما أبعد الكنيسة الأصلية عن التفنن في تنظيم مسائل قيادة الجماعة، وليس هنالك أي أثر لترتيب طقس الاجتماعات الدينية وتعيين نصوص القراءات».

ولما نقابل طرق عبادتنا الحاضرة بما ذكر أعلاه، يظهر النقص المؤلم الموجود في اجتماعاتنا. لأن جميع الأعضاء يفتقرون إلى المعمودية بالروح القدس. ولأنه لا توجد غالباً المواهب اللازمة لنمو الجماعة وبنيانها وتكميلها، حسب تعاليم العهد الجديد (رو 12: 6 - 9 و 1 كو 12: 4 - 11 و 28). وأهم ما ينقصنا من المواهب، هي موهبة التنبؤ. فلأصحاب هذه الموهبة بصيرة خاصة، ينالونها بواسطة إنارة الروح القدس، وهي ليست موجودة في الآخرين. ولا يلزم أن تتعلق هذه البصيرة بالمستقبل، بل تتجه غالباً إلى الوقت الحاضر. وقد أُعطيت موهبة التنبؤ في الرؤيا والبشارة، أو في طريقة أخرى، لكي تظهر مقاصد اللّه فينا في الوقت الحاضر، أو تكشف أسرار قلب الإنسان.

فمن لا يعترض على الموضوع المشار إليه في العهد الجديد، يتأكد من كبر الأهمية التي وضعها الرسول على موهبة النعمة هذه لحياة الجماعة والكنيسة عموماً. فلنتأمل فقط في ما هو مكتوب في (1 كو 14: 24 و25) «إِنْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ، فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ، فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ ٱلْجَمِيعِ. يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْجَمِيعِ. وَهٰكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهٰكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ لِلّٰهِ، مُنَادِياً أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلْحَقِيقَةِ فِيكُمْ» .

قال الأستاذ كولمان: «قد فسدت اجتماعاتنا الدينية وضعفت، حتى لم تعد تخيف الخطاة، ويحضرها الناس بأفكارهم الدنيوية، ويخرجون منها بدون أي تبكيت».

فمن يفتح قلبه لقراءة هذا الشاهد وغيره من الشواهد العديدة، ويطلب إلى الرب بإخلاص أن يكلمه بواسطة كلمته الحية، ويعلن له مشيئته في هذه الأمور، فهذا لا يفهم فقط معنى هذه الموهبة النبوية العظيمة وأهميتها لخدمة التبشير الفعالة، وامتحان دعوة الخدام وصحة تعيينهم من الروح القدس للوظائف المختلفة (أع 13: 1 و 1 تيمو 1: 18 و 4: 14)، بل يضطر أيضاً أن يتواضع أمام اللّه، ويعترف بعظم خطية الكنيسة التي حرمها اللّه المواهب الموعودة بها، بسبب عدم أمانتها طيلة قرون عديدة. ومع ذلك لا تريد الكنيسة أن تقتنع وتسلّم بحقيقة خسارتها المريعة، بل تتمادى في الغرور ككنيسة اللاودكيين حاسبة نفسها غنية وغير محتاجة إلى مواهب خصوصية ولا إلى موهبة التنبؤ. وإن الرسول بولس، يحذرنا بشدة من هذا الإعتقاد بقوله في (1 تس 5: 20) «لاَ تَحْتَقِرُوا ٱلنُّبُّوَاتِ» .

فمتى تستيقظ الكنيسة من نومها، وتستعيد شوقها إلى نيل مواهب النعمة؟ عوضاً من أن تطفئ الروح خوفاً من التحمس كما قال الرسول: «اِتْبَعُوا ٱلْمَحَبَّةَ، وَلٰكِنْ جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِيَّةِ، وَبِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا» (1 كو 14: 1).

قال الأستاذ فري: «لم نثق بالروح القدس، الذي هو روح التوبيخ بأنه يقدر أن ينظم الجماعة. لذلك منعناه من الهبوب، وأمرناه أن لا يتكلم إلا بفم الراعي، وحكمنا على الجماعة بالسكوت».

وقال شمتس: «وعلى كل حال ينبغي أن يبقى مكان في كنيسة المسيح لمواهب النعمة، التي يعطيها الروح القدس حسب مشيئته».

(6) إنهم يعرفون على الدوام عدم أهليتهم وضعفهم.

إنهم لا ينسون ذنوبهم الماضية المغفورة (1 تيمو 1: 13 و15)، بل يذكرون دائماً أنهم وصلوا إلى ما هم عليه بواسطة النعمة فقط (1 كو 15: 10) ولا يعتبرون أنفسهم أفضل من الآخرين ولا يكتفون بذواتهم (رو 15: 1 و 3) بل يعلمون حق العلم أنهم لم يصلوا بعد إلى الغرض، ولم يفوزوا بالكمال (في 3: 12) بل بالحري عليهم أن يتمموا خلاصهم بخوف ورعدة (في 2: 13) لئلا يوجدوا في الأخير، غير مستحقين الإكليل مع أنهم كانوا يحضّون الآخرين على الجهاد (1 كو 9: 27).

ما أعظم الخطر الذي يهدّد الشهود المدعوين والمباركين عندما يثقون بأنفسهم، ويمسون فاترين ومهملين، ويسقطون في خطايا جديدة، أو يمارسون خدمتهم قالباً لا قلباً. وهنالك أيضاً الذين فقدوا سلطتهم الأولى، لعدم أمانتهم وعدم طاعتهم. لذلك علينا أن نتذكر مكر الشيطان، ونسهر دائماً متأكدين من عدم استطاعتنا وعجزنا الكلي. وهذا ضروري جداً، لئلا يتعلق الناس بالخادم ويعجبوا به - وهو ليس إلا أداة في يد اللّه - عوضاً عن أن يحمدوا الآب السماوي (مت 5: 16). فإنه يترتب عليهم فيما يتعلق بمؤهلاتهم الخصوصية أن يبقوا كل حياتهم ضعفاء (غل 4: 13 و 1 كو 2: 3) ففي الضعف تظهر قوة الرب في أبهى مظاهرها «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُّوَتِي فِي ٱلضُّعْفِ تُكْمَلُ» (2 كو 12: 9).

وهنا يصحّ القول «لَنَا هٰذَا ٱلْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُّوَةِ لِلّٰهِ لاَ مِنَّا» (2 كو 4: 7). وكلما فاضت بركات الرب في خدمتهم، وازدادت الأثمار ازداد تواضعهم حتى ارتموا في الغبار، معترفين بفضل نعمة ربهم التي لا يستحقونها. وكلما جرت أنهار المياه الحية من قلوبهم، كلما تحققوا بخجل عدم استحقاقهم وعدم أهليتهم للخدمة، حتى يضطروا إلى القول: «إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا» (لو 17: 10).

قالت إيفافون تيلي فنكلر(1) : «لا ولن أريد أن أعتبر نفسي أصلح من أي إنسان آخر، لأنني لا أعلم كيف تكون حالتي لو كنت في مكانه، أو ماذا تكون حالته لو حصل هو على نعم الله وبركاته التي صارت لي».

1 - عاشت من عام 1866-1920 وكانت ابنة ملّاك كبير. وقد أدركت مجد يسوع بواسطة مطالعة الكتاب المقدس. استخدم يسوع حياتها ليؤسس مركزاً للتبشير يضم أكثر من 500 أخت.

ويمكن أن تُقال أشياء أخرى كثيرة عما ينتظره الرب من خدامه، وعن حالتهم الداخلية. كابتعادهم عن المجادلات والمماحكات، غير المجدية، والتلاعب بالألفاظ والأبحاث التافهة (2 تيمو 2: 14 و 23) ويجدر بهم أن لا يهابوا الآلام الناجمة عن شهادتهم، بل يعتبروا احتمال عار سيدهم امتيازاً (أع 5: 14). وخلاصة القول هي في السؤال: هل انسكبت محبة اللّه في قلوبهم أم لا؟ (رو 5: 5) وما دام هذا الشيء لم يتم بواسطة حلول روح اللّه في حياتهم، فإن مواعظهم البليغة وخطبهم الرنانة هي كنحاس يطن أو صنج يرن. ولا فائدة من كل معرفتهم اللاهوتية وكل إيمانهم وكل أعمالهم وتضحياتهم (1 كو 13: 1 -3).

ثالثاً: مضمون الخدمة

(1) الخدمة في المقدِس.

إن الأمر الأكثر أهمية، هو مصدر القوة الداخلية اللازمة للقيام بكافة أعمالهم وتأثيرهم في العالم الخارجي. وهذا هو خدمة الصلاة في الخفاء أمام وجه الرب. ففي موضوع تعيين الشمامسة نقرأ ما يلي: «ٱنْتَخِبُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ مِنْكُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُّوِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ، فَنُقِيمَهُمْ عَلَى هٰذِهِ ٱلْحَاجَةِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى ٱلصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ» (أع 6: 3 و4). ألا يلفت انتباهنا إلى أن تذكر الصلاة هنا أولاً، ثم خدمة الكلمة. إن لهذا سببه العميق، لأن حياة الصلاة أمام عرش النعمة ليست فرضاً علينا أن نتممه عرضياً، بل هو بداية خدمتنا ونهايتها. ولنا هنا أيضاً مثال منير في الرسول بولس: فكم تجتذبنا في رسائله مشاهداته المستمرة ليلاً نهاراً، الصلاة لأجل نمو جماعة اللّه، التي كان يرعاها.. وكيف يشكر اللّه الآب ويحمده على خلاصهم (أف 1: 3 - 23 و 3: 14 وفي 1: 3 - 11 وكو 1: 3).

وليس قصدنا هنا أن نتوسع في الكلام عن حياة الصلاة عند استعراض سفراء يسوع، ولكننا نلفت النظر إلى أن صلاتهم هي إجراء روحي هام، له نتائج خارقة في العالم الإلهي غير المنظور. وكمفديي الرب وأبناء اللّه وملوك وكهنة، فإن لهم حق الدخول إلى الهيكل غير المصنوع بأياد، أي الدخول إلى اللّه أبي ربهم يسوع المسيح. ويعلمون أنهم مهما طلبوا من الآب باسمه، يعطيهم (يو 16: 23). وهم عند صلاتهم هذه بالروح والحق، ليسوا طالبين فقط، بل مصغين أيضاً إلى إرشاد اللّه ومنتظرين إنارته. وفي صلاة كهذه يعلن الروح القدس قصده، ويمجد الآب والابن، ويتكلم ويأمر حسب الوعد (يو 16: 13 و 14 وأع 31: 2).

فإنه بدون الاستمرار في الصلاة أفراداً أو جماعات إلى الآب، بواسطة إسم يسوع وشركة الروح القدس، لا يكون لخدمتهم أي توجيه إلهي ولا بصيرة روحية ولا طاعة تأديبية ولا انتعاش إلهي على الدوام. ولا يفهم كلمة الكتاب إلا المصلون المتصلون بيسوع (لوقا 24: 45)، الحاصلون على إرشاده لبنيان النفوس. وهكذا تعطى موهبة تمييز الأرواح، وتختم الوظيفة ببهاء الروح. فالصلاة في نظرهم شغل مقدس ضروري، وبها يسرون بقوى دم الحمل في أعماق عالم الأرواح الشريرة، وينادون بانتصار القائم من الاموات في البلدان والمدن والقرى والبيوت وعلى أفراد الناس. وبإسم يسوع يقيدون جحافل الشيطان، ويهدمون حصونه (2 كو 1: 4 و 1 كو 5: 3 - 5 وكو 2: 1 ومت 18: 18)، ويقفون بين اللّه والناس، مصلين ومؤمنين كإبراهيم وموسى ودانيال وبولس وغيرهم. ولكنهم لا يقدرون أن يتمموا الخدمة بالسلطان الإلهي، إلا متى أعطوا اللّه باستمرار كل المجد والغنى والحكمة والكرامة مبايعين ومعظِّمين الحمل المذبوح، الذي دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض (رؤ 5: 12).

وهذه المبايعة والعبادة في الروح، تحرّرهم يومياً من حكمتهم الذاتية وقوتهم وكرامتهم واحترام الناس لهم. وتجعل حياتهم وكيانهم بجملتها لمجد اللّه لأن المجد للّه وحده. لذلك لا يقدر أحد أن يكون له سلطان من الرب، بدون أن يداوم يومياً على الخدمة والشركة في المقدس في حضرة رئيس الكهنة العظيم وذبيحته الأبدية الكاملة، التي قدمها مرة واحدة عن العالم. فمن لا يدخل أولاً إلى المقدس ويصلي إلى اللّه، لا يستطيع أن يخرج منه حاملاً السلطان لخدمة الناس.

قال الأسقف غنتر يعقوب: «إن الأسباب الجوهرية للفشل الذريع الذي أصاب مواعظنا، هي الافتقار إلى التأمل الروحي وعدم إصغاء الضمير إلى صوت الله، وعدم التزام الصمت في حضرة الله، وقلة الصلاة. وكثيراً ما لا تنشأ مواعظنا في جو الهدوء الروحي الشامل، كما نجد في صلاة التأملات التي كان مارتن لوثر رغم شدة انشغاله يمارسها عدة ساعات يومياً. وذلك حين كان ينقطع عن كافة أعمال الساعة الملحة والمطاليب الضرورية، ويدخل في جو الصلاة والتأمل في كلمة الله».

(2) الخدمة بين الناس.

وهي تتألف من الشهادة بالكلمة والسلوك والعجائب:

(ا) الشهادة بالكلمة.

نحن نؤدي الشهادة بالكلمة في الوعظ والتعليم والإعتناء بالنفوس بوضوح وجلاء بقدر الإمكان «فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى ٱلْبُوقُ أَيْضاً صَوْتاً غَيْرَ وَاضِحٍ، فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ» (1 كو 14: 8).

