العودة الى الصفحة السابقة
لزوم كفارة المسيح

لزوم كفارة المسيح

القسم الأول من كتاب فلسفة الغفران في المسيحية

عوض سمعان


Bibliography

لزوم كفارة المسيح. عوض سمعان. Copyright © 2006 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى. 1986. SPB 4350ARA. English title: The Necessity of the Atonement of Christ. German title: Die Notwendigkeit der Sühne Christi. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

لزوم كفارة المسيح

القسم الأول من كتاب فلسفة الغفران في المسيحية

هذا الكتاب...

إن أعظم أمنية يتطلع إليها المؤمنون بالله في كل دين من الأديان، هي الحصول على الغفران. لذلك نرى داود النبي يرنم: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُلٍ لا يَحْسِبُ لَهُ ٱلَّربُّ خَطِيَّةً» (مزمور 32: 1 ، 2).

لكن مما يُؤسف له أن معظم هؤلاء المؤمنين يختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً من جهة السبيل إلى الغفران. فيقول فريق منهم إنه يكون بالصلاة والصوم، ويقول فريق آخر إنه يكون بالتوبة والصَّدقة، ويقول فريق غيرهم إنه يكون بشفاعة القديسين والصالحين، أو بهذه الوسائل مجتمعة. ومما زاد الموقف غموضاً وتعقيداً لديهم، أن الذين يقومون منهم بهذه الأعمال بكل دقة وإخلاص، لا يثقون أنهم حصلوا على الغفران الذي ينشدونه. فإذا سألنا واحداً منهم: هل يثق أن الله غفر كل خطاياه؟ أجابنا: إن الثقة بذلك هي من باب الرجم بالغيب، لكنه يقوم بالأعمال المذكورة، عسى أن يغفر الله له.

والآن لنسأل أنفسنا سؤالين: (ا) هل يمكن أن يضع الله أكثر من سبيل واحد للغفران؟ (2) هل يليق بكماله أن يتركنا طوال وجودنا على الأرض في شك من جهة الصفح عن خطايانا؟ والإجابة عن هذين السؤالين هي طبعاً: كلا وكلا.

ولما كان الأمر كذلك، درس الكاتب السّبُل السابق ذكرها في ما استطاع الحصول عليه من كتب القائلين بها، كما درس السبيل الذي أعلن الكتاب المقدس أنه يضمن للسالكين فيه الحصول على الغفران التام منذ الآن، فأسفرت الدراسة عن إصدار هذا الكتاب. وهو إذ يضعه بين يدي الله، يرجو أن يرافقه بنعمته لأجل مجده وخير الراغبين في غفرانه.

عوض سمعان

الباب الأول: الخطية

1 - ما هي الخطية؟

اختلف الناس في أمر الخطية لاختلاف أفكارهم وميولهم، فلكي نتحقق من ماهيتها، دعنا نفكر على سبيل المثال في العبارة المألوفة «أخطأ الهدف» ومعناها: «لم يُصِبْ الهدف أو انحرف عنه» - فمن هذه العبارة يتَّضح لنا أن الخطية ليست هي الشر الشنيع فحسب كما يظن بعض الناس، بل إنها أيضاً الانحراف عن حق الله بوصفه القاعدة التي وضعها لسلوكنا في العالم الحاضر. ولما كان حق الله ينهى عن الشر ويأمر بالخير، لذلك فالخطية لا تكون بالانحراف إلى الشر فحسب، بل وبالانحراف عن الخير أيضاً.

أما قول السفسطائيين «ليس هناك خير أو شر، وإن ما يراه الإِنسان خيراً فهو خير، وإن ما يراه شراً فهو شر»، فلا نصيب له من الصواب. لأن ما يراه إنسانٌ شراً قد يراه آخر خيراً، والشيء الواحد لا يكون شراً وخيراً، وإلا لما كان هناك مقياس للخلاق أو قانون لمعاقبة المجرمين، ولسادت الفوضى كل العالم تبعاً لذلك.. نعم إن الصدق قد يعود علينا أحياناً في العالم الحاضر بالخسارة، وإن الكذب قد يعود علينا فيه بالربح، لكن مع ذلك يظل الصدق خيراً والكذب شراً، لأن الخير لا يُقاس بما نحصل عليه من ربح، والشر لا يُقاس بما نتعرض له من خسارة، إذ أن الخير والشر لا يُقاسان بالنسبة إلى الكمال، والكمال لا شأن له بالربح أو الخسارة - ولقد صدق «فولتير» في قوله: «الواجب واحد في كل مكان. سواء على أعتاب عرش الله، أو في قرار الهوة السحقة». ومن ثمَّ فالحكم على تصرفاتنا لا يكون لشعورنا أو ضمائرنا، كما يقول بعض الناس، بل لكلمة الله دون سواها، لأن هذه ثابتة راسخة إلى الأبد.

1 - الانحراف إلى الشر:

الله روح ولا نعني أنه روح مثل الأرواح، بل نعني أنه منزَّه عن الجسدانية، ولا يُدرَك بالحواس البشرية. والروح لا يتعامل إلا مع عنصر روحي يتناسب معه، إذاً فعلاقة الله بنا وعلاقتنا به لا تكون عن طريق أجسادنا بل عن طريق أرواحنا. فإذا انحرفت روح إنسانٍ منا عن قداسة الله، يكون قد أخطأ إليه حتى إذا لم يظهر هذا الانحراف في عمل خارجي. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن من يشتهي مال غيره، يكون في الواقع لصاً، إذ أن شخصاً مثله لا يمنعه من السرقة كراهيته لها، بل خوفه من عقوبة القانون أو احتقار الناس له. فإذا وثق أنه لا يتعرض لهذا أو ذاك، لما تردد في سرقة ما اشتهاه، لذلك قال الوحي: «لا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ... وَلا شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِكَ» (خروج 20: 17).

ولما كانت الخطية هي مجرد الانحراف الباطني إلى الشر كما ذكرنا، قال الوحي أيضاً: «فِكْرُ ٱلْحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ» (أمثال 24: 9). و «كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَجسٍ» (1 يوحنا 3: 15). و «كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (متى 5: 28). و «مَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِب نَارِ جَهَنَّمَ» (متى 5: 22). و «كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ» (متى 12: 36). كما نهانا عن الكذب والسُّكر والغضب، والمكر والرياء والحسد، والربا والسحر والطمع (أفسس 4: 25 - 31 ، 5: 4 ، 5 و1 بطرس 2: 1 ومزمور 15: 5 ورؤيا 21: 8). حتى نكون قديسين كما أنه تعالى قدوس (1 بطرس 1: 15 و16) ، إذ بدون القداسة، أو بالحري التنزُّه عن النقائص، لن يرى أحد الرب (عبرانيين 12: 14).

وقد عرف الأنبياء شر الخطايا الباطنية، ولذلك صرخ مرة أحدهم لله قائلاً: «مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي» (مزمور 19: 12). كما قال له: «ٱخْتَبِرْنِي يَا اَلله وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 139: 23 ، 24). لأن الإِنسان قد يجهل أفكار الشر التي تجول في نفسه أو لا يحسب لها حسابا، وتكون النتيجة النهائية أنه يرى نفسه دون أن يدري، بعيداً عن الله بعداً عظيماً.

2 - الانحراف عن الخير:

وهو يشمل الأمور التالية:

  1. التقصير في عمل الخير: بما أن الله، قدوس يكره الشر، هو أيضاً صالح يحب الخير، لذلك كل من أراد أن يحيا حياة التوافق مع الله أو بالحري حياة البُعد عن الخطية، يجب أن لا يمتنع عن الشر فحسب، بل وأن يفعل الخير أيضاً. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن من يمتنع عن مساعدة المسكين يكون بعيداً عن الله، فيكون خاطئاً حتى إذا لم يفعل شراً. لذلك قال الوحي لنا: «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلا يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يعوب 4: 17). كما قال «لِنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ» (غلاطية 6: 10).

  2. القيام بأعمال الخير لأغراض شخصية: بما أن الذين يعملون الخير للحصول على ثواب من الله أو مديح من الناس، يسعون وراء منفعتهم الشخصية. والذين يقومون بالوعظ والإرشاد للحصول على نصيب من المال أو لنشر تعليم خاص، لا يهتمون بجوهر الدي الذي هو العلاقة الروحية بين الإنسان وبين الله، بل بالمظهر الخارجي للدين فحسب، حتى يكون لهم مركز مرموق في العالم الحاضر. إذاً فأعمال الخير والوعظ التي لا تُعمل بدافع المحبة وحدها، ولأجل مجد الله وخير الناس فحسب، تكون أعمالاً تجارية أو مصلحية. فلا يكون فاعلوها قد أتوا خيراً أمام الله، وبالتبعية لا يكونون أبراراً أمامه.

    ولذلك قال الوحي: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ (ليس خوفاً منهم، بل مشاركة لله في عطفه عليهم، حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إليه طالبين عفوه وغفرانه. وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً)، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَ ٱلظَّالِمِينَ» (متى 5: 43-45 ، لوقا 6: 35). وقال: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً» (متى 6: 3 ، 4). فضلاً عن ذلك، سجل لنا أن المسيح سيخاطب المتظاهرين بخدمته، الذين سينادونه في اليوم الأخير قائلين: «يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ؟» بالرد الحازم القاطع «إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثمِ» (متى 7: 22 ، 23).

    مذكرة توضيحية: التنبؤ في الكتاب المقدس هو الإنباء بالغيب، وهو أيضاً الإنباء عن الله بالوعظ والتعليم (أعمال 15: 32 ، 1 كورنثوس 14: 3). فإن كلمة «النبي» مشتقة من «النبأ» أي «الخبر» ومن ثمَّ يكون الأشخاص المذكورون قد تنبأوا باسم المسيح أو وعظوا عنه، والحال أن قلوبهم لم تكن مقدسة تماماً له، مَثَلهم في ذلك مَثَل شاول الملك الذي مع أنه كان يتنبأ مع الأنبياء (1 صموئيل 10: 6)، غير أنه كان بعيداً بقلبه عن الله (1 صموئيل 15: 26). أو مثل الوعاظ الذين ينادون بكلمة الله، ولا يعملون بها - وهكذا الحال من جهة إخراج الشياطين. فالله قد يعطي بعض الناس سلطاناً على إخراجها ليستثمروه في خدمة المحتاجين إليه. لكن إذا انحرفوا عنه كان عذابهم وبيلاً، مثلهم في ذلك مثل يهوذا الإسخريوطي، فقد كان يصنع معجزات مثل الرسل، لكن لشرِّه هلك إلى الأبد.

  3. حصر اهتمام النفس في العالم الحاضر: إنَّ السعي وراء العيش وتحصيل المال اللازم لنا في هذا العالم، أمر واجب طالما نحن نحيا فيه. لكن إذا طغى هذا السعي على النفس وصرفها عن الصلة بالله والتوافق معه، كان ذلك دليلاً على انحرافها عنه، أو بالحري على عدم ثقتها فيه وتقديرها لفضله عليها، فيكون السعي المذكور خطية أيضاً. لذلك قال الوحي إن الناسين الله أشرار مآلهم الهاوية مثل الخطاة سواء بسواء (مزمور 9: 17). كما قال: «أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ (أو بالحري الانصراف إليه) عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (يعقوب 4: 4)، «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَة» (1 يوحنا 2: 16). ومن الناحية الأخرى أوصانا قائلاً: «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ» (لوقا 10: 27). والمحبة لله، وإن لم تكن عين الطاعة له، فهي الشوق القلبي إليه، والحنين المقدس للوجود معه، لكنها تقودنا طبعاً لطاعته، لا عن خوف ورعب مثل طاعة العبيد لسيدهم القاسي، بل عن حب وإخلاص مثل طاعة الأبناء لأبيهم البار بهم. ولا مغالاة في هذه الوصية على الإطلاق، فالله هو خالقنا وصاحب الفضل علينا، ومن الواجب أن يكون له المقام الأول في حياتنا. كما أن المحبة له، إن لم تكن من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة ومن كل الفكر، لا تكون محبة كاملة، والمحبة غير الكاملة لا تليق بالله. لذلك قال داود: «وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ»، «أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لا شَيْءَ غَيْرُكَ» (مزمور 86: 11 ، 16: 2).

3 - مستوانا الروحي في ضوء الله:

  1. الخاطي (في نظر الله) ليس من يعمل خطايا كثيرة فحسب، بل ومن يعمل أيضاً خطية واحدة، سواء كانت بالفعل أم القول أم الفكر، فقد قال الوحي: «لأَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ. لأَنَّ ٱلَّذِي قَالَ: «لا تَزْنِ» قَالَ أَيْضاً: «لا تَقْتُلْ». فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلٰكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ» (يعقوب 2: 10، 11). ولذلك لأجل خطية واحدة طرح الله بعض الملائكة من السماء (2 بطرس 2: 4)، ولأجل خطية واحدة طُرد آدم وحواء من جنة عدن (تكوين 3: 24)، ولأجل خطية واحدة حُرم موسى النبي من دخول أرض كنعان (تثنية 32: 52)، ولأجل خطية واحدة أمات الله حنانيا وسفيرة في الحال (أعمال 5: 1 - 11). وقد أدرك أتباع سقراط هذه الحقيقة فقالوا: «الإِنسان إما أن يكون فاضلاً إلى النهاية أو لا يكون. هو كالخط، إما أن يكون مستقيماً، أو غير مستقيم، ولا وسط بين الاثنين».

  2. تُحسب الخطية (في نظر الله) خطية، ليس فقط إذا كان فاعلها يشعر بها، بل وإذا كان لا يشعر بها، فقد قال الوحي: «وَلا تَقُلْ... إِنَّهُ سَهْوٌ» (جامعة 5: 6)، لأن السهو دليل على عدم السلوك بالكمال، عدم السلوك بالكمال خطية، فنحن نعلم أن مخالفة القانون بسبب الجهل أو السهو لا ينجي المخطئ من القصاص، إذ المفروض في كل المواطنين، بل وحتى في الغرباء الساكنين بينهم، أن يكونوا عارفين بقوانين البلاد وحريصين على تنفيذها، ولذلك كانت للمواطنين الغرباء شريعة واحدة (خروج 12: 49 ، لاويين 24: 22).

مما تقدم يتضح لنا أن الإِنسان مهما بلغ أسمى درجات الأخلاق الكريمة وقام بالواجبات الدينية خير قيام، لكن انحرف مرة عن الله بالفعل أو القول أو الفكر، يكون خاطئاً. وإذا عاش دون أن ينحرف هذا الانحراف، لكن لم يعمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به بالحالة التي تتوافق مع كمال الله، يكون أيضاً خاطئاً. وإذا عمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به بالحالة المذكورة، لكن أخطأ مرة واحدة سهواً، يكون خاطئاً أيضاً - فإذا نظرنا إلى أنفسنا في ضوء هذه الحقائق، نرى أننا نرتكب خطايا لا حصر لها دون أن نحسب لها حساباً، ظناً منا أنها صغائر لا يقيم الله لها وزناً، لكنها في الواقع ذنوب ومعاص في نظره تعالى. ولذلك قال الوحي عن الإِنسان عامة: «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّير كُلَّ يَوْمٍ» (تكوين 6: 5)، وإن قلبه، الذي هو موطن الشعور والعواطف فيه أخدع من كل شيء وهو نجيس (إرميا 17: 9)، وإن «مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرقَةٌ... تَجْدِيفٌ» (مرقس 7: 21 ، 22) و «كُلُّ ٱلرَّأْسِ مَرِيضٌ وَكُلُّ ٱلْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ ٱلْقَدَمِ إِلَى ٱلرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ (الاحباط هي الجروح التي تنشأ من السحق، والمراد بها هنا الخطية التي تدمّر نفوس البشر وتسحقها) وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِٱلّزَيْتِ» (إشعياء 1: 5 ، 6)، أي أن الخطية ضربت أطنابها في الإِنسان حتى أفسدت كيانه كله. ولقد أدرك فولتير شيئاً من هذه الحقيقة، فقال: «كلما رسمت لنفسي صورة الإِنسان خُيّل إليَّ أنه شيطان».

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضد الحقائق السالفة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - عدم التفرقة بين الصغائر والكبائر، يشجع الناس على ارتكاب الكبائر.

الرد: إن الذين يهمهم إرضاء الله، يمتنعون عن الصغائر كما يمتنعون عن الكبائر. أما الذين لا يبالون بإرضائه، فلا يتركون الكبائر، حتى لو سلّم الله لهم بوجود صغائر وكبائر، ولذلك لا مجال لهذا الاعتراض.

2 - هل من العدالة أن يضع الله أمامنا مقياساً عالياً للقداسة، ثم يعاقبنا لعدم استطاعتنا بلوغه؟

الرد: نظراً لأن السبيل الوحيد للتمتع بالله هو التوافق معه في صفاته. وبما أنه قدوس كل القداسة، لذلك إذا أردنا التمتع به يجب أن نكون قديسين في كل سيرة (1 بطرس 1: 15). فالله لم يضع أمامنا مقياساً للقداسة أسمى مما يجب علينا الارتقاء إليه، بل وضع أمامنا المستوى القانوني الذي يجب أن نحيا فيه في كل حين. فعندما نشعر بعجزنا عن بلوغ هذا المستوى، يتنازل الله بنعمته ليرفعنا إليه، إذا وجد فينا الرغبة الخالصة لذلك، كما سيتضح بالتفصيل في الباب السادس، فلا مجال لهذا الاعتراض.

3 - القول بأن الإِنسان كله شر، لا يتفق مع الصواب، إذ الواقع يدل على أن به الكثير من الصفات النبيلة.

الرد: الإِنسان مخلوق أصلاً على صورة الله كشبهه (تكوين 1: 26)، والمراد بذلك أن الله خلق الإِنسان بمؤهلات روحية، تجعله قادراً على التوافق معه تعالى في صفاته الأدبية السامية - وقد عرف هذه الحقيقة كثير من المفكرين. فمثلاً، قال الدكتو ألكسندر فندلي: «إن الله خلق الإنسان على صورته لكي يبادله حباً بحب، لأن الله محبة». وإذا كان الأمر كذلك، فإن إنسانية الإِنسان تقوم أولاً وأخيراً على توافقه مع الله. فإذا انحرف عنه، حرم نفسه من الإِنسانية بكل مميزاتها. لذلك كان من البديهي أن يظل فيه حتى بعد سقوطه في الخطية شيء من الصفات النبيلة، مثل المروءة والشهامة والعطف على المساكين والمحتاجين. لكن طالما أنه منحرف عن كمال الله وقداسته، فإنه كثيراً ما يمارس هذه الصفات، إما لأنه أحسّ مرة بقسوة الظروف عليه، فأراد أن يزيح شبحها من أمامه، أو لأنه يخشى أن لا يعطف عليه أحد إذا وقع هو في أزمة أو ضائقة، أو لكي يُشبع رغبة كامنة في نفسه تدعوه لأن يبدو عظيماً أو صالحاً على نحو ما، أو لكي يكفّر (حسب زعمه) عن شر ارتكبه حتى يكون له القبول لدى الله - الأمر الي يجعل أعماله المذكورة مشوبة بنقائص عدّة. فالإنسان الخاطئ وإن كان يتصرّف بشيء من الصفات النبيلة، لكنه مع ذلك كثيراً ما يرتكب الرذائل والموبقات الشنيعة، فلا يكون باراً أو مستقيماً أمام الله.

4 - المسيحية بقولها إن الإنسان خاطئ بجملته تحط من قدره. كما تجعله فريسة للشر والإِثم.

الرد: المسيحية لا تجعل الإِنسان فريسة للشر والإِثم. لأنها تعلن أنه يعمل الخطية بمحض إرادته. فضلاً عن ذلك فإنها لا تحط من قدره، بل تعلن له حقيقة أمره في ضوء الله، حتى لا يعتقد أنه قريب منه، ويكون في الواقع بعيداً عنه. كما أن المسيحية تعلن أن الإِنسان مخلوق في أول الأمر على صورة الله كشبهه، فهناك أصلٌ للصلاح في نفسه يجعله قادراً على التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر. فإذا سعى بإخلاص نحو الحق والخير، رفعه الله فوق ما به من نقائص، كما سيتضح في الباب السبع.

2 - تسرُّب الخطية إلى البشر عامة

1 - الحالة التي يولد بها البشر:

يقول الرواقيون والبيلاجيوسيون: «إن الإِنسان يُولد بريئاً، مَثَله في ذلك مَثَل آدم قبل السقوط في الخطية، إنما أعماله هي التي تكوّن صفاته. لأنه لو كان قد وُلد فاسداً، لكانت حياته بأسرها حياة الشر والإجرام». الرواقيون هم أتباع زينو الفيلسوف اليوناني، وأُطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى الرواق الذي كانوا يجتمعون فيه، في القرن الرابع ق. م - أما البيلاجيوسيون فهم أتباع بيلاجيوس الذي ظهر في إنجلترا في القرن الخامس.

ويقول الأرمينيوسيون: «إن الإِنسان وإن كان يولد بريئاً، لكن يكمن في طبيعته قصور يحول بينه وبين السلوك بالكمال، وهذا هو السبب في ارتكابه الشر في بعض الأحيان». الأرمينيوسيون هم أتباع أرمينيوس الذي ظهر في هولندا في القرن السادس عشر.

ويقول جان جاك روسو وفولتير وشارل فوربيه وغيرهم: «إن الإنسان يُولد كاملاً (أي ليس بريئاً فحسب، بل وكاملاً أيضاً)، إنما إذا عاش في بيئة شريرة يتسرب إليه الشر منها. فالخطية إذاً ليست أصلية فيه بل طارئة عليه، فمن الممكن إزالتها بالتنوير والتعليم».

والرأي الأول ليس بصواب لأن أعمال الإِنسان لا تكوّن صفاته، بل تصدر عنها. فالإنسان لا يكون قاتلاً في الظاهر، إلا إذا كان يميل إلى القسوة والانتقام في الباطن. فصفات الإِنسان سابقة لأعماله وليست لاحقة لها، فيكون خاطئاً بالقصد قبل أن يكون خاطئاً بالفعل. كما أن عدم ارتكاب كل إِنسان شروراً شنيعة ليس دليلاً على أن البشر يولدون أبرياء، لأن الخطية ليست هي الشر الشنيع فحسب، بل هي أيضاً مجرد انحراف النفس إلى الشر أو انحرافها عن الخير، كما ذكرنا في الفصل السابق.

والرأي الثاني ليس بصواب أيضاً، فليس من المعقول أن يكون في طبيعتنا قصور يحول بيننا وبين السلوك بالكمال، ونكون أبرياء. بل لا بد أننا نولد وفي طبيعتنا ميل إلى الخطية، لأنه لا يمكن أن نفعلها إلا إذا كان فينا ميل إليها، إذ أن لكل معلول علة ولكل عمل سبب.

والرأي الثالث ليس بصواب كذلك، لأن البيئة الشريرة وإن كان لها تأثير عظيم على الإِنسان، لكن ليست هي التي تولّد الشر فيه. والدليل على ذلك أن الأطفال الذين لا يعرفون بعد شيئاً عن الحياة الدنيا، تبدو عليهم إمارات الأنانية والكبرياء ومحبة الذات، والحسد والطمع والعناد. كما أنهم يسطون على ممتلكات الغير ويتشاجرون معهم مدفوعين في ذلك كله بغرائز كامنة في نفوسهم - وطبعاً لا عبرة بالقول إن تصرفات الأطفال المذكورة هي مجرد نقائص، أو أن الأطفال لا يدركون أن تصرفاتهم هذه هي خطايا، لأن النقائص خطايا، وعدم إدراك الخطايا لا يقلل من كونها خطايا. الغريزة في ذاتها ليست خطيئة، لأن الله هو الذي أودعها في الإنسان لأجل خيره، إنما الخطية هي استخدام الغريزة في غير ما أودعها الله لأجله.

وإذا كان الأمر كذلك، اتضح لنا أن الإِنسان يولد وبه ميل إلى الخطية، وهذا الميل وإن كان لا يبدو بوضوح في الصغر، غير أنه يأخذ في الظهور كلما شبَّ الإِنسان ونما. وهو مثل السم الكامن في الثعبان، فإنه لا يَرِد إليه من الخارج، بل أن الثعبان يولد وفي جسمه استعداد لتكوينه. وكل ما في الأمر، أن هذا السم لا يظهر بنتائجه المميتة، إلا إذا بلغ الثعبان سناً معينة.

ومما يؤيد صدق هذا الاستنتاج (1) أن الذين قالوا بسلامة الفطرة الإِنسانية وكمالها، وبذلوا كل ما لديهم من جهد لتحسين حالة الفقراء والبؤساء، لاقوا من أولئك وهؤلاء الكثير من المتاعب والمضايقات، فخابت آمالهم الطيبة من جهتهم جميعاً، كما حدث مع سان سيمون وروبرت أوين وغيرهما. (2) إن التعليم لا يستأصل الخطية من نفس الإنسان، بل يعمل فقط على إخفاء بعض مظاهرها الشنيعة. والدليل على ذلك أن المتعلمين يفعلونها كما يفعلها غيرهم سواء بسواء. وكل ما في الأمر أنهم يتستَّرون بفعلها وراء أسماء مفتعلة مثل المدنية أو الحرية أو المصلحة الذاتية أو الحكمة البشرية، مثلهم مثل القبور التي تحيطها الأزهار والرياحين، بينما لا يوجد في باطنها إلا العفونة التي لا تُطاق.

وقد أدرك كثير من الفلاسفة أن في الإِنسان ميلاً للشر يسيطر على كيانه بأسره، فقال أرسطو: «إن أكثر أعمال الإِنسان محكومة بالعواطف والشهوات. لذلك يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره. فالإِنسان يفكر جيداً ويرشده فكره إلى الصواب، لكن تتغلب عليه شهوته الكامنة فيه فتغويه». وقال سانت هيلير: «ليس ما يقع فيه الإِنسان من إثم ناشئاً عن خطأ في الموازنة بين اللذة الحاضرة والآلام المستقبلة، ولا ناشئاً عن جهل بطبيعة الأشياء. إنما منشؤه فساد في الخُلُق يحمل الإِنسان إلى تفضيل الشر على الخير، وهو عالم بهما وبنتائج كل منهما. فإن الشرير لا يجهل البتة ما يفعله من سوء بل يشعر به وبما يلحقه من خسران بسببه، ومع ذلك يسعى إلى هذا الخسران وهو آسف». وقال غيره: «إن الناس الذين نشأوا في الغابات بعيداً عن الأخطاء التي درج عليها غيرهم من سكان المدن، ليسوا أبرياء كما يُقال، بل هم حيوانات ماكرة، ولذلك فإنهم ليسوا أفضل من المتحضرين في شيء من الناحية الأدبية». وقال هكسلي: «إن الاعتقاد بأن الأطفال يُولدون في حالة الصلاح، وإن الهيئة الاجتماعية الفاسدة هي التي تنحرف بهم إلى الشر، ليس له نصيب من الصواب». وقال سير سيدني سميث: «إن الأطفال يأتون إلى العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية».