وكم نرى في بولس تمسكه بالمهم وامتناعه عن الأقل أهمية، وهو يكتب: «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1 كو 2: 2). وهكذا يكون مضمون رسالتهم محبة اللّه المتجسدة في المصلوب وخلاصه الكامل المعروض الآن، حسب قول بولس: «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ» (2 كو 5: 10 - 21).

ورسالة الإنجيل الفريدة هذه، قد تمت بمصالحة اللّه والناس على الصليب مرة واحدة. وقد أمحّى ذنب البشر بدم الحمل، وكل من يطلب الشركة مع اللّه لا لزوم له لأن ينجز عملاً ما، ولا يصلح ذاته ولا يبرز مؤهلاته، بل يحق له أن يأتي كما هو. ويجوز له أن يجرؤ على الإقبال إلى اللّه بماضيه الحافل بالذنوب فهو إن فعل يُطرَد خارجاً (يو 6: 37) لأن دم يسوع المسيح إبن اللّه يطهره من كل خطيئة (1 يو 2: 7). ويحدّث باسمه ومن أجل ذبيحته، معلناً الأمر العجيب، وهو إن اللّه القدوس يبرر الكافر الشرير.

يقول سايتس: «إن العالم الأحمق قد خلص، ولكنه لا يؤمن بهذا».

وهذه هي نعمة اللّه المجانية الظاهرة في يسوع، إنه يرحب بكل الأبناء الضالين حينما يرجعون إليه. ويقبلهم دون أن يسألهم عن أية مؤهلات شخصية (لو 15: 20). وإن رحمة اللّه هذه غير المحدودة المقدّمة للخطاة، لا يدركها الأبرار المتكبرون المتكلمون على برهم الذاتي، بل يعتبرونها عثرة لهم (لو 15: 2) أما في نظر المساكين الذين تبكتهم ضمائرهم، فهي بشرى التحرر (متى 11: 5 ولو 4: 18). فطوبى لمن قبل هذه التعزية المخلصة القائلة: «مغفورة لك خطاياك!» أي أن اللّه لا يغفر للمذنب ذنبه فقط، بل يستولي في الحال على حياته بواسطة الروح القدس. ويخلق فيه إرادة جديدة، ويهبه القوة للطاعة ويثبته في كل عمل صالح، ليصنع مشيئته، ويخلق فيه مرضاته بيسوع المسيح (عب 13: 21) وهكذا فإن المخلص القائم من بين الأموات، مستعد ليس فقط أن يرتب ماضي الخاطئ، بل أن يبني حاضره ويستلم مستقبله. فالرب لا يمنحه فقط غفران الذنوب، بل أيضاً التحرر من سلطة الخطية.

يقول لوثر: «الإيمان بالمسيح يغفر الخطية، ويتغلب عليها أيضاً في الوقت نفسه».

ويقول جوديت: «التبرير ليس الخلاص كله، بل إنه المدخل إليه».

ويقول تورن ايسن: «لقد غاب عن بال الكنيسة، أن التبرير بدون التقديس ليس شيئاً. ولذلك كثر الوعظ عن الغفران، بدون اتخاذ الأمر جدياً».

ولكن حياة الانسان، لا تخلو بهذا من الخطية. ويختبر المخلَّص أن التهاون، قد يلطخ سيرتها من جديد ويعثرها. ورغماً عن ذلك نشأت حالة جديدة تختلف عن الحالة السابقة وهي أن السقوط الاضطراري في الخطية يزول، منذ أن يتسلم المسيح قيادة الحياة، حيث تنتهي العبودية (يو 8: 34 و 36) ولا تقدر الخطية أن تسود فيما بعد (رومية 6: 14). فوصية المسيح الجديدة ليست تجديداً لناموس العهد القديم، الذي نفشل في إتمامه. لأن نير المسيح هين، وحمله خفيف.

ويقول المسيح في وصيته لتلاميذه: «أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا» (يو 13: 34 و 35). وهذه الوصية يمكن حفظها لأنها لا تُفرَض على الناس فرضاً، بل توصيهم بأن يحبوا بمحبته أي محبة اللّه التي قد انسكبت في قلوبهم بالروح القدس المعطى لهم (رو 5: 5). ويجب عليهم أن يوصلوا المحبة التي يعيشون منها إلى الآخرين ويبادلوهم الحب. وهكذا تنال هذه الوصية امتيازاً عجيباً وبركة، لا مثيل لها. وإن عكس ذلك، يظهر في العهد القديم. فبينما كان الناس آنذاك يفشلون غالباً تحت الناموس، رغم إرادتهم الصالحة وييأسون من وصايا اللّه (رو 7: 19)، صار بإمكاننا نحن في عهد النعمة، أن نشهد مع يوحنا قائلين: «إِنَّ هٰذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ. وَوَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً» (1 يو 5: 3) ونقول مع بولس: «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1 كو 15: 57) «مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا» (2 كو 5: 14). وسوف نعود إلى هذا البحث في مناسبة أخرى.

يقول شنيوند: «صارت قوات الدهر الآتي حاضرة في يسوع، ويمكن تكميل الناموس».

إن المنادين بالمسيح، يبرهنون برسالتهم إنهم شهود حقيقيون. ليس لأنهم كمحترفين يخطبون خُطَباً جافة عن موضوع لا علاقة لهم به، بل لأنهم يؤدون الشهادة عما تحققوه واختبروه بفرح. وعلى كل حال فإن فحوى رسالتهم، ليس اختبارهم الخاص، بل شهادة الكتاب المقدس نفسه - أي البشارة بالمسيح، المعطاة لنا في العهدين القديم والجديد. ولكن يوجد فرق أساسي بين الوعّاظ الذين يكرزون عن يسوع الناصري بمحاضرات عقائدية فقط، أو يسردون تاريخاً سمعوه من الآخرين، أو قرأوه في الكتب، دون أن يقابلوا الرب شخصياً، وبين الذين يشهدون عن سيدهم الحيّ الذي أعلن ذاته لهم فعلاً، ولا يزالون يتمتعون يومياً بحضوره في حياتهم (أع 1: 8 و 4: 20 و 22: 15).

قال الأسقف بخسل: «إن الإيمان القانوني، يمكن تعلمه كباقي التعاليم الأخرى. أما الوعظ الحي المثمر، فلا يوجد إلا عند السالكين في تأديب الروح القدس والمختبرين قوة نعمة الله المخلصة في قلوبهم».

وقال الأستاذ برنر: «أسهل على الإنسان أن يؤمن بقاعدة من قواعد الإيمان أو بعقيدة ما، أو أي تعليم معين، من أن يؤمن بأن الإيمان والمحبة هما صنوان لا يفترقان. وكذلك أسهل علينا أن نتحاجج في مبادئ كلمة الله عقلياً ولاهوتياً، ونحلل عباراتها من أن نجعل الروح القدس يغيّر جوهر كياننا. فالإيمان المستقيم موجود في الكنيسة، ولكن بدون محبة».

وهنا نتوصل أيضاً إلى ما نود إثباته فيما يلي:

(ب) أن شهادة الكلمة لها وزنها متى كانت مصحوبة بشهادة الحياة فقط.

فالكلام، يجب أن يتفق مع السلوك. عندئذ يستطيع شهود المسيح القائم من بين الاموات والعامل في حياتهم، أن يدللوا بقوة ربهم على صحة ما يكرزون به. فالمحبة الإلهية التي يتكلمون عنها تشتعل في قلوبهم وتظهر في أنفسهم. وهكذا تتجسَّم رسالتهم في شخصيتهم. وهذا يعني أنهم يقدّمون بسلوكهم البرهان الحي لحقيقة كرازتهم. ولهؤلاء نجد وصفاً غريباً في (2 كو 8: 23) حيث يُدعَون «مجد المسيح». أي أنهم أشخاص يتمجد المسيح فيهم.

فإنهم بالكلمة والسلوك، يخبرون بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب (1 بط 2: 9) وهكذا يمجدون ربهم في حياتهم كما حدث بالنسبة لتلاميذ الرب الأولين الذين شهد لهم، قائلاً «أَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ» (يو 17: 10 و 1 كو 6: 20 وفي 1: 20 و 1 بط 4: 11) فهم في سلوكهم المقدس ومحبتهم المضحية مثال للجميع. وكذلك استطاع بولس أن يقول عن نفسه «أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَٱللّٰهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرٍّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ» (1 تس 2: 10) وهكذا يبيِّن سفراء المسيح بسلوكهم، أنهم أهل لواجبهم المقدس وأهل لربهم السماوي، الذي دعاهم إلى سلطانه الملوكي ويعملون حسب المبدأ القائل: «إننا نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقاً لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (1 كو 9: 12).

ويختلف هؤلاء كثيراً، عن أولئك المكتوب عنهم: «لَهُمْ صُورَةُ ٱلتَّقْوَى وَلٰكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُّوَتَهَا» (2 تيمو 3: 5) وهم « آبَارٌ بِلاَ مَاءٍ» «ينطقون بعظائم» «وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ» (2 بط 2: 17 - 19) ويحكمون بسلوكهم غير المقدّس على أن كرازتهم كاذبة. فإنهم يحسنون التكلم عن جميع الأمور المقدسة، ولكن السامعين يشعرون أن المحبة المقدسة التي يتكلمون عنها لم تمتلكهم بعد، لأنهم غارقون في كيان الإنسان العتيق، ومقيَّدون بسلاسل أنانيتهم. وهؤلاء هم الذين يوقعون بالإنجيل أعظم مَضَرَّة، لأنه بواسطة التناقض الظاهر بين كرازتهم وحياتهم، تصبح رسالة الكنيسة بلا شك غير قابلة للتصديق. ولذلك يُجدَّف على إسم اللّه بين الأمم بسببهم (رو 2: 24 وتي 6: 5). وإننا بسلوكنا، نثبت صحة كرازتنا أو نبطلها. وقد صدقت كلمة الرب القائلة: «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (مت 7: 16 - 18).

قال الأسقف همبرغ: «إن تصرفات شهود المسيح في الكنيسة لها أهمية كبرى، فما تعمله يدوّي حتى أنه يغطي على قولك. إن مثال حياة المسيحي في الخدمة على غاية الأهمية للكنيسة. ونحن لا نريد أن نضع الأهمية الكبرى أولاً على التعليم اللاهوتي، بل بالحري علينا أن نكون أبناء الله وأن يرتسم المسيح فينا» (غلاطية 4: 19).

وقال القس دنلبوم: «لا نؤثر بكرازتنا أكثر مما نؤثر بكياننا».

وقال الأسقف برون: «وما نهمله في نفوسنا يضر الكثيرين، الذين يجب أن يحيوا بواسطتنا».

(ج) شهادة الآيات والعجائب.

إن قبلنا أو لم نقبل، لا نقدر أن نحيد عن الأمر الواقع وهو أن الرب وضع لسفرائه دستور الخدمة بقوله: «اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ» (مت 10: 8) ولهذا التفويض علاقة بعظمة الفداء الذي أكمله لنا يسوع بموته. وهذا يشمل النفس والجسد معاً.. فالمصلوب لم يحمل خطايانا على الخشبة في جسده فحسب، بل أيضاً حمل أمراضنا وأبعدها (إقرأ مت 8: 16). ولا يمكن أن تكون مشيئة اللّه أن يستمر العذاب في المعذَّبين، ذلك العذاب الذي تحمله الإبن عنا، بل بالحري يشتاق أن يرى ثمرة آلامه كاملة في أجسادنا وفي نفوسنا لأن العدو لا يقيّدنا بالخطايا فقط، بل بالأمراض أيضاً. وهي بحسب قول الرب في (لو 13: 16) قيود يقيدنا بها الشيطان، ويجب أن يحلّنَا منها الرب يسوع.

ولهذا فإنه بصفته الأقوى، قيّد القوي ونزع سلاحه عنه. وهو الآن، يُطلق الأسرى منتصراً. وهذا هو السبب الرئيسي، الذي من أجله نرى دائماً في خدمة المسيح الكرازة والشفاء جنباً إلى جنب «وَكَانَ يَسُوعُ... يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ» (متى 9: 35) - قابل أيضاً جوابه على سؤال يوحنا المعمدان عن المسيح في (مت 11: 5) وشواهد أخرى.

قال القس تسندل: «من المعلوم أن المسيح لم يردّ قط مريضاً على أعقابه، قائلاً له أن يتحمل مرضه كأنه من مشيئة الله. بل رأى بالحري في كل مرض سلطة الشيطان، التي جاء ليقمعها».

ومن حيث أن التلاميذ قد دُعوا ليتموا عمل معلمهم، صار من الضروري أن يعطيهم معلمهم الوصية المزدوجة، أن يكرزوا بالكلمة، ويقاوموا قوات الأمراض الشيطانية. ونقرأ أيضاً في (لو 9: 2) «أَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى» وفي (عدد 6) «فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ» .

وبالوضوح عينه ينطق يسوع بنفس التفويض المزدوج في (لو 10: 9). وهذه هي العلامة الفارقة لسيادة اللّه، التي تدك سلطان الشيطان. وهذا يعني أنه يجب على قوات الخطية والمرض وإبليس أن تتقهقر مكرهة. ولذلك نقرأ ما يلي: «أَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ» (مت 10: 1).

قال البروفسور هيم: «إن عجائب الشفاء المذكورة قي الكتاب المقدس، متصلة بمصالحة الضمير مع الله. لا يقول (يع 5: 14-16) فقط إن «صلاة الإيمان تشفي المريض»، بل يقول أيضاً: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا» فالمرض الجسدي يزول حالما يتم الشفاء الداخلي» قابل أيضاً (متى 9: 2-7).

ليس الكلام هنا عن موهبة الشفاء الخاصة التي لبعض الأفراد (1 كو 12: 9 و 28) بل عن المسيح الذي أعطى جميع سفرائه التفويض المزدوج، وهو أن يوصلوا الكلمة إلى الناس ويحررهم من لعنة أمراضهم ومن الارواح الشريرة بقدر إيمانهم. فإن وعد القائم من بين الأموات في (مرقس 16: 17) هو للعموم «وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يُخرجون الشياطين باسمي».

قال البروفسور شلنك: «لا يجوز للإنسان أن يحصر هذه الآية بالرسل والكنيسة الأولى فقط. فإن الوعد غير محدود. وكان كلام يسوع موجهاً إلى الجميع، وليس إلى الرسل وحدهم حين قال: «من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها» (يو 14: 12).

لا يتكلم الرسول يعقوب في الأصحاح الخامس عن أصحاب المواهب، وإنما يقول بكل بساطة: «أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ، وَصَلاَةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ» (عدد 14-15).

إن قدر أحد أن يغمضّ الطرف عن آيات الكتاب الواضحة هذه، ويزيّفها تعمُّداً أو بغير قصد ليتملصَّ مما يترتب عليه من واجبات، فأنا لا أستطيع ذلك. وإن سكتُّ عن هذه المسألة، أسأت إلى الواجب المعطى لي من الرب. ولكني لا أقول ولا أريد أن أدّعي بأن الذين لا يظهر في خدمتهم إنتصار المسيح على الأمراض والأبالسة، هم ليسوا خداماً حقيقيين للكلمة. فإنه لمن الضلال والظلم، أن نتهم المريض بعدم الإيمان إن لم يتم فيه الشفاء المطلوب. فالرب لا يشفي دائماً بحسب رغبتنا، بل يحتفظ بالسلطان المقدس المطلق، ويصنع مع كل واحد بحسب حكمته الفائقة الإدراك. وهكذا اضطر بولس أن يترك تروفيمس مريضاً في ميليتس (2 تيمو 4: 20) وهو نفسه أيضاً لم تُرفع عنه الضيقة التي تكلم عنها في (2 كو 12: 7). وإننا لا نستطيع أن نفهم إجراءات الرب الملوكية المطلقة، ونقيسها بمقاييسنا، ونجعلها تطابق عقليتنا. وهنا على الأخص يجب أن يكون سفراء الرب دائماً متواضعين وخاضعين لمشيئة اللّه المقدسة. فالإيمان الكامل والتسليم التام لمشيئة الآب، لا ينفصلان بعضهما عن بعض، بل يرتبط أحدهما بالآخر.

وما أجمل المثال الذي تركه لنا يسوع نفسه بهذا الصدد (يو 4: 34 و 5: 19 - 21 وغيره). فالمسألة لا تتوقف علينا فيما نريده أو نعمله، أو نقدر عليه أو نغتصبه، بل علينا أن نشهد حسب قول الكتاب بأن الرب ينتظر منا أن نثق فيه أكثر، وننظر إلى المواعيد المعطاة لنا بعين الإهتمام والجد. لكي يتسنَّى لنا أن نعتمد بفرح على ذراعه الممدودة، ونتجاسر أن نصلي مع البيعة الأولى قائلين «وَٱلآنَ يَا رَبُّ... ٱمْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ، بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ، وَلْتُجْرَ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ بِٱسْمِ فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ» (أع 4: 29 و30). فقد طال بنا الوقوف في طريق الرب بعنادنا واكتفائنا الباطل، فحدّدنا عمل فدائه بسبب عصياننا وقلة إيماننا. أليست ذراع الرب اليوم مُعطّلة بسببنا، كما عطلها أهل الناصرة؟ (مر 6: 5).

قال الأستاذ أسموسن: «ليهبنا الله صراحة بريئة تجاه ما يشاء الروح أن يعمله في المرضى، لئلا يمتنع عن ذلك بسببنا. فإن قلة الصراحة تطرد الروح وتطفئه».

رابعاً: غاية خدمتهم

لا يكتفي أصحاب التفويض الإلهي، بأن يشعر سامعوهم بالتحذير أو البنيان أو التعزية. وليست غايتهم كلها أن يخرج الحضور من الكنيسة، مسرورين بتأثير «العظة الجميلة» التي سمعوها. فإن سفراء الرب لا يغترّون بكثرة عدد الحضور إلى الاجتماعات العامة، أو خدمة العشاء الرباني. ولا يعتبرون ذلك مقياساً لنتيجة خدمتهم الحقة، بل بالحري يرون أن أهداف خدمتهم التي عيَّنها العهد الجديد هي في ما يلي:

(1) يجب إنهاض الخطاة النائمين من نومهم وإخراجهم من الموت إلى الحياة.

إن الشرط الأول لهذا النجاح في العمل المثمر، هو الوعي التام والبصيرة المميزة لحالة السامعين، حتى الأمناء منهم الذين رغم مظاهر الصلاح الخارجي لا يزالون في نظر اللّه - وافقنا أو لم نوافق - «موتى في الخطايا والذنوب وأبناء المعصية وتحت غضب اللّه» (أف 2: 1 - 2). وبما أن الناس عامة والذين يدعون بالمسيحية خاصة، لا يعرفون حالتهم الضالة بل يغفلون عنها، ولا يشعرون بجهلهم هذا، فقد صار من الضروري أولاً أن نوقظ النائمين بأن نناديهم قائلين: «ٱخْلُصُوا مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي» (أع 2: 40). لعل الهدف الأول من الكرازة الإنجيلية في عهد الإصلاح، كان تعزية الضمائر التي ضايقتها وعذبتها أحكام التوبة في القرون الوسطى. أما الآن فنحن نسيء الحكم على حالتنا الحاضرة، ونخطئ هدف بشارتنا، إن ظننا أنه يجب علينا أولاً أن نعزي الضمائر المتعبة، كما كان الأمر قبل أربع مئة سنة. إن جماهير المسيحيين بكل أسف ليسوا مضطربين على خطاياهم وهلاكهم، بل بالعكس هم مطمئنون ومكتفون ببرهم الذاتي وطيشهم. لذلك أُصيب بعضهم بغلاظة القلب. فمثل هؤلاء لا يحتاجون إلى التعزية، بل إلى الإيقاظ لكي يقبلوا الخلاص.

قال الأستاذ شلتر: «قبل أن نسلك كمسيحيين، علينا أن نكون أولاً مسيحيين».

وقال المطران دي بور: «ماذا يعني لوثر باجتماعات خدمة الله العمومية يوم الأحد؟ إنها إغراء علني بالإيمان. فغاية خدمة الكنيسة الأولى ليست العناية بالإيمان الموجود وتقويته وتثبيته بقدر ما هي مساعدة السامعين وتشجيعهم على قبول الإيمان. فواجب الكنيسة هو تبشير الشعب. وتبشيره يكون من خدمتها العملية. وهذا يعني قبل كل شيء أن نتخلص من تصورنا الماضي، وهو أن التبشير يتم فقط في إقامة الاجتماعات الانتعاشية والمحاضرات الدينية. كلا بل التبشير المطلوب من الكنيسة، منوط بالرعاة أنفسهم. فلا نظن أن كنيسة الشعب، تتألف في الدرجة الأولى من جماعة القديسين ومن بعض المرائين والأشرار. فالقديسون في كنيسة الشعب، هم دائماً قليلون».

أما الآن فقد وصلنا إلى السؤال النهائي وهو: كيف يخلص الإنسان؟ الخلاص في أي حال ليس مجرد الإعتراف العقلي بقانون الإيمان الرسولي، الذي بُني عليه الإيمان التقليدي في كنائسنا. وليس الخلاص أيضاً بالتوبة، المتَّبعة في الإعتراف العام وسرعة الموافقة على أننا جميعنا خطاة. فهذا وحده لا يكفي أبداً. فلا يحصل أحد فعلا على غفران خطاياه بمجرد الإيمان المزعوم، ولا بالتوبة الموهومة، ولا بكلمة «نعم» التي يقولها الجمهور بالإجماع عند سماعهم الدعوة إلى التوبة، كما جرت العادة في الكنيسة، ولا بقبول الغفران العام الموجَّه إلى الشعب، ولا بمداومة الحضور بإخلاص إلى الكنيسة، ولا بالإشتراك في العشاء الرباني، ولا بمعمودية الماء، ولا بمجرد التثبيت نفسه. لأن مثل هذا الغفران، يذهب أدراج الرياح.

وقد أصيبت كنيستنا بجملتها بمصاب أليم، لأنها كانت على مدى الأجيال تكرز بهذه النعمة الرخيصة. واكتفت بمظاهر التقوى التقليدية. واعتبرت واجبها كله في رعاية المؤمنين المزعومين. وكان قصدها أن تسهّل للناس الدخول إلى ملكوت اللّه. ولكنها بالحقيقة، أقفلت الباب في وجوههم (مت 23: 13) وحوّلت الباب الضيّق، الذي يدخل منه القليلون إلى باب واسع، ليتسنى لشعب الكنيسة أي المعتمدين الدخول إليه بسهولة (مت 7: 14).

فكانت النتيجة أن هذا الباب المصنوع، لم يعد يوصل الناس إلى الحياة الأبدية، بل إلى الموت الروحي. وهكذا انقصف رأس سيف الروح، وضاعت قوة الكرازة الفعالة. وبسبب تجريد كلمة اللّه من فحواها الأصلي وإزالة قوتها الفارقة، بسبب هذه الخيانة الشنيعة، يجب أن نبيّن بشدة على أن الرب الإله قد عيّن ووضع شرطاً واحداً، لا يمكن للتبرير أن يتم بدون إتمامه لا في الحياة الحاضرة أو المستقبلة. وفحوى هذا الشرط هو في كلمة «ارجعوا» (مت 3: 2 و 4: 17 و 18: 3 و أع 3: 38).

قال الأستاذ شنيوند: «لا نستطيع أن ننكر أن وعظ يسوع، كان كله نداء للرجوع».

وقال رالف لتر: «لا يهتم الرسل بأن يتمسك سامعوهم بأي تعليم، بل أن يلتحقوا بشخص معين. فالمطلوب ليس الإيمان بالصليب أو القيامة، بل بالمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات».

وقال همبرغ رئيس الكنائس الإنجيلية: «على كل إنسان أن يقرر، تسليم نفسه ليسوع تسليماً تاماً قبل كل شيء. لأن التسليم الجزئي، لا يجدي نفعاً. والله يمنع سلامه عن الإنسان الذي لم يسلم نفسه كلياً. ولا يمر من الباب الضيق إلا من نبذ وترك كل ما يغيظ الله. فالله لا يكلل قلباً منقسماً على ذاته... إن الرجوع الحقيقي إلى الله، أمر مقدس ومهم. وهذا يتم في الانفصال الكامل عن ا لماضي والتسليم التام للرب. فإن الله يعطي روحه للذين يطيعونه».

قال المطران نيملر: «ونحن بالرغم من نوايانا الطيبة نقف في طريق يسوع. فإن رغبتنا الصالحة، تدعو إلى التهذيب الأخلاقي حيث يطلب المسيح الرجوع والتوبة الكاملة وتدعو إلى التقدم والتطور الحضاري بينما هو يطلب منا الولادة الثانية والتجديد وتدعو إلى الاهتمام بالحياة الدنيا إذ يدعونا المسيح إلى الموت».

لا نستطيع أن نتصور عظم الفوز، الذي أحرزه العدو بالدور المهم الذي لعبه بإزالة الطلب الجوهري في العهد الجديد وأبعاده عن بشارة الكنيسة. إن ضرورة الرجوع لأجل الحصول على الغفران ظاهرة في شواهد عديدة. يقول بطرس الرسول مثلاً: «تُوبُوا وَٱرْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ» (أع 3: 19). والرب القائم من بين الأموات، يؤكد بوضوح وجوب الكرازة باسمه بالرجوع (لوقا 24: 47). فلا يجوز الإدعاء بأن التبرير عند بولس، يعني «فقط الإيمان» وليس الرجوع. وادعاء كهذا هو تزوير لتعليم الرسول. فما نسميه عادة إيماناً في الكنيسة، لم يعتبره بولس كذلك. لأنه لم يعرف إيماناً بدون الطاعة الحقيقية، الناتجة عن الرجوع العملي.

قابل العبارة «إطاعة الإيمان» الواردة مرتين في الرسالة إلى رومية في بدايتها (1: 5) وفي نهايتها (16: 26) أو شواهد أخرى مثل (رو 15: 18 و 6: 16 و 1 تس 1: 9 و تي 1: 16) حيث يؤنب الرسول أولئك الذين يعتمدون على إيمانهم المزعوم، بدون أن يكملوا الرجوع «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ، وَلٰكِنَّهُمْ بِٱلأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، إِذْ هُمْ رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ» . ثم يبين بوضوح نفس الأمر في خطابه الوداعي الموجَّه إلى شيوخ كنيسة أفسس: «كَيْفَ لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ... شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أع 20: 20) وقابل أيضاً (أع 14: 15 و15: 3 و 17: 30 و 26: 20).

فلا شك في أن بولس لا يعتبر إيماناً إِلا الإيمان الذي يشمل الرجوع بعزم ثابت، ويُظهر الطاعة وتجديد السلوك. وبالإجمال «ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ» (غل 5: 6). لم يستطع الرسول أن يعلّم بخلاف ذلك، بعد أن حدد الرب المتعالي واجبه بقوله: «أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أع 26: 17 و18).