2 - سبب ولادة الإِنسان بطبيعة تميل إلى الخطية:

بناءً على قانون الوراثة لا يمكن لكائن أن يلد آخر مغايراً له، كما يقول علماء الأحياء وعلى رأسهم ماندل. فالخنزيرة لا يمكن أن تلد حملاً، والشوك لا يمكن أن ينتج عنباً. وبما أن آدم الذي ولد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه الله عليها وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، كان أمراً بديهياً أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأننا مهما جلنا بأبصارنا في الكون، لا نجد لسُنَّة الله تبديلاً أو حويلاً. ولذلك قال الوحي: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ» (رومية 5: 12 - 21). وشهد داود النبي بهذه الحقيقة فقال عن نفسه: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5). وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة والعلماء، فقال هكسلي وكانْت: «هناك أصل للشر في الطبيعة البشرية، مما يدل على أن قصة السقوط سقوط آدم في الخطية صحيحة».

3 - آراء الذين ينكرون تسرب الخطية من آدم إلى البشر جميعاً:

أما الذين أنكروا تسرب الخطية من آدم إلى البشر جميعاً، فقد ذهبوا مذاهب متعددة، وفيما يلي هذه المذاهب مصحوبة بالرد عليها:

(ا) إن البشر لم يولدوا من رجل واحد مثل آدم، حتى كان من الجائز أن يشتركوا معاً في طبيعة خاطئة واحدة.

الرد: إن وجود أصل واحد للبيض والزنوج (كما قال السير أرثر كيث وغيره من العلماء)، ووحدة أصل اللغات (كما قال مكس مولر وغيره من العلماء)، وتشابه الناس جميعاً في أجسامهم وكيفية تغذيتهم وتناسلهم ودرجة حرارتهم وسرعة نبضهم (كما نعلم جميعاً)، كل ذلك يدل على أنهم مولودون من أصل واحد، أو بالحري من رجل واحد.

(ب) إنَّ الله خلق منذ القديم أرواح البشر جميعاً وأوصاها أن تطيعه وتحفظ وصاياه، غير أنها تمردت عليه وخالفت هذه الوصايا، لذلك أوجدها في ذرية آدم ليعطيها فرصة أخرى لإظهار طاعتها له. ومن ثمَّ تكون خطايا البشر جميعاً خطايا ذاتية لا شأ لها بآدم.

الرد: ليس هناك أي دليل ديني أو عقلي أو تاريخي يثبت أنه كان لنا وجود فعلي قبل ولادتنا من أمهاتنا، أو أننا فعلنا خطية ما قبل ولادتنا منهن.

(ج) إنَّ وجود الطبيعة الخاطئة في البشر ليس ناشئاً عن ولادتهم من آدم، بل عن عصيانهم الشخصي، لأن ناسوت آدم وناسوتهم جوهر عام واحد.

الرد: (ا) بنى أصحاب هذا المذهب قولهم المذكور على المُثل الأفلاطونية، فزعموا كما قال أفلاطون أن الله أوجد البشرية قبل أفرادها، مثَلها في ذلك مَثل المغناطيسية التي أوجدها تعالى في العالم قبل ظهور حجر المغناطيس. وبناء على ذلك يقولون إن البشرية القديمة تحل بكل خواصها في كل إنسان يُولد في العالم، كما تحل المغناطيسية بكل خواصها في حجر معيّن، فيصبح حجر المغناطيس. وهذا المذهب لا نصيب له من الصواب، لأن حجر المغناطيس لم ترد إليه المغناطيسية من الخارج في أي عصر من العصور، بل وُجد، أول ما وجد، والمغناطيسية كامنة فيه.

(ب) كما أنه ليس هناك دليل على أننا كنا متحدين مع آدم في الجنة بأي شكل من الأشكال، أو أننا أخطأنا بالفعل معه هناك. فضلاً عن ذلك فكل منا مستقل بذاتٍ تمام الإستقلال. فلآدم، كما لكل واحد منا، شخصيته التي لا يشترك معه فيها إنسان غيره. من ثم فالطبيعة الخاطئة، وإن كانت قد انتقلت إلينا من آدم، غير أننا لم نرتكب شخصياً أية خطية عملها آدم أو شخص غيره.

(د) إنَّ سبب الخطية هو: اضطراب في النفس أو في الغدة النكفية، أو مركب النقص الموجود في اللاوعي.

الرد: إنَّ اضطراب النفس والغدة النكفية، وأي مركب نقص في اللاوعي، لا يؤدي إلى عمل الخطية، إلا إذا كان الميل إليها قابعاً في الطبيعة البشرية. فاضطراب مياه البحار بواسطة العواصف ليس هو الذي يكوّن الأعشاب البحرية في البحار، بل يهيّئ لها فقط سبيل الظهور على سطح البحار.

وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن أصحاب هذه المذاهب قد حادوا عن الصواب، أما الحقيقة التي شهد بها وأيدها الاختبار، فهي أن الطبيعة الخاطئة التي فينا قد تسربت إلينا بالولادة من آدم الذي تناسلنا منه جميعاً، كما اتضح لنا مما سلف.

4 - نتائج ولادة البشر بالخطية:

بما أن الخطية تسربت وتتسرب إلى البشر بالوراثة، وبما أن قانون الوراثة قانون عام تخضع له جميع الكائنات الحية، لذلك كان أمراً بديهياً بعد أن تسربت الخطية إلى البشر، أن يصيروا جميعاً خطاة بأفعالهم كما ولدوا خطاة بطبيعتهم. ولذلك قال الوحي: «لَيْسَ بَارٌّ وَلا وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ.(فهماً روحياً) لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْملُ صَلاحاً لَيْسَ وَلا وَاحِدٌ» (رومية 3: 10 - 12). كما قال: «لأَنَّهُ لا فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 22 ، 23)، ولذلك قال داود النبي لله: «لا تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور 143: 2). وقد اعتاد الناس أن يفرقوا بين إنسان وآخر، فيقولون مثلاً: إنَ هذا الإنسان أفضل من ذاك. لكن ليس ذا هو الحال في نظر الله، لأنه ليس هناك واحد من البشر لم يفعل خطية واحدة في حياته، ومن يفعل خطية واحدة، يكون خاطئاً لا باراً.

أما الاعتراضات التي توجه ضد الحقائق السابقة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - أليس للبيئة تأثير عظيم على الإنسان؟

الرد: طبعاً لها تأثير عظيم عليه، فإن كانت شريرة ساعدت على نمو الخطية واستفحال أمرها في الإنسان. وإن كانت صالحة حدّت من نشاط الخطية لديه. لكن لا قدرة للبيئة الصالحة على استئصال الميل إلى الخطية من الإنسان، أو الحيلولة دون تسرب هذا الميل إليه. والدليل على ذلك أن الخطيئة توجد في أرقى البيئات، كما توجد في أدناها سواء بسواء.

2 - ليس كل أبناء الأشرار يعملون شروراً مثل آبائهم، فكيف يقال إن كل البشر يولدون خطاة بالطبيعة لأن آدم، الذي وُلد منه أجدادهم منذ آلاف السنين، قد أخطأ مرة؟

الرد: وإن كان بعض أبناء الأشرار لا يعملون شروراً مثل آبائهم، لكن ليس هناك واحد منهم لم يخطئ على الإطلاق، لذلك يكونون جميعاً خطاة. فيكون السبب في وجود الخطية في البشر عامة يرجع إلى تناسلهم من آدم الذي هو أبوهم جميعاً كما ذكرنا. ولا غرابة في ذلك فإن خطيته لم تكن إصابة في جسده حتى كانت لا تنتقل إلى أبنائه، بل كانت إصابة في نفسه. كما أن هذه الإصابة لم تكن إصابة هيّنة، فقد غيّرت اتجاه نفسه تغييراً تاماً، إذ بعد أن كانت في براءتها لا تهوى إلا خالقها ولا تعمل إلا ما يرده، أصبحت تتوارى من حضرته وتعمل ما نهاها عنه، وإصابة مثل هذه تنتقل طبعاً من الأب إلى أبنائه، كما تنتقل العلل النفسية الخطيرة تماماً.

3 - كيف يكون كل البشر خطاة، ونحن نرى بينهم كثيرين من الصالحين.

الرد: الصلاح بمعنى عدم ارتكاب خطية بالقول أو الفكر، مع القيام بكل أعمال الخير لكل الأصدقاء والأعداء على السواء، دون انتظار لأي جزاء أو ثواب كما ذكرنا ليس له وجود في البشر على الإطلاق. لذلك قال الوحي: «لَيْس أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» (لوقا 18: 19). أما أفضل البشر فهم أشخاص يقومون بخير أكثر من غيرهم ويخطئون أقل من غيرهم. فالفرق بين البشر من جهة الخطية هو فرق نسبي فحسب، لأنهم جميعاً خطاة بطبيعتهم وخطاة أيضاً بأعمالهم، سواء كثرت هذه الأعمال أم قلَّت.

ولعل أوضح دليل على ذلك أن نوحاً (تكوين 9: 21) وإبراهيم (تكوين 12: 12 ، 13) وأيوب (أيوب 42: 2) وموسى (العدد 20: 6 - 11) وداود (مزمور 51: 1) وإشعياء (إشعياء 6: 5) وزكريا (لوقا 1: 20) وبطرس (لوقا 22: 61)، وبولس (أعمال 23: 3)، وغيرهم من الرسل الأنبياء قد أخطأوا مثل غيرهم من الناس. أما العصمة المسندة إلى الرسل والأنبياء في المسيحية، فهي فقط في تبليغهم للرسائل التي كان الله يُوحي بها إليهم، لأنهم كانوا عند تبليغها يقعون تحت سلطانه المطلق، فلم يضيفوا إليها كلمة أو يحذفوا منها أخرى. ولذلك قيل بالوحي: «إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ» (متى 5: 18). أما قول الوحي عن نوح إنه كان رجلاً باراً وكاملاً في أجياله (تكوين 6: 9)، وعن أيوب إنه كان رجلاً كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر (أيوب 1: 1)، وعن زكريا وامرأته إنهما كانا بارين (لوقا 1: 6)، فلا يُراد به أنهم لم يفعلوا خطية طوال حياتهم، بل أنهم كانوا يهابون الله ويحاولون جهد الطاقة أن ينفذوا وصاياه، كما كانوا يسرعون إلى تقديم الذبائح الكفارية له عن كل خطية يفعلونها، كما سيتضح بالتفصيل في الباب الثالث.

4 - إذا كان كل الناس خطاة، أفليس أقلهم خطأ يمكن أن يكون مقبولاً لدى الله؟

الرد: لنفرض أن طبيعة عمل ما تتطلب من الراغبين في الإلتحاق به، أن يكون مقياس نظرهم كاملاً. لكن بفحصهم وُجد أن نظر فريق منهم هو الثلثان، ونظر فريق آخر هو النصف، فهل يجوز للفريق الأول أن يطالب بأحقيته في الالتحاق بهذا العمل دون الثاني؟ طبعاً كلا. لماذا؟ لأن مقياس النظر الذي يتطلبه العمل المذكور هو الكمال. وهكذا الحال من جهة الكليات الجامعية، فإذا اشترطت أشهرها في طالب الالتحاق بها أن يكون حاصلاً على 90٪ أو أكثر من مجموع الدرجات، فإن مَنْ كان مجموعه 89٪ يتساوى مع من كان مجموعه أقل من هذه النسبة بقليل أو كثير، لأن كليهما لا يُقبَل في هذه الكلية - وعلى هذا النسق نقول: بما أن اقترابنا إلى الله لا يتوقف على مستوانا الروحي في نظرنا أو نظر الناس، بل على هذا المستوى في نظره تعالى. وبما أن الله كامل، ولا يتوافق مع الكامل إلا الكمال، إذاً ليس بيننا بكل أسف شخص، مهما قلَّت خطاياه، يستطيع أن يحظى في ذاته بالقبول لدى الله - هذه هي الحقيقة التي يجب أن نضعها أمامنا من الآن، حتى يتضح لنا السبيل الإلهي.

5 - قول المسيحية إن الطبيعة الخاطئة انتقلت إلى البشر بالوراثة، يجعلهم غير مسئولين عن الخطايا التي تصدر منهم، وهذا ما لا يتفق مع الحق على الإطلاق.

الرد: إن المسيحية مع قولها إن الطبيعة الخاطئة انتقلت إلى البشر بالوراثة، تعلن أنهم يخطئون، ليس رغماً عنهم، مدفوعين في ذلك بغرائزهم وحدها، كما هي الحال مع الحيوان، بل يخطئون بإرادتهم نتيجة لموافقتهم الشخصية على تلبية رغبات هذه الغرائز. فهم مسئولون عن كل خطية يعملونها، لأن المسئولية لا تُرفع إلا عن الأطفال وفاقدي الرشد والصواب. ولذلك قال الوحي إن كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله (رومية 14: 12)، كما قال إن الله سيحضر كل عمل من أعمال الناس إلى الدينونة، سواء كان خفياً أم ظاهرياً (جامعة 12: 14). فضلاً عن ذلك ليس هناك مجال أمام إنسان للاعتذار عن خطاياه بدعوى ضعف الإِرادة، لأنه لو أتى ضعيف الإِرادة بإخلاص إلى الله، لأعطاه الله طبيعة روحية جديدة تسمو به فوق أهواء الجسد سمواً عظيماً، كما سيتضح في الباب السادس.

6 - هل من العدالة أن يُضار البشر جميعاً بسبب خطية ارتكبها آدم وحده؟

الرد: الحقائق الراهنة أثبت من منطقنا نحن البشر، لأن إدراكنا ليس كاملاً في كل الأمور. ومن هذه الحقائق مثلاً، أن بعض الأبناء البررة يرثون من آبائهم العلل والعاهات التي تقشعر منها النفس. وإذا حاولنا أن نحكِّم عقولنا في أسباب انتقاله إليهم بشيء يُسمَّى عدالة أو ظلماً، لا يسعنا إلا أن نقف مكتوفي الأيدي مقيّدي الفكر - وهذا ما يواجهنا تماماً في حالة آدم وانحدار الطبيعة الخاطئة منه إلينا جميعاً.

فآدم بحكم مركزه هو أبونا والنائب عنا جميعاً، وهذه حقيقة لا يستطيع المنطق أن ينكرها، سواء كانت معقولة عند بعض الناس أم غير معقولة. وهو بطبيعة مركزه هذا لا يمكن إلا أن تعود نتائج خطيته علينا دون أن يكون لنا يد في ارتكابها، مثله في ذك مثل الآباء الذين تعود نتائج فجورهم وشرورهم على أبنائهم البررة. فلا سبيل للاعتراض على اشتراكنا في نتائج خطية آدم بحال. ومع ذلك لا داعي لليأس أو الاعتراض، فلقد تداخلت نعمة الله الغنية في أمرنا، ففتحت لنا جميعاً باب الخلاص من الخطية ونتائجها مجاناً، كما يتضح من البابين الرابع والخامس.

7 - لماذا لم يخلق الله إنساناً كاملاً من أول الأمر، فكان يجنّب ذريته نتائج الخطية المريعة؟

الرد: خلق الله آدم في أحسن تقويم، إذ خلقه في غاية البراءة دون أن يكون هناك ميل إلى العصيان فيه. ولو كان الله قد خلق عوضاً عن آدم أي إنسان آخر، لكان قد فعل ما فعله آدم مهما كان شأنه (فكل مخلوق يكون محدوداً، وكل محدود لا يكون معصوماً من الخطأ)، ولأصبح نسل الإِنسان المذكور خطاة مثله أيضاً - ومع كلّ هذا فقد أعلن الله لنا في كتابه أنه كما انتقلت الطبيعة الخاطئة إلينا دون ذنب جنيناه، يأتي إلينا الخلاص منها، ومن عقوبة الخطايا التي تصدر عنها كذلك، منحة مجانية منه دون أي عمل من جانبنا سوى الإِيمان الحقيقي، كما سيتضح في الباب السابع.

فضلاً عن ذلك، سيتضح لنا في الباب الأخير، أنه كان خيراً لنا أن نولد كلنا من رجل واحد ونرث منه طبيعته الخاطئة، من أن يُخلَق كلُ واحد منا بمفرده ويكون مسئولاً بشخصه عن كل خطية يفعلها، لأنه في الحالة الأولى يكون لنا جميعاً امتياز الحصول من الله على غفران كامل شامل بفضل نائب آخر أسمى من آدم بما لا يُقاس.

3 - تأثير الخطية بالنسبة لله

1 - أسباب تأثيرها بالنسبة إلى الله:

يعتقد بعض الناس أن الخطية إذا كانت بين الإِنسان وبين نفسه، انحصر تأثيرها فيه وحده، وإذا كانت بينه وبين إنسان غيره، انحصر تأثيرها فيهما، لأن الله بسبب روحانيته المطلقة هو أرفع من أن يتأثر (كما يقولون) بأي مؤثر خارجي - لكن هذا الاعقاد لا نصيب له من الصواب لسببين:

  1. كلنا يعلم أن الكامل يُسرّ بالخير ويكره الشر، إذ لا يُسر بالشر ويكره الخير إلا الكائن الذي لا يدرك معنى الكمال، أو الجماد الذي لا حياة فيه ولا شعور. وبما أن الله فضلاً عن كونه كاملاً كل الكمال وحيّ إلى أبد الآباد، هو الذي نهانا عن الشر وأوصانا بالخير، إذاً فهو مع روحانيته المطلقة يتأثر بما نفعله من شر أو خير على نحو يتفق مع روحانيته هذه. لذلك قال الوحي عن الله إنه لا يطيق الإِثم (إشعياء 1: 13)، وإن عينيه أطهر من أن تنظرا الشر (حبقوق 1: 13). فإذا ارتكب أحدنا خطية ضد نفسه أو ضد غيره، لا يكون قد أساء إلى نفسه أو غيره فحسب، بل وإلى الله قبل كل شيء آخر.

  2. إن لله علاقة وثيقة بنا، إذ فضلاً عن أنه خلقنا على صورته كشبهه مؤيداً إيانا بالمواهب العقلية والأدبية التي تفكر فيه وتسعى إليه، فإنه بعث إلينا بالكثير من الرسل والأنبياء ليعلنوا لنا أفكاره الطيبة من نحونا وما يجب علينا من تصرف إزاءه. وبما أن كل علاقة بين طرفين تتأثر بتصرفات أحدهما، إذاً فكل خطية نأتيها، تؤثر على علاقتنا بالله. وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة، فمثلاً قال بسكال: إن الإِنسان يعتبر الله كأنه وثن، إذا جعله موضوعاً للمعرفة فحسب، وجرّده من عمله الجوهري الخاص بعلاقته معنا. أما الفلاسفة الذين يقولون إن الله لا يعبأ بشر الناس أو خيرهم، رغبة منهم في تنزيهه تنزيهاً مطلقاً، فهم في الواقع لا يسندون إليه الكمال المطلق كما يقولون، بل يجردونه من صفات الكائن الأدبي تجريداً تاماً، أ بالحري يجعلونه اسماً دون مسمى. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كل خطية نرتكبها ضد أنفسنا أو ضد غيرنا من الناس، تكون موجهة ضد الله أولاً كما ذكرنا. ولذلك عندما أخطأ داود النبي ضد أوريا وامرأته قال لله: «إِلَيْكَ وَحْدَك أَخْطَأْتُ وَ ٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور 51: 4). كما أن يوسف الصديق عندما أبى أن يلبي الرغبة الآثمة التي عرضتها عليه امرأة فوطيفار، قال لها: «كَيْفَ أَصْنَعُ هٰذَا ٱلشَّرَّ ٱلْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى ٱللّٰهِ؟!» (تكوين 39: 9).

2 - مدى الإِساءة التي نوجّهها إلى الله بسبب الخطية:

وإن كنا لا نستطيع تحديد هذه الإِساءة بسبب سمو الله عن إدراكنا سمواً لا حد له، لكن نعلم أنه بارتكاب الخطية (أ) نحُول بين الله وبين الصلة الروحية الطيبة التي يريد أن تكون بينه وبيننا، لأنه لم يخلقنا على صورته كشبهه إلا لتكون لنا هذه الصلة به. (ب) ننكر فضله علينا ونستهين بعواطفه الكريمة من نحونا. (ج) نرفض شريعته ونكسر ناموسه، وبذلك نتمرد عليه ونهينه في أرضه وعلى مرأى منه.

لذلك قال الوحي عن الخطاة إنهم لا يخشون الله (إرميا 2: 19) ويبغضونه بلا سبب (مزمور 69: 4)، ويرفضون شريعته (إرميا 6: 19)، وينقضون عهده (يشوع 7: 11)، ويتمردون على شخصه (هوشع 13: 16)، ويسلبون حقوقه (ملاخي 3: 8)، ويُفسدون أمامه (نحميا 1: 7)، ويهينون مقامه (مزمور 10: 13 ، إشعياء 1: 2-4)، ويحتقرون اسمه وينجسونه أيضاً (ملاخي 1: 6 ، حزقيال 36: 20)، لأن لسان حالهم إزاءه « ٱبْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لا نُسَرُّ» (أيوب 21: 14). فالخطية، علمْنا أم لم نعلم، هي أكبر إساءة نوجهها إلى الله، ولذلك قال الوحي: «ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً» (رومية 7: 13).

أما الاعتراض الذي يُوجَّه ضد ما ذكرناه فهو:

أليس الله أرفع من أن نهينه أو نسيء إليه بعصياننا؟

الرد: حقاً إننا لا نستطيع بعصياننا أن ننتقص شيئاً من مجد الله في ذاته، كما أننا لا نستطيع بطاعتنا له أن نضيف شيئاً إلى مجده هذا، لأنه كامل في ذاته كل الكمال ولا يتعرض للزيادة أو النقصان. لكن من ناحية علاقتنا به ووجوب طاعتنا له بوصفه خالقنا ووليّ نعمتنا، فإننا بعمل الخطية نهضم حقوقه علينا، وهذا إنكار لحقوقه وإساءة لشخصه أيضاً، إذ يكون تعالى كما لو لم يكن هو خالقنا ووليّ نعمتنا!! فمجد الله الذاتي، وإن كان كاملاً كل الكمال ولا يتعرض للزيادة أو النقصان، بغض النظر عن طاعتنا لله أو عدم طاعتنا له كما ذكرنا، لكن مجده الظاهري في علاقته بنا مرتبط كل الارتباط بتصرفنا إزاءه. ولذلك يقول تعالى: « ٱلاِبْنُ يُكْرِمُ (بطاعته) أَبَاهُ وَ ٱلْعَبْدُ يُكرِمُ (بطاعته أيضاً) سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَباً، فَأَيْنَ كَرَامَتِي (في نظركم)؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّداً، فَأَيْنَ هَيْبَتِي (عندكم)؟» (ملاخي 1: 6).

4 - تأثير الخطية بالنسبة للبشر

إذا نقلنا حيواناً من المنطقة الحارة إلى المتجمدة أو من هذه إلى تلك، اضطرب جسمه وتعرض للموت تبعاً لذلك. وهكذا الحال إذا نقلنا حيواناً بحرياً إلى البر أو برياً إلى البحر. لكن إذا ظل كل حيوان في المجال الذي خُلق ليعيش فيه، نما جسمه وعاش حياة طيبة. وعلى هذا النسق نقول: بما أن االله خلقنا لا لنعيش بمعزل عنه، بل لكي نعيش في رفقته ومعيّته كما ذكرنا، وبما أن كل كائن يبتعد عن المجال الذي خُلق للعيش فيه، لا يمكن أن يهنأ أو يستريح، إذاً كان أمراً بديهياً أن كل من يبتعد عن الله يتعرض للتعب والشقاء. وقد أشار الله إلى هذه الحقيقة فقال: «وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ» (أمثال 8: 36)، والأضرار التي يتعرض لها الإنسان في العالم الحاضر بسبب الخطية ثلاثة أنواع: أضرار نفسية، وأضرار أدبية، وأضرار مادية:

1 - الأضرار النفسية:

من يركض وراء الخطية، يحيا حياة القلق وعدم الاستقرار، كما يتعرض أحياناً للأمراض النفسية التي يتعذر شفاؤها، لأنه لا يجد في نهاية جهاده على الأرض هدفاً ثابتاً أمامه، أو رجاء منيراً قدامه.

وإذا لم يتعرض لهذه الأمراض، فإنه يحصر غايته في ثروة لا يلبث أن يتركها أو تتركه. أو في لذة (أو بالحري نشوة) سرعان ما يهجرها أو تهجره. أو في ولد إذا امتد به العمر فإنه يبكيه إذا توفي، ثم لا يلبث أن يهتم بشؤونه الخاصة وينساه. لذلك قال الوحي عن الخطية إنها تحني النفس (مزمور 44: 25)، وتملأها بالذل والهوان (مزمور 123: 4)، وتحرمها من الراحة والسلام (إشعياء 48: 22)، وتسلبها الوعي الروحي فتصبح أحط من نفس الحيوان (إشعياء 1: 3).