قال القس كاهلر: «قد ينذهل بعض المسيحيين حتى وبعض اللاهوتيين، إذا اتعظوا بكلمات الكتاب عن الاتباع. يكتب الرسول بولس إلى أهل كورنثوس: «كونوا متمثلين بي» (1 كور 4: 16). ويقول أكثر من ذلك: «كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح» (1كور 11: 1). ويقول أيضاً ما يكاد يمسك أنفاسنا: «فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء» (أف 5: 1). وكذلك يقول بطرس: «ترك المسيح لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته» (ذ بط 2: 21). وبناء عليه لا يحررنا التواضع المصطنع والنعمة الرخيصة.

وتتضح لنا أفكار بولس متى سألنا أنفسنا: «ما معنى الرجوع؟» فالرجوع معناه أن نعزم عزماً ثابتاً أمام وجه اللّه الحي على «العيش فيما بعد، لا لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام» (2 كو 5: 15 و لو 15، 17 - 21). وعند الخضوع الصحيح والندامة الأكيدة على ماضينا الفاسد بواسطة عصياننا اللّه، نرجع إلى بيت أبينا. وذلك بأن نغيّر وُجْهة سير إرادتنا الأساسية، ونسلم ذواتنا مع كل خطايانا وذنوبنا وكل كياننا ومالنا، دائماً وأبداً، إلى مخلصنا يسوع المسيح، ونتكل عليه بأمانة كلية. وبذلك نسلم حياة الخطية القديمة إلى الموت، الذي نستحقه. وهكذا نوافق على صلب أنانيتنا معه. ونخلع الإنسان القديم حاسبين أنفسنا موتى عن الخطية، ونحيا للّه وحده (رو 6: 11 و غل 6: 19 و 5: 24 و مت 16: 24 و لو 14: 23).

إن مثل هذا الرجوع الظاهرة صحته في الاستعداد للإعتراف الفعلي، وإن أمكن أيضاً في الإصلاح العملي، يجيب عليه اللّه من السماء حسب وعده بغفران الخطايا وموهبة الروح القدس (أع 2: 38 و يع 5: 16 و مت 3: 6 وأع 19: 18 و لو 19: 18).

قال القس لوهي (1): «ليس الاعتراف السري بالخطايا وصية إلهية، أو فرضاً تفرضه الكنيسة على الفرد، بل هو إمكانية وامتياز خاص. ويجب أن لا يكون الاعتراف اعترافاً بحالة الخاطئ، بل بالخطايا المقترفة فعلاً. فقد يستمر الإنسان عشرات السنين بالاعتراف بحالة الخطية والنوح عليها، دون أن يتخلص منا إن كان لا يذكر ثمار الخطية العديدة وأعمالها الشنيعة. فمن يريد أن يجيد الاعتراف، فليعترف بالخطايا المقترفة فعلاً، ويدعوها بأسمائها، ويدقق بوصف المناسبات بقدر الإمكان، وبدون إعلان أسرار الغير».

وقال بونهوفر أحد شهداء القرن العشرين: «تحب الخطية أن تبقى مجهولة، لأنها تخاف من النور، وهكذا تسمم كيان الإنسان في الظلام... ثم أن الكبرياء هي أصل كل الخطايا. أما الاعتراف أمام الأخ فهو اتضاع يؤلم ويحقر ويكسر الكبرياء. فالوقوف أمام الأخ كخاطئ عار صعب الاحتمال، لكنه يميت الإنسان القديم موتاً شنيعاً. ومن حيث أن الاتضاع صعب، نظن دائماً أنه باستطاعتنا تحاشي الاعتراف أمام الأخ. وقد تنبهر عيوننا حتى لا نعود نرى وعد الاتضاع ومجده».

1 - عاش من سنة 1808-1872 وكان قسيساً في إحدى القرى، وكان له الفضل بأن يحول تلك الضيعة الحقيرة بواسطة الكرازة والطقوس الكنسية إلى مركز هام للتبشير الداخلي والخارجي وإلى مؤسسة فعالة لدراسة التعاليم اللوثرية.

يبدأ المسيحي في الإعتراف بترك خطيته، فينكسر سلطانها. ومن الآن فصاعداً، يتكلل جهاده بنصر تلو الآخر. ولماذا يسهل علينا الإعتراف أمام اللّه، أكثر من الإعتراف أمام الأخ؟ فلنتساءل إن كنا لم نخدع أنفسنا عند إعترافنا للّه أي إن لم نكن بالحري قد إعترفنا بخطايانا لأنفسنا، ثم غفرناها بأنفسنا. (قارن 1 يو 7: 10 و يع 5: 16 و يو 20: 23 و مت 18: 81 و أمثال 28: 13).

وقال جيّر نائب الاسقف: «تنجح العناية بالنفوس مبدئياً حين يسلم الناس محور كيانهم وثقل ذنوبهم وأسرار قلوبهم إلى الله، ويحصلون على الحل الفردي من الخطايا بواسطة الغفران الذي يعلن لهم وجهاً لوجه». وقال أيضاً: «يعود ضعف الكنيسة أيضاً إلى كونها تخرج علماء ووعاظاً طقسيين، ولكنها قلما تخرج معتنين بالنفوس».

وعندما يخلص اللّه الخطاة، لا يخلصهم على أساس عزمهم الطيب، بل على أساس رحمته فقط، ناظراً إلى ذبيحة الكفارة التي قدمها المصلوب. وهل كان بإمكاننا نحن أعداء اللّه سابقاً، أن نرجع إليه لو لم يقدم هو لنا أولاً المصالحة في إبنه؟ (رومية 5: 8 و 10 و 2 كو 5: 19 و يو 15: 16 و 1 يو 4: 19). «لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ» يقول الرب (يو 15: 16).

ويقول في العدد الخامس من نفس الأصحاح: «لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» . فالرجوع إذاً ليس عمل الإنسان، بل نعمة اللّه الخالصة: فإن اللّه يهب الرجوع إلى الحياة (أع 11: 18) فليس للإنسان إذاً أي إستحقاق، أو أي سبب للإفتخار «مَنِ ٱفْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِٱلرَّبِّ» (1 كو 1: 31). وبناءً عليه فإن خلاص الإنسان صار أكثر تأكيداً لأنه لا يتوقف على أي عزم ذاتي أو أي عمل بشري، بل على تدخل اللّه الفعلي بنعمته فقط، التي بواسطتها أصبح إنساناً جديداً (1 كو 15: 10). وعند قبول الروح القدس تتم الولادة من فوق، التي بدونها لا يمكن لأحد أن يرى ملكوت اللّه (يو 3: 3 و 5) وهذه هي الولادة الثانية والتجديد بالروح القدس (تيطس 3: 5).

قال الأستاذ برنر: «إن ما توصلت إليه الكنيسة في الاعتقاد بسحر المعمودية، كان خارجاً عن نطاق فهم بولس بكل وضوح. وإن الرسول لم يعنِ بذلك أن الروح القدس يُسكب في الطفل المعمد بواسطة إجراء خارجي، يقوم به الكاهن ولم يعنِ كذلك أن الخطية تُغسل في المعمودية، وتوهب الحياة الجديدة بدون أن يعمل الإيمان عمله».

وقال رئيس الرعاة دي بور: «أن الميلاد الثاني بحسب كتب قواعد الإيمان، هو الاهتداء، الذي يحصل عند التوبة والرجوع إلى الله، كما هو مكتوب: إن الله يحوّل بقيادة الروح القدس العصاة العنيدين، إلى راغبين وقابلين قوة النعمة. وبعد هذا الاهتداء يجب على الإرادة المتجددة أن لا تضيع الوقت في ممارسة التوبة العقيمة، وإنما يجب أن تشترك في كافة أعمال الروح القدس التي يُجريها بواسطتنا».

قال الأسقف بِنغل: «لا تستصعب الميلاد الثاني لأنه يحصل من الإيمان ولا تستخف بالإيمان لأنه يخلق الميلاد الثاني».

فالمسيح يملأ الذي يسلّمه قلبه قوة لم يعرفها من قبل، قوة ليست أقل من قوة قيامته (إف 1: 19 و 20 و 3: 10 وفل 3: 10) فتحل عليه نار اللّه المقدسة (لو 12: 49)، عندما تنسكب في قلبه محبة اللّه (رو 5: 5) التي تجهزه لحفظ ناموس المسيح (غل 6: 2 و يو 13: 34) فتجري فيه حياة جديدة كاملة. وهذه ليست إلا حياة ربه الفريدة (كو 2: 12 و إف 2: 5 و 2 كو 4: 10). فإن ابن اللّه نفسه، يأخذ فعلاً منزلاً في قلب تلميذه (يو 14: 23 و 17: 23 و 26 و إف 3: 17 و كو 1: 27 و غل 2: 20) ويُشركه بحياة قيامته المقدسة (رو 6: 4). فقط من اختبر هذا في نفسه، يقدر أن يُدرك ما يعنيه بولس بقوله: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كو 5: 17).

فالإنسان يصل بذلك إلى الحياة الحقيقية (يو 5: 24 و 1 يو 3: 14) ولهذا ينبغي على سفراء اللّه أن يرشدوا الناس بواسطة خدمتهم إلى هذا الطريق، ويصبحوا سبباً لسرورهم (2 كو 1: 24 و أع 2: 46 و 8: 8 و 29 و 13: 52 و 16: 34) لأن يسوع يريد الآن أن يمنح المخلَّصين فرحه الخاص، الذي هو الفرح الكامل (يو 15: 11 و 16: 24). ومع هذا فلهم هدف آخر:

(2) يجب أن يثبّتوا المولودين ثانية في التقديس، ويجهِّزوهم للقيام بخدمتهم، حتى ينقادوا جميعاً إلى الإتحاد الشامل لتكميل بنيان جسد المسيح بجملته تكميلاً تاماً في المحبة ليوم الظهور.

هذا هو الهدف الواضح، الذي يسعى نحوه رأس الكنيسة مع كنيسته. والذي في سبيله، عيّن سفراءه. وهؤلاء لا يسمحون لأحد بأن يضلهم بنظرية سطحية، كأن التبرير هو فقط عدم ذكر خطايانا، لأنه يستحيل الهرب من الخطية. ولهذا السبب فإن تجديد الحياة الأبدية الكاملة، أي التقديس الشامل، غير ممكن إلا في الآخرة.

ومن يسلم نفسه للوهم العقائدي المطعّم به، وهو أن المسيحي لا يستطيع أن يتحرر من الخطية إلا بواسطة الموت فقط، لا يجد في الكتاب المقدس كله موعداً واحداً يثبته، لأن ليس الموت، بل دم يسوع المسيح، هو الذي يطهرنا من كل خطية (1 يو 1: 7) فقد ظهرت نعمة اللّه المخلِّصة لجميع الناس، لا ليستمروا باطمئنان حتى موتهم في إقتراف الخطية (رو 6: 1) بل لتعلمنا «أَنْ نُنْكِرَ ٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِٱلتَّعَقُّلِ وَٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى فِي ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ» (تي 2: 12 وفي 2: 15) بعد أن اختارنا اللّه «لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (أف 1: 4). ولكي نبيِّن ذلك بأكثر وضوح نقول أن قداسة المسيح وبرّه، لا يُحسبان لنا في حكم اللّه القضائي فحسب، بل يُوهبان لنا فعلاً كما هو مكتوب «نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (1 بطرس 1: 15). أجل، قدّيسيين في السيرة والسلوك! وهذا لا يمكن أن يُساء فهمه.

قال برنر: «لا يبقى بر المسيح مجهولاً منا، أو بعيداً عنا، أو محسوباً لنا فقط، بل بالحري يتم فينا فعلاً، نحن العائشين ليس حسب الجسد بل حسب الروح (رو 8: 4) فالحياة الجديدة هي بر جديد». ونرى إمكانية ذلك مثلاً في سيرة بولس، الذي استطاع أن يكتب عن نفسه «فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا، إننا في بساطة وإخلاص الله... في نعمة الله تصرفنا في العالم» (2 كو 1: 12).

قال رنغسدرف: «إن بولس في اتصاله مع المسيح لم يعرف خطية في نفسه، مع أنه كان إنساناً تحت التجربة... وهذا ما ينتظره أيضاً من جميع الذين يخصون المسيح».

وقال الأستاذ ألتهوس: «وعندما يعرّف بولس نفسه بالخاطئ، يعني بذلك ذنوبه قبل اهتدائه وليس آثامه في حياته المسيحية، أو نجاسات قلبه في الوقت الحاضر. ففي المسيح صار الكل جديداً، حتى قلب بولس، عالماً بخطر سقوط الاكتفاء الذاتي والكبرياء الروحية، لكنه يشهد في نفس الوقت أن الله يحفظه بعنايته، ولا يمكن أن تخطر على باله أمور كهذه. ولا ذكر في رسائله حتى ولا في اعترافاته، أنه كان عليه أن يجاهد ضدها. لأنه عرف نفسه محفوظاً في قدرة محبة المسيح (2 كو 5: 14). وقد أخذت خدمته منه مأخوذاً، ولم يكن له في نفسه أي دافع آخر. فلنحذر من الشك في هذه الحقيقة».

إنَّ التحرر من سلطة الخطية ليس ممكناً وحسب، بل ضرورياً جداً وفقاً لشهادة الكتاب، إن كنا نريد أن لا نخطئ هدف الخلاص «اِتْبَعُوا... ٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ» (عب 12: 14).

قال كودات: «سنخلص في ذلك اليوم العظيم فقط، إن كنا قد تقدسنا في حياة المسيح بعد أن نكون قد تبررنا بموته».