2 - الأضرار الأدبية:

ولوجود الطبيعة الخاطئة في الإنسان، يصبح (إذا لم يتلقَّ حياة روحية من الله) عاجزاً عن الارتقاء فوق خطاياه. فإذا تعهد يوماً بالإقلاع عنها، وبذل جهده في سبيل تنفيذ تعهده هذا، سرعان ما يُغلب على أمره. فإن لم يفعل الخطية في الظاهر، قد يفكر فيها ويشتهيها في الباطن، ومن ثم يعود من حيث أتى. ومثل الإنسان في مقاومة الخطية بقوته الذاتية، مثل الماء الذي لا يستطيع الارتفاع من تلقاء ذاته إلى مستوى أعلى من المستوى الذي هبط منه في أول الأمر، كما نرى في تجارب الأواني المستطرقة. أو مثل الطائر الذي يسعى إلى الانطلاق نحو السماء وهو مقصوص الجناح، فإنه مهما حاول وجاهد لا يستطيع أن يرتفع فوق الأرض شبراً واحداً. وأول من شعر بهذه الحالة المريرة هو آدم وحواء، فعندما أخطئا، فقدا الصلة الروحية بالله كما أحسا بأنهما لا يستطيعان العودة إلى حالة البراءة التي كانا يتمتعان بها من قبل (تكوين 3: 8). وهذا العجز وذاك الفقدان يُعبَّر عنهما بالموت الأدبي، الذي هو أشر موت لمن يقدّر أهمية التوافق مع الله حق التقدير.

ولذلك قال الرسول للمؤمنين عن حياتهم السابقة في الخطية: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أفسس 2: 1). كما قال عن نفسه قبل تمتعه بخلاص الله الكامل «الخطية قتلتني (أدبياً)، وأنها عاشت فمتُّ أنا (أدبياً)» (رومية 7: 9 - 11). كما قال بعد ذلك: «لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ (لحياة الصلاح) حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا (عن القدرة التي تؤهلني) أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى (كما يريدها الله) فَلَسْتُ أَجِدُ (إليها سبيلاً). لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ (بسبب الطبيعة الخاطئة الكامنة فيّ). فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فيَّ. إِذاً أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى أَنَّ ٱلشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ (بسبب إخلاصي للحق). وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي (الذي يريد الصلاح) ، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ» (رومية 7: 18 - 24)؟!

وليس هذا اختبار الرسول المذكور وغيره من الرسل والقديسين فحسب، بل إنه أيضاً اختبار كثيرين من الفلاسفة والمفكرين. فمن المأثور عن هكسلي أنه قال: «برهن الإنسان على أنه خاضع لعنصر وضيع يسيطر على كيانه بقوة هائلة. إذ أنه فريسة عمياء لدوافع نفسية متعددة تقوده إلى الشر والدمار، وضحية مسكينة لأوهام لا حصر لها».

3 - الأضرار المادية:

  1. وبسبب الخطية كم من قويٍّ تهدمت صحته، وشاب في مقتبَل العمر ذبلت نضارته، ومثقف كان يزدان به المجتمع فقَدَ مكانته! وكم من غني أصبح فقيراً وعظيم أضحى حقيراً، ومحترم أمسى مهاناً ذليلاً. وبسبب الخطية كم من خصام دبَّ بين العائلات راح ضحيته كثير من الأبرياء، وكم من أمّة انحلّت عُراها فدالت دولتها وأصبحت أثراً بعد عين - لذلك قال الوحي إن الأهواء التي تجيش في نفوس الناس، هي السبب في قيام الحروب والخصومات بينهم (يعقوب 4: 1)، وإنه بسبب امرأة زانية يفتقر الإنسان إلى رغيف خبز (أمثال 6: 26)، وإنه بسبب الخمر يحل الشقاء والكرب (أمثال 23: 29 و30). وإن الخطية بصفة عامة تمنع الخير عن الناس (إرميا 5: 25)، وتجلب عليهم العار (أمثال 14: 34)، وتسبب لهم العلل والأمراض (تثنية 28: 22).

    لا ننكر أن أشراراً كثيرين يحيون حياة الرغد والسعة في العالم الحاضر، وأن أتقياء كثيرين يحيون حياة الضيق والضنك. لكن ليس هذا دليلاً على أن الخطية لا تورِّث المتاعب والآلام (لأن هذا أمر لا يختلف فيه اثنان)، بل دليلاً على أن الله في كلمته السامية يعامل كل إنسان بالمعاملة التي تُصلح من شأنه. فقد يُحسِن بخير جزيل إلى إنسان شرير، ليتأثر ضميره ويتوب عن شره. وقد يسمح بالتجارب لإِنسان يتَّقيه، إذا وجد أن حياة الرغد والسعة تحول بينه وبين التقدم في حياة التقوى، التي هي أعظم حياة في الوجود.

  2. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، لأن الموت الجسدي الذي نرتعد لذكره وتتحطم عنده آمالنا وأمانينا، ويورثنا الكثير من الحزن والأسى، ليس إلا النتيجة الختامية للخطية في العالم الحاضر. فقد قال الله لآدم عن الشجرة المنهيّ عنها: «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17)، كما قال له بعد الأكل منها: «لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تكوين 3: 19).

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - إذا كان الموت هو قصاص الخطية، فلماذا لم ينفذ الله هذا القصاص في آدم بعد عصيانه مباشرة؟

الرد: لم يفعل الله ذلك لسببين: (أ) بعد قيادته لآدم إلى التوبة والإِيمان برحمته تعالى عن طريق نسل المرأة العتيد أن يسحق رأس الشيطان (تكوين 3: 15)، نفذ حكم الموت الجسدي الذي كان يجب أن يحل بآدم، في حيوان عوضاً عنه. وهذا الحيوان وإن كان في حد ذاته ليس بكاف للتعويض عن آدم لأنه أقل قدراً منه، لكن لأنه كان رمزاً إلى كفارة أسمى منه بما لا يُقاس (كما يتضح بالتفصيل في البابين الثالث والرابع)، اكتسب وقتئذ القدرة الكافية للتعويض عن آدم أمامه تعالى. فأطال الله عمر آدم ما شاء، كما لو كان مخلوقاً جديداً (ب) لم يخلق الله الأرض عبثاً بل هيأها للسكن (إشعياء 45: 18)، لذلك كان من البديهي أن يُبقي آدم بعد فدائه، ليأتي بنسل يملأ الأرض وينعَم فيها بفضله تعالى من جهة الأمور الروحية والمادية معاً.

2 - كان موت آدم أمراً طبيعياً ولم يكن قصاصاً عن الخطية التي ارتكبها، لأن جسده قابل للموت من تلقاء ذاته مثل أجسادنا.

الرد: لا نستطيع الجزم بما كان عليه جسد آدم في أول الأمر، ولكن ما نستطيع الجزم به، وهو أن جسده أصبح، بعد السقوط في الخطية، مثل أجسادنا تماماً، قابلاً للموت والانحلال. فقد قال الوحي: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12).

ولو فرضنا جدلاً أن جسد آدم كان قد خُلق من أول الأمر قابلاً للموت، وأنه عاش بعد ذلك في الجنة دون أن يعصى الله، لكان تعالى قد حوّل جسده إلى جسد غير قابل للموت، وذلك للأسباب الآتية (أ) إن هذا التحول لم يكن يتعارض مع ناموس الطبيعة الثابت، فدودة القز مثلاً، تتحول إلى عذراء ثم إلى فراشة تطير في الهواء، دون أن يعتريها بذلك أي تغيير في ذاتيتها. (ب) إن آدم بجسمه وروحه خُلق أصلاً للبقاء، ويكفينا دليلاً على ذلك أن كل الأديان تنادي بأن البشر عامة سيقومون بعد موتهم بأجساد تبقى إلى الأبد. فلا غرابة لو كان الله قد حوَّل جسد آدم إلى جسد غير قابل للفناء، لو كان آدم قد استمر في حالة الطاعة. (ج) سجل الوحي لنا أن الله قبل أن يخلق آدم، كان قد أعد له وسيلة يمكن أن يحيا بها إلى الأبد، في شجرة وضعها في الجنة أطلق عيها اسم «شجرة الحياة» (تكوين 3: 22)، (د) أنبأنا العلم أنه من الممكن إطالة عمر الإِنسان كثيراً بمحاربة أمراض الشيخوخة التي يتعرض لها. وقدرة الله على إطالة عمر الإِنسان، بل وإطالته إلى الأبد، تفوق قدرة العلم بدرجة لا تحد.

مذكرة توضيحية عن جنة عدن، وعن شجرة الحياة:

الجنة التي خلقها الله لآدم كانت جنة مادية بها طعام وشراب ماديان، وقد اندثرت تماماً بواسطة الكوارث، ولا سيما الطوفان الذي حلّ بالأرض في أيام نوح، فلم يبقَ لها أثر. ولذلك فالمؤمنون الحقيقيون لا يذهبون إلى الجنة بعد انتقالهم من العالم الحاضر كما يظن بعض الناس، بل يذهبون إلى الفردوس، أو بالحري إلى السماء الثالثة (2 كورنثوس 12: 2 - 4)، وفي هذه السماء لا مجال للمتع الجسدية على الإِطلاق. فقد قال الوحي عن الذين سيحظون بالوجود هناك، إنهم لا يزوجون ولا يتزوجون كما أنهم لا يأكلون ولا يشربون، إذ أن متعهم هناك ستكون من أولها إلى آخرها متعاً روحية محضة (متى 22: 30 ، رومية 14: 17). لأن هذه المتع هي التي تتوافق مع الأجساد الممجدة التي سيلبسونها في السماء، كما تتوافق مع روحانية الله المطلقة.

وشجرة الحياة لم تكن هي شجرة «معرفة الخير والشر» التي نهى الله آدم عن الأكل منها من قبل، بل كانت شجرة غيرها (تكوين 2: 9). كما أن شجرة الحياة هذه لم تكن في ذاتها هي التي ستمنع الموت عن آدم وزوجته لو كانا قد أكلا منها، لأنها كانت شجر مادية، والأشياء المادية لا تستطيع أن تهب حياة أبدية لمن يأكل منها، لكنها كانت رمزاً إلى المسيح (رؤيا 22: 14) الذي يستطيع أن يهب هذه الحياة، لكل من يتغذى روحياً به (يوحنا 6: 51). وطبعاً لم يسمح الله لآدم بالأكل من شجرة الحياة بعد سقوطه في الخطية (تكوين 3: 24)، لئلا يحيا إلى الأبد في خطاياه، فيكون ذلك وبالاً عظيماً عليه وعلى نسله إلى الأبد.

5 - الخطية والآلام الذاتية الأبدية

1 - تأثير حضرة الله:

معظم الذين يفعلون الخطية في الزمن الحاضر لا يدركون شناعتها أو خطورتها، ولذلك لا يحسبون لها حساباً. غير أن موقفهم هذا سوف لا يدوم طويلاً، لأنه سيأتي يوم - ولا بد أن يأتي - فيه يرون أنفسهم وجهاً لوجه أمام الله الذي كانوا يسيئون إليه ويتجاهلون حقوقه، وحينئذ يدركون أن خطاياهم شنيعة وخطيرة بدرجة لم تكن تخطر لهم ببال، فيرتعبون رعباً ليس بعده رعب، ويفزعون فزعاً ليس بعده فزع. فقد ذكر الوحي أن بيلشاصر الملك (أحد ملوك بابل القدامى، وكان قد أهان في كبريائه الله جل شأنه إهانة بالغة) عندما شعر بقضاء الله يهبط عليه «حِينَئِذٍ تَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ ٱلْمَلِكِ وَأَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ وٱنْحَلَّتْ خَرَزُ حَقَوَيْهِ وٱصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ» (دانيال 5: 6)، كما ذكر أن الملوك والعظماء (الذين سيكونون أحياء على الأرض عند ظهور الرب للدينونة)، سوف يخفون أنفسهم في الكهوف والشقوق، «وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَٱلصُّخُورِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْه ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ» (رؤيا 6: 16). لكن لن تسمع الجبال لندائهم ولن تستجيب الصخور لصراخهم، إذ ليس هناك شيء في الوجود يستطيع أن يحجبهم عن الله، فيظلون في رعب ليست له نهاية.

2 - تأثير الضمير:

كلنا يعلم أن الضمير أُودع فينا ليهدينا سواء السبيل، وذلك بالتأنيب على فعل الشر والتشجيع على فعل الخير. وبما أن الذين يرتكبون الخطية في العالم الحاضر، كثيراً ما يلتمسون الأعذار لأنفسهم، فيخدّرون ضمائرهم ويُخمدون صواتها. وبما أنه ليس في عالم الروح مجال لتخدير الضمير وإخماد صوته، لذلك فالضمائر النائمة الآن، لا بد أن تستيقظ في الأبدية، وهناك سيرى الخطاة بطلان الأمور الدنيوية التي كانوا يفنون فيها صحتهم ويضيّعون فيها ثرواتهم ووقتهم، فيندمون ويتحسرون، ويكتشفون خيبتهم في تضليل أنفسهم بالتماس الأعذار الواهية، فينوحون ويتوجعون، ثم يقدّرون إحسان الله الذي كان يتهاطل عليهم دون أن يعبأوا به، فيبكون ويولولون إلى أبد الآباد، لأنه ليس هناك من يرحمهم أو يشفق عليهم.

3 - الوحشة في الأبدية:

وبما أنه لا يوجد في عالم الروح أثر للشهوات التي يلهو بها الناس في دنياهم، أو العلاقات التي يجدون فيها سلواناً لأنفسهم، أو الأعمال التي تشغل أفكارهم وتصوراتهم، لأن عالم الروح لا تأثير فيه لغير الله. لذلك فالأشرار سوف يشعرون بوحشة لا نظير لها، إذ لن تكون لهم علاقة، ليس مع الله أو قديسيه فحسب، بل ولا مع الأشرار الذين كانوا على شاكلتهم في العالم الحاضر أيضاً، فلا يكون هناك من يواسي الخطاة ويعزيهم، أو يُنسيهم همومهم وآلامهم، أو يهوّن عليهم من خَطْبهم ومصابهم.

4 - القصور الذاتي:

إن الطبيعة البشرية المنحرفة عن الله، لا تتغير على الإِطلاق مهما نال المرء الكثير من التهذيب والتعليم، كما ذكرنا في الفصل الثاني. ولذلك فالذين لم يحصلوا في العالم الحاضر على طبيعة روحية من الله تؤهلهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، سوف يجدون أنفسهم في الأبدية عاجزين أيضاً عن هذا التوافق مهما بذلوا في سبيله من جهد. وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من العلماء، فقال صموئيل جونسون: «إن الحالة التي تسود علينا في العالم الحاضر، ستظل سائدة علينا في العالم الآخر».

فلو فرضنا أن الخطاة استطاعوا أن يفلتوا من مصيرهم المرعب، وينطلقوا ليسترضوا الله ويدخلوا في علاقة جديدة معه، لا يمكن أن يظلوا في حضرته لحظة واحدة، فينكصون على أعقابهم متباعدين عنه، مثَلهم في ذلك مثَل الحشرات التي ألفت العيش في الظلام بسبب موافقته لطبيعتها، فإنها إذا خرجت إلى سطح الأرض ليلاً وأحست بضوء ما، سرعان ما تعدو إلى جُحرها لتختبئ وتتوارى في ظلمته - هذا هو القصور الذاتي الذي يحول بين الخطاة وبين تغيير سلوكهم في الأبدية، ويقطع من أمامهم كل أمل في النجاة من اشر الذي تشكلوا به في دنياهم، ويورثهم آلاماً مريعة تحزّ في نفوسهم. وقد أشار الوحي إلى هذه الآلام فقال عن الخطاة إن نصيبهم في الأبدية هو البكاء وصرير الأسنان (متى 8: 12) البكاء بسبب شدة الألم، وصرير الأسنان بسبب شدة الندم.

أما الاعتراضات التي تُوجَّه لهذه الحقائق، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - إنّ الإِنسان ليست له روح قائمة بذاتها، بل هو مجموعة مواد متآلفة معاً تقوم بأعمالها من تلقاء ذاتها.

الرد: (ا) إنّ خلايا الجسم، كما يقول العلماء، في تغيير مستمر، وإنّ الجسم اليوم غيره منذ شهور. ولكن على الرغم من ذلك، نرى الإنسان باق بذات كيانه الفكري والأدبي والاجتماعي، كما يتذكر جيداً ما فعله أو صادفه منذ عشرات السنين، فلا يمكن أن يكون مجرد مجموعة مواد متحدة معاً (كما يُقال)، بل لا بد أنه قائم أيضاً بجوهر لا يتأثر بتغيير ذرات جسمه، وهذا الجوهر هو ما يطلق عليه الوحي اسم «الروح».

(ب) كما أن التلباثي (أي تبادل الأفكار بين إنسان وآخر) والهيبنوتزم (أي التنويم المغناطيسي) يدلان أيضاً على أن الإِنسان ليس مجرد مواد متحدة، بل أنه قائم أيضاً بجوهر روحي، يرسل ويستقبل الأفكار المعنوية بطريقة غير مرئية. كما يدلّ اهتداء الفنانين والعلماء أثناء نومهم إلى الموضوعات التي كانوا يعجزون عن الوصول إليها في يقظتهم، على أن الإنسان قائم بجوهر روحي يمكن أن ينشط عندما يتحرر الإِنسان من المؤثرات الخارجية، وهذا الجوهر هو ما يُسمَّى الروح كما ذكرنا.

(ج) أعلن الوحي بعبارات واضحة عن وجود روح الإِنسان، فقال: «وَلٰكِنَّ فِي ٱلنَّاسِ رُوحاً وَنَسَمَةُ ٱلْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ» (أيوب 32: 8). وقال أيضاً: «رُوحِ ٱلإِنْسَانِ فِي دَاخِلِهِ» (زكريا 12: 1)، وأيضاً «رُوحُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي فِيهِ» (1 كورنثوس 2: 11). ولذلك قال داود النبي لله: «فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (مزمور31: 5).

2 - إن كانت للإِنسان روح، فهي لا تفرق شيئاً عن روح الحيوان.

الرد:(ا) إن جميع الحيوانات لم تُظهر منذ نشأتها تقدماً ما، وما كانت تعمله قديماً بالغريزة هو هو ما تعمله الآن دون تحسين أو تغيير، فلغاية الآن لا يعمل الطائر سوى عشه، والثعلب سوى جُحره، والنحل سوى خليته، وهكذا... وإن كانت بعض الحيوانات قد تعلمت شيئاً جديداً، فالفضل في ذلك للإِنسان الذي روّضها وهذّبها. أما الإِنسان فقد أظهر منذ وجوده على الأرض، ومن تلقاء ذاته أيضاً، رقياً وتقدماً في كل الميادين العلمية والاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية. كما أننا إذا رجعنا إل التاريخ نرى أن ذكاء القدامى لا يقل عن ذكاء الناس في الوقت الحاضر. وحضارة قدماء المصريين والبابليين والأشوريين والكلدانيين التي ظهرت قبل الميلاد بآلاف السنين خير دليل على هذه الحقيقة، الأمر الذي يدل على أن ذكاء الإنسان فطري وليس مكتسباً وقد شهد بهذه الحقيقة «برانكو» أعظم علماء الحفريات، فقال بعد بحوثه الطويلة: «إنّ الإِنسان ظهر على الأرض فجأة بذكائه الموجود عليه الآن، في أواخر العصور الجيولوجية».

(ب) لدى الإنسان مبادئ سامية ليس لها نظير لدى الحيوان (مثل الأمانة والإخلاص والنزاهة والشرف والتضحية والعفاف)، كما أن لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر، وعلى الاختراع والابتكار، والارتقاء فوق الغرائز والميول. وليس ذلك فقط، بل وعلى التفكير المنطقي المرتب، والتعبير عن هذا التفكير باللسان والقلم. أضف إلى ذلك أن لكل إنسان شخصية قائمة بذاتها لها مميزاتها الأدبية والخلُقية والنفسية التي لا يشترك معه فيها غيره. الأمر الذي لا يتوافر في الحيوان، إذ أن كل نوع منه، مع اختلاف أفراده الظاهري في اللون والشكل والحجم، له صفات وخصائص واحدة.

(ج) مما تقدم يتضح لنا أن الإِنسان ليس مجرد جسم يتحرك بفعل الغرائز والحياة الطبيعية كما يفعل الحيوان، حتى يجوز التساؤل إن كانت له روح تميزه عن الحيوان، بل إنه قبل كل شيء هو عقل وفكر وإدراك، وهو قائم بروح لا نظير لها في الحيوان. وقد أدرك هذه الحقيقة سارتر فيلسوف الوجودية الحديثة، فإنه مع عدم تديُّنه قال «إنّ الإِنسان يتميَّز عن الحيوان بوجود العقل فيه. فالحيوان عبد للطبيعة محكوم من الخارج بقوانينها ومن الداخل بغرائزه. أما الإِنسان فهو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يقاوم الطبيعة، لأن له عقلاً يفهم به الأشياء: عقلاً لم يحْظَ الحيوان به. فالإِنسان إذاً لا شبيه له في الكون». وهذا العقل لا يمكن أن يكون شيئاً معنوياً كالصفات، بل لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً، له وجود ذاتي، ومن ثم لا يكون سوى الروح الفاهم.

3 - إذا كان للإِنسان روح تميزه عن الحيوان، فهل يكون لها وجود بعد موته، حتى يمكن أن تشقَى أو تسعَد؟

الرد: (ا) إذا كان جسم الإنسان المادي لا يفنى، وأن كل ما يطرأ عليه من تغيير بعد الموت هو تحلله إلى عناصر منظورة أو غير منظورة بسبب تكوُّنه من مواد مختلفة، فمن المؤكد أن الروح، التي هي العنصر الجوهري في الإِنسان، لا تفنى أيضاً. كما أنها لا يمكن أن تتحلل إلى عناصر، لأنها ليست مادية بل روحية.

فضلاً عما تقدم، فإذا كان وجود الغرائز في الإنسان دليلاً على أن هناك مجالاً لاستثمارها وإشباعها كما نعلم جميعاً، لذلك فإن غريزة حب البقاء التي تسيطر عليه دليل على أنه إذا مات جسده، لا تفنى روحه بل تبقى. كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن لكل مجهود يبذله الإِنسان في هذا العالم، نتيجة تتكافأ معه، فالمجتهد له الثواب والمهمل له العقاب، أدركنا أنه لا يمكن أن يكون القبر هو النتيجة التي تنتهي إليها حياة الإِنسان الصالح والطالح معاً، بل لا بد أن هناك عالماً آخر يحصد فيه كل منها نتائج عمله، الأمر الذي يدل على وجود روح الإِنسان.

(ب) والحق أن الحياة لو كانت مقصورة على العالم الحاضر لكانت في جملتها بلا فائدة أو جدوى، وهذا هو ما انتهى إليه الفيلسوف شوبنهور فقال: «الحياة سلسلة متواصلة من الألم. فأولها ألم وآخرها ألم، وهي كوميديا مفجعة يتكرر تمثيلها من وقت إل آخر». والذين نسجوا على منواله احتقروا الحياة واستسلموا لليأس، فضاقت الدنيا على سعتها في أعينهم، فانتحروا أو عاشوا حياة البؤس والشقاء - وهذا ما دعا روسو إلى القول: «إنّ فكرة عدم الخلود تحطم روح الإِنسان، وتدمر أنبل عواطفه».

لولا الخلود، لكانت الحياة خطأ في خطأ، إذ تكون تعباً وعناء ثم فناء إلى الأبد، الأمر الذي لا يتفق مع ناموس الكون الدقيق الذي نعيش فيه. فإذ أضفنا إلى ذلك (1) أن روح الإِنسان، دون غيره من الكائنات، هي نسمة أو نفخة من الله (تكوين 2: 7) وأن الله خالد إلى الأبد، ومن ثم فإن روح الإِنسان لا بد أن تبقى بمشيئته إلى الأبد أيضاً. (2) خلق الله الإِنسان دون غيره من الكائنات على صورته كشبهه، كما أرسل له دون غيره من الكائنات الرسل والأنبياء، ليرشدوه إلى الحق والصواب، الأمر الذي يدل على محبته الشديدة له. فلا يمكن أن يكون الموت نهاية حياة الإنسان، بل وسيلة ينتقل بها إلى عالم آخر، يكون فيه تحت تأثير الله دون سواه.

(ج) وهناك آيات كثيرة تدل على أن الروح لا تفنى بعد موت الجسد، فمثلاً قال الحكيم، إن الروح ترجع إلى الله الذي أعطاها، كما يرجع التراب إلى الأرض كما كان (جامعة 12: 7). وقال إشعياء النبي لله: «تَحْيَا أَمْوَاتُك. تَقُومُ ٱلْجُثَثُ» (26: 19). وقال أيوب: «وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هٰذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى ٱللّٰهَ» (19: 26). وفي العهد الجديد أنبأنا المسيح في قصة الغني ولعازر أن الروح تبقى بعد موت الجسد لتُكافأ أو تُعاقب (لوقا 16: 19 - 31). كما قال للمؤمنين به: «وَلا تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متى 10: 28). وقال بولس الرسول: «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ (أي أنطلق بروحي) وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23). وقال بطرس الرسول إنّ أرواح الذين عصوا الله في أيام نوح، موجودة الآن في السجن (أي الهاوية) (1 بطرس 3: 19). وقال يوحنا إنّ الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، عاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة (رؤيا 20: 4). وقال يهوذا إنّ سكان سدوم وعمورة الأشرار سيكابدون عقاباً أبدياً.

(د) أخيراً نقول وإن كانت شهادة الوحي عن خلود الروح لا تحتاج إلى دليل بشري لتدعيمها، لكن لفائدة الذين يريدون معرفة أقوال الفلاسفة بشأن هذا الموضوع نقول: إنّ المشهورين منهم نادوا ببقاء الروح. فقال سقراط «إنها لا تفنى»، وقال أفلاطون «إن التفكك والفساد يلحقان بالمادة. وبما أن النفس بسيطة وإلهية، لذلك فهي أبدية». كما قال «إنّ كل كائن يسهم في فكرة معيّنة لا يقبل ضدها. وبما أن النفس هي مصدر الحياة، لذلك لا يمكن أن تقبل ما هو ضدها، وهو الموت». وقال أرسطو «إنّ في الإنسان كائناً يظل في الوجود بعد موته، هو روحه التي ليس لها نظير في النبات أو الحيوان». وقال الرواقيون «إنّ النفس لا تفنى بل تعود إلى أصلها». وهناك شهادات متعددة لكثير من فلاسفة العصرين المتوسط والحديث، لكن للاختصار نكتفي بالشهادات التي ذكرناها لأن أصحابها كانوا غير متأثرين بالإِعلانات السماوية التي تنادي بخلود النفس، بل كانوا متأثرين بوحي عقولهم وحدها.

4 - النفس هي الدم فمكتوب «لأن نفس الجسد هي في الدم» (لاويين 17: 11). والدم يتلاشى بالموت، لذلك فنفس الإِنسان لا يكون لها وجود بعد موته.

الرد: فضلاً عن أنه لا يُفهم من هذه الآية أن النفس هي الدم بل إنها فيه، فإنَّ الآية المذكورة قيلت عن الحيوان لا الإنسان. ونظراً لأن الإنسان لم يُخلق على النسق الذي خُلق به الحيوان لأن الله خلق الحيوان بمجرد الأمر، لكنه خلق الإنسان بواسطة نسمة أو نفخة حياة أودعها بذاته فيه (تكوين 2: 7)، لذلك كانت للإنسان روح عاقلة بالإضافة إلى نفسه (1 تسالونيكي 5: 23) التي هي مصدر ما فيه من نشاط جسدي. وكانت روحه باقية ببقاء الله لتتوافق معه إلى الأبد أو لتُحرم منه إلى الأبد. ولكن اقتران روح الإِنسان بنفسه، قد يُطلَق عليها نفسه.

5 - أرواحنا، كما يقول بعض الصوفيين، تفنى بالموت في الله، كما تفنى مياه الأنهار في المحيطات، ولذلك لا يكون هناك فرق بين أرواح الصالحين وبين أرواح الطالحين بعد انطلاق الفريقين من أجسادهما إلى العالم الآخر.

الرد: إن الله، وإن كان يريد أن تتوافق أرواحنا معه في صفاته الأدبية السامية، لكنه لا يبغي من وراء ذلك إفناءها فيه، بل إبقاءها في الخلود معه بشخصياتها الخاصة بها، لأنه بدون ذلك لا تتحقق أغراضه السامية من خلقها. كما أنه ليس من المعقول إطلاقاً أن تفنى أو تذوب أرواح الأشرار في الله (إذا كان هناك مجال للفناء أو الذوبان فيه) وذلك لاختلافها عنه في صفاته كل الاختلاف.

6 - الإنسان عندما يموت يفنى، لأنه لا يبقى للإدراك أو الوعي وجود فيه، كما أن القول بخلود الروح هو فقط أحد الآمال التي تجيش في أفئدة الفقراء والمظلومين الذين يريدون أن يسرّوا عن أنفسهم، أو الأنانيين الذين يريدون أن ينالوا في العالم الآخر ثواباً عما يقومون به من صلاة أو صوم أو صدَقة. فضلاً عن ذلك فإن القول بالخلود يحد من جهاد الإِنسان في خدمة المجتمع الذي يعيش فيه، الأمر الذي يحول دون تقدمه.

الرد: (ا) إنَّ الإدراك وإن كان من عمل المخ، لكن المخ لا يأتي به من تلقاء ذاته، وإلا لكان مخ الميت يدرك كما يدرك مخ الحي. وإذا كان الأمر كذلك، عرفنا أن العامل في المخ للإِدراك لا بد أن يكون عنصراً روحياً قائماً بذاته، هو الروح كما ذكرنا. وموت الجسد وتعطل عمل المخ لا يدلان على فناء الروح، بل يدلان على انطلاقها من الجسد.

(ب) الذين يقولون بخلود الروح ليسوا فقط من الفقراء والمظلومين أو الأنانيين الذين يريدون أن يكون لهم ثواب بعد الموت، بل هم أيضاً الفلاسفة والعلماء الذين يبحثون عن الحقيقة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الخلود يضع الإِنسانية في موضعها الصحيح كما يعطيها معناها السامي الرفيع، وإن الذين يؤمنون إيماناً حقيقياً بالله والخلود يُكثِرون من عمل الخير في العالم تمجيداً لله وتنفيذاً لمشيئته على الأرض، دون انتظار لجزاء أو ثواب، اتضح لنا أن الاعتراض الذي نحن بصدده لا نصيب له من الصواب.

7 - ينفي الكتاب المقدس في بعض آياته بقاء أرواح الأشرار بعد موتهم، لأنه قال عنها إنها تهلك (أمثال 10: 29). كما يعلن في آيات غيرها أن الأرواح بصفة عامة مائتة (1 كورنثوس 15: 53)، فأرواح الأبرار سوف تتلاشى أيضاً بالموت، لأن الخلود هو لله دون سواه.

الرد: (ا) الكلمة المترجمة إلى العربية «تهلك» ترد في اللغة اليونانية (اللغة الأصلية للإنجيل) «أبليومى» ومعناها الحرفي الإصابة بدمار لا يُصلَح. وهكذا الحال في اللغات الأوروبية جميعاً، فمثلاً كلمة perish الإنجليزية المقابلة للكلمة ايونانية المذكورة أعلاه، تدل فيما تدل عليه من معان، على الضلال والفساد ولذلك فإن هذه الكلمة بعينها ترجمت «الضلال» في الآية «خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ» (متى 10: 6)، كما ترجمت «الهلاك» بهذا المعنى بعينه كما في الآية «جَاءَ (المسيح) لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ (من البشر)» (متى 18: 11)، أي من دمرته الخطية أدبياً، لأنه إذا كان إنسان قد هلك بمعنى فني، لا يكون هناك مجال للسعي وراءه أو لخلاصه.

أما عن الجزء الثاني من الاعتراض فنقول: إن كلمة «المائت» في الآية الواردة في (1 كورنثوس 15: 53) «وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ»، لا يُراد بها الروح بل الجسد. فقد قال الوحي في موضع آخر: «لا تَمْلِكَنَّ ٱلْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ ٱلْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ» (رومية 6: 12) - وكلمة «المائت» هنا، يُراد بها القابل للموت.

(ب) ولكي لا ندع مجالاً للالتباس من جهة معاني الألفاظ الخاصة بهذا الموضوع نقول: إنّ الخلود يُراد به الوجود الذاتي من الأزل إلى الأبد، فهو خاص بالله دون سواه. أما البشر فليسوا من الأزل، كما أنه من المحال أن يزولوا من الوجود، كما تزول الحيوانات، لأن الله بخَلقْه إياهم بنفخة منه، جعل لأرواحهم خاصية البقاء. ولذلك فهم باقون ليس بفضلهم الذاتي، بل بفضل الله عليهم، لأنه هو الذي خلقهم على هذا النحو.

8 - تمرُّ الأرواح (كما يقول العلماء المتخصصون في دراستها) بعد خروجها من أجسادها في مراحل تصبح بعدها مهيَّأة للوجود مع الله، ولذلك لا يكون هناك مجال أمام أرواح الأشرار للألم والعذاب بعد الموت. وإن شعرَتْ بألم أو عذاب بعده، فإن ذلك سيكون إلى حين وليس إلى الأبد.

الرد: فضلاً عن أن العلماء الذين يدّعون أنهم «علماء الأرواح» قد ثبت انخداعهم بطرق شتى، الأمر الذي لا يدع مجالاً للأخذ بآرائهم، نقول: إنَّ الأرواح تنطلق من أجسادها بالحالة التي تكون عليها في هذه الأجساد. فإنَّ كانت منحرفة عن اللهو هي في أجسادها، ستكون منحرفة عنه كذلك بعد خروجها منها، لأن طبيعتها لا تتغير كما ذكرنا فيما سلف. فضلاً عن ذلك فإنَّ القول بمرور أرواح الأشرار بعد خروجها من أجسادها، في مراحل تتهيأ بعدها للوجود مع الله، يحط من شأن التقوى والقداسة والأمان في العالم الحاضر، كما يترتب عليه أن الأشرار يكونون قد أبغضوا الله ورفضوه وأساءوا إليه في هذا العالم، وبعد ذلك يكونون قد استطاعوا أن يدخلوا سماءه ويتمتعوا فيها بالغبطة والهناء، جنباً إلى جنب مع الذين أحبوه وأخلصوا له وأكرموه في حياتهم، وهذا ما يتعارض مع أبسط البديهيات.

فالأرواح تنطلق إلى الأبدية حاملة معها صفاتها التي كونّتها لذاتها في العالم الحاضر، وتظل على هذه الحال إلى أبد الآباد. فإذا كانت لها علاقة مع الله وهي في هذا العالم، ستكون لها أيضاً علاقة معه في سمائه إلى الأبد. وإذا لم تكن لها علقة مع الله وهي في هذا العالم، لن تكون لها أيضاً علاقة معه بعد ذلك، بل تنطلق إلى هاوية العذاب بعيداً بعيداً عنه، حتى يتقرر مصيرها النهائي في بحيرة النار حيث العذاب الجهنمي إلى الأبد (رؤيا 20: 11 - 15) - والآيات الخاصة بالغني ولعازر الوردة في (لوقا 16: 19 - 26)، خير دليل على الحقيقة التي ذكرناها.

6 - الخطية والعقوبة الإلهية الأبدية

1 - عدالة العقوبة الإِلهية:

إنَّ شعور الخطاة في الأبدية بالآلام الذاتية المتعددة التي ذكرنا طرفاً منها في الفصل السابق، لا يعفيهم من توقيع القصاص الإِلهي عليهم بسبب خطاياهم. ولا غرابة في ذلك، فشعور المجرمين بالحسرة والندم بعد القبض عليهم لا يعفيهم من توقيع القصاص القانوني عليهم. فالخطاة لا بد أن ينالوا من الله عقاباً عن خطاياهم، كبيرها وصغيرها، حتى إن كانوا قد نالوا قصاصاً عنها في دنياهم بواسطة المحاكم الأرضية، لأن عقاب هذه المحاكم ليس عن الإِساءة إلى الله، بل عن الإساءة إلى المجتمع الذي يعيش فيه الناس.

2 - مدى العقوبة الإلهية:

بما أن قصاص الإساءة يتناسب طردياً مع مكانة الشخص المُسَاء إليه. فإذا وقعت إهانة على شخص قليل الشأن كخادم صغير في منزل، كان قصاصها لا يُذكر، وكان تعويضها (إن كان لا بد من تعويض) ضئيلاً. أما إذا وقعت الإهانة على شخص عظيم القدر كملك أو حاكم، كانت جريمة شنيعة تستحق عقاباً جسيماً لا مجال للتعويض فيه بحال. وبما أن الخطية هي إهانة لله الذي لا نهاية لمجده ولا حدّ لسموّه، إذاً فالعقوبة المستحقَّة عنها هي عقوبة لا نهاية لها. ولذلك لا عجب إذا كان لله قد قال لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها «مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17). ومن مواضع كثيرة في الكتاب المقدس يتضح لنا أن الله قصد بهذا الموت المؤكد، الموت بأنواعه الثلاثة، أي الأدبي والجسدي والأبدي. وقد تحدثنا فيما سلف عن النوعين الأوَّليْن من هذا الموت، ومن ثم نحصر الحديث هنا عن الموت الأبدي.

إن الموت الأبدي هو المعبَّر عنه في الكتاب المقدس بالموت الثاني،أو العذاب الأبدي (رؤيا 20: 14)، وهو قصاص لا نهاية لمدته، لأن الخطية جريمة ضد الله الذي لا نهاية لمجده، ولا حد لسمّوه. لذلك قال الوحي عن الأشرار إن نصيبهم هو « ٱلْبُحَيْرَةِ ٱلْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي» (رؤيا 21: 8). وهذه البحيرة هي جهنم التي لا تُطفأ نارها ولا يموت دودها (مرقس 9: 44). والنار هنا ليست طبعاً ناراً مادية، لأن المادة (بالمعنى المعروف لدينا) هي من خصائص الأرض وغيرها من الأَجرام. ومع ذلك فمن المؤكد أن تأثيرها سيكون للأسباب السابق ذكرها، أشد من تأثير النار المادية بنسبة لا حدّ لها، لأن الفرق بين الاثنين هو في الواقع الفرق بين الحقيقة والصورة الخاصة بها، وهذا الفرق شاسع للغاية. كما أن الدود الوارد ذكره مع جهنم ليس دوداً بالمعنى الحرفي، إذ أن المراد به وخزات الضمير وتأنيباته اللاذعة، التي تحدثنا عنها في الفصل السابق.

مذكرة توضيحية عن جهنم:

يقول بعض الشراح إن كلمة «جهنم» مشتقة من كلمة «جي هنوم» أو «وادي هنوم» الذي كانت تُحرق فيه الضحايا البشرية كل يوم قرباناً للوثن مولك (2 ملوك 23: 10)، وكان من لا تصيبه النار من هذه الضحايا، يصبح مسرحاً للدود. فاتخذ الوحي اسم جي هنوم الذي يعرفه الناس وأطلقه على مكان عذاب الأشرار الأبدي الذي لا يعرفونه. وجهنم ليست هي الهاوية، لأن الهاوية بقسميها هي المكان العام الذي تنطلق إليه الأرواح بعد خروجها من أجسادها. والقسم الأول خاص بأرواح الذين لهم علاقة حقيقية مع الله، ويدعى «الفردوس» (لوقا 23: 43)، والقسم الثاني خاص بأرواح الذين ليست لهم مثل هذه العلاقة معه، ويدعى «السجن» (1 بطرس 3: 19). ولا شك أن الذين يدخلون السجن بأرواحهم وأجسادهم معاً، يتألمون قبل نزول هذا العذاب بهم. أما الذين يدخلون الفردوس بأرواحهم فيشعرون بشيء من السعادة الأبدية التي تنتظرهم عند قيامة أجسادهم من بين الأموات، فيفرحون قبل قيامتهم بها.

3 - الأساس الذي توقع عليه العقوبة:

بما أن من يرتكب خطية صغيرة في نظرنا، يتعدى على شريعة الله ويحرم نفسه من التوافق معه، شأنه في ذلك شأن من يرتكب خطية كبيرة سواء بسواء. إذاً لا غرابة إذا قال الوحي: «مَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ» (متى 5: 22)، كما بالقول إن هذه النار بعينها يستحقها «ٱلْخَائِفُونَ وَغَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلرَّجِسُونَ وَٱلْقَاتِلُونَ وَٱلّزُنَاةُ وَٱلسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ ٱلأَوْثَانِ وَجَمِيعُ ٱلْكَذَبَةِ» (رؤيا 21: 8)، لأن من يقول «يا أحمق»، يكون مجرداً من المحبة للآخرين والعطف عليهم. وشخص مجرد من هاتين الصفتين لا يستطيع التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، وبالتالي لا يستطيع التمتع به على الإطلاق. وعدم التمتع بالله أو الحرمان منه، هو جهنم بعينها.

ولا يُراد بغير المؤمنين: المشركون والملحدون فحسب. بل يُراد بهم أيضاً المؤمنون بالاسم. لأن هؤلاء وإن كانوا يعترفون بالمسيح ويقومون بالفرائض أحياناً، غير أنهم لا يستطيعون التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، مثلهم في ذلك مثل لمشركين والملحدين تماماً.

أما الإعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - ليست الخطية جريمة بل مرضاً متأصلاً فينا، لذلك لا يكون موقف الله إزاءنا موقف القاضي الذي يحكم بالعقاب، بل موقف الطبيب الذي يتولى العلاج.

الرد: وإن كنا ورثة الطبيعة الخاطئة من آدم، غير أننا لا نرتكب الخطية رغماً عنا بل بإرادتنا كما ذكرنا في الفصل الأول، لذلك تكون خطيتنا التي نأتيها معصية أو جريمة. وهذه لا تُقابَل بالعطف بل بالعقاب، إلا إذا تاب فاعلها توبة صادقة واعتمد على رحمة الله في الغفران الذي يتفق مع كمال صفاته جميعاً. فإن الله في هذه الحالة يقف منه موقف الطبيب الذي يعالجه ويأخذ بناصره.

2 - ليس الإنسان مسئولاً عن الشر الذي يعمله، لأنه مجبَر على عمله بواسطة قوة أعظم منه، سواء كانت هذه القوة هي قوة الشيطان، أم قوة الغرائز، أم قوة الجبر الإلهي. وإن لم يعمل الإنسان الشر بسبب إحدى هذه القوى، فإنه يعمله بسبب العوامل الاجتماعية القاسية التي تحيط به، فلا تجوز معاقبته عما يأتيه من شر.

الرد: الإنسان مخلوق عظيم بل إنه أعظم مخلوقات الله قاطبة، لذلك استطاع أن يسيطر على الطبيعة ويستغلها لفائدته، كما استطاع أن يحلّق في الفضاء ويهبط على القمر وغيره من الكواكب، مؤيداً بإرادته القوية وعقله الجبار. كما أن الشيطان ليست له (كما سيتضح في الباب التاسع) سلطة على الإِنسان، إلا إذا انقاد الإنسان بإرادته وراءه. وهكذا الحال من جهة العوامل الاجتماعية، فإنه مهما كانت قسوتها، لا تؤثر على الإِنسان إلا إذا تخلى عن عقله ورضخ لها. والدليل على ذلك أن بعض الفقراء يحيون حياة الأمانة والنزاهة، وأن بعض الأغنياء لا أمانة لديهم أو نزاهة. أما الله فإنه لكماله المطلق، لا يمكن أن يرغم أحداً على فعل الخطية. وإذا كان الأمر كذلك، فالإنسان هو الذي يفعلها بمحض إرادته، ومن ثم يجب ألاّ يتنصَّل من المسئولية الملقاة على عاتقه، أو يعارض فيما يستحقه من عقاب بسبب خطاياه.

3 - خطايا الإلحاد والإشراك وحدها هي التي يعاقب الله عنها، أما الخطايا الأخرى فلا يعاقب عنها، لأن البشر لهم العذر أو بعض العذر في إتيانها، إذ أن طبيعتهم البشرية تدفعهم إليها.

الرد: لا شك أن خطايا الإِلحاد والإِشراك أشر من غيرها من الخطايا ولا علاقة لأصحابها مع الله، لا في العالم الحاضر أو العالم الآخر. لكن يجب أن لا يغرب عنا أنه كما أن الملحدين والمشركين ليست لهم علاقة بالله، فإن باقي الخطاة ليست له كذلك علاقة به، لأنهم لا يتوافقون معه في قداسته وكماله، ولأنهم أيضاً أساءوا إليه بمخالفتهم لشريعته التي أعطاها لهم. فمن البديهي ألاّ يكون لهم حق التمتع بالله في الأبدية، وأن ينالوا فيها أيضاً ما يستحقونه من قصاص بسبب خطاياهم. أما الاعتذار عن مخالفتنا لشريعة الله بدعوى وجود طبيعة تميل إلى الخطية فينا، فلا مجال له كما ذكرنا في الفصل الثاني.

4 - هل من العدالة أن يظل عذاب الخطاة إلى الأبد، مع أنهم لم يستغرقوا في عمل خطاياهم إلا وقتاً محدوداً؟

الرد: إن العقوبة (كما ذكرنا فيما سلف) تتناسب تناسباً طردياً مع قدر الشخص المُساء إليه، فعقوبة الخطية لا تُقاس بالنسبة إلى المدة التي عُملت فيها، بل بالنسبة إلى شناعتها بوصفها إساءة إلى الله نفسه. وإذا كانت جريمة واحدة تُعمل ضد الدولة في دقائق معدودة، قد يكون عقابها (كما نعلم) الإعدام، أو الأشغال الشاقة مدى الحياة، فلا غرابة إذا كان عقاب الخطية عذاباً إلى الأبد.

5 - هل من العدالة أن يطرح الله جميع الخطاة في جهنم إلى الأبد، مع أن بعضهم أقل شراً من البعض الآخر؟

الرد: مرّ بنا أن الخطاة مهما قلّت خطاياهم قد أساءوا إلى الله، كما أبعدوا أنفسهم عن التوافق معه، ولذلك لا جدال أنهم جميعاً سيقضون الأبدية بعيداً عنه، والبُعد عن الله مهما كان شأنه هو جهنم بعينها، لأنه لا هناء للنفس إلا بالوجود في حضرة الله والتوافق معه كما ذكرنا فيما سلف. ومع ذلك، فإنه وإن كان كل الخطاة سيكونون في جهنم إلى الأبد، غير أن كلاً منهم سيشعر هناك بما يستحقه من عذاب عن خطاياه، وذلك للأسباب الآتية:

(ا) سيكون الضمير مصدراً من مصادر العذاب الأبدي. فمن فعل خطايا شنيعة، سيكون تأثره بالألم أكثر من تأثر الذين لم يفعلوا مثل هذه الخطايا.

(ب) لله طرقه الخاصة لتحقيق عدالته بدرجة لا يجد الإنسان أو غير الإنسان معها مجالاً للاعتراض، فقد قال الوحي «... يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (رومة 3: 19).

(ج) «سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ» (رومية 2: 6). ولذلك نرى أن أهل كفر ناحوم (الذين كانت لهم فرص للخلاص لم يَحْظَ بشيء منها أهل سدوم) ستكون حالتهم في الأبدية أقسى من حالة أهل سدوم كثيراً (متى 11: 23 - 24).

6 - كيف تتفق معاقبة الله للخطاة مع اتصافه بالمحبة والرحمة؟

الرد: يقدم الله أولاً للخطاة كل محبة ورحمة، إذ يعرض عليهم الخلاص من دينونة خطاياهم مجاناً (بناءً على كفارته العظيمة التي سنتحدث عنها في الباب السادس)، لأنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2: 4). فكل من يرفض محبة الله ورحمته، يستحق أن يعامله الله حسب ناموس عدالته وقداسته. لأن صفاته لا تطغى إحداها على الأخرى، وذلك لكمال كل صفة من صفاته.

فإذا تساءل الناس: كيف يحب الله البشر، وفي الوقت نفسه يسمح بمعاقبتهم من أجل خطاياهم؟ فالجواب: إنه فضلاً عن أن العقاب بسبب الخطية يتفق مع العدالة، التي لا اعتراض عليها من أحد، فإن محبة الله ليست المحبة العمياء التي لا ترى العيوب والنقائص، أو المحبة الدنسة التي ترضى عن الشرور والآثام، بل هي المحبة المبصرة التي ترى كل الأشياء على حقيقتها، وفي الوقت نفسه هي المحبة المقدسة التي لا ترضى عن هذه الشرور والآثام، ومحبة مثل هذه لا تظهر فقط في العطف على الأتقياء الذين يحبون الله ويبذلون كل جهدهم للسير في سبيله، بل تظهر أيضاً في النفور من الأشرار الذين لا يراعون قداسته ويفسدون أمامه. وإلا لكان تعالى يُسَرّ بخطاياهم وتعدياتهم، وهذا ما لا يجوز إسناده إليه بحال. أضف إلى ذلك أن محبة الله التي تبعث إلى أتباعه بالفرح والابتهاج، ستكون هي بعينها العامل الذي، من ناحية أخرى، يُشعِر الخطاة بأقسى أنواع الألم والعذاب، لأنهم سيدركون في الأبدية أنهم رفضوا هذه المحبة واحتقروها مع أنها لم تكن تبغي إلا خلاصهم وإسعادهم.

7 - إن معاقبة الله للخطاة تدل على أنه يتأثر، والتأثر يقتضي التغيُّر، مع أن الله لا يتغير. لذلك فإنه لا يعاقب الخطاة بل يترك أرواحهم وشأنها في الفضاء.

الرد: بما أن الله يعرف كل الأشياء قبل حدوثها، إذاً فكراهيته للخطية ليست متوقّفة على زمن ظهورها في العالم بل كانت لديه أزلاً. ولا غرابة في ذلك، فإن هذه الكراهية ليست إلا الوجه السلبي لكماله. فعندما يعاقب الخطاة بسبب خطاياهم لا يثور، كما نفعل نحن، بل يسمح بتوقيع العقوبة عليهم باعتبارها ضرورة قانونية تتفق مع الكمال الذي يلازمه من الأزل إلى الأبد.

8 - ما الفائدة التي تعود على الله من معاقبة الخطاة؟

الرد: الله بمعاقبته للخطاة لا تعود عليه فائدة ما، لأنه كامل في ذاته كل الكمال، ولا يعود عليه نفع أو خير من أي كائن من الكائنات. وكل ما في الأمر أنه بمعاقبته للخطاة يحقق ناموس عدالته. وكما أنه إذا أمسك إنسان ناراً، يحرق نفسه بنفس، كذلك إذا أساء أحد إلى الله، يهلك نفسه بنفسه. وكما أنه لا يجوز للشخص الأول أن يلوم النار لعدم تحوُّلها برداً وسلاماً عليه (لأن النار تحرق بناءً على ناموسها الطبيعي، كل من يمسك بها)، كذلك لا يجوز للثاني أن لا يلوم إلا نفسه عندما يرى ذاته في العذاب الأبدي، لأنه ليس هناك أمامه مجال للاعتراض - إذ أن الناموس الإلهي هو أن من يتوافق مع الله، يتمتع بالراحة والهناء. وأن من يبتعد عنه لا يكون نصيبه إلا التعاسة والشقاء. وقد أدرك الجاحظ، أحد فلاسفة المسلمين المشهورين هذه الحقيقة فقال: «إنَّ نار الآخرة تجذب أهلها إلى نفسها دون أن يدخل أحد (بنفسه) فيها. لأن طبيعة أهل النار وفاق النار، وطبيعة أهل الجنة وفاق الجنة» (ضحى الإسلام ج 3 ص 135 و 136). ورأيه عين الصواب، لأننا نعلم أن شبيه الشيء ينجذب إليه.

فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الله لم يقل لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة المنهي عنها يُميته، بل قال له «يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ (أنت بنفسك)» (تكوين 2: 17). ولم يقل إن الله يجل الضرر على من يخطئ عنه، بل قال «مَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ (هو) نَفْسَهُ (بنفسه)» (أمثال 8: 36). ولم يقل إن الذين يبغضون الله يدفع بهم إلى الموت الأبدي، بل قال إنهم يحبون (هم أنفسهم) هذا الموت (أمثال : 36).

9 - إنَّ الله بسبب رحمته المطلقة لا يرضى أن تظل نفوس الخطاة معذبة إلى الأبد، ولذلك لا بد أنه سيفنيها بعد حين. وهذا هو رأي جماعة «شهود يهوه» التي انحرفت عن المسيحية، ورأي فرقة الجهمية التي انحرفت عن الإسلام. غير أن أتباع هذه الفرقة ذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه «شهود يهوه» كثيراً، فقد قالوا إن الجنة والنار تفنيان، وإن أهل الجنة والنار ينتهون إلى حال يبقون فيها جموداً ساكنين سكوناً دائماً.