يكتب بولس إلى المتبررين في (رومية 8: 13) قائلاً لهم: «إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ» وهذا يعني أنَّ الموت الثاني، ينتظركم بكل تأكيد، رغم التبرير المُعطى لكم. أما أعمال الجسد فليست فقط ما نسمّيه بالخطايا الشنيعة، كالزنى والفجور وعبادة الأوثان والسكر والشراهة والسرقة والتجديف، بل أيضاً محبة الذات المستترة والعناد والشك وعدم الإيمان وسوء الظن والتذمّر على اللّه والخصام والغيرة والحقد والمشاتمة والخلاف والحسد والبغضة والطمع. فكل من يسلك في إحدى هذه الخطايا، « لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» . «لا يغرّكم أحد بكلام باطل» (أف 5: 5 وغل 5: 19). يا لعظم قدرة كلمة الكتاب الفاصلة!

قال الأستاذ ت. شلتر: «الروح والجسد في نظر بولس، مذهبان متناقضان، ينبغي على المسيحي أن يختار أحدهما. فهما حقلان مختلفان ينمو في كل منهما زرع مختلف تمام الاختلاف».

فالمسيحيون الذين لم يتحررَّوا من عبودية الخطية، لا تنتظرهم السعادة بل غضب اللّه. فكأبناء المعصية، لا فائدة لهم في تعزية أنفسهم بالتبرير الوهمي (أف 5: 2) «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ لاَ تَضِلُّوا» (1 كو 6: 9).

قال الأستاذ ت. شلتر: «لا يعزي بولس المسيحيين مرة واحدة كأنهم رغم خطاياهم يقدرون أن يعتمدوا على النعمة، لأنهم ملك المسيح، ولأن الخطية لا تستطيع أن تفصلهم عن الله. فالواضح أن ذكر الخطية لا يرد في (رومية 8: 38). فإن بولس يشدد على أن الخطية تفصل الإنسان عن الله وعن ملكوته».

فلا يجوز لنا أن نمنح تعزية الغفران الرخيصة حيثما العهد الجديد لا يعزي بل يحذر، وحيثما الرب لا يغفر بل يدين. فهذا ما يصرح به الرب «إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ» (مت 5: 20). فاللّه القدوس غير راضٍ عن أعمالنا الناقصة، وهو لا يغض الطرف عن خطايانا. ولا فرق عنده إن كنا نتظاهر بالتقوى أم لا، لأنه لا يعتبر وجوه الناس (قابل رو 2: 6 - 11). إن كنا يهوداً أو يونانيين، مسيحيين أو وثنيين، فإن نصف الطاعة فينا هي دائماً في نظر اللّه عصيان كامل (يع 2: 10).

قال الأستاذ إتسولد: «لا ينفعك مجرد المعمودية، إن لم تحفظ الناموس ولا ينفعك السر المقدس، إن لم يوصلك إلى الإيمان الحقيقي العملي».

قد أوضح يسوع لتلاميذه جلياً، بأنه لا يقبل أن يكتفي بالتقوى الخارجية إذ يقول: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (مت 7: 21). فمن نحن حتى نتجاسر على الإدّعاء بأن تطبيق مشيئة اللّه عملياً، غير ممكن في هذا العالم؟! ألم تكن غاية مجيء إبن اللّه إلى العالم هي أن «يَتِمَّ (بفدائه) حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رو 8: 3).

قال الأستاذ فتسر: «أين يقول يسوع: هذه هي مشيئتي، لا أحد يستطيع أن يعملها؟ وأين يقول: هذه هي وصاياي، لا أحد يقدر أن يحفظها؟».

وقال القس ريتملر: «لا يقبل الديان الأزلي مطلقاً في الدينونة الأخيرة أي اعتذار أو اعتراض على كلامه، بأنه كان قاسياً وكان تطبيقه غير ممكن. ولكنه سيبرهن لنا أن كلامه هو بشارة النعمة الحقة، وأن تكميله بلا شك غير ممكن عند الناس. ولكن عند الله كل شيء مستطاع، لأن النعمة في الضعف تُكمل».

وقال الأستاذ شنيوند: «أما هذا التكميل فهو أ مر جديد تماماً، وهو آية عجيبة يجريها الله وحده».

لا يجوز لنا أن نبتعد عن الحقيقة، وهي أن يسوع ليس فيلسوفاً مثالياً أو متهوّساً. بل هو مسيح الرب، الذي عيّن لتلاميذه هنا على الأرض هدفهم «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (مت 5: 48).

قال الأسقف ديباليوس: «الله يطلب الإنسان بكامله، ويطالبه بكل شيء. أي أن يكون كاملاً، كما إن الله هو كامل... فأما أن نتمم هذا او نفصل أنفسنا عن ملكوته المقدس، الذي يريد أن يقيمه».

وهكذا أعلمنا الإله القدوس الحي بأجلى بيان، إنه لا يقبل أن يتساهل مع خطايا المسيحيين، أو إنه لا يحسبها أبداً. بل بالعكس فهو النار الآكلة (عب 12: 29) يعامل خطايا الأبرار، بأكثر شدة. ويعتبرها أعظم من خطايا الأشرار، لأن كل من غُفرت خطاياه الماضية بالنعمة يوجّه إليه الرب أمره الواضح والصريح: «لا تخطئ أيضاً» (يو 8: 11). وبذلك يسد في طريقنا كل مهرب، ويرفض كل إعتذار تَقَوي ولاهوتي بسبب عصياننا. «لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ» (1 يو 3: 7 وأيضاً 6 - 10).

قال الأستاذ برنر: «الخطية عكس الإيمان. والخطية علاقة سلبية مخالفة لله. فالإنسان إما أن يعيش في الخطية، أو في الإيمان كلياً. كما أنه يكون إما نائماً أو واعياً، إما ميتأً أو حياً، ولا يكون في حالة وسط».

وقال القس فتسر: إن العبارة: «أنا متبرر وخاطئ في نفس الوقت، غير موجودة في أقوال بولس، ولا في العهد الجديد كله. فملء النعمة لا يشطب دينونتنا فحسب، بل كياننا القديم أيضاً. ولا نجسر على الادعاء بأن المسيحي بار، إن كان يخطئ».

وهكذا ينتظر المسيح الحي منا نحن اللاهوتيين، أن نرجع عن طرقنا القديمة ونكون مستعدين لإصصلاح نظرياتنا التقليدية بواسطته وبواسطة كلمته الصادقة. وإن كنا مع ذلك لا نزال نتمسك بتعليم تقاليدنا الكنائسية، ونحاول غض النظر عن هذا الطلب الإلهي الصريح بأن لا نعود نخطئ (يو 5: 14) فلا يبقى لنا عذر، لأننا نكون قد أنكرنا يسوع قدوس ٱللّه، وجعلناه كاذباً. فحينئذ يخاطبنا هو بشدة قاطعة قائلاً: «فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ»... «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ» (مت 15: 6 - 9 و 13 - 14). وعندئذٍ يجب تحذير الناس منا بكلمة الرسول: «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ» (كو 2: 8). لا يا إخوة، لا يجوز ذلك! فلا نريد أن نقاوم الروح القدس إذا أقنعنا اليوم بدعوته (أع 7: 15) بل نريد أن نخضع لسلطة كلمة اللّه، التي تحثنا قائلة: «إِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (2 كو 7: 1).

قال رالف لوتر: «أظهر المسيح في أيام عمله اعتباره للعادات والتقاليد الشائعة... ولم يتعرض لها بقدر الإمكان، ولكنه لم يسمح أن تساعد هذه على تفسير شريعة الله». ويقول المؤلف في كتاب آخر: «عوضاً عن الخضوع لشهادة الكتاب، نتخذ اختباراتنا كمقياس لنا، ونجعل منها عقائد».

إنه لمن المؤسف حقاً أن ما تعلمه الكنيسة المسيحية عموماً منذ أمد بعيد عن التقديس، لا يتفق مع مفهوم الكتاب. لأنه تقديس حاصل من حفظ الناموس، ومتمَّم بقوتنا الذاتية. وبنفس المعنى تقريباً، نظن أن التبرير، يمكن الحصول عليه كهبة الإيمان فقط. أما التقديس فيلزم إحرازه بمجهوداتنا البشرية الخاصة، أي بجهادنا المرير ضد سلطة الخطية. وكم يختلف هذا التقديس عن ذاك، الذي نقرأ عنه في العهد الجديد: «بهذه المشيئة نحن مقدَّسون، بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة... بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين» (عب 10: 10 و 14). فالتقديس حسب العهد الجديد لا يعني أن نستخدم كل قوانا الطبيعية لإخضاع الإنسان القديم، ولا أن نتوصل بالجهد إلى إصلاح تدريجي. ومن يحاول ذلك فإن محاولته هذه تؤدي به حتماً إِلى الفشل والخيبة. لأن إنساننا القديم غير قابل للإصلاح مطلقاً. ومهما حاولنا إخضاعه وتحذيره، يظل فاسداً ومحكوماً عليه باللعنة. وتبقى أفكاره، حتى في أصلح مظاهرها دائماً وأبداً عدوَّة للّه (رو 8: 6) فالجسد لا يستطيع أن يُرضي اللّه، صالحاً كان أم شريراً (يو 6: 63 و رو 7: 18 و 8: 8) فلذلك لا فائدة من مجهودات الجسد جميعها، حتى ولا الصالحة منها، ولا أمل لها مطلقاً للإنتصار على الخطية (يو 3: 6) لئلا يفتخر الجسد.

قال الأستاذ كودات: «نعتبر التبرير هبة إلهية، أما التقديس فنحسبه عملاً شخصياً نبادل به هبة البر».

«أما ما كان مستحيلاً تحت الناموس، هذا أَنجزه اللّه» (رو 8: 3). فالتقديس تحت النعمة، لا يمكن أن يعني شيئاً آخر إِلا أن نضع ذواتنا، ونحن واثقون بمحبة اللّه المتجلية في يسوع المسيح، على أساس الخلاص الكامل المنجَز في الجلجثة. ونحسب أنفسنا موتى عن الخطية، بسبب صلب إنساننا القديم الفعلي مع المسيح «لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ» (رو 6: 6 و 11). «فَإِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَة» (رو 6: 14). وفي موقفنا هذا لا نضطر للتساهل مع الجسد، لأن سلطته قد تحطمت. وفي هذه الحالة الجديدة، نستطيع أن نوقف تحركاته، ونضبطه في الموت (رو 8: 13) وننتصر بقوة الروح، انتصاراً كاملاً (رو 6: 12 - 18 و 7: 5 و 8: 4 و غل 5: 16 - 18 و 25).

قال القس شتاينبرغر: «هنا فقط الطريق، الذي يؤدي من نصر إلى نصر، وهنا وجدت سر حياة الانتصار. وبدون فهم الأصحاح السادس من رسالة رومية وتطبيقه، لا يمكن للإنسان أن يكون مسيحياً».

وقال الأستاذ شلتر: «يريد بولس أن يرينا في (رو 6: 6) أننا تحررنا من عبودية الخطية». وأيضاً، «لا علم لبولس أنّ المسيحي دائم الاندفاع إلى الخطية لارتباطه بالجسد، وأنه رغم إيمانه يضطر أن يخطئ. ولا يوافق على الادعاء القائل، أن المسيحي لا يقدر إلا أن يخطئ».

فلمّا نتأمل في محبة ربنا الفائقة الممنوحة لنا، نبتدئ أن نفهم معنى صليبه لحياتنا الشخصية. وهكذا بعد اشتراكنا في شبه موته أي الصلب معه، يجوز لنا الإشتراك الفعلي أيضاً في ثمار قيامته، لنحصل على حياة جديدة أي حياته (رو 6: 4 و5).

قال الأستاذ كودات: «التقديس مفسر بالعبارة «الحياة مع المسيح» (رو 6: 8) لأنه يتوقف على امتلاك حياة القائم من بين الأموات المقدسة فعلاً».

وهكذا نُعطَى التقديس على أساس تبرير المسيح لنا بواسطة مجده فينا، كهبة خالصة فقط (1 كو 1: 30). وأين يبقى تعظيم أعمالنا الصالحة؟ إنه مستحيل (رو 3: 27 و أف 2: 9). هذا هو التقديس بالنعمة بالإيمان فقط.

قال القس هـ. برندنبرغ: «تنتهي تحت الصليب كل محاولة للخلاص بقوانا الشخصية، ولا يبقى لنا إلا نظرة الثقة نحو ذاك الذي يتألم حباً بنا ويموت لأجلنا».

وقال المؤلف: «لا يجوز لنا أن نحصر شعار الإصلاح «من مجرد نعمته» في التبرير فقط، بل يجب أن نطبقه تطبيقاً شاملاً، مبدئياً وعملياً، على التقديس أيضاً فلا يكفي إبعاد أعمال الناموس عن تعليم التبرير، ولا يجوز إبقاء فراغ للأعمال البشرية تحت الناموس للتقديس، لكي تبقى هنالك إمكانية لاستحقاق الإنسان المزعوم».

وقال الأستاذ بارت: «إن قضية الآداب المسيحية مساوية لقضية علم الإيمان وهي: المجد لله وحده!».

فلا يجوز إذاً أن نبني تقديسنا على جهودنا الخاصة، لأن الكتاب يقول: «لِذٰلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ عَلَى ٱلنِّعْمَةِ» (1 بط 1: 13). فبعد إتمام صلبنا مع يسوع بالإيمان، لا يبقى لنا إِلا أن ندع ذواتنا محفوظين من كل عثرة بقوة كفارة دم يسوع (2 تس 3: 3 و يهوذا 24 وغيرهم)، لأن «كُلُّ مَنْ يَثْبُتُ فِيهِ لاَ يُخْطِئُ» (1 يو 3: 6). فمن يجرؤ على إنكار إمكانية الثبات فيه، ويجعل الرب كاذباً؟! ومن يريد أن يتردد لحظة واحدة تجاه كلمة الرب هذه، ولا يعتقد أن الذي وعد سيظل أميناً بوعده!؟ فالرب نفسه يقول: «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ» (يو 15: 4). فهو بذلك يشترط شرطاً قاطعاً، ويقول أن الأثمار لا تجيء إِلا ببقاء تلاميذه فيه.