الرد: إنَّ الله وإن كان رحيماً كل الرحمة، ولكن له قوانينه الخاصة التي تتفق مع عدالته المطلقة. لذلك فالوحي مع إعلانه عن رحمة الله، يقرر مبدأ معاقبته للخطاة بسبب خطاياهم. فقد قال « ٱلرَّبُّ إِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ... وَلٰكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» (خروج 34: 6 و 7)، وبما أن الخطاة لا يستطيعون مهما طالت مدة وجودهم في العذاب، أن يقوموا بإيفاء مطالب عدالة الله لأن هذه لا حد لها، إذاً من البديهي أن لا ينتهي عذابهم عند حد ما - وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاعتقاد بفناء النفس بعد حين يتعارض مع عدالة الله وعدم محدودية حقوقها، وإنه في الواقع ليس سوى فكرة ابتدعها بعض الناس رغبة منهم في إزاحة شبح القصاص الأبدي عن خواطرهم. لكن أمام عدالة الله التي لا تحد حقوقها، لا بد أن تتبدد أفكارهم وتصوراتهم جميعاً.

10 - هل تعجز رحمة الله عن الصفح عن الخطاة وتقريبهم إليه؟

الرد: كلا، إن رحمة الله تتسع لقبول كل الخطاة التائبين، لكن عدم توبتهم هي التي تجعلهم عاجزين عن التوافق معه. كما أنه بسبب كماله المطلق لا يأتي بهم إلى حضرته رغماً عنهم، لأنه لو فعل ذلك لما شعروا بسرور أو راحة في البقاء معه، ولسعو تبعاً لذلك للارتداد بكل قواهم عنه. فحرمان العصاة من التمتع بالله، وتعرضهم للعذاب الأبدي تبعاً لذلك، ليس راجعاً إلى قسوة لدى الله من جهتهم ولا نقص في رحمته من نحوهم، بل إلى شرهم وعدم رغبتهم في التوافق معه. أما من جهته فهو يحبهم ويعطف عليهم ولا يريد أي أذى لهم. فقد قال إنه «لا أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11)، وإنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2: 4).

11 - إذا كنا جميعاً خطاة بطبيعتنا وأعمالنا، وبناء على عدالة الله لا خلاص لنا من عقوبة خطايانا، فهل سمح الله بولادتنا في العالم الحاضر لكي نشقى إلى الأبد؟!

الرد: هذا هو اعتراض الإِنسان المتمرّد على الحق، والذي عوضاً عن أن يرى عيوبه ويلوم نفسه عليها، يحاول أن يتنصَّل من تبعة خطاياه لعله يفلت من عدالة الله. فأي عقل راجح يمكن أن يتصوّر أن الله سمح بولادة البشر ليَشْقوا إلى الأبد! ونحن نرى أن غاية الآباء المخلصين (مع ما يوجد بهم من نقائص) هي أن يُسعِدوا أبناءهم ويبعثوا الفرح والسرور إلى نفوسهم. لذلك لا يمكن أن يكون الله قد سمح بولادتنا في العالم الحاضر لنشقى إلى الأبد، كما يقول أصحاب هذا الاعتراض. ولكننا نحن الذين في جهلنا نجلب الشقاء على ذواتنا بإساءتنا إلى الله، وإلى أنفسنا أيضاً، ومن ثم فلا يلومنّ أحد إلا نفسه.

ومع كلٍ هذا فقد استطاعت محبة الله ورحمته أن تشقّا لنا طريقاً كريماً يتفق مع قداسته وعدالته، لأجل خلاص الخطاة الراغبين بإخلاص في الرجوع إليه، وذلك بإنقاذهم من عقوبة خطاياهم وتهيئة نفوسهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، كما سيتّضح بالتفصيل ابتداء من الباب الثالث. إنما نرى من الواجب قبل التحدث عن هذا الطريق الكريم، أن نستعرض أولاً الطرق التي يلجأ إليها معظم الناس ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على الغفران والقبول لدى الله، لنرى إلى أي حدٍّ تُجدي وتُفيد.

الباب الثاني: الطرق البشرية للحصول على الغفران

يحاول معظم الذين يدركون شناعة خطاياهم أن يسترضوا الله بوسائل شتى، حتى (حسب اعتقادهم) يغفرها لهم. وأهم هذه الوسائل هي الصلاة والصوم، والتوبة والصدَقة، والاستشفاع بالقديسين والصالحين، كما ذكرنا في المقدمة. ولكي تتضح لنا قيمة هذه الوسائل بصفة عامة من جهة جواز الحصول على الغفران بها نقول: لنفرض أنه عندما حُكم على إنسان بالإعدام لقتله آخر عمداً، أخذ يستعطف القاضي ويتذلل أمامه، أو أنه امتنع عن الطعام والشراب أمدا طويلاً، أو أنه تعهد بكل إخلاص أن لا يرتكب جريمة أخرى، أو أنه وهب كل أمواله للفقراء والمساكين، أو أنه التجأ إلى ذوي الشأن ليقوموا له بدور الوساطة والشفاعة أو... أو... فهل تعتبر هذه التصرفات أمام نزاهة العدالة المطلقة، أسباباً كافية لتبرئة الإنسان المذكور، أو حيثيات قانونية لإِلغاء أو تخفيف حكم الإِعدام الصادر ضده؟ طبعاً لا، لأن التصرفات المذكورة لا تستطيع أن تعيد إلى قوانين الدولة كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، ولا أن تعيد الحياة إلى القتيل حتى ينهض من موته ويحيا. ولذلك لا يمكن تبرئة هذا القاتل أو تخفيف الحكم الصادر ضده، بل يجب تطبيقه عليه كما هو، تنفيذاً لمطالب العدالة، وانتقاماً لروح القتيل أيضاً.

وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أن الخاطئ لم يُفسِد فقط نفسه التي ائتمنه الله عليها، بل تعدّى أيضاً على شريعته تعالى، إن لم يكن قد أساء كذلك إلى بعض الناس. وبما أن صلواته مهما طالت، وأصوامه مهما كثرت، وصدقاته مهما عظمت، وتوبته مهما صدقت، وشفاعة القديسين والصالحين (إن كانت لهم شفاعة)، لا تستطيع أن تفي مطالب قداسة الله وعدالته. لأن هذه الأعمال (1) لا تستطيع أن تعيد إلى الخاطئ حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يتيسَّر له التوافق مع الله في قداسته وغيرها من الصفات الأدبية السامية. (2) لا تستطيع أن تُعيد إلى عدالة الله كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، حتى تعتبر الأعمال المذكورة تعويضاً مناسباً لحقوقها، لأنّ عدالة الله لا حدّ لقدرها، بينما الأعمال المذكوة محدودة في قدرها. والأمور المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حدَّ لقدره. إذاً فكل الأعمال الصالحة التي يعملها الخاطئ، وإن كانت لها قيمتها وقدرها من نواح خاصة (كما سيتضح فيما يلي)، غير أنها ليست كافية لتأهيله للوجود مع الله أو التمتع بصفحه. ولا مجال للاعتراض على ذلك، إذ أن الله بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل وقدوس، لأنه تعالى كامل كل الكمال من جهة كل صفة من صفاته. فلا يمكن أن يغفر إلا إذا وُفِّيت مطالب عدالته، ولا يقرِّب أحداً إليه إلا إذا قدر أن يتوافق مع قداسته، وغيرها من الصفات الأدبية السامية.

ولكي لا ندع مجالاً للشك أمام أحد من جهة هذا الحق الإِلهي، ندرس كلاً من وسائل الغفران البشرية بشيء من التفصيل، في الفصول التالية.

1 - الصلاة وعلاقتها بالغفران

1 - ماهية الصلاة والغرض الحقيقي منها:

الصلاة في المفهوم المسيحي ليست مجرد ترديد كلمات الحمد والتعظيم لله بما يصاحبها من وقوف وركوع، أو مجرد توسلات للحصول على الصفح والغفران بما يرافقها من رفع الأيدي وخفضها، كما يظن بعض الناس. وإننا لا ننتقد السجود أو رفع الأيدي عند الصلاة، لأن الكتاب المقدس علّمنا هذا وذاك (أعمال 21: 5 ، رؤيا 5: 14 ، 1 تيموثاوس 2: 8) بل ننبه إلى أن هاتين الحركتين لا تجعلان للصلاة قيمة ما، إذا كان القائم بهما غير حائز على رضى الله. فالصلاة قبل كل شيء هي الارتقاء بنفوسنا عن كل ما يتعلق بالعالم حتى نلتقي بالله في أقداسه، ونحن في حالة التوافق معه في صفاته السامية. وفي هذا الجو السامي يمكن أن ندرك شيئاً من جلال الله ومحبته، فنتعبد له ونشكره من كل قلوبنا (يوحنا 4: 24 ، 1 تسالونيكي 5: 8). كما يمكن أن نعرف الأمور التي نحتاج فعلاً إليها، فنطلب منها ما يتفق مع مشيئته (1 يوحنا 5: 14)، ونتقبل منه بعد ذلك بالإِيمان إجابته الكريمة. فضلاً عن ذلك، يمكننا أن نعرف في هذا الجو، الخدمات التي يتطلبها الله منا في العالم الحاضر، ونقبل منه المعونة التي تساعدنا على القيام بها بكل دقة وإِخلاص.

فالصلاة ليست فرضاً نقوم به كما يقوم العبد بواجب نحو سيده، بل هي صلة متبادلة بيننا وبين الله جل شأنه، لا نستطيع الاستغناء عنها لحظة، فنحن في حاجة إليها حاجتنا إلى الماء للارتواء أو الهواء للتنفس. ولم يعيّن الله لنا أوقاتاً محددة يجب علينا أن نصلي فيها، وذلك لثلاثة أسباب: (أ) ليس هناك وقت أفضل من آخر لديه (ب) إنه على استعداد في كل الأوقات لسماع الصلاة (ج) إن حاجتنا إلى الله ليست مرتبطة بأوقات خاصة، بل نحن في حاجة إليه في كل حين. لذلك وإن كنا نصلي في أوقات متفرق من النهار، يجب أن نحفظ قلوبنا في حالة الصلة المستمرة بالله. فقد قال الوحي: «مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي ٱلرُّوحِ» (أفسس 6: 18). كما قال «لا تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلاةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللّٰهِ» (فيلبي 4: 6). وقال «صلوا كل حين» (لوقا 18: 1)، وصلوا بلا انقطاع (1تسالونيكي 5: 17) ولأجل جميع الناس (1 تيموثاوس 2: 1).

2 - شروط الصلاة في المسيحية:

يجب (أ) أن تكون بالروح والحق، بعمل روح الله في النفس، وذلك في حدود الحق الإِلهي الصافي بعيداً عن الشعائر والطقوس البشرية (يوحنا 4: 24)، وبالذهن أيضاً (1 كورنثوس 14: 15)، وذلك مع القداسة القلبية التي تليق بالله (عبرانيين 12: 14 ، مزمور 24: 4). (ب) أن لا تكون منقولة عن أحد أو محفوظة عن ظهر قلب، بل أن تكون من إنشاء المصلي بتأثير روح الله في قلبه (مزمور 45: 1). (ج) أن لا تتكرر عباراتها بقصد إطالتها (متى 6: 7). (د) وإذا كانت الصلاة فردية، يجب أن لا تكون على مرأى من الناس بل في المخدع، إذ هناك يمكن للمصلي أن يختلي بالله ويناجيه (متى 6: 5 - 6).

3 - عجز الخاطئ عن القيام بالصلاة:

بما أن الخاطئ أساء بخطيته إلى الله وكسر شريعته، فإنه يحول بينه وبين مواجهة الله والمثول في حضرته، ويصبح في ذاته عاجزاً عن التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. ولا غرابة في ذلك، فنحن نعلم أنّ اختلاف الطبائع يحول دون التوافق. فالدنيء لا يتوافق مع النبيل، والبخيل لا ينسجم مع الكريم، والنجيس لا يتآلف مع القديس، وهلم جراً. لذلك فالخاطئ لا يستطيع أن يتصل من تلقاء ذاته بالله أو يتحدث معه، ولا يستطيع أن يرفع صلاة حقيقية إليه، وصلاته عبارات ينطق بها أمام من يتصوّر أنه الله، فيكون مثله مثل شخص يعيش في عالم الخيال، أو ممثل يؤدي دوراً من الأدوار. وإن شئت، فقُل مثل إنسان يرفع بوق (التليفون) إلى فمه، ودون أن يتصل بأحد ما... فإنه يتكلم ما شاء له الكلام، دون أن يكون هناك سميع أو مجيب.

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضده هذه الحقائق ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - لا يمكن أن يتغاضى الله عن صراخ الناس حتى الخطاة منهم، لأنه خالقهم، والخالق لا يهمل خلائقه.

الرد: لا شك أنه إذا وقع الخطاة في ضيقة ما، وصرخوا من كل قلوبهم إلى الله، فإنه ينقذهم من هذه الضيقة. لكن هذا الإِنقاذ لا يدل على أنه قرّبهم إليه أو غفر لهم خطاياهم، لأن صراخهم له لا يُعيد إليهم حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يستطيعوا التوافق مع الله في قداسته وغيرها من الصفات الأدبية السامية. أو يعيد إلى حقه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يعتد عليه بواسطتهم، حتى يصفح عنهم - فمثلهم والحالة هذه مثل جماعة من الأشرار أساءوا كثيراً إلى إنسان طيب القلب عظيم القدر، فهل يُعدّ ذلك دليلاً على أنهم أصبحوا بلا لوم أمامه، أو صاروا من الخاصة الذين يطيب له العيش معهم.

2 - الخطاة إن لم يكونوا من الملحدين أو المشركين، ليسوا بعيدين عن الله، بل يعرفون الشيء الكثير عنه. ولذلك إذا طلبوا منه الغفران، يغفر لهم ولا شك.

الرد: هناك فرق كبير بين معرفة الله والمعرفة عن الله. فالثانية تدل فقط على إدراك بعض الأمور عنه، أما الأولى فتدل على العلاقة الشخصية به والتوافق الكلي معه. «فمعرفة الله»، وليس «المعرفة عن الله» هي التي تؤهّل صاحبها للاقتراب إليه والإفادة منه. والآن لنتساءل: هل الناس الذين يعيشون في الخطية، يعرفون الله، أم يعرفون فقط عنه؟ طبعاً إنهم لا يعرفونه، بل يعرفون فقط عنه. لأنهم لو كانوا يعرفونه، لكانوا يلتصقون به، ولا يسيئون إليه. وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون لهؤلاء الناس علاقة شخصية بالله، ولا يكون إيمانهم الذي يتشدقون به إيماناً حقيقياً بل إيماناً إسمياً، والإيمان الاسمي لا وزن له ولا قدر عنده تعالى. فالشياطين أيضاً يؤمنون بالله، ومع ذلك فإنهم بعيدون عنه كل البعد.

كما أن طلب الصفح والغفران وإن كان يدل على الرغبة في استرضاء الله والتقرب إليه، لكنه في ذاته (أ) لا يعيد إلى حق الله قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعْتَد عليه، حتى يكون تعويضاً مناسباً له (ب) لا يعيد إلى طالبي الغفران حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يتسنَّى لهم التوافق مع الله في كماله كما ذكرنا، لذلك لا يمكن أن يصفح الله عن الخطاة ويقرّبهم إليه لمجرد طلب الغفران منه.

3 - إذا كان الأمر كذلك، فكيف يتصل الصوفيون بالله ويرونه ويشعرون بسرور باطني في العلاقة معه، مع أنهم خطاة مثلنا؟

الرد: الأتقياء من الصوفيين، وإن كانوا على اختلاف أديانهم، أفضل من غيرهم، لانصرافهم عن أهواء العالم وتأملهم في الله دون سواه، لكن إن لم يكونوا قد نالوا منه طبيعة روحية تؤهلهم للتوافق معه في قداسته وغيرها من صفاته الأدبية السامية، وبواسطةٍ ما وُفيِّت مطالب عدالته من نحوهم، لا يمكن أن تقوم بينهم وبين الله علاقة حقيقية على الإطلاق، فيكون موقفهم من الله موقف غيرهم من الخطاة سواء بسواء. وإذا كان الأمر كذلك، يكون السرور الذي يقولون عنه ليس صادراً عن علاقة حقيقية لهم بالله، بل عن تصوّرهم أن لهم علاقة معه، وأنهم يقومون بالواجب عليهم من نحوه. ويكون هذا السرور وهمياً لا حقيقياً، ويكون شأنهم في ذلك شأن الناس الذين بسبب سيطرة عواطفهم على عقولهم، كثيراً ما يعتقدون أن الخواطر التي تجول في نفوسهم، هي حقائق واقعة أمامهم، يتأثرون بها ويتحدثون عنها كأنهم يرون أحداثها فعلاً قبالتهم، وهؤلاء الناس كما نعلم، لا يوثق بكل خبر ينقلونه إلينا.

وقد أعلن الوحي بعبارات لا تقبل الشك أن الله لا يطيق صلاة الخطاة، وأنه ليست لهم علاقة به على الإطلاق. فقد قال «مَنْ يُحَّوِلُ أُذْنَهُ عَنْ سَمَاعِ ٱلشَّرِيعَةِ فَصَلاتُهُ أَيْضاً مَكْرَهَةٌ» (أمثال 28: 9). كما قال للخطاة «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لا يَسْمَعَ» (إشعياء 59: 2) (الآثام لا تفصل بين الله وبيننا، بل بيننا وبين الله. وذلك لأنه تعالى يتوجّه إلينا بمحبته التي لا حدّ لها في كل حين، ويدعونا للدنوّ منه والتمتع بهباته. لكننا نحن الذين في عنادنا أو قصورنا لا نتجاوب معه). وقال الله لهم أيضاً: «حِينَ تَبْسُطُونَ أَيْديكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ، وَإِنْ كَثَّرْتُمُ ٱلصَّلاةَ لا أَسْمَعُ» (إشعياء 1: 15). وقد اختبر داود النبي هذه الحقيقة فقال: «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لا يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور 66: 18). ولذلك قال إنه لا يستطيع أن يصلي لله إلا الطاهر اليدين والنقي القلب (مزمور 24: 4) والمراد بطهارة اليدين ليس غسلهما بالماء، بل خلوّهما من عمل الشر، إذ أنه قدوس كل القداسة ولا يطيق الإِثم على الإطلاق.

فضلاً عن ذلك فقد أعلن الوحي أنّ الأنبياء والرسل أنفسهم لم يستطيعوا أن يواجهوا الله، فموسى النبي مع كونه كليم الله، قال عندما تجلى الله له: «أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ» (عبرانيين 12: 21). وإشعياء النبي، على الرغم من أمانته وتقواه، قال عندما رأى الله في رؤيا خاصة: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ ٱلشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيّ قَدْ رَأَتَا ٱلْمَلِكَ رَبَّ ٱلْجُنُودِ» (إشعياء 6: 5). (أي رب الجنود السمائية، أو الملائكة). ويوحنا الرسول مع محبته الشديدة للرب وعلاقته القوية به، سقط على وجهه كميت عندما تراءى له الرب في مجده (رؤيا 1: 17) لأن الإِنسان في بيعته البشرية الراهنة، لا يستطيع أن يمثل في حضرة الله مهما بلغ أسمى درجات التقوى. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الاتصال بالله والتمتع به بعيدان كل البُعد عن الخطاة، مهما كثرت صلواتهم وتضرعاتهم.

4 - وهل يستوي الخاطئ الذي يطلب من الله بكل تذلل وإخلاص أن يرحمه ويغفر له خطاياه، والخاطئ الذي لا يبالي بالصلاة، أو يكتفي بالصلاة الشكلية التي لا قيمة لها؟

الرد: طبعاً لا يستويان، بل من المؤكد أن الله ينظر إلى الأول بعين العطف والشفقة. لكن عطف الله وشفقته شيء، والاعتقاد بأنَّ الصلاة هي التي تجلب الغفران والقبول أمام الله شيء آخر. والصلاة لا تكفي وحدها لإيفاء مطالب عدالة الله، أو إعادة الإنسان إلى حالة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، ولا يمكن أن تكون ثمناً للغفران أو وسيلة للتمتع بالله. كل ما في الأمر أنها إذا كانت بإخلاص، فهي تهيئ فقط القائم بها للحصول على هذين الامتيازين، إذا وُفيت مطالب عدالة لله وقداسته من جهته بوسيلة إلهية خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس الوارد ذكره في (أعمال 10). وهذه الوسيلة هي موضوع حديثنا في الأبواب التالية.

2 - الصوم وعلاقته بالغفران

1 - الأغراض التي يصوم الناس من أجلها:

يصوم كثيرون إما للتمسك بعقيدة دينية ابتغاء مرضاة الله، أو للشعور بالجوع حتى يعطفوا على الفقراء والمساكين، أو للمحافظة على المظاهر الدينية بين إخوانهم، أو لتحسين حالتهم الصحية على نحو ما - لكن هذه الأغراض بعيدة عن حق الله كل البُعد، لأن العقيدة الدينية إن كانت لا تؤدي إلى التحرّر من الخطية والتوافق مع الله في قداسته وصفاته الأدبية السامية الأخرى، تصبح فلسفة شخصية لا عمل لها إلا شحن العقل بنظريات وآراء خاصة. ولأن العطف على الفقراء والمساكين لا يتولد من الإحساس بالجوع، بل من الخلق الكريم. والدليل على ذلك أنَّ كثيرين من الصائمين لا يبالون في أثناء الصوم بهؤلاء أو أولئك. وإن تصدّقوا أحياناً عليهم في أثنائه، قلما يبالون بهم بعد انتهائه. ولو كان الغرض من الصوم هو الإِحساس بالجوع، لما كان للفقراء أن يصوموا أبداً، لأنهم يحسّون بالجوع في كل يوم من الأيام، ولأن الصوم لمجرد احترام المظاهر الدينية بين من نعاشرهم لا يُعتبر فضلاً في نظر الله، بل رياء وتظاهراً منا بغير الحقيقة. ولأن تحسين الحالة الصحية ليس له علاقة بالله، إذ كثيراً ما يستغل الناس صحتهم الجسدية في عمل الخطية، ومن ثم فلا ثواب من الله لمن يصوم لأجل غرض من الأغراض المذكورة.

ولذلك قال الله للذين يصومون عن الطعام دون أن يُقلِعوا أولاً عن الشر: «لَمَّا صُمْتُمْ وَنُحْتُمْ فِي ٱلشَّهْرِ ٱلْخَامِسِ وَٱلشَّهْرِ ٱلسَّابِعِ، وَذَلِكَ هَذِهِ ٱلسَّبْعِينَ سَنَةً، فَهَلْ صُمْتُمْ صَوماً لِي أَنَا؟ وَلَمَّا أَكَلْتُمْ وَلَمَّا شَرِبْتُمْ، أَفَمَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ ٱلآكِلِينَ وَأَنْتُمُ ٱلشَّارِبِينَ... ٱقْضُوا قَضَاءَ ٱلْحَقِّ، وَٱعْمَلُوا إِحْسَاناً وَرَحْمَةً» (زكريا 7: 5 - 9). كما خاطب الذين ينادونه «لماذا صُمنا ولم تنظر، ذلّلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟»، بالقول اللاذع «هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً (لأنفسكم)، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ (أجراكم)... أَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْماً يُذَلِّلُ ٱلإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ، يُحْنِي كَٱلأَسَلَةِ رَأْسَهُ، وَيَفْرِشُ تَحْتَهُ مِسْحاً وَرَمَاداً. هَلْ تُسَمِّي هَذَا صَوْماً وَيَوماً مَقْبُولاً لِلرَّبِّ؟ أَلَيْسَ هَذَا صَوْماً أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ ٱلشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ ٱلنِّيرِ (عن المظلومين)، وَإِطْلاقَ ٱلْمَسْحُوقِينَ أَحْرَاراً (الأبرياء)، وقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ ٱلْمَسَاكِينَ ٱلتَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟» (إشعياء 58: 3 - 7). «الأَسَلة» نبات له أغصان هزيلة تتدلى إلى أسفل، والمِسَح هو الخيش الذي يُصنع من أردأ أنواع الكتان. وكان بعض الناس يجلسون عليه أو يلبسونه بعد صبغه باللون الأسود، كعلامة للحزن والاتضاع أمام الله. أما النير فهو قطعة الخشب التي توضع على عُنُق الثيران في أثناء الحرث وغيره، وتستعمل هنا مجازاً للدلالة على الذل والاستعباد.

2 - ماهية الصوم والغرض الحقيقي منه:

الصوم لغة، هو الانقطاع عن شيء ما. وبالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أنه يراد به ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، أو الشرور والآثام، بل والامتناع لمدة من الزمن أيضاً عن كل ما يشغل المرء عن قضاء مدة طويلة في حضرة الله، حتى يتفرغ الصائم تفرغاً تاماً لسكب قلبه أمام الله والتضرع بلجاجة إليه في هذه المدة. وذلك إما لأجل النمو في الحياة الروحية، أو خلاص بعض الأشخاص من الخطية، أو إنقاذ آخرين من ضيقة أو بلية، أو غير ذلك من الأمور التي تمجد الله وتعود بالخير على الناس. فالصوم إذاً ليس غرضاً مقصوداً لذاته حتى يكون له جزاء خاص، بل هو وسيلة للقيام بالصلاة على أفضل حال. لذلك يقرن الوحي الصوم بالصلاة، فسجَّل عن الرسل أنهم صاموا وصلوا (أعمال 13: 3)، وأن الروح النجس العنيد لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (متى 17: 21)، وأن المؤمنين يجب أن يتفرغوا للصوم والصلاة (1 كورنثوس 7: 5 ، عزرا 8: 23 ، نحميا 1: 4 ، دانيال 9: 3 ، يوئيل 2: 12).

فالصوم في المسيحية مثل الصلاة تماماً، ليس فرضاً بل عملاً حيوياً لا نستطيع الإستغناء عنه.