قال الأستاذ أ. شلتر: «يخرج المسيح من سلطة الخطية جميع الذين يعيشون في حضرته... ويلغي اضطرار السقوط في الخطية. وقد كانت في يسوع الطاعة، لإتمام مشيئة الله. وهذا يثبت حقيقة ما يصير بأولئك الذين يثبتون فيه».

والسبيل إلى ذلك هو اتّباع وصاياه «إن حفظتم وصاياي» وهذا يعني: إِن تتبعوا خطواتي (1 بط 2: 21) «تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ» (يو 15: 10). وبهذه الآية يقول لنا الرب بأجلى وضوح أنَّ بقاءَنا فيه واجب وممكن، لكي تكون شركتنا في حياته شركةً تامة مستمرة وأبدية، كما كانت حياته على الأرض متصلة بالآب. وبناءً عليه فإن الطاعة الكاملة، هي وجه الشبه. وإن قول يسوع هذا ليس نظرية خيالية غير قابلة للتطبيق في الحياة العملية المليئة بالتجارب والضيقات والمحن، بل هو حقيقة راهنة يمكن اختبارها «وَبِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ. مَنْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُهُ وَهُوَ لاَ يَحْفَظُ وَصَايَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ حَفِظَ كَلِمَتَهُ، فَحَقّاً فِي هٰذَا قَدْ تَكَمَّلَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ. بِهٰذَا (أي بالطاعة الكاملة والمحبة الخالصة) نَعْرِفُ أَنَّنَا فِيهِ » (1 يو 2: 3-5). فالكيان الجديد في المسيح إِذاً، ليس مجرد الإيمان، بل هو كيان ظاهر أيضاً (2 كو 3: 18 و 4: 10). ويصرّح يسوع نفسه، أن السلوك الجديد يظهر جلياً (مت 5: 16) وأن تلاميذه لا يُعرَفون إِلا بسيرتهم المقدسة، بواسطة المحبة الطاهرة المنسكبة في قلوبهم (رو 5: 5 و يو 13: 35). وعلى هذا النمط فقط، نستطيع أن نتمِّم دعوتنا لنكون ملح الأرض ونور العالم (مت 5: 13) بواسطة تجسّد جوهر الرب فينا (غل 4: 19)، وإِلا يعتبرنا الرب ملحاً فاسداً، لا قيمة له فنُطرَح خارجاً.

فمن يدّعي بأنه لا يخطئ، أو بالأحرى إنه في حالة عدم الخطية حتى أنه يعتبر الطلبة الخامسة في الصلاة الربانية غير ضرورية له، من يظن ذلك يُضلّ نفسه وليس الحق فيه (1 يو 1: 8). فلا علاقة للعهد الجديد بذهب الكمالية هذا. وإن المخلَّصين لا يُلبَسون طبيعة عدم الخطية، بل يبقى فيهم جسد الخطية بعد التجديد أيضاً. أي ذلك الجسد الذي كان ابن اللّه نفسه يحمل هيئته على الأرض (رو 8: 3). فعندما ينظر المسيحيون إلى أنفسهم، يرون أنهم نفس الخطاة كما كانوا قبلاً، لأن ما تجدد في حياتهم ليس منهم شخصياً، بل من المسيح فقط. ففيهم لا ولن يسكن شيء صالح (رو 6: 18).

يقول المؤلف: «إن الأصحاح السابع من رومية هو عرض للتقديس الشخصي المثالي، حيث نحاول التغلب على الخطية بقوتنا الذاتية، أي بدون المسيح وبدون الروح القدس، اللذين لا يرد ذكرهما هنا. وإن كفاحاً كهذا في سبيل التقديس غير موجود بأي انتصار».

وقال البروفسور ألتهاوس: «يصف هذا الأصحاح حالة الإنسان تحت الناموس، وذلك من وجهة نظر المتحرر من الناموس بالمسيح. وهذه النظرية في رومية أصحاح 7 يقبل بها حالياً كافة العلماء».

وقال القس فشر: «إن مثل الكرمة في يوحنا أصحاح 15، هو الجواب الصريح على السؤال حول العلاقة بين الأصحاحين 6 و8 من رومية «من يثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمر كثير». هذا هو مغزى (رومية 6 و8). أما الأصحاح السابع فهو البرهان لقوله «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. فيجب أن تُطرحوا خارجاً».

فعندما يتمَّيز المسيحيون عن محيطهم، وهذا يحق لهم ويجب عليهم، فهذا ليس بفضل ما لهم في ذاتهم ولا ما انجزوه بأنفسهم، بل بوجود يسوع وعمله وحده فيهم. فالإنسان القديم قد سُلِب حقه للحياة بصلبه مع المسيح، لكنه لم يضمحلّ تماماً ويحاول دائماً المطالبة بحقوقه الضائعة والفوز بها. ولذلك يجب علينا أن نعارضه يومياً من جديد، بالإعتماد على الصليب. ونحن لا نبلغ حالة عدم الخطية، التي لا تتعرض للسقوط، بل التحرر الممكن من الخطية بانتصار الرب على الصليب. وهذه الحرية محاطة بالأخطار، كما يقول الرسول: «إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1 كو 10: 12). وهكذا يكون للمقدَّسين سبب كافٍ لخضوعٍ دائم ووعي كبير، ليس بسبب معرفة الحقيقة المؤلمة، وهي أن السقوط في كل خطية ممكن. لذلك يجب عليهم دائماً وأبداً، أن يعتمدوا على النعمة. فالشرير سيحاول أن يؤذي مفديِّي الرب بسهامه الملتهبة، وأن يُسقِطهم. لكننا نستطيع بواسطة ترس الإيمان، أن نطفئ ليس فقط بعض سهامه أو أكثرها، بل «نطفئها جميعها» (أفسس 6: 16) وهذا يعني التغلب على جميع التجارب والمحن (رو 8: 37). مع العلم أن اللّه أجاز لنا هذا الفوز بالحقيقة، وهو مشيئته المقدسة لنا.

فهذا الهدف الأسمى، يجب أن لا ندعه يغيب عن أبصارنا بسبب نقائصنا أو من جراء الواقع المؤسف، الذي اختبرناه في حياتنا. ويجب أن لا نخفض مستوى الهدف على أساس اختباراتنا الشخصية، بالعكس يجب أن نوجه حياتنا، ونكيّفها كاملاً على هدف الرب هذا. ولكن سوف لا يتم لنا الإنتصار الدائم الموعودين به، إن كنا نستخدم الإيمان كملقط، لا كترس، كما هو الواقع في الغالب مع الأسف. فعوضاً عن أن ندفع التجارب عنا، ونتغلب عليها بترس الإيمان، نترك سهام العدو تصيبنا. وبعد ذلك نستخدم الإيمان كملقط فقط وننتزع به السهام من أجسامنا. وهذا يعني أن نطلب غفران خطايانا يوماً فيوماً. ولكن هذا ليس ما يعنيه بولس. أما متى فُزنا بالثقة المنتصرة، أي البقاء في المسيح، فحينئذ نتقدس. لأن اللّه يستطيع أن يقدس أخصّاءه تقديساً كاملاً. فلا يهمه إنتصار أولاده الظاهر فقط وإنما يهمه أولاً وآخراً شركة محبتهم وحياتهم الحقيقية معه وتحويل كيانهم إلى صورة المسيح. وإن اللّه يحفظ كيانهم كله روحاً ونفساً وجسداً، بلا لوم إلى مجيء ربنا العظيم (1 تس 5: 23).

قال الأستاذ ألتهاوس: «إن هدف التقديس هو أن نوجد بلا لوم عند مجيء يسوع المسيح، وأن نكون كلنا في درجة الصلاح والكمال والنضوج. وهذا الهدف يمكن الوصول إليه، لأن المسيحيين هم تحت سلطة روح الله. ولا نسمع عن بولس أن الخطية تهاجمهم حتماً، وتسطو عليهم. ولا يعرف بولس الخطية الإرثية، التي تضطر الناس أن يخطئوا بعد أن امتلكهم المسيح. فحكم الله على آدم، وجعل جميع ذريته خطاة (رو 5: 19). وهذا الحكم إزالة الحكم المضاد، الذي جعل المؤمنين «في المسيح» أبراراً. أي أبراراً حقيقين في الكيان والعمل محررين من لعنة اتصالهم بآدم» .

قال المصلح لوثر: «إن لم تظهر الأعمال، فذاك إثبات لعدم وجود الإيمان ولكن وجود فكر ميت ووهم خيالي يسمونه خطأ إيماناً (يع 3: 7). فالأعمال لازمة للخلاص (مت 7: 21-23 و25: 31-46 و1 كو 13) لكنها لا تنتج الخلاص، ولا تسبب الخلاص لأننا نحصل على الحياة الأبدية بالإيمان فقط (يو 3: 16). ولكن لأجل المرائين، نضطر أن نقول أن الأعمال الصالحة لازمة للخلاص. فبلا شك أن بر الإيمان يُعطى بدون الأعمال، ولكن لأجل الأعمال. إن الإيمان الذي لا يغير القلب ولا يوجد إنساناً جديداً ويُبقي القديم في أفكاره وسلوكه السابق مهلك لا محالة، والأفضل عدم و جوده بالتمام».

ومع ذلك، لا نغضّ الطرف عن حقيقة الخطية، التي يصف بها العهد الجديد بعض كنائس عصره (1 كو و رؤ 2 و 3) والتي نضطر أن نعترف بها بأنفسنا، حتى نبقى معتمدين كل أيام حياتنا على مغفرة الرب الدائمة (مت 6: 12) ونحمده على ما هو مكتوب في (1 يو 2: 1) «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ...» . وهكذا لا يقدر على أن يؤكد أن قبوله الخلاص أوصله إلى درجة القداسة، التي نصل إليها نظرياً أو عملياً. وإنما صار إلى ذلك بالكفارة التي أكملت على الصليب. وهنا يصدق قول تسنزِندورف: «إن كنت باستحقاق الرب أميناً جداً في خدمته، وانتصرت على الشرير إنتصاراً كاملاً، ولم أعد أخطئ حتى الموت، فإنني متى صعدت إليه لا أعود أفتكر بصلاحي وتقواي ولكن أقول: يرجع الخاطئ المسكين لنيل السعادة بالفداء فقط». ولا ننسى أيضاً قول المرنم: «اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي» (مز 19: 12).

كلما اقترب التلميذ من سيده، يزداد ارتعاده من شناعة فساده. وكلما اتبعنا الرب نزداد تعمقاً في معرفة خطايانا، لذلك لن ينتهي خضوعنا له. فإن حياة التلميذ، ليست من إيمان فحسب (رو 1: 17) بل من خضوع إلى خضوع أيضاً. وبخلاف ذلك ينبغي علينا أن لا ننسى أبداً هدف اللّه الرئيسي، وهو «أن يُثَبِّتَ قُلُوبَكُمْ بِلاَ لَوْمٍ فِي ٱلْقَدَاسَةِ، أَمَامَ ٱللّٰهِ أَبِينَا فِي مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِ قِدِّيسِيهِ» (1 تس 3: 13). ويتبين من ذلك أن هذه الآية لا تناقض ما قلناه سابقاً بل تتعلق به علاقة روحية حية عميقة. ففي يوم ظهوره، رتَّب المسيح لكنيسته «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أف 5: 27). ولذلك دعانا «وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتاً لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ ٱللّٰهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى» (عب 12: 28). وبذلك نكون قد وصلنا إلى بداية الحديث، وهو أن الرب وضع أصحاب سلطانه في كنيسته، لاعداد قديسيه «لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أف 4: 12 - 13).

وهكذا ينبغي على كل الأعضاء، أن ينموا معاً فيه - أي الرأس - إلى وحدة روحية حية غير مفككة في شركة محبته وحياته (يو 17: 21 و أف 4: 3)، وبذلك يمكنهم أن يبنوا بعضهم بعضاً لكي يتم نمو الجسد في المحبة (أف 4: 12)، لأن المحبة هي رباط الكمال (كو 3: 14). وكل هذا يتلخص في أن يلتقي العريس السماوي عند ظهوره المجيد بجماعة مقدسة بمحبته، ويرى فيها صورته الخاصة (رو 8: 29 و 2 كو 3: 18 و غل 4: 19) ويجد فيها جماعة مستعدة لأن تستقبله (مت 25: 10) ومتأهبة لأن ترتفع إلى عرشه للسيادة معه (رؤ 3: 21).

فإن خدام الكلمة الحقيقيين، يعرفون أنهم أيضاً سعاة ينادون بمجيء الملك، بإعلان قدوم ذلك اليوم العظيم، الذي لا يمكن تعيين وقته، والذي مع ذلك يمكن حدوثه في أي وقت، كما هو مكتوب: «قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ ٱلْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ... «هَلِّلُويَا! فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ ٱلْمَجْدَ، لأَنَّ عُرْسَ ٱلْحَمَلِ قَدْ جَاءَ» (رؤ 11: 15 و19: 6 و7).

فلم يكن من الضروري أن نُشير إلى أن مجيء الرب، لا يجلب حتماً إنقضاء العالم كما يظن الكثيرون، ولا الدينونة الأخيرة. فإن ليسوع قصداً آخر بمجيئه الثاني، وهو أولاً قبول منتظري قدومه واجتماعهم إليه (2 تس 2: 1) وبعبارة أخرى يُختَطفون لملاقاته في الهواء (1 تس 4: 16)، وثانياً تأسيس مملكة السلام غير المحدودة على الأرض القديمة، بينما يقيّد الشيطان في الهوة وبينما يرث الودعاء الأرض (مت 5: 5) «سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لِلّٰهِ وَٱلْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَةٍ» (رؤ 20: 1 - 6).