3 - شروط الصوم:

يجب (أ) أن يكون بدافع من رغبتنا الشخصية، لحاجتنا الماسة إلى بركة من الله لنا أو لغيرنا من الناس، وليس لمجرد الطاعة لأمر أو وصية. ولذلك لم يحدد الكتاب المقدس أوقاتاً للصوم. وأكثر المؤمنين قرباً من الله، أكثرهم صياماً. (ب) الصوم عندما يكون خاصاً، يجب أن لا يبدو لأحد من الناس، بل يجب أن يكون بين الصائم وبين الله فحسب (متى 6: 16 - 18). (ج) لا يتجه الصائم إلى شيء من المتع الجسدية مثل الاستماع إلى الأغاني العالمية أو الانصراف إلى التسليات الدنيوية، لأنّ هذه الأمور إن لم تعمل على إثارة الشهوات والأهواء في النفس، فهي تبعدها عن التوافق مع الله في قداسته. فالواجب على المؤمنين الحقيقيين أن يتجنّبوها ليس في وقت الصيام فحسب، بل وفي غيره من الأوقات أيضاً، حتى لا تتعطل صلتهم الروحية بالله.

مما تقدم يتضح لنا أن اتهام المسيحيين بأنهم لا يصومون عن الطعام والعلاقات الزوجية إلا في وقت نومهم، هو محض افتراء.

4 - عجز الخاطئ عن القيام بالصوم حسب مشيئة الله:

والآن لنتساءل: من هو الذي يدرك معنى الصوم، ويستطيع ممارسته والحصول على الفوائد المترتبة عليه؟ الجواب: ليس الشخص السالك في الخطية، بل البعيد عنها والمتمتع أصلاً بالعلاقة الحقيقية مع الله. كما أن هذا الشخص لا يريد من الله جزاء عن صومه، إذ يكفيه أنه بواسطة الصوم يستطيع أن يتمتع بالله أكثر ويخدمه أكثر.

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - الصوم يضعف الجسد ويؤدي إلى التخلص من الخطية، كما يساعد على التحلي بالصبر والتسامي إلى حياة الصَفاء مع الله، لذلك يكون هو السبيل إلى الغفران والقبول أمامه تعالى.

الرد: (ا) إنَّ الخطية ليست في الجسد المادي حتى يمكن تجنبها بإضعافه عن طريق الامتناع عن الطعام والشراب مدة من الزمن، بل إنها في النفس. فيد السارق (مثلاً) لا تختلف في تركيبها الجسماني عن يد الأمين في شيء، إنما الفارق بينهما هو أنَّ نفس الثاني أمينة، ولذلك توعز إليه بمراعاة الأمانة، أما نفس الأول فغير أمينة توعز إليه بالسرقة. ومما يثبت ذلك أيضاً أنَّ معظم الصائمين، وإن كانوا لا يفعلون في الظاهر الخطايا التي اعتادوا عليها، غير أنهم قد يشتهونها ويفكرون فيها ويتحدثون عنها، وهذا هو الخطية بعينها. فالصوم وحده لا يعيد إلى الخطاة حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، وبالتالي لا يؤهلهم للتمتع بالله أو التوافق معه في صفاته الأدبية السامية.

(ب) الصوم وإن كان في أحسن حالاته مظهراً من مظاهر الاتضاع والتذلل أمام الله، غير أنه لا يعيد إلى عدالته حقها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعْتَدَ عليها، لأن أثر الصوم محدود، ومطالب عدالة الله ليس لها حدود، والشيء المحدود لا يفي مطالب أمر ليس له حدود، فلا يكون الصوم أيضاً وسيلة للحصول على الصفح والغفران.

2 - هل يستوي الخاطئ الذي يصوم بتذلل وإخلاص لله لكي يرحمه ويغفر خطاياه، والذي لا يصوم، أو يصوم للأغراض الشخصية السابق ذكرها؟

الرد: طبعاً لا يستويان، بل من المؤكد أنَّ الله ينظر إلى الأول بعين العطف والشفقة، لكن عطف الله وشفقته شيء، والاعتقاد بأنَّ الصوم هو الذي يأتي لنا بالغفران ويؤهلنا للتمتع بالله شيء آخر. إذ أنَّ الصوم، لأنه لا يفي وحده مطالب عدالة الله وقداسته، لا يمكن أن يكون ثمناً للغفران أو التمتع بالله. كل ما في الأمر أنه إذا كان بإخلاص، فهو يهيئ القائم به للحصول على هذين الامتيازين، على شرط أن يكون هناك أولاً إيفاء لمطالب عدالة الله وقداسته بوسيلة إلهية خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس (أعمال 10).

3 - التوبة وعلاقتها بالغفران

1 - ماهية التوبة:

التوبة ليست الندم على فعل الخطية فحسب، بل هي أيضاً الانصراف الكلي عنها، إكراماً لله ومحبة فيه. أما الامتناع عن الخطية لمجرد الخوف من نتائجها، أو الامتناع عنها مع بقاء التفكير فيها واشتهائها، فلا يُعتبر في نظر الله توبة على الإطلاق، بل يُعتبر في الحالة الأولى خدمة للصحة والذات، وفي الحالة الثانية خداعاً للنفس وتضليلاً لها. ولذلك قال الوحي عن الخطاة إنهم يجب أن يتوبوا عن خطاياهم، وليس هذا فقط بل وأيضاً أن يرجعوا إلى الله، «عَامِلِينَ أَعْمَالاً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ» (أعمال 26: 20). كما قال لهم: «تُوبُوا وَ ٱرْجِعُوا عَنْ كُلِّ مَعَاصِيكُمْ، وَلا يَكُونُ لَكُمُ ٱلإِثْمُ مَهْلَكَةً... وَٱعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْبا جَدِيداً وَرُوحاً جَدِيدَةً» (حزقيال 18: 30 و31).

2 - توبتنا في ضوء الحقيقة:

بما أننا مهما تُبنا عن الخطية إكراماً لله ومحبة فيه، قد نخطئ أحياناً بالقول والفكر، إن لم يكن بالفعل أيضاً. وبما أنَّ الخطأ أيّاً كان نوعه، يحرم النفس من التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. إذاً فليست هناك في الواقع توبة كاملة لأحد منا أمام الله.

3 - أثر التوبة من جهة الغفران والقبول أمام الله:

لنفرض أنَّ إنساناً اختلس مبلغاً من المال من الهيئة التي يعمل فيها. وكانت الضرورة تقضي بسداد هذا المبلغ إليها، وإلا فُصل من عمله وقُدم للمحاكمة. ولكن بدل أن يسعى لسداد المبلغ المذكور، أخذ يبكي على جريمته ويعلن توبته عنها، فهل يستطيع بتصرفه هذا أن يمحو ما لحق به من وزر، أو يصبح أهلاً للبقاء في عمله! طبعاً كلا. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون بكاؤه وتوبته بدون جدوى، إلا إذا أشفق عليه إنسان كريم، وقام بسداد المبلغ المختَلَس للهيئة المذكورة نيابة عنه؟!

وعلى هذا النسق نقول: بما أننا بارتكاب الخطية نتعدى على حق الله ونفسد أنفسناً أيضاً، وبما أنَّ التوبة مهما صدقت لا تعيد إلى حق الله قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَد عليه (لأن أثر هذه التوبة محدود، وحق الله غير محدود والشيء المحدود لا يفي مطالب أمر ليس له حدود)، أو تعيد إلى نفوسنا حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية (لأن التوبة مهما بلغت أسمى درجات الإخلاص والأمانة، لا تجعلنا كاملين في كل ناحية من النواحي)، لذلك لا نستطيع بالتوبة أن نال غفراناً من الله أو قدرة على التوافق معه والتمتع بحضرته، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته من نحونا بوسيلة إلهية خاصة، كما ذكرنا.

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - كيف لا تكون التوبة الحقيقية، أو بالحري بدء صفحة جديدة في الحياة، وسيلة للصفح عما مضى من الخطايا؟!

الرد: إذا تاب إنسان توبة حقيقية عن الخطية في كل مظهر من مظاهرها (وإن كان هذا من المتعذر على الإِنسان القيام به من تلقاء ذاته، كما ذكرنا)، فإنه لا يكون قد فعل أكثر مما يجب عليه، أو بالحري لا يكون قد أتى جميلاً يمكن أن يكون تعويضاً عن خطاياه الماضية. حقاً قد ينسى الإنسان هذه الخطايا، وقد ينساها الناس أيضاً، لكن الله لا ينساها، فالماضي والحاضر والمستقبل حاضر أمامه. ولذلك قال الحكيم « ٱللّٰهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى» (جامعة 3: 15). التوبة مهما كان شأنها، ليست كافية للصفح عما مضى من خطايا - ولإِيضاح هذه الحقيقة إلى حد ما، لنفرض أن الموظف السابق ذكره تاب عن جريمته بعد ارتكابها، ولكن بعد مدة من الزمن، فحص مفتش دفاتره واكتشف ما فيها من اختلاس، فهل يعتبر هذا الموظف أميناً في عمله ولا يجوز معاقبته؟ الجواب: طبعاً كلا. وإذا اعتذر الموظف بأن الاختلاس حدث من مدة طويلة، وأنه كان أميناً بعد ذلك كل الأمانة، فهل يقبل المفتش اعتذاره ويقرر براءته؟ طبعاً كلا. وهكذا الحال من جهتنا أمام الله بالنسبة إلى الخطايا السالفة، على فرض أننا عشنا بعدها دون أن نعمل خطية على الاطلاق.

2 - ألم يصفح الله عن أهل نينوى عندما صاموا وتابوا (يونان 3: 5 - 10)، فكيف لا تكون التوبة هي الوسيلة للغفران والقبول أمام الله؟!

الرد: لم يكن غرض الصفح عن أهل نينوى تقريبهم إلى الله أو إعطاءهم طبيعة روحية يتوافقون بها معه إلى الأبد، بل كان الغرض الأول والأخير من هذا الصفح (كما يتضح من سفر يونان)، هو فقط رفع الكارثة التي كان الله مزمعاً أن يصبّها عليهم بسبب فداحة آثامهم - وقد ذكرنا فيما سلف أن الله يسمع للخطاة عندما يطلبون منه بكل قلوبهم أن ينجيهم من ضيقة ما.

3 - هل يستوي عند الله من يتوب ابتغاء مرضاته تعالى، ومن يتوب لأغراض شخصية، أو لا يتوب على الإِطلاق؟!

الرد: طبعاً لا يستويان، بل من المؤكد أن الله يعطف على الأول ويفتح أمامه المجال للغفران والقبول لديه، إذا تم إيفاء مطالب عدالته وقداسته من جهة هذا الإِنسان بوسيلة إلهية خاصة كما ذكرنا، لأن الله بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل قدوس.

4 - الصدَّقة وعلاقتها بالغفران

1 - حدود الصدقة والأعمال الصالحة في المسيحية:

إن المبلغ الذي يجب أن نقدمه نحن المسيحيين للأعمال الخيرية، إن لم يزد عن عُشر ما نكسبه من مال، يجب أن لا يقل عنه بحال (تثنية 12: 17 ، متى 5: 20). ولذلك قال الوحي لنا: كونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع (1 تيموثاوس 6: 18). ويجب أن يكون عمل الخير والصلاح موجَّهاً إلى جميع الناس (1 تسالونيكي 5: 15) حتى إلى الأعداء منهم. فقد قال الوحي: «فَإِنْ جَاعَ عَدُّوُكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَٱسْقِه» (رومية 12: 20)، كما قال «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ» (متى 5: 44).

2 - الصدقة في نظر الله:

ليست الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة في المفهوم المسيحي أعمالاً اختيارية يجوز للمرء إتيانها أو الامتناع عنها تبعاً لإِرادته، حتى يكون له فضل عند الله إذا ضحّى بشيء في سبيل القيام بها، بل هي واجب يتحتم عليه القيام به وإلا اعتُبر مذنباً كما مرَّ بنا في الباب الأول. فإذا ارتكب إنسان خطية ثم قدم بعد ذلك صدقة أو عمل عملاً صالحاً، لا يكون قد عمل جميلاً يمكن اعتباره تعويضاً عن الخطية التي ارتكبها، حتى يستحق الصفح والغفران. لذلك قال الوحي لنا: «مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ (من الخير والصلاح) فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا (فحسب)» (لوقا 17: 10). ولو كانت الصدقة والأعمال الصالحة تغفر الخطايا، لكان الذين يتمتعون بالغفران هم فقط الأغنياء ومن لهم القدرة على القيام بهذه الأعمال، وهذا ليس بمعقول على الإطلاق.

3 - صاحب الفضل في المال الذي بين أيدينا، وفي الأعمال الصالحة التي نقوم بها:

أضف إلى ذلك أنَّ المال الذي بين أيدينا والصحة التي نتمتع بها في حياتنا، ليست في الواقع ملكاً لنا بل هما من فضل الله علينا. لأنه لو كان قد سمح (مثلاً) بولادتنا من عائلات فقيرة جاهلة، أو إصابتنا بأمراض مستعصية عُضالة، لكنَّا الآن فقراء معدمين أو مقعَدين عاجزين عن القيام بعمل من الأعمال مثل كثيرين من بني جنسنا. لذلك فإننا عندما نعطي للفقراء شيئاً من المال الذي بين أيدينا، أو نستخدم صحتنا في القيام بأي عمل من الأعمال الصالحة، لا نكون قد ضحَّينا بشيء من عندنا أو نكون قد أسدينا لله جميلاً نستحق عنه ثواباً.

وقد أدرك داود النبي هو ورجاله هذه الحقيقة الثمينة، ولذلك بعد أن قدموا ما يعادل ملياراً من الجنيهات الذهبية، لأجل بناء الهيكل، قال داود لله: «وَلٰكِنْ مَنْ أَنَا وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتبَرَّعَ (أي أن نقوم من أنفسنا بعمل) هٰكَذَا، لأَنَّ مِنْكَ ٱلْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ! أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا، كُلُّ هٰذِهِ ٱلثَّرْوَةِ ٱلَّتِي هَيَّأْنَاهَا لِنَبْنِيَ لَكَ بَيْتً لاسْمِ قُدْسِكَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ يَدِكَ، وَلَكَ ٱلْكُلُّ» (1 أخبار 29: 14 و 16)، كما قال بطرس الرسول من بعده «إِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُّوَةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ» (1بطرس 4: 11).

4 - العيوب الكامنة في الصدقة والأعمال الصالحة:

كما أننا إذا وضعنا أمامنا أنَّ الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها الخطاة، كثيراً ما تكون ملوثة بجراثيم البخل والتقتير، أو الفخر والتباهي، أو الرغبة في جزاء من الله أو الناس، بسبب دورها من الطبيعة البشرية الفاسدة السائدة عليهم، اتضح لنا أن هذه الصدقة والأعمال الصالحة مملوءة بنقائص متعددة، الأمر الذي يجردها من كل صلاح حقيقي يمكن أن يبقى فيها. وقد أدرك إشعياء النبي مرة هذه الحقيقة في نور الله، فصرخ قائلاً: «وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا (وليس أعمال شرنا فحسب)» (إشعياء 64: 6). ثوب العِدّة هو الثوب الملطخ بالطمث، وهو نجس في الشريعة اليهودية.

وإن كانت هذه الحقيقة تسمو فوق إدراك الكثيرين، لكن من سمت نفوسهم وارتقت استطاعوا أن يدركوها كما أدركها هذا النبي. فمثلاً قال كيركجارد رائد الوجودية الروحية: «إن أفضل أعمالنا مثل أشرّها، يحتاج إلى غفران الله». ولإيضاح هذه الحقيقة إلى حد ما نقول: إذا تطلعنا إلى خضروات مغسولة، قد لا نرى فيها قذارة ما. لكن إذا وضعناها تحت عدسة الميكرسكوب نرى فيها آلاف الجراثيم - وهكذا الحال من جهة الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فإننا وإن كنا نراها طيبة، غير أن الله يرى فيها الكثيرمن النقائص والعيوب. ولا غرابة في ذلك، ففي ضوء كماله المطلق تبدو السماء نفسها غير طاهرة، ويبدو الملائكة أنفسهم حمقى (أيوب 4: 18)!!

مذكرة توضيحية عن سورين كيركجارد:

وُلد هذا الفيلسوف في الدانمارك سنة 1813 ، ويُعتبَر من أشهر علماء النفس في العصر الحديث، وأكثرهم تفكيراً في الأمور الروحية. وهو لم يبتدع رأياً فلسفياً معيناً، بل عُني بالوجود الفعلي أكثر من النظري. ومن أهم آرائه (1) أن الله لا يشرق بمعرفته على الإنسان، إلا إذا وقف الإنسان أمامه مجرداً من كل تصنُّع وادعاء بالصلاح، وعرف فساد طبيعته والمصير المرعب الذي ينتظره. (2) إن الحق الروحي ليس هو الحق النظري، بل هو الحق العملي المؤيَّد بالاختبار الشخصي، والذي يدفع المرء ثمنه بفسه. لذلك يجب على طالب الحق أن لا يكتفي بالتطلع إليه من النافذة أو الشرفة، بل أن ينزل إلى الطريق ويسير في ركابه، حتى تمتزج نفسه به كل الامتزاج. وهذه الآراء تُعتبر تفسيراً صحيحاً لأقوال الكتاب المقدس عن الحياة الروحية.

5 - أثر الصدقة والأعمال الصالحة من جهة الغفران والتمتع بالله:

لنفرض أنَّ ملكاً عظيماً نبيلاً تعدَّى عليه خادم ما وأهانه إهانة شنيعة، وبعد ذلك تقدم إليه هذا الخادم حاملاً في يده هدية ثمينة، فهل تستطيع هذه الهدية وحدها أن تمحو عن الملك العظيم النبيل ما لحقه من إهانة؟ أو تجعله يُسرّ بالخادم المذكور ويقربّه إلى حضرته؟ طبعاً كلا وكلا. وعلى هذا النسق نقول: نظراً لأن الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها بعض الخطاة (حتى إن كانت خالية من كل العيوب)، لا تستطيع أن تعيد إلى حق الله قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَد عليه (لأن هذه الأعمال محدودة في قدرها، وحقّ الله لا حدّ لقدره، والأشياء المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حد لقدره)، أو تؤهل الخطاة للتوافق مع الله في قداسته وكماله (لأنها لا تستطيع أن تعيدهم إلى حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية)، لذلك لا يمكن أن تكون هذه الأعمال وحدها ثمناً للغفران أو التمتع بالله.

وقد أدرك الأنبياء هذه الحقيقة، فكانوا يبكون على خطاياهم بالرغم من الأعمال الصالحة الكثيرة التي كانوا يقومون بها. فداود النبي كان يعوّم سريره بدموعه ويذوّب فراشه كل ليلة (مزمور 6: 6)، ويقول: «خَسَفَتْ مِنَ ٱلغَمِّ عَيْنِي. نَفْسِي وَبَطْنِي. لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِٱلْحُزْنِ وَسِنِينِي بِٱلتَّنَهُّدِ» (مزمور 31: 9 ، 10). و «بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ» و ،(مزمور 32: 3). «لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلامَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي. لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ. 5قَدْ أَنْتَنَتْ، قَاحَتْ حُبُرُ ضَرْبِي مِنْ جِهَةِ حَمَاقَتِي» (مزمور 38: 3 - 5) (الحبر (بضم الحاء والباء) هي الجروح العميقة التي وإن شُفيت، لا تزول آثارها من الجسم).

أما الاعتراض الذي يُوجَّه ضد الحقائق السابقة، ففيما يلي بيانه مصحوباً بالرد عليه:

هل يستوي الخاطئ الذي يقوم بالأعمال الصالحة ابتغاء مرضاة الله، والذي يقوم بها لأغراض شخصية، أو لا يقوم بها إطلاقاً.

الرد: طبعاً لا يستويان، لأن الله لعدالته لا يمكن أن يهمل ذرة من الخير يقوم بها إنسان ابتغاء مرضاته، بل لا بد أن يجازيه عنها خيراً. لكن بما أن الجزاء يكون من جنس العمل، وليس في الأبدية مجال للمال أو الخدمات المادية التي يقوم بها الناس في العالم الحاضر حتى يكافئهم الله هناك بمثل ما فعلوا، لذلك فالخطاة الذين يتصدقون ويعملون أعمالاً صالحة ابتغاء مرضاة الله، يكافئهم الله في العالم الحاضر بجزاء من نوع أعمالهم. فيزيد مثلاً من ثروتهم، ويهيئ لهم سبل النجاة من الضيقات التي يتعرضون لها. لكن عند انتقالهم من العالم الحاضر، سوف يكونون بطبيعة الحال بعيداً عن الله مثل غيرهم من الخطاة. لأن الصدقة والأعمال الصالحة لا تفي في ذاتها مطالب عدالة الله، ولا تمدّ القائمين بها بطبيعة روحية تؤهلهم للتوافق معه في قداسته وصفاته الأدبية الأخرى، كما ذكرنا فيما سلف.

أما الذين، مع قيامهم بأعمال الخير، يمقتون الخطية ويتضرعون إلى الله بتذلل ليخلصهم منها، فإنه يتجه إليهم بكل عطف، ويهيئ لهم السبيل للحصول على الغفران والتمتع بشخصه، إذ وفيت مطالب عدالته وقداسته بوسيلة خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس السابق ذكره.

5 - الشفاعة وعلاقتها بالغفران

1 - عدم قدرة الأنبياء على الشفاعة أمام الله:

بما أن هؤلاء الأنبياء وإن كانوا أفضل من غيرهم من الناس، غير أنهم في ذواتهم خطاة مثلهم، إن لم يكن بالفعل، فبالقول والفكر كما ذكرنا في الباب الأول، لذلك فإنهم من تلقاء أنفسهم لا يتوافقون مع الله في صفاته السامية، كما يقعون من جهة استحقاقهم الذاتي تحت طائلة قصاصه الأبدي، فلا يستطيعون أن يتشفَّعوا لأجل خلاص أحدٍ من قصاص خطاياه أو تأهيله للوجود مع الله، لأنهم أنفسهم يحتاجون إلى هذا وذاك. والكتاب المقدس بإعلانه أن القديسين خطاة مثل باقي الناس (جامعة 7: 20) لا يقصد التشهير بهم، بل يعلن حقيقة أمرهم حتى لا يعتمد عليهم أحد في أمر الخلاص من الخطية ونتائجها.

2 - عدم قدرة الملائكة على الشفاعة لدى الله:

كما أنَّ الملائكة وإن كانوا في نظرنا كائنات سامية طاهرة، لكنهم ليسوا كذلك في نظر الله الكلي الكمال. فقد قال الوحي إنه تعالى ينسب إلى الملائكة حماقة (أيوب 4: 18). فإذا أضفنا إلى ذلك أن الملائكة كائنات محدودة، والكائنات المحدودة لا تستطيع أن تفي مطالب عدالة الله وقداسته غير المحدودة، أدركنا أن شفاعة الملائكة (إن كانت لهم شفاعة) لا تجلب لنا الغفران أو تقربنا إلى الله، لأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بعد إيفاء مطالب عدالته وقداسته.

أما الاعتراضات التي تُوجَّه ضد الحقائق السابقة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - إذا كانت شفاعة القديسين لا تُجدي، فلماذا أراد الله أن يعفو مرة عن الأشرار الذين كانوا في سدوم وعمورة، لو كان بينهم عشرة أبرار (تكوين 18: 32)؟

الرد: لا يُراد بالأبرار هنا، أشخاص خالون من الخطية، بل أشخاص كانوا يخافون الله ويحاولون جهد الطاقة أن يعملوا بوصاياه، كما كانوا يقدمون له الذبائح الكفارية عن الخطايا التي يأتونها، كما سبقت الإشارة في الباب الأول، وكما سيتَّضح بالتفصيل في الباب التالي. ولا شك أن للقديسين مقاماً خاصاً لدى الله، لكن لا شك أيضاً أنَّ هذا المقام لا يطغى على مطالب عدالته وقداسته. فإذا أمعنا النظر في حادثة سدوم وعمورة نرى أنَّ وجود بعض الأبرار فيها، لم يكن لرفع القصاص الأبدي عن الأشرار الذين كانوا معهم، أو ليمنحهم طبيعة روحية تهيِّئهم للتوافق مع الله في قداسته وصفاته الأدبية السامية إلى الأبد، بل كان ليرفع عنهم فقط قصاصاً وقتياً دنيوياً، وهذا من الممكن حدوثه كما ذكرنا في حديثنا عن الصلاة.

ومن مواضع أخرى في الكتاب المقدس، يتضح لنا أن وجود الأبرار في العالم لا يحمي الأشرار من مثل هذا القصاص، إذا كان مكيال شرهم قد طفح أمام الله. فقال: «إِنْ أَخْطَأَتْ إِلَيَّ أَرْضٌ وَخَانَتْ خِيَانَةً، فَمَدَدتُ يَدِي عَلَيْهَا وَكَسَرْتُ لَهَا قِوَامَ ٱلْخُبْزِ، وَأَرْسَلْتُ عَلَيْهَا ٱلْجُوعَ، وَقَطَعْتُ مِنْهَا ٱلإِنْسَانَ وَٱلْحَيَوَانَ، وَكَانَ فِيهَا هَؤُلاءِ ٱلرِّجَالُ ٱلثَّلاثَةُ: نُوحٌ وَدَانِيآلُ وَأَيُّوبُ، فَإِنَّهُمْ إِّنمَا يُخَلِّصُونَ أَنْفُسَهُمْ (فحسب) بِبِرِّهِمْ» (حزقيال 14: 13 ، 14).

وهكذا الحال من جهة الأبدية، فإنه ليس هناك قديس مهما كان شأنه، يستطيع أن ينقل، على أساس مكانته السامية لدى الله، خاطئاً من الهاوية إلى الفردوس. وكفى على ذلك دليلاً أنَّ الرجل الغني الذي عاش على الأرض بعيداً عن الله، لما نادى وهو في الهاوية إبراهيم أبا المؤمنين قائلاً له: «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْراهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلايَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَّزَى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُّوَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لا يَقْدِرُونَ، وَلا ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا...» (لوقا 16: 24 - 26).

2 - إن كان القديسون خطاة بطبيعتهم وأعمالهم مثل غيرهم من الناس، فكيف غفر الله لهم وقربهم إليه كما نؤمن جميعاً؟!

الرد: لا شك أنه تم إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته التي لا حد لها من جهتهم بوسيلة خاصة، من جانبه وليست طبعاً من جانبهم، لأنهم لا يستطيعون بكل تقواهم وأعمالهم الصالحة أن يعيدوا إلى حق الله كرامته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتدَ عليه، أو يعيدوا إلى أنفسهم حياة الاستقامة التي كان عليها آدم قبل السقوط في الخطية. والوسيلة التي على أساسها خلّص الله هؤلاء القديسين من خطاياهم ونتائج خطاياهم، هي التي على أساسها يخلص كل الخطاة في كل زمان ومكان، كما سيتضح من الأبواب الآتية إن شاء الله.