بما أن هذه كلها ستكون، يجب على سفراء الملك أن يخبروا رفقاءَهم عن هذا الحدَث العظيم المقبل، حينما تنشقّ السحب ويبرز من السموات يسوع الناصري، الذي يعتبره الكثيرون ميتاً. هذا يظهر كملك الملوك في مجد أبيه وجلاله. فيلزم إذاً تحذير الغافلين قبل فوات الأوان، لكي لا يصيبهم ما أصاب العالم في أيام نوح، الذي قيل عنه «كَانُوا فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي قَبْلَ ٱلطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَّوَجُونَ وَيُزَّوِجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ» (مت 24: 38 و 39).

قال الأستاذ قري: «إن علمنا بمجيء الديان يهيب بنا نحن سعاته أن نحذر العالم بقرب مجيئه».

والآن أيضاً، لا يعلم الكثيرون الوقت الذي فيه تدق ساعة اللّه. وخاصة يقف المسيحيون مع الأسف موقف المترفع المطمئن، الذي يقول: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ» (مت 24: 48). لذلك سيسعى حرّاس أسوار صهيون الأمناء قبل كل شيء، إلى تحذير الجميع وتنبيههم إلى أنهم، رغم إخلاصهم للكنيسة هم في خطر البقاء على الأرض، إن كانوا غير مستعدين، حينما يظهر يسوع في السحب فجأة وبدون انتظار «ويخطف العذارى الحكيمات» عند صوت بوق اللّه (متى 24: 40) ليتمتعن في العرس السماوي، لكونهن مستعدات (1 تس 5: 6) «ومنتظرات ظهوره من السماوات، بكل محبة واشتياق» (2 تيمو 4: 8 وفيلبي 3: 20) فمن له أذنان للسمع، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. وليسمع أيضاً صوت نصف الليل: «هُوَذَا ٱلْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَٱخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ» (مت 25: 6).

خامساً: نتائج خدمتهم

(1) يبيّن الإله الحي شرعية خدامه بمظاهر قوة الروح القدس.

بالاستناد إلى شهادة الكتاب المقدس، نستطيع التأكيد بأنه حيثما يكرز سفراء اللّه الحي المفوضون بالإنجيل، فهناك يكون اللّه موجوداً بقوة الروح القدس. وأهم برهان لإثبات هذه الحقيقة هو الآية الموجودة في نهاية إنجيل مرقس: «أَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَٱلرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ ٱلْكَلاَمَ بِٱلآيَاتِ ٱلتَّابِعَةِ» (مرقس 16: 20). وهذه هي العلامة الفارقة للمفوَّضين من قِبَل الذي قام من بين الأموات، إن الرب المرتفع نفسه يعمل فيهم ومعهم ويُثبت صدق شهادتهم بالقوات الإلهية، التي تجري أمام عيون الحاضرين: المرضى يبرأون، والشياطين يُطردون (أع 5: 16 و 8: 7 ولو 10: 17)، والمقيّدون بسلاسل الخطايا، يتحررون، وتُدَكّ جميع حصون الشيطان (2 كو 10: 4 و لو 10: 19)، وقبل كل شيء يحل الروح القدس على سامعي الكلمة (أع 10: 44).

وهكذا يكون السفراء أدوات في يد ملكهم العامل الحقيقي الوحيد. فهو الذي يلمس المرضى (يو 5: 15)، ويحلّ المقيّدين (لو 4: 18 و أش 42: 7)، وهو الذي يطرح الشيطانُ أمامه أسلحتَه (كو 2: 15)، وهو أيضاً الذي يعمّد بالروح القدس والنار (مت 3: 11). وإننا نجد خلاصة ما قيل بأكثر وضوح في الرسالة إلى العبرانيين «فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هٰذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ٱبْتَدَأَ ٱلرَّبُّ بِٱلتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِداً ٱللّٰهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُّوَاتٍ مُتَنَّوِعَةٍ وَمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ» (عب 2: 3 و4)، وقابل أيضاً (رو 15: 18 و أع 14: 3).

قال الأستاذ كارل بارت: «يتوقف نجاح الجرأة في الكلام المسيحي على إيماننا وطاعتنا - أي على نعمة الروح القدس».

وقال القس دننبوم: «إن ألف كلمة بليغة قد لا تصيب قلباً واحداً، وكلمة واحدة تخرج بسلطان هي مجموعة من السهام الحادة التي تُصيب ألف ضمير مرة واحدة».

وهكذا تحصل بواسطة قيام شهود الرب الأقوياء في الروح تغييرات وتحركات حاسمة في العالم المنظور وغير المنظور. ويتبع ذلك تنقلات لها تأثيرها العظيم في مناصب الناس والملائكة والشياطين. ولا ننس أن الأبالسة حسب الكتاب المقدس، يلاحظون في الحال إن كان لمهاجمي حصون الشيطان باسم يسوع سلطان إلهي وتفويض لفعل ذلك أم لا. وإن لم يكن لهم ذلك، فمهما استخدموا إسم يسوع بأفواههم لا تتراجع أرواح الشر عن مواقعها شبراً واحداً. ولا يطلقون سراح حتى نفس واحدة، بل العكس بالعكس (أع 19: 13 - 16).

يقول المؤلف: «ما أكثر الناس في المدن والأرياف، الذين وقعوا بدون وعي تحت سلطة القوات الشيطانية بسبب الاستعانة بالشيطان، عن طريق الرقي وتحريك المائدة ومناجاة الأرواح واستشارة الموتى والعرافة (وقراءة فنجان القهوة) وتوزيع ورق اللعب وكشف أسرار النجوم وغيرها (تثنية 18: 10). هذه الوسائل الشيطانية، تستعبدهم جسداً ونفساً. وبالرغم من اشتياقهم الحار إلى التحرر منها، يقف ألوف الوعاظ ويربحوا النفوس ويطلقوها باسم من هو أقوى من القوى الشيطانة. ليتنا نستطيع سماع أرواح الشر في جهنم. وهم يضحكون باستهزاء على كلامنا المتزن والتقوى الخارج من أفواهنا، بلا قوة ولا تأثير. يهتفون واثقين بقوتهم، وعدم قدرتنا على انتشال نفس واحدة من قبضتهم. ليتنا نسمع، وأخيراً نجفل من دوام ضربنا في الهواء بلا فائدة، ونحاضر في الجهاد حتى ننتقل من حالة فشلنا وطمأنينتنا الباطلة إلى السلطان الموعودين به».

(2) المسيح الحاضر يتكلم هو نفسه بأفواه الذين فوضهم، حتى إن الحضور لا يسمعونهم بقدر ما يسمعونه هو.

وهكذا يتمّ الوعد العظيم «من يسمعكم يسمعني» (لو 10: 16) ففي الكرازة المعطاة بالتفويض الروحي، يسمع الذين من الحق صوت الراعي الصالح ويتحققون من مصدره الإلهي (يو 7: 17 و 10: 27 و 18: 37 و 2 كو 13: 3 و أرميا 1: 9) وذلك يتوقف على ما يلي:

(3) إنّ ضمائر السامعين تتبكت في أعماقها.

يخترق سيف الروح القلوب (1 عب 2: 37) فتظهر كلمة اللّه أنها «حية وفعَّالة، وأمضى من كل سيف ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميّزة أفكار القلب ونيَّاته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعينَي ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 12 - 13). ولا يعود السامعون يرون المتكلم، بل بالحري يجدون أنفسهم قد انتقلوا إلى حضور اللّه الحي القدوس مباشرة. وفي نوره الساطع، يتحققون هلاكهم الأبدي المطلق (يو 16: 8) وتنكسر مقاومتهم وتزول، فيستسلمون ويخرّون ساجدين (1 كو 14: 25 و 1 عب 16: 29). وهكذا يفتح اللّه القلوب (أع 16: 14)، ويجتذب المستقيمين بقوة محبته إلى شركة إبنه (يو 6: 44 و 65)، ويخلق العزم على تسليم الإرادة. وبالإختصار يمنحهم العودة إلى الحياة (أع 11: 18 و 21 و 5: 31 و أرميا 23: 22).

قال الأسقف برون: «إن كانت غاية خدمتنا الجوهرية هي خلاص النفوس، فإننا نفشل في عملنا إن لم يتحقق هذا الخلاص. وهذا العار لا يمحوه المدح، الذي تستحقه خدمتنا في نواح أخرى».

(4) إفتراق الأرواح.

عندما تُقدّم رسالة يسوع ممسوحة بالروح القدس، تخترق نفوس السامعين والمتكلمين. ومع ذلك فإن تأثيرها يختلف في الواحد عن الآخر، وقد يكون معاكساً له. ولا شك أَن الجميع يُنخَسون على السواء في قلوبهم. أما القرار الذي يتخذه الإنسان في هذا الشأن، فإنه يختلف باختلاف الناس. فبينما يتبع البعض صوت ضمائرهم، ويصرّحون في رعدة مقدسة «ماذا ينبغي أن نفعل لكي نخلُص» (لو 3: 10 و 1 عب 2: 37 و 16: 30 و 22: 10) يُغلق الآخرون قلوبَهم معاندين، ويعبّرون عن ثورتهم قائلين: «إِنَّ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ» (يو 6: 60 و 66).

وللأسف الشديد فإن الأتقياء ممثلي الهيئات الكنسية، غالباً ما يعترضون بأكثر شدة على الكرازة المندفعة بقوة الروح، لأنهم يُوقَظون بها من سباتهم المعتاد واطمئنانهم، وتبدو ظواهرُ كيانهم غير المقدس. على عكس دموع الخطاة التائبين المخلّصين وفرحهم وتهليلهم، الذي لا يوافقون عليه. وهكذا حدثت وتحدث نفس الأمور في تاريخ الكنيسة، منذ أيام إستفانوس وإلى أيامنا الحاضرة، حيثما يتكلم اللّه بواسطة مسيحه أو بواسطة أصحاب سلطانه: البعض يخضعون ويطيعون الحق، والآخرون يثورون وفي مقدمتهم الأشقياء وعلماء الدين «الذين يُصِرُّون بأسنانهم عليهم ويسدّون آذانهم ويلتقطون الحجارة». (أعمال 5: 23 - 7: 54 و 57 و 14 - 4 و 17: 32 و 28: 24 و يو 8: 59 و 10: 31).

وهذا يعني إن الذين يسلّمون أنفسهم بدون قيد أو شرط لإبن اللّه، يحصلون في الحال على الحياة الأبدية. أما الآخرون، وإن لم يكن جميعهم أشراراً، بل في الغالب أتقياء، الذين يؤمنون بإبن اللّه ويصلّون إليه، ولكنهم في النهاية يرفضون طاعته، هؤلاء لا يرون الحياة الأبدية، بل يمكث عليهم غضب اللّه (يو 3: 36) وهم يعتبرون خبر المسيح المصلوب جهالة أو عثرة، وهكذا يندفعون إلى هلاكهم. أما الأولون، فالكرازة تهبهم قوة الخلاص (1 كو 1: 18).

والبعض الذين يزعمون بأنهم أصحاب الوعي، لا يريدون أن يعرفوا شيئاً عن الرجوع العملي، أو عن الميلاد الثاني، أو عن معمودية الروح، أو عن مواهب النعمة، أو عن قيادة الروح، أو عن التقديس التام، أو عن الإختطاف وهلَّم جرَّا، فيكونون حسب تصريحات الكتاب الواضحة في خطر إخطاء هدف ملكوت اللّه (عب 2: 1 و يو 3: 3 و 5 و مت 18: 3 و رو 2: 5 و 6 و 13 و عب 12: 14 و مت 25: 10 - 12). أما الأولون فيقبلون كلمة ربهم كأطفال، ويطيعونه بعزم، ويثقون به أنه قادر أن يعمل ما وعد به. أي «أن يخلّص خلاصاً كاملاً، ويقدِّس إلى التمام» ويحفظهم ويكملهم إلى يوم مجيئه (رو 4: 21 و عب 7: 25 و 1 تس 5: 23 وفيلبي 1: 6)، ويختبرون الفداء الكامل في حياتهم اليومية. ولذلك يستطيعون أن يرنموا بفرح، عن الإنتصار في وسط البؤس والفوضى وعبودية الخطية في العالم الشرير والعالم التَّقَوِيّ (مز 118: 15).

وهكذا يكون يسوع حجر الزاوية المختار والكريم، الذي لا يُخيّب أمل المتكلين عليه. وبعكس ذلك، يكون حجر العثرة وحجر الصدمة للذين لا يطيعون الكلمة المكتوبة عنه: «كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض» (1 بط 2: 6 - 8 و لو 20: 18). وبذلك يصبح سفراؤه «لِهٰؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ» (2 كو 2: 16). «شكراً للّه الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان» (2 كو 2: 14).

الخاتمة: «بنيان النفوس»

وصلنا إلى نهاية بحثنا، وقد اتضح لنا عظمة السلطان وبهاؤه، وفي نفس الوقت عظم المسؤولية الموضوعة على عاتق أصحاب سلطان المسيح. وربما اتضح الواحد أو الآخر، إنه ينقصه ختم الدعوة الإلهية لهذه الخدمة. ولكن كل من عزم حقاً على تسليم نفسه لرأس الكنيسة يسوع تسليماً كاملاً أي بكليته وجملته وعزمه الكامل، لا حاجة له أن ييأس. وليس المقصود بما قيل أن يوضَع علينا نير الأحكام والفرائض. فالمطلوب هو أن نرتعد، لا نهرب مذعورين. فإنه مكتوب «لأَنَّ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ ٱلَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ» (أخبار الأيام الثاني 16: 9). إن اللّه يطلب أناساً يعبدونه بالروح والحق (يو 4: 23) ويضعون أنفسهم تحت تصرفه، للعمل في كرمه بكل إخلاص. ولا يزال الثالوث الأقدس يسأل قائلاً: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا» (إِشعياء 6: 8).