3 - إذا كان الأمر كذلك، ألا يوجد شفيع بيننا وبين الله؟

الرد: نعم هناك شفيع أو بالحري محام، معيّن من لدن الله، قادر على الوقوف بيننا وبينه، لأن هذا ما تتطلبه محبته لنا وعطفه علينا. لكن قبل أن نعرف من هو هذا الشفيع أو المحامي، لنسأل أنفسنا: إذا كان إنسان قد ارتكب خطايا أو خطية واحدة، وفي الوقت نفسه لم يعمل كل البر الذي أمر الله به، وكان بطبيعته عاجزاً عن الإحاطة بمطالب عدالة الله وقداسته التي لا حدّ لها، وبالتبعية كان عاجزاً عن إيفائها جميعاً، فهل يمكن أن يقبل الله شفاعته؟ طبعاً كلا.

وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أنّ الجدير بالشفاعة يجب أن يكون شخصاً لم يعمل أية خطية على الإطلاق، وفي الوقت نفسه يكون كاملاً من جهة البر كل الكمال. كما يجب أن يكون قادراً على الإحاطة بمطالب عدالة الله وقداسته التي لا حدّ لها، وقادراً أيضاً على إيفائها جميعاً، بالدرجة التي تُرضي الله تماماً. فمن هو هذا الشخص يا ترى؟

للإِجابة على هذا السؤال، اقرأ الباب التالي بإمعان.

الباب الثالث: الفداء أو الطريق الإِلهي للغفران

1 - ضرورة الفداء أو التعويض

لا سبيل للحصول على الغفران أو التمتع بالله إلا إذا تم أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته بوسيلة ما كما سلف ذكره. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، أو يدركونها لكن يتغاضون عنها لعدم معرفتهم بكيفية إتمامها، يريحون ضمائرهم من جهة الغفران والتمتع بالله، بترك الأمر إلى رحمته. ونحن وإن كنا نعتز برحمة الله كل الاعتزاز، ونؤمن أنه لا حد لها على الإطلاق، وأنها وحدها هي الكفيلة بالإتيان إلينا بالصفح والغفران، لكن لكي لا يكون الاعتماد عليها مؤسساً على مجرد الأمل أو العشم، بل على الحق والواقع نقول:

لنفرض أنَّ قضية رُفعت إلى قاض مشهور بالرحمة والرأفة، لكنه إلى ذلك يقدّس العدل ولا يفرّط في حق، فهل يجوز للمذنب أن يُطمْئِن نفسَه بأن هذا القاضي سوف يبرئ ساحته لأن قلبه الرحيم الرؤوف لا يرضى بتوقيع العقوبة القانونية عليه؟ (الجواب) طبعاً لا. وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أنَّ الله كما أنه رحيم رؤوف هو عادل وقدوس أيضاً، إذاً لا يجوز أن نُطَمْئِن نفوسنا بما هو عليه من رحمة ورأفة، قبل أن نعرف الوسيلة التي تؤهلنا للتمتع بها دون الإجحاف بمطالب عدالته وقداسته، فما هي الوسيلة يا ترى؟

الجواب: بما أننا لا نستطيع بالصلاة والصوم والتوبة والأعمال الصالحة أن نفي مطالب عدالة الله وقداسته التي لا حد لها. ومن ناحية أخرى بما أن عدالة الله وقداسته لا تقلان في شيء عن رحمته ومحبته، وذلك لكماله المطلق وتوافق كل صفاته معا كما ذكرنا. إذاً إن كان هناك مجال للتمتع بالغفران والقبول أمام الله (ومن المؤكد أن يكون هناك مجال للتمتع بهما، لأن صفتي الرحمة والمحبة في الله لا يمكن أن تكونا بلا عمل)، لا بد من الفداء أو التعويض، أو بالحري لا بد من إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا. وإيفاء هذه المطالب يستلزم طبعاً من هذا الكائن أن يقبل على نفسه القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا تنفيذاً لمطالب عدالة الله، وأن يهبنا أيضاً طبيعة روحية تجعلنا أهلاً للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية تنفيذاً لمطالب قداسته.

أما الفداء في اللغة العبرية فهو الترضية وإزالة الأحقاد بعد دفع التعويض. وفي اللغة العربية هو الإنقاذ وليس بدون مقابل، بل بعد تقديم التضحية اللازمة، وقد تكون هذه التضحية مالاً أو غير مال، فقد جاء في القاموس المحيط «فداه» أي دفع شيئاً فأنقذه، ومن ثمّ يكون قد اشتراه ثانية. أما في اللغات الأوروبية فيُراد بالفداء أربعة أمور: (1) استرداد الشرف المُعتدَى عليه (2) إطلاق سراح الأسير (3) استعادة الشيء المرهون (4) إنقاذ شخص من أزمة أو موت. وكل ذلك بواسطة تضحية أو مجهود ما.

أما الاعتراضات التي توجَّه ضد هذه الحقيقة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - القاضي الوارد ذكره في المثل السابق، مقيَّد بقوانين يجب عليه تطبيقها، فضلاً عن ذلك له رؤساء يراقبون كل أحكامه. لكن الله لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء، لذلك له أن يصفح عنا ويقربنا إليه بدافع من رحمته وحدها.

الرد: وإن كان الله لا يتقيّد بقوانين ولا يراقب أحدٌ عمله، لكن له كماله الذاتي الذي ينزّهه عن القيام بأي عمل لا يتفق مع عدالته وقداسته.. حقاً إن الله يستطيع أن يعمل كل شيء، لكن استطاعته هذه لا تتعدّى خواصه الذاتية، لأنه لكماله لا يستطيع (مع قدرته التي لا حدّ لها) أن يعمل عملاً يتعارض مع هذه الخواص. فهو (مثلاً) لا يستطيع أن يكون كاذباً أو ماكراً، لأن الصدق والاستقامة صفتان ثابتتان فيه. وكذلك لا يستطيع أن يكون متساهلاً أو متهاوناً مع الشر، لأن العدالة والأمانة صفتان ثابتتان أيضاً فيه. فلا بد من إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا يكون قادراً على القيام بهذه المهمة، يُعيد إلى حق الله قدسيته بالدرجة التي يكون معها كأنه لم يُعْتَدَ عليه، وأن يعطينا حياة روحية تسمو بنا إلى حالة التوافق مع الله في صفاته الأربع السامية، طالما نحن غير قادرين على القيام بهذين العملين، وإلا فلا غفران لنا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان (مثلاً) يستطيع ألا يكذب، أما الله فلا يستطيع أن يكذب. فالعبارة الأولى تدل على القدرة على عدم الكذب، أما الثانية فتدل على استحالة الالتجاء إلى الكذب، وبالحري تدل على التنزُّه المطلق على الكذب، وهذا ما يليق بالله دون سواه.

2 - هل من العدالة أن يقوم كائن بريء بالتعويض عن خطايا أحد المذنبين؟

الرد: فضلاً عن أن البريء هو الذي يحقّ له قانوناً التعويض عن المذنبين، لأن هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن مذنبين نظيرهم، لأنهم في ذواتهم يحتاجون إلى من يقوم بالتعويض عن ذنوبهم، نقول:

إن مبدأ النيابة مبدأ سليم تشهد العدالة بقانونيته، طالما كان النائب قادراً وموافقاً على القيام بمطالب النيابة. فالشخص الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه في قضية ما، ينتخب نائباً قانونياً للدفاع عنه، ولا تمانع المحكمة في هذا التصرف بل تلزم به.

والمدين الذي يعجز عن سداد دَيْنه يقوم النائب أو الضامن بسداده نيابة عنه، وبذلك يخلص المدين من دينه وما يترتب عليه من مسئولية أمام العدالة. والأب الفاضل يتحمل في نفسه نتائج أخطاء أبنائه عوضاً عنهم. والجندي الباسل يبذل نفسه فدية عن أهله ووطنه. وليس من يعترض على واحد من هؤلاء، بل أننا جميعاً نبجّلهم ونشيد بأعمالهم.

3 - أليس عجزنا جميعاً عن إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته مبرراً كافياً يدعوه للعفو عنا وتقريبنا إليه، دون أن يلزمنا بالبحث عن كائن يفي هذه المطالب عوضاً عنا، لا سيما إذا كان من المتعذر علينا العثور عليه؟

الرد: إذا عفا الله عنا وقرّبنا إليه لمجرد عجزنا عن إيفاء مطالب عدالته وقداسته، يكون قد تنازل عن المطالب المذكورة مضطراً. وبما أنه حاشا لله أن يُرغَم على القيام بعمل يتعارض مع عدالته أو قداسته، لذلك لا مفرّ من إيفاء مطالب عدالة لله وقداسته بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا، وإلا فلا خلاص لنا على الإِطلاق، كما ذكرنا فيما سلف.

4 - كثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا دون أن نُلزمهم بتعويض ما، فهل يكون الله أقل عطفاً أو شفقة منا؟

الرد: (ا) لا تجوز المقارنة بين معاملة الله معنا وبين معاملة بعضنا للبعض الآخر، لأننا تارة نصفح تحت تأثرنا بعواطفنا البشرية دون أن يكون هناك مبرر كاف للصفح، وتارة نعاقب تحت تأثرنا بمصالحنا الشخصية دون أن يكون هناك مبرر كاف للعقوبة. وكثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا بسبب نسياننا لإِساءتهم أو لهبوط درجة تأثرنا بها، أو بسبب شعورنا بنقائصنا ورغبتنا الباطنية في أن يصفح الناس عنا عندما نخطئ نحن إليهم. أما الله ففضلاً عن أنه لا ينسى شيئاً، ولا يتغير، فإنه بسبب كماله المطلق من جهة، وتوافق كل صفاته معاً من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون متساهلاً بمراعاة الرحمة دون العدالة في حالة الصفح. أو قاسياً بالتمسك بالعدالة دون الرحمة في حالة العقوبة، بل يصفح إذا كان الصفح لا يتعارض مع مطالب عدالته، ويعاقب إذا كان العقاب لا يتجاوز مطالب رحمته، لأنه ليس رحيماً في وقت وعادلاً في وقت آخر، بل إنه رحيم وعادل معاً في كل وقت من الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى الغفران إلا إذا وُفيّت مطالب عدالته، ولا سبيل إلى التمتع بالوجود معه إلا إذا تحققت مطالب قداسته، إما بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أنَّ الناموس الأدبي الذي وضعه الله لنا، يتوافق مع صفاته كل التوافق، وأنَّ هذا الناموس نفسه هو الذي يربط الخطية بعقوبتها، أدركنا (1) أنه لا يمكن الفصل بين هذه وتلك، إذ أنَّ هذا الفصل يكون بمثابة قطعاً للعلاقة بين الله وبين ناموسه الأدبي الذي يتوافق مع صفاته. وهذا ما لا يمكن حدوثه، إذ يترتب عليه أن يكون الله قد نهى عن السرقة والزنا (مثلاً) وفي الوقت نفسه سمح للصوص والزناة بالتمتع به في سمائه، مناقضاً نفسه بنفسه. (2) إنَّ تجاوز اللهعن خطايانا يكون موافقة منه عليها، أو تنحياً منه عن المحافظة على الناموس الأدبي الذي وضعه، وهذا الأمر وذاك باطلان. وإذا كان الأمر كذلك، فطبعاً لا سبيل إلى الغفران، إلا بعد الفداء أو التعويض كما ذكرنا.

5 - يصفح الملوك عن بعض المذنبين المحكوم عليهم بالإعدام بأمر ملكي يصدرونه، فكيف لا يستطيع الله الصفح عن الخطاة على هذا النحو؟

الرد: إنَّ الملوك الذين يقومون بهذا العمل، لا يكونون متأثرين شخصياً بجرائم هؤلاء الأشخاص، أو بالعدالة المطلقة في بلادهم، أو بقوانين الأخلاق العامة فيها، أو يكونون مضطرين للقيام به لوجود علاقة تربطهم بالأشخاص المذكورين، أو لاجتذاب فريق من الناس إلى جانبهم، أو لتجنيب بلادهم انقلاباً أو ثورة داخلية. لكن الله يتأثر مع روحانيته المطلقة بالخطايا التي نرتكبها (كما ذكرنا فيما سلف)، كما أنَّ العدالة لديه ليست مجرد قانون مكتوب أو غير مكتوب، بل إنها صفة ثابتة فيه يجب إيفاء مطالبها مهما كانت الظروف والأحوال. فضلاً عن ذلك ليس هناك من يرغمه على القيام بعمل، مجاملة لبعض الناس أو خوفاً منهم، ومن ثم لا يمكن أن يصفح إلا إذا كان الصفح قانونياً، متوافقاً مع عدالته المطلقة كل التوافق.

أخيراً نقول إنَّ الذين يريدون أن يصفح الله عنهم بكلمة، ينظرون إلى الخطية نظرة سطحية. لكن الحقيقة غير ذلك، لأن الخطية ليست مثل القذارة التي يمكن إزالتها بالماء أو بغيره، بل إنها بالإضافة إلى كونها أكبر إهانة لجلال الله (كما ذكرنا فيما سلف)، هي شر ينبع من طبيعة فاسدة كل الفساد. لذلك لا مفر من التسليم بأنه لا يمكن الصفح عن الخطاة أو تقريبهم إلى الله، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته معاً بوسيلة ما.

6 - إن الكمال المطلق الذي يتّصف الله به، يجعله لا يتقيَّد بأي قيد، فتكون له الحرية المطلقة في الصفح عن الخطاة دون أن يُلزمهم بتعويض له.

الرد: إنَّ الحرية المطلقة في نظر الله ليست هي الحرية المطلقة في نظر الناس. فالناس ينظرون إلى الحرية المطلقة كأنها المجال الذي يفعلون فيه ما يريدون، بغض النظر عن الكمال وقوانينه الثابتة. فالحرية المطلقة في نظرهم هي الإِباحية بأوسع معانيها. أما الحرية المطلقة في نظر الله، فهي المجال الذي يفعل فيه كل ما يريد في حدود كماله الذاتي. لذلك فكما أنه لا يمكن أن يرفض شخصاً متوافقاً معه في صفاته الأدبية، لا يمكن أيضاً أن يقبل في حضرته شخصاً غير متوافق معه فيها. فقد قال اوحي إن إدانة البريء وتبرئة المذنب كلاهما مكرهة عند الرب (أمثال 17: 15).

ونحن بذلك لا نقسو على أنفسنا أو نقيم العراقيل أمامها من جهة الحصول على الغفران، بل نبحث السبيل إليه من الناحية التي تتناسب مع موقف عدالة الله وقداسته إزاء الخطية وشناعتها، حتى لا تكون نظرتنا إلى الغفران مؤسسة على تصوراتنا الشخصية بل على الحقائق الإِلهية. لأننا لا نحصل عليه بمجهودنا الذاتي، بل الله هو الذي يمنحه لنا، وذلك بناء على نواميسه الخاصة. وهذه النواميس ثابتة راسخة، لا تتغير ولا تتبدل على الإِطلاق.

2 - نشأة الفداء

ذكرنا في الباب الأول أن آدم عندما أكل من الشجرة المنهي عنها ومات موتاً أدبياً، لم ينفذ الله فيه وقتئذ حكم الموت الجسدي، الذي أنذره به في حالة العصيان، بل أنقذه من هذا الموت، وأنقذه أيضاً من الموت الأبدي الذي هو العقاب الذي كان سيتعرض له في العالم الآخر، وذلك بتوقيع الموت على حيوان عوضاً عنه. وإن كانت هذه الذبيحة الحيوانية في حدّ ذاتها غير كافية للفداء، لكن لأنها كانت رمزاً إلى ذبيحة عظمى في نظر الله، لذلك اكتسبت وقتئذ شرعاً قوة الفداء. ولبيان هذا نقول:

سجَّل الوحي أنَّ الله بعدما اقتاد آدم وحواء للاعتراف بعصيانهما والندم عليه، صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما (تكوين 3: 21). وبما أنَّ الوحي لا يستعمل كلمة إلا في معناها الصحيح، لذلك لا بدّ من التسليم بأنَّ الله لم يخلق هذه الأقمصة من العدم بل صنعها. ولما كانت صناعتها تستلزم وجود جلد وقتئذ تُصنع منه، والله لم يخلق جلداً بمفرده، بل خلق حيوانات يكسوها الجلد، إذاً فمن المؤكد أنه بوسيلة ما تمَّ ذبح حيوانين، ومن جلدهما صُنعت هذه الأقمصة.

لكن إذا تأملنا الظروف المحيطة بهذا الموضوع، يتضح لنا أن الغرض من ذبح الحيوانين المذكورين لم يكن مجرد الحصول على الجلد، بل التكفير بهما (أو بالحري التعويض بهما) عن آدم وزوجته، وذلك للأسباب الآتية:

  1. إن الله الذي خلق العالمين بكلمة، لم يكن من العسير عليه أن يخلق أقمصة من الجلد بكلمة أيضاً، بدلاً من ذبح حيوانين لاستخدام جلدهما في صنع الأقمصة المذكورة.

  2. لم ينتفع آدم وحواء بلحم هذين الحيوانين في شيء ما، ومن ثم فلم يكن هناك مبرر لذبحهما لولا أن الله قصد به أول فدية عن آدم وامرأته. أما أول من أكل اللحم فهو نوح وأولاده (تكوين 9: 3)، أما من سبقوهم من البشر فكانوا يأكلون النباتات فحسب. وعلماء التاريخ الطبيعي يؤكدون هذه الحقيقة، فهم يقولون إن الإِنسان لم يعرف أكل اللحوم إلا بعد فترة طويلة من وجوده على الأرض.

  3. قدم هابيل بن آدم عن نفسه (كما سنرى فيما بعد) ذبيحة حيوانية لله، وطبعاً ما كان من الممكن أن يعرف كيفية تقديمها أو ضرورة تقديمها من تلقاء ذاته (لأنه لم يكن يأكل لحماً حتى يعرف كيفية ذبح الحيوان، أو يدرك استحقاقه للموت بسبب أي خطية يرتكبها، حتى يقدم هذا الحيوان كفارة عن نفسه)، بل لا بد أنه عرف هذين الأمرين من أبيه. وطبعاً ما كان أبوه ليعرفهما، لولا أنه أدرك أنَّ الله قصد بذبح الحيوانين (اللذين لم ينتفع هو بشيء منهما سوى الجلد)، أن يكونا كفارة عنه وعن امرأته.

مما تقدم يتضح لنا: (أ) أنَّ الموت الذي كان يجب أن يحل بآدم وحواء بسبب عصيانهما، رتب الله أن يحل بحيوانين بريئين عوضاً عنهما، رحمةً بآدم وحواء من جهة، وإيفاءً لمطالب عدالة الله على النحو الذي ارتضاه من جهة أخرى. (ب) إنَّ الله ستر عري آدم وحواء الذي ترتب على عصيانهما، أو بالحري غطى نتائج خطيتهما، بجلد هذين الحيوانين، فيكون الله قد جعل الفداء أساس الخلاص من قصاص الخطية ونتائجها السيئة، التي كان يشار إليها بالعري وقتئذ.

3 - الفداء في عصر الآباء

عصر الآباء هو العصر الذي عاش فيه المؤمنون بالله قبل نزول أي شريعة من لدنه، فكانوا يتقربون إليه ويتعبدون له على أساس الذبيحة التي سلم مبدأها لآدم، عندما سمح بذبحها نيابة عن نفسه، كما يتضح مما يلي:

  1. قدّم هابيل ذبيحة لله، من أبكار غنمه ومن سِمانها (تكوين 4: 4)، وقدمها بإيمان أنَّ الله يرضى عنه على أساسها، وأنه لإيمانه هذا شهد الله عنه أنه بار (عبرانيين 11: 4). وهذه أول مرة يُوصف فيها إنسان بأنه «بار» في الكتاب المقدس. ومن مواضع كثيرة منه يتضح لنا أن البار لدى الله، ليس هو الإِنسان الخالي من الخطية (لأنه ليس هناك مثل هذا الإنسان)، بل هو الإِنسان الذي يدرك استحقاقه للقصاص الأبدي بسبب خطاياه. وبالإضافة إلى توبته عنها، يعتمد في أمر القبول أمام الله على كفارة يرتضيها بناء على وصاياه في العصر الذي تقدم فيه، وذلك لإِيفاء مطالب عدالته على النحو الذي يقبله.

  2. ونوح بعد خروجه من الفلك بنى مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسَّم الله رائحة الرضا (تكوين 8: 21). ومن هذه الآية يتضح لنا أنَّ نوحاً وإن كان أفضل من معاصريه الذين أهلكهم الطوفان، غير أنه أدرك ببصيرته الروحية أنه على أي حال خاطئ ومستحق للهلاك مثلهم، لأن الخطية لا تكون بالفعل فقط، بل وبالقول والفكر أيضاً كما ذكرنا، وأدرك أنَّ إنقاذ الله إياه من هذا الهلاك، إنما يرجع إلى رحمته، فقدَّم الذبائح من البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة عالماً بالإِيمان أنها وحدها هي التي يليق تقديمها كفارة لله.

  3. وإبراهيم أبو المؤمنين، عندما ظهر له الله بالقرب من شكيم، بنى مذبحاً له هناك. ولما حلّ بعد ذلك شرق بيت إيل، بنى مذبحاً آخر له (تكوين 12: 6 - 8)، وعندما نقل خيمته إلى بلوطات ممرا، بنى هناك مذبحاً ثالثاً (تكوين 13: 18). وبناء هذه المذابح دليل على أنَّ إبراهيم كان يقدم عن نفسه ذبائح لله، ودليل أيضاً على أنه كان يعبد الله، ويكرّس حياته له. فضلاً عن ذلك فإنَّ الله عندما طلب منه أن يقدم ابنه ذبيحة، لم يتردد لحظة واحدة. لكن نظراً لأن هذا الطلب كان مجرد امتحان، أراه الله كبشاً. فقدمه إبراهيم ذبيحة عوضاً عن ابنه، أو فدية عنه (تكوين 22: 13).

  4. وإسحاق، عندما ظهر له الرب ووعده بمباركة نسله، بنى مذبحاً ودعا باسم الرب (تكوين 26: 25)، معلناً بذلك أنه للرب، وأنه يذبح له دون سواه، كما كان يفعل إبراهيم أبوه.

  5. ويعقوب، لما أتى سالماً إلى مدينة شكيم، أقام مذبحاً ودعاه «إيل، إله إسرائيل» (تكوين 33: 20). «إيل» كلمة عبرية معناها «الله»، وفي اللغة العربية أيضاً يسمى الله «الإِل» (مختار الصحاح ص 22)، ويرجع السبب في هذا التشابه إلى أن أصل اللغتين العربية والعبرية (والسريانية والأرامية أيضاً) واحد. أما الاسم «إسرائيل» فهو الاسم الذي أطلقه الله على يعقوب، عندما أظهر استماتته في التمسُّك بالله، ومعناه «المجاهد مع الله». وبناءً على عهد سابق من يعقوب لله، أمره الله بعد مدة، أن يصعد إلى «بيت إيل» ويبني هناك مذبحاً، فصعد وبنى المذبح كما أمره الله. ودعا المكان «إيل بيت إيل»، لأن هناك ظهر له الله (تكوين 35: 1 - 8). وقبل نزوله إلى مصر لكي يرى ابنه يوسف، ذبح ذبائح لله (تكوين 46: 1). فظهر له الله ووعده بأنه سيرافقه في طريقه إليها.

  6. وأيوب، كان من عادته أن يُصعد ذبائح بعدد أبنائه لله، ليفديهم بها من قصاص ما يمكن أن يكون قد صدر منهم من خطأ في تصرفاتهم (أيوب 1: 5)، حتى لا يقع هذا القصاص عليهم.

مما تقدم يتضح لنا أن المبدأ الذي على أساسه كان الله يُظهِر الرحمة للبشر (حتى الذين اصطفاهم من بينهم) هو اعترافهم بأنهم خطاة وأنهم يستحقون القصاص الأبدي بسبب خطاياهم، ثم تقديمهم بعد ذلك الذبائح عوضاً عن نفوسهم.

4 - الفداء في اليهودية

يشمل هذا الفداء الذبائح التي كان يقدمها بنو إسرائيل، وفق الشرائع التي أعلنها الله لموسى النبي، وكانت هذه الذبائح تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

(القسم الأول) الذبائح العامة: وهي الذبائح القومية التي كانت تُقدم لله في كل يوم، وفي كل موسم من المواسم الدينية، وأهمها:

  1. الذبيحة اليومية: وكانت تتكون من خروفين حوليين (عمر الواحد سنة) صحيحين: الخروف الأول يعمل صباحاً والخروف الثاني بين العشاءين (العدد 28: 3 ، 4).

  2. ذبيحة يوم السبت: وكانت تتكون من خروفين حوليين صحيحين، بالإضافة إلى خروفي الذبيحة اليومية (العدد 28: 9 ، 10). «الحولي» هو الذي مرّ عليه حول، أو سنة. أما كلمة «السبت» فمعناها «الراحة»، وكانت تُطلق على يوم الراحة الأسبوعية لدى بني إسرائيل.

  3. ذبيحة أول الشهر: وكانت تتكون من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة (العدد 28: 11 - 15).

  4. ذبيحة الفصح: وتتكون من ثورين وكبش وسبعة خراف صحيحة وتيس واحد، في كل يوم من أيام الفصح السبعة (العدد 28: 16 - 25). هذا عدا ذبيحة الفصح العائلية التي كانت تعملها كل أسرة بنفسها (تثنية 16: 2).

  5. ذبيحة باكورة الحصاد: وتتكون من ثور وكبش واحد وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 1 - 5).

  6. ذبيحة عيد الكفارة: وتتكون من ثور وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 7 - 10).

  7. ذبيحة عيد المظال: وتتكون من 71 ثوراً و15 كبشاً و105 خروفاً حولياً و8 تيوس، تقدم في ثمانية أيام متتالية (العدد 29: 12 - 40).

  8. ذبيحة البقرة الحمراء: وكان رمادها يوضع في ماء، ويستعمل للتطهير الرمزي لكل من مسّ ميتاً أو قتيلاً (العدد 19: 1 - 10).

(القسم الثاني) الذبائح الشخصية: وهي الذبائح التي كان يقدمها الأفراد، كل حسب الظرف الذي يجتاز فيه، وأهمها:

  1. ذبيحة المحرقة: وكان يأتي بها كل من أراد التقرب إلى الله والتمتع برضائه (لاويين 1: 1 - 9)، فمثلاً عندما تبوّأ سليمان المُلْك بعد أبيه، قدم لله في يوم واحد ألف ذبيحة محرقة (1 ملوك 3: 4).

  2. ذبيحة السلامة: وكان يأتي بها كل من أراد أن يشكر الله لأجل إحسان أسداه إليه، أو أراد أن يقدم له نافلة (أي ذبيحة تطوّعية)، للدلالة على الإخلاص له والرغبة في التفاني في إكرامه (لاويين 3: 1 - 5 ، 7: 11 - 21) وعند تكريس الهيكل أراد سليمان الملك أن يعبر عن شكره لله، فقدم ذبائح سلامة عددها اثنان وعشرون ألفاً من البقر ومائة وعشرون ألفاً من الغنم (1 ملوك 8: 63).

  3. ذبيحتا الخطية والإثم: وكان يأتي بإحداهما من عمل سهواً شيئاً من الأمور التي نهى الله عنها (لاويين 4: 1 - 35 ، لاويين 5: 1 - 19)، غير أن الذبيحة الأولى كانت تُقدم لله باعتبار الخطية نجاسة. أما الثانية فكانت تُقدم له باعتبار الخطية ذنباً. لأننا بارتكاب الخطية لا ننجس أنفسنا فقط، بل نسيء إلى الله أيضاً.

  4. ذبيحة الملء أو التكريس الكامل: وكانت تقدم عند التكفير عن الكهنة يوم إقامتهم بأعمالهم، للدلالة على أنهم أصبحوا مقدسين لله ولخدمته (لاويين 8: 22 - 36) من الناحية الرمزية.

  5. ذبائح التطهير الخاصة بالأم عندما تلد (لاويين 12: 1 - 8)، والأبرص عندما يبرأ (لاويين 14: 1 - 20)، والمصاب بسيل عندما ينقطع سيله (لاويين 15: 1 - 15). وعدا هذه الذبائح، كانت تقدم ذبيحة عن كل بكر يولد من البشر أو البهائم النجسة. أما كل بكر بهيمة من الحيوانات الطاهرة، فكان يقدم بنفسه ذبيحة (العدد 18: 17)، لأنه، دون البكر من الحيوانات النجسة، كان يليق تقديمه لله. وتقديم التطهير عند الولادة سببه وصف أوجاع الولادة جزءاً من العقاب الذي وقّعه الله على المرأة بسبب خطيتها تكوين 3: 16). أما مرض البرص والسيل فصورتان للخطية: الأول من الناحية الظاهرية، والثاني من الناحية الباطنية. أما تقديم بكر كل بهيمة فيرجع سببه إلى أن الله كان قد أنقذ أبكار بني إسرائيل وحيواناتهم من القتل عندما كانوا في أرض الفراعنة (خروج12: 29)، وبذلك أصبح كل بكر من هؤلاء وأولئك ملكاً له، فكان من الواجب أن يفتدى بذبيحة أو يقع عليه قضاؤه تعالى بالموت (خروج 13: 2 و 15).

ومما تجدر ملاحظته في هذه الذبائح ما يأتي:

  1. إنها كانت تُقدم عن خطايا السهو التي لا يعلم المرء بها إلا بعد صدورها منه، الأمر الذي يدل على أنها (على العكس مما يظن بعض الناس) ذنوب أمام الله، كما ذكرنا في الباب الأول.

    أما الخطايا التي كانت تُرتكب عمداً فلم تكن لها كفارة ما، بل كان من الواجب أن يُقتل أو يُرجم فاعلها (إقرأ مثلاً: لاويين 20: 10 ، وعدد 15: 35) وذلك بناء على قول الله: «وَأَمَّا ٱلنَّفْسُ ٱلَّتِي تَعْمَلُ بِيدٍ رَفِيعَةٍ (أي عمداً) مِنَ ٱلْوَطَنِيِّينَ أَوْ مِنَ ٱلْغُرَبَاءِ فَهِيَ تَزْدَرِي بِٱلرَّبِّ. فَتُقْطَعُ تِلْكَ ٱلنَّفْسُ مِنْ بَيْنِ شَعْبِهَا لأَنَّهَا ٱحْتَقَرَتْ كَلامَ ٱلرَّبِّ وَنَقَضَت وَصِيَّتَهُ» (عدد 15: 30 و31). وقد قصد الله بذلك أن يعلمنا وجوب الابتعاد عن الخطية كل البعد.

  2. إنَّ الذبائح لم يكن يُعفى من تقديمها أحدٌ حتى إذا كان فقيراً، لكن رأفة بالفقراء سمح الله لهم بتقديم ذبائح رخيصة الثمن، مثل الحمام أو اليمام (لاويين 14: 21 - 22).

  3. كانت هذه الذبائح تقدم على مذبح النحاس القائم في هيكل الله، فكان المفهوم لدى الجميع أنها مقدَّمة لأجل الحصول على الغفران، كما كان الذين يقدمونها يضعون أيديهم على رؤوسها ويقرّون عليها بخطاياهم، رمزاً لانتقال خطاياهم إلى الذبائح المذكورة، فكانت تعتبر كفارة أو فدية عنهم (لاويين 4: 4).

  4. إنَّ ذبيحة السلامة كان يأكل جزءاً منها الشخص الذي أتى بها والكاهن الذي قدمها، رمزاً لاشتراكهما في التمتع بإحسان الله (لاويين 7: 11 - 38). وذبيحة الإِثم التي لا يدخل الكاهن بدمها إلى قدس الأقداس، كان يأكل جزءاً منها وحده، رمزاً لأنه مسئول عن إِثم الناس الذين يوجدون في دائرة خدمته. أما ذبيحة المحرقة وذبيحة الخطية اللتان كان يدخل بدمهما إلى قدس الأقداس، فلم يكن يأكل منهما أحد - غير أن الأولى تُحرق على المذبح لأنها كانت تعتبر قرباناً طاهراً لله للحصول على رضاه (لاويين 6: 8 - 13)، أما الثانية فكانت تحرق خارج المحلة لأنها كانت تعتبر نجسة بسبب نيابتها عن خطاة يستحقون العذاب الأبدي بعيداً عن الله كل البعد (لاويين 6: 24 - 30).

  5. إن الذبائح بصفة عامة كان من الواجب أن تكون بلا عيب، فالحيوان الأعمى أو المكسور أو المجروح أو البثير أو الأجرب أو الأكلف أو مرضوض الخصية أو مسحوقها أو... أو...، لم يكن يُسمح بتقديمه ذبيحة لله (لاويين 22: 21 - 25)، وكان ذلك رمزا إلى أن الفادي الذي يصلح كفارة عن الناس يجب أن لا يكون طاهراً فحسب، بل وأن يكون كاملاً من كل الوجوه أيضاً.

5 - الفداء في الوثنية

نبذ معظم الناس الوثنية من عهد بعيد، لكن نظراً لأنها كانت ولا تزال منتشرة في بلاد متحضرة، ويعتنقها إلى الآن أشخاص نالوا قسطاً وافراً من الثقافة، لذلك لا شك أنها قامت على آراء جديرة بالبحث. وبدراسة هذه الآراء يتضح لنا:

  1. كان الوثنيون في أول الأمر يعبدون الله الواحد، لكن لعجزهم عن إدراكه، عبدوا الكائنات التي تصوّر لهم الصفات التي تخيلوها فيه، فرفعوا هذه الكائنات إلى مرتبة الألوهية لديهم، وتقدموا إليها بكل خشوع واحترام بعد غسل أجسادهم بماء كانو يدعونه «الماء المقدس»، كما قربوا لها الذبائح الحيوانية لينالوا (حسب اعتقادهم) غفرانها ورضاها. وكان معظم الوثنيين يعتزون بهذه الذبائح اعتزازاً عظيماً، فكانوا يزينونها بأزهار جميلة ويرقصون حولها كثيراً، وبعد ذلك كانوا يسلمونها إلى الكاهن ليتولى تقريبها إلى آلهتهم.

  2. وكان قدماء المصريين يواظبون على تقريب الذبائح الحيوانية لآلهتهم، وكانوا يعدّون لهذا الغرض مذبحاً خاصاً في كل هيكل من هياكلهم. وكان من الواجب على الكهنة الذين يقرّبونها أن يكون شعرهم محلوقاً وملابسهم نظيفة، حتى لا يكون بهم شيء من الهوام. وكانوا في أثناء تقريب الذبائح المذكورة ينشدون ترانيم معينة، ويقومون بشعائر دينية خاصة. أما عند استعطافهم للإِله «تيفون» فكانوا يحرقون الضحايا وهي حية. وبعد حرقها كانوا يذرّون رمادها في الهواء، ليُنتزع منه (كما يعتقدون) كل شر يمكن أن يكون فيه.

  3. وبلغ شعور الفرس والبابليين بشر الخطية شأواً عظيماً، حتى أنهم كانوا يشعلون ناراً أمام آلهتهم ويطرحون فيها أبناءهم كفارةً عنهم، أو روّاداً يفسحون لهم الطريق إلى العالم الآخر، أو رسلاً يحملون المعونة لأقاربهم الذين رحلوا إلى هذا العالم من قبل. ومما يثير الدهشة أنهم كانوا يحرقون أبناءهم وسط قرع الطبول وهتاف المغنين!!

  4. وكان الهنود يعذبون أنفسهم بطرق كثيرة مثل المشي على المسامير، وعدم تحريك أيديهم أو أرجلهم، أو قطع بعض أجزاء من أجسامهم. ظناً منهم أنهم بهذه الوسائل يكفرون عن خطاياهم ويتخلصون منها ومن عقابها. كما كانوا يقدمون أبناءهم طعاماً للحيوانات المؤلَّهة كالتماسيح، ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على عفوها ورضاها. فقد جاء في كتاب الفيدا، وهو الكتاب المقدس عندهم، أنَّ الإنسان كفّر عن نفسه أولاً بنبات الأرض، ثم بالحيوان، ثم بأولاده. ويقول المؤرخون إنّ بعض الهنود، تحت تأثرهم بشناعة خطاياهم، وفداحة التضحيات التي كانوا يبذلونها في سبيل التكفير عنها، «كانوا يقولون متى يا ترى نخلص نهائياً من خطايانا!!».

  5. ومن المأثور عن الكاهن الذي كان يقدم الذبائح في الهند، أنه كان يطهر أولاً نفسه بما كان يُدعى «الماء المقدس» ثم يطهر الجو المحيط به بواسطة رسم دائرة واسعة في الفضاء بذراعه. وبعد فحصه للذبائح وتأكده من سلامتها، كان يدور حولها ثلاث مرات، وهو يحمل مشعلاً في يمينه. أما أصحاب الذبائح فكانوا يظلون بالقرب منها حتى يذبحها الكاهن ويأخذوا أنصبتهم منها، ويشاهدوا بعد ذلك بقاياها وهي تحترق بالنار. وكانوا يعتقدون أنَّ من يأكل من الذبائح تنتقل إليه صفات الإِله المقدَّمة هذه الذبائح إليه. فقد جاء في الترانيم الفيدية أنَّ من يقدم محرقة إلى براهما، يتّحد به، ولكن في دائرته.

  6. أما اليونان والرومان، فكانوا يؤمنون بآلهة متعددة للزراعة والإخصاب والجمال والحرب وغير ذلك. وخشية أن يكونوا قد نسوا واحداً منها بنوا مذبحاً وكتبوا عليه: «لإله مجهول»، وكانوا يقدمون لهذا الإله وغيره من الآلهة الكثير من الذبائح الحيوانية. ولم تكن هذه العادة عند عامتهم فحسب، بل وعند خاصتهم أيضاً. فسقراط عندما تذكر قبل موته أنه مدين بديك لإِله الطب «اسكولابيوس»، أوصى تلميذه أن ينوب عنه في تقديم هذا الديك. وأفلاطون الذي ارتقى روحياً عن معاصريه، فأدرك الشيء الكثير عن وحدانية الله والفضيلة التي يجب مراعاتها، ذهب إلى حقيقة سامية من جهة الذبائح لم يدركها كثيرون منهم. فقال «إنَّ الذبائح ضرورية، لكنها لا تنفع البشر إلا إذا توافرت فيهم النية الصالحة». ولعله قصد بهذه النية، التوبة عن الخطية والعزم الوطي على السلوك حسب قوانين الفضيلة.

ونظراً لانتشار الذبائح في الوثنية واليهودية معاً، ظن بعض الناس إنَّ اليهود نقلوا عادة تقديمها من الوثنيين الذين كانوا يختلطون بهم. لكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب، للأسباب الآتية:

  1. اقترن تقديم الذبائح لدى الوثنيين بالفسق في كثير من الأحيان. أما تقديم الذبائح لدى اليهود فكان مقترناً بالقداسة والخشوع التام أمام الله، لأنه كان قد أعلن لهم أنه قدوس ويبغض الشر حتى في أبسط مظاهره. (اقرأ مثلاً: لاويين 11: 44 ، يشوع 24: 19 ، 1 صموئيل 2: 2). وعندما حاول اليهود مرة أن يقتدوا بالوثنيين المذكورين، أمر الله موسى أن يقتلهم بالسيف، فقتل منهم وقتئذ ثلاثة آلاف رجل (خروج 32: 4 - 29)، فضلاً عن ذلك فقد هددهم بالموت إذا تشبَّهوا بالوثنيين في نجاستهم ورجسهم وأكلهم للدم وتفاؤلهم وتشاؤمهم ونقش الوشم على أجسادهم، والاتصال بالجان في تدبير شؤونهم (لاويين 18 و 19 و 20).

  2. كان الوثنيون يقدمون الذبائح ليس للتكفير عن خطاياهم فحسب، بل وأيضاً ليرضوا الأرواح الشريرة التي كانوا يعتقدون أنها تزعجهم، أو ليبعدوها عن أجساد الذين لبستهم وترحل إلى عالمها، فاقترن تقديم الذبائح لديهم بالشعوذة. فكانوا يقربون لآلهتهم وحوش البرية والطيور الجارحة (التي كان من المحرّم على اليهود تقديمها لله)، كما كانوا يشربون الدم ولا يحرقون أي ذبيحة بأكملها، على النقيض مما كان يفعله اليهود أيضاً.

  3. كان عند الوثنيين في كل بلد الكثير من المذابح، كما كانوا ينظرون إليها كالهدف الذي يتجهون إليه، فكانوا يبالغون في تزيينها ونقش صور آلهتهم عليها، كما كانوا يشيدونها على المرتفعات ليفخروا بها. أما اليهود فقد كان عندهم مذبح واحد في هيكل أورشليم. وقبل بناء هذا الهيكل، كان الله يطلب منهم أن يصنعوا المذبح من التراب أو من حجارة لم يمسسها إزميل، لتكون منخفضة، وفي الوقت نفسه لا تكون ذا شكل يجذب الأنظار إليها في ذاتها (خروج 20: 24 - 25).

  4. كان ملوك الوثنيين يقومون أحياناً بتقديم الذبائح. لكن هذا العمل كان مقصوراً لدى اليهود على الكهنة الذين أقامهم الله. وقد حاول مرة أحد ملوك بني إسرائيل أن يرفع بخوراً في الهيكل لله، فضربه الله بالبرص (2 أخبار 26: 18 و 19).

  5. كان كهنة الوثنيين يحلقون رؤوسهم بالموسى، أو يربون خصلاً، كما كانوا يشربون الدم ويقتنون الأملاك. أما كهنة اليهود فكانوا يجزّون شعر رؤوسهم، ولا يربّون خُصلاً، ولا يشربون الدم. كما كانوا لا يقتنون أملاكاً، لتكون كل آمالهم وجهودهم مركزة في خدمة الرب.

  6. بالرجوع إلى التاريخ نرى أن الذبائح ليست دخيلة على اليهودية بل أصلية فيها. فقد كان يقدمها آباء اليهود الأوائل مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب. كما كان يقدمها قبلهم رجال الله الأتقياء مثل هابيل ونوح، قبل ظهور الوثنية على الأرض بأجيال متعددة. أما الذي نقله اليهود عن الوثنيين في فترة من الزمن، فهو عادة تقديم أبنائهم ذبيحة للوثن مولك، وقد نهاهم الله كثيراً عن هذه العادة، كما أنزل عليهم بسببها قصاصاً شديداً (إرميا 7: 31 - 34).

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تسرب إلى الوثنيين الاعتقاد بوجوب تقديم الذبائح الحيوانية لآلهتهم؟ طبعاً تسرب إليهم من أجدادهم الأوائل، وهم حام وسام ويافث، لأن هؤلاء الذين تكونت منهم الأجناس البشرية في آسيا وإفريقية وأوروبا على التوالي، كما يتضح من الكتاب المقدس وكتب الجغرافية. وكان سام وحام ويافث بحكم علاقتهم مع نوح أبيهم يعرفون وجوب تقديم الذبائح لله (تكوين 6: 10). لكن على مرّ الأيام نسي أبناؤهم (الذين عُرفوا فيما بعد بالوثنيين) الرب، وبقي اسمه فقط عالقاً بأذهانهم، لذلك كانوا يطلقونه على الكائنات التي تخيلوا أنها تتصف بصفاته، فكانوا يقدمون الذبائح والقرابين إليها وفقاً للمراسيم التي اخترعوها كما ذكرنا. هذا ومن المحتمل أن يكون المفكرون منهم مثل سقراط وأفلاطون رأوا وجوب تقديم هذه الذبائح نتيجة لشعوره الشخصي بشناعة الخطية، ورغبتهم في تجنب القصاص الذي يستحقونه من العدالة الإلهية بسببها، وبذلك سَرَت عادة تقديم الذبائح بين بعض الوثنيين.

6 - أهمية سفك دم الذبائح في الحصول على الغفران

تعتري بعض الناس دهشة عظيمة عندما يرون الأضاحي الكثيرة التي كانت ولا تزال تُقدَّم في معظم بقاع الأرض. لكن لا داعي للدهشة على الإطلاق، لأنه لما كان الصفح عن الخطية أثمن شيء لدى المؤمنين بالله، ولما كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على هذا الصفح هي الفدية، لذلك كان أمراً بديهياً أن يضحي هؤلاء المؤمنون بهذه الكمية الهائلة من الذبائح. ولزيادة الإِيضاح نتحدث عن النقاط الآتية:

1 - أهمية سفك دم الذبائح للتكفير، في اليهودية والمسيحية:

قال الله لموسى النبي: «لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُم، لأَنَّ ٱلدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ٱلنَّفْسِ» (لاويين 17: 11). وقال الرسول بولس للمسيحيين: «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22). وبما أنَّ دم الحيوان يجري في جميع أجزاء جسمه ويبعث الحياة إليها، وبما أنَّ الذي يقوم بهذه المهمة هو النفس، لذلك تكون نفس الحيوان في دمه، كما أعلن الكتاب المقدس.

أما السبب في كون الدم هو الوسيلة الوحيدة للمغفرة أو الفداء، فيرجع إلى أنَّ حياة الحيوان هي في دمه. وبما أنه بسفك دمه تفارقه حياته، كان من البديهي أن يعتبر سفك الدم تعويضاً عن نفس الخاطئ، فينجو من القصاص الذي يستحقه، ويحصل على المغفرة التي يحتاج إليها.

2 - عدم صلاحية القرابين غير الدموية للتكفير عن النفس:

إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أن الله رفض قربان قايين (أخي هابيل) لأنه لم يكن ذبيحة دموية، بل كان ثمراً من ثمار الأرض. فقد قال الوحي عن الله: «إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تكوين 4: 5).

وهنا يسأل بعض الناس: «إذا كان الغفران يتوقّف على سفك الدم، فلماذا لم يرشد الله قايين، كما أرشد هابيل أخاه، إلى ضرورة تقديم ذبيحة دموية؟» وللرد على ذلك نقول: إنَّ الله أرشده كما أرشد أخاه تماماً، لكن قايين هو الذي شاء أن يقدم قرباناً حسب استحسانه، فاستحقَّ أن يلومه الله بالقول: «إِنْ أَحْسَنْتَ (اختيار الذبيحة) أَفَلا رَفْعٌ؟» أو بالحري أَمَا كان يرتفع وجهك، وتنال القبول أمامي مثل أخيك (تكوين 4: 7). واللوم لا يُوَّجه إلا للشخص الذي يخالف وصية سبق تبليغها إليه.

ويرجع السبب في قبول الله لهابيل إلى أن قربانه ينمّ عن الاعتماد على الفداء بالدم. وأنَّ السبب في رفضه لقايين، يرجع إلى أنَّ قربانه ينم عن الاعتماد على الاجتهاد الشخصي في القبول أمامه، لأن هذا الاجتهاد مهما كان شأنه، لا يستطيع أن يكفر عن الخطية. إذ أنَّ «أجرة الخطية هي موت»: موت فاعلها أو موت من ينوب عنه، وليس القيام بعمل من الأعمال التي ندعوها الصالحة أو النافعة.

أما عن الدعوى بأن الله رضي عن هابيل لأنه كان تقياً، ورفض قايين لأنه كان شريراً، فنقول: إنَّ هابيل كان مولوداً بطبيعة تميل إلى الخطية مثل أخيه تماماً. ولا شك أنه كان يعملها مثله إن لم يكن بالفعل فبالفكر أو القول، فيرجع السبب في قبول الله لهابيل ورفضه لقايين إلى نوع القربان الذي قدمه كل منهما. وهذا هو الدليل على صدق قول الوحي عن هابيل إن الله شهد لقرابينه (وليس شهد له أو لأعماله) (عبرانيين 11: 4).

3 - تحريم شرب الدم:

لما كان الدم هو الوسيلة التي عينها الله للغفران، حرم على البشر شربه. فقال لبني إسرائيل: «كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلنَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكلُ دَماً، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ ٱلنَّفْسِ ٱلآكِلَةِ ٱلدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا» (اللاويين 17: 10). كما قال لنوح وأولاده من قبل، عندما سمح لهم لأول مرة في التاريخ بأكل اللحم: «كُلُّ دَابَةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً. كَٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ٱلْجَمِيعَ. غَيْرَ أَنَّ لَحْماً بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ (أي بدمه الذي فيه الحياة)، لا تَأْكُلُوهُ» (تكوين 9: 3 و 4). وبذلك نهى ليس عن شرب الدم فحسب، بل وأيضاً عن الحيوانات التي لم يُسفك دمها. لأنه قال في موضع آخر «وَلَحْمَ فَرِيسَةٍ فِي ٱلصَّحْرَاءِ لا تَأْكُلُوا» (خروج 22: 31). كما قال عن الكاهن في العهد القديم «مِيِّتَةً أَوْ فَرِيسَةً لا يَأْكُلْ» (اللاويين 22: 8). ولما جاءت المسيحية نهت أيضاً عن شرب الدم وأكل لحم الحيوان الذي لم يسفك دمه، فقد قال الرسُل للمؤمنين «أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ» (أعمال 15: 29).

أما الذين ينكرون أنَّ السبب في تحريم شرب الدم، هو جعل الله إياه كفارة عن النفس، ففيما يلي آراؤهم مصحوبة بالرد عليها:

1 - نَهى الله عن شرب الدم لأنه شر في ذاته، وليس لنا أن نسأل عن ماهية هذا الشر، إذ يكفي أن نطيع الله في كل ما يأمرنا به.

الرد: ليست المادة في ذاتها شراً، بل الشر هو في سوء استعمالها، فالمواد المخدرة مثلاً، من حيث هي مواد نباتية أو كيمائية، ليست شراً، لأنها تُستعمل بأمر الأطباء في علاج بعض الأمراض. إنما الشر هو في استعمالها لخدمة الأهواء الجسدية. وبما أن الدم فضلاً عن أنه ليس شراً في ذاته، يحتوي على عناصر مغذية للجسم. ومنه يصنع الهيموجلوبين لعلاج حالات فقر الدم، إذاً ليس من المعقول أن يكون الله قد نهانا عن شرب الدم لذاته.

2 - نَهى الله عن شرب الدم، لأن حاسة الذوق فينا لا تقبله.

الرد: إنَّ الإِنسان، بل والحيوان أيضاً يعرف بالطبيعة طعم الأشياء، فيأكل منها ما يتفق مع ذوقه ويرفض ما لا يتفق معه، دون أن يكون في حاجة إلى أمر أو نهي من الله عن هذا أو ذاك. فضلاً عن ذلك فهناك أشياء كثيرة (كسلوفات الصودا مثلاً) لا تقبلها حاسة الذوق فينا، ومع ذلك ليس هناك من يقول إنه محرَّم علينا استعمالها.

3 - إنَّ الله نهى عن شرب الدم لأنه يثير الشهوة في الإِنسان، كما يحوّله إلى وحش مفترس.

الرد: إن كانت بعض الأطعمة تبعث النشاط إلى جسم الإِنسان، لكن الذي يثير الشهوة فيه ليس تناول هذه الأطعمة، بل التفكُّر في الشهوة المذكورة. فضلاً عن ذلك فإن كثيرين من المرضى يأكلون (بناء على نصيحة الأطباء) الكبد دون طهي أو شيّ، (والكبد كما نعلم كلها دم)، ومع ذلك لم يفترسوا أحداً على الإطلاق.

مما تقدم يتضح لنا أنه ليس هناك سبب معقول لتحريم شرب الدم سوى ذاك الذي ذكره الوحي الإِلهي، وهو «لأَنَّ ٱلدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ٱلنَّفْسِ» (لاويين 17: 11)، الأمر الذي يدل على أن الوسيلة الوحيدة التي عيّنها الله للقبول أمامه، هي الفداء بالدم.

7 - تطّور الآراء من جهة الفداء بدم الذبائح

لا تزال الذبائح الحيوانية تشغل إلى الآن مركزاً عظيماً بين كثير من الناس في بلاد متعددة، غير أن فكرة تقديمها لأجل الحصول على الغفران أخذت في التطّور بين رجال الله من عهد بعيد. ولكي نقف على الأسباب التي أدّت إلى هذا