قال الأستاذ سبيمن: «يسيطر الأذكياء على كنيستنا. وتغيظني عدم رحمة المتعلمين نحو الجهلاء، وهذه هي خسارة عظيمة للكنيسة. وإن الفرض الذي تفرضه الكنيسة على سفراء يسوع، بأن يتعلموا دروساً علمية، ليصيروا أصحاب شهادات جامعية لهو من بقايا شريعة العهد القديم، ويخالف كلمات يسوع بالتمام الذي شكر الآب لأنه أعلنها للبسطاء» (مت 11: 25 و1كو 1: 19-21 و2: 17-31).

وهنالك بعض الذين يتأكدون من حقيقة دعوتهم، لكنهم ربما يحزنون عندما يشعرون بأن تجهيزهم للخدمة غير كامل. ولهؤلاء أيضاً أستطيع أن أقول: اطمئنوا! فما دام التجهيز اللازم للخدمة لا يتوقف إلا على سلطان روح المحبة، فلا يمنع اللّه مواهبه هذه عن الذين قدَّموا ذواتهم كآنية قابلة للتفريغ من كل أنانيتهم بنعمة اللّه وتأديبه، ومستعدة للامتلاء بالقوة من الأعالي. فالرب نفسه قد وعد: «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ» (لو 11: 13 و أع 5: 32)، وهذا يتم على أساس الطاعة.

أفلا يجب أن نتشجع ونثق به، لعلمنا كيف أقام اللّه شهوداً عديدين وأبطالاً متنوعين في بداية هذا القرن في جميع أنحاء العالم وأيضاً في بلادنا، حتى ذكرتنا أعمالهم بأخبار أعمال الرسل الأولين. وبذلك قد برهن اللّه على ضعف إيمان جنسنا، وأثبت بأجلى وضوح، خصوصاً لنا نحن اللاهوتيين، قليلي الإيمان، المعترضين في كثير من الأحيان على كلمته الثابتة، شكوكنا وتحديدنا وشروطنا وحججنا. وأكد أنه لا يحدد وعداً واحداً من مواعيده بزمان، وإنه لم يسحب منها وعداً واحداً، بل بالحري يقصدها لنا فعلاً وحقاً. وهو مستعد في وقتنا الحاضر أن ينجزها، حالما تتوفر لدينا الشروط والمؤهلات لذلك. وهذا يعني كما عرفنا وتأكدنا من حقيقة افتقارنا واشتياقنا الملتهب إلى الإمتلاء باللّه وعزمنا الثابت على أن نطيع الطاعة الكاملة في محبة المسيح. وهكذا يجب أن لا ننظر إلى ضعفنا ولا إلى عجز مسيحية أيامنا، بل إلى أمانة إلهنا الذي لا يزال اليوم إسمه يهوه «الدائم الأزلي المستعد لإنجاز كل ما وعد به». فإن اللّه ينتظر منا أن نقبل كلمته بكل جد، كما يعيّنها هو وأن نعبّر ببساطة الأطفال على إنجازها.

قال الأستاذ كوبرلي: «عرف بولس أن له وللكنيسة «امتلاء إلى كل ملء الله» (أف 3: 19)، ويتجاسر أن يتكلم عن التجلي كحدث حاضر في شبه الله، من مجد إلى مجد كما من الرب الذي هو الروح» (2 كو 3: 18).

وقال الأسقف نيوملر: «ليس لنا أن نسأل كم نثق بأنفسنا، بل إننا نسأل إن كنا نثق بكلمة الله، إنها كلمة الله فعلاً وتعمل كما تقول».

وبهذا لا نقدر أن نرفض الإستماع إلى قول الرب المقدس، الذي لا يقبل الجدل، الموجَّه إلى الرعاة غير المدعوين في العهدين القديم والجديد وهو: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ ٱلدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ» (متى 23: 13). وفي (حزقيال 34: 10 - 19) قال السيد الرب: «هَئَنَذَا عَلَى ٱلرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ، وَأَكُفُّهُمْ عَنْ رَعْيِ ٱلْغَنَمِ... هَئَنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا... وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ ٱلأَمَاكِنِ ٱلَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا» قابل (أرميا 23: 21 - 25 و أشعياء 3: 14 و8: 8 -13 وإرميا 7: 8 و عاموس 5: 21 و أشعياء 1: 11 - 15 وأرميا 14: 13 و أرميا 5: 22 و 29).

قال الأستاذ هيم: «يمكن أن تكون خدمتنا لله رجساً، حتى لا يقدر أن يتحملها، ولا أن يتحمل صلاتنا، إن كانت حياتنا في البيت أو في المشغل مخالفة لما نعمله في الكنيسة. يستطيع الله أن يقبل خاطئاً مسكيناً متى جاء إليه بإخلاص، أما الكذاب فلا يستطيع أن يقبله... وفي نظر الله نكون جميعنا كذابين إن كنا هنا نضم أيدينا ونصلي، وفي بيوتنا نعمل عكس ذلك».

وقال القس براون رئيس الرعاة: «إن تجديد الرعاة المتوظفين صعب جداً... وحالما يبدأ أحد أن يستخدم الشيء المقدس استخداماً عادياً وطائشاً ومهملاً، تبدأ فيه دينونة التقسي سراً».

أما الشروط التي لا بد منها لتجديد عمل اللّه في بلادنا، فهي خضوع كنيسة اللّه العميق الخالص لأجل الذنب العظيم المسبّب عن فتورنا وكسلنا وعدم إيماننا وعصياننا وعجرفتنا وإكتفائنا. ولا شك في أن اللّه سيقيم لنا في أيامنا رجالاً يُنهِضون مسيحيتنا «اللاودكية» بالسلطان النبوي، ويدعونها إلى الخضوع والرجوع لأن كلمة الرب المرتفع تعني «ٱذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ» (رؤ 2: 3 - 5). ولذلك يلزم أن ينزلنا الخضوع المطلوب منا إلى الحضيض، الذي سقطنا إليه من علو معرفة اللّه في العهد الجديد وشركة المسيح وملء الروح. ولكن حتى الآن، لا نرى أثراً لهذا الخضوع. لذلك لا يستطيع اللّه أن يهبنا حرارة النهوض المطلوبة في بلادنا.

قال رئيس مجلس الأساقفة القس ديباليوس: «إن نار الإيمان، التي نحن بحاجة ماسة إليها لم تتقد عندنا بعد. وهذا افتقار لا يعوض عنه التدقيق في الوعظ أو تحديد الطقس الذي يهتم به الكثيرون في أيامنا الحاضرة».

وقال رئيس مجلس الاساقفة القس همبرغ: «كل بركة تبدأ بالتواضع. وإن ما لدينا من معرفة الله، كاف لتبشير العالم بأسره فليس افتقارنا إلى المعرفة، بل إلى قوة الروح القدس وحضوره الفعال».

وهكذا كتب إِليَّ مؤخَّراً أحد المؤمنين يقول: «كل جسد كعشب، وكل كياننا ومعرفتنا واستطاعتنا هي رجس في عيني الرب، وهذه يجب أن تموت». فروحه يهبّ عليها، وكلمته تحرقها، وهو يريد أن يبعد أزهار الغش وأثمار السم من بستانه. ويلٌ لنا، لأننا قد أخطأنا ضد اللّه وكلمته. نحن نقرأها ونتكلم عنها، لكننا لا نحفظها، ولا نريد أن نخضع للحق، بل نفضّل البقاء في أفكارنا وظنوننا، ونحن نعرف ما هو مكتوب: «لاَ بِٱلْقُدْرَةِ وَلاَ بِٱلْقُّوَةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (زكريا 4: 6). ولكن مَن منا يتأنى على روحه، بحيث لا يعمل شيئاً بدونه؟ أليس روحه روح العبادة؟ أين هي صلواتنا بالروح؟ أين هو السجود بالحق؟ ألسنا جيلاً غير تائب وشعباً عاصياً نحن المدعوين باسمه؟ نحن الذين نكرز بإنجيله، وندعو أنفسنا سفراء عن المسيح؟ وأي نوع من السفراء نحن؟ ومن هو الذي أرسلنا؟ هل سألنا الملك وهل قبلنا التفويض منه فعلاً؟ وهل أَحرقت نارُه شفاهَنا (إشعياء 6: 5 - 7)؟ وهل سمحنا بأن يطهر روحُه قلوبَنا ويجددها (حزقيال 36: 26)؟ فكيف يباركنا وكيف يُحيينا إن كنا نحن الوعاظ والمبشرين تحت لعنة نجاستنا وعصياننا وعدم توبتنا واطمئناننا الكاذب وادعائنا الباطل؟ ليتنا عرفنا ما هو لسلامنا. نحن نحتقر تلاميذ الرب الحقيقيين، ونظن السوء في خدامه وندينهم. ألا يجب بالأحرى، أن ندين أنفسنا ونتوب ونُخضع ذواتنا، لكي يحكمنا روح اللّه؟ ألا يجب أن نطلب روح الحق والتحقيق، ليرينا خطايانا ودينونته؟

عندئذ فقط، يستطيع الرب أن يعيننا. ويعود ويفتح أبواب السماء، ليسكب علينا بركاته الغزيرة، فينفتح الطريق المؤدي إلى الإنتعاش وإلى تلك النهضة المسيحية، التي نتوق إليها ونحتاجها، فيفسح المكان لإِعداد كنيسة الأبكار وتكميلها ليومها العظيم.

قال رئيس الرعاة القس كوغل: «كما الرب في الزمان الغابر في الكنيسة، هكذا يريد أن يلتقي بها مرة أخرى. انتظر الرب واصبر له - ها قد ارتعدت السماء وكأنها تريد أن تمطر».

ونريد الآن أن نلفت أنظارنا إلى أنها الساعة الأخيرة وفرصة النعمة الأخيرة، أجل إنها الساعة الأخيرة (1 يو 2: 18 وعب 10: 37) الحصاد كثير! ليت هنالك فعلة أكثر، يقبلون الاستعداد لهذه الخدمة! ليت هنالك كهنة أكثر يقومون، وتقشعر أبدانهم بسبب ضيق الناس واحتياج الأخوة! وليت كهنة يقفون بين الله والناس الضالين المحملين بالذنوب والخطايا - الرب ينادي! من يأتي؟

وعلى هذا تصدق الآية: «وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ٱلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ» (مت 9: 36 - 38). وقال الرب أيضاً: «أُعْطِيكُمْ رُعَاةً حَسَبَ قَلْبِي فَيَرْعُونَكُمْ بِٱلْمَعْرِفَةِ وَٱلْفَهْمِ» (إرميا 3: 15) ويقول أيضاً «هَئَنَذَا صَانِعٌ أَمْراً جَدِيداً. ٱلآنَ يَنْبُتُ. أَلاَ تَعْرِفُونَهُ؟... مِنَ ٱلْيَوْمِ أَنَا هُوَ، وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِي. أَفْعَلُ، وَمَنْ يَرُدُّ؟» (إشعياء 43: 19 و13 وقابل إشعياء 26: 6 - 13 و 33: 14 و أرميا 3: 21 و حزقيال 37: 26).

«وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ ٱلْقُّوَةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا... وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلٱبْتِهَاجِ... لَهُ ٱلْمَجْدُ فِي ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ» (أفسس 3: 20 ويهوذا 24 وأفسس 3: 21).

مسابقة كتاب سفراء المسيح

عزيزي القارئ اننا نرحب باستلام أجوبتك على الأسئلة التالية. وجائزة لاجتهادك سنرسل لك كتابا قيما من كتبنا. الرجاء كتابة اسمك وعنوانك بكل وضوح.

  1. متى يستطيع الإنسان أن يكون خادما لله. قدم نموذجا من الإنجيل لذلك.

  2. ما هو السلطان الذي يتوقف عليه نجاح خادم الله؟

  3. ما معنى أن «يدفن الإنسان» أنانيته؟

  4. ما هي الروح الحقيقية لتأدية الشهادة للمسيح؟

  5. كيف ينال خادم المسيح برهان الروح والقوة؟

  6. ما هي أهم موهبة تنقص الكنيسة اليوم؟

  7. ما هي الخدمة التي يقوم بها خادم الله في المقدس؟

  8. ما هي الخدمات الثلاث التي يقوم بها خادم الله بين الناس؟

  9. ما هي اهمية الآيات والعجائب في الشهادة للمسيح؟

  10. اذكر أهداف خدمة الله، بحسب أولوياتها.

  11. كيف يخلص الإنسان؟

  12. ما هي فائدة الإعتراف بالخطية أمام الأخ، وليس فقط أمام الله؟

  13. كيف نحصل على التقديس؟

  14. ما هو هدف مجيء المسيح ثانية لأرضنا؟

  15. كيف تحل النفوس التي قيدتها قوى الشيطان؟

  16. ما الذي يسبب تبكيت أعماق ضمائر السامعين؟

  17. على أي شيء يتوقف التجهيز الكامل لخدمة الرب؟

  18. متى لا يقدر الله أن يتحمل صلاتنا ولا خدمتنا؟

  19. جاوب بالنيابة عن نفسك على الأسئلة الموجودة في النصف الثاني من صفحة 97 بهذا الكتاب.

  20. اكتب ما جاء في أفسس 3: 20 و21 ورسالة يهوذا آية 24.

أرسل أجوبتك الى العنوان التالي:


Call of Hope
 P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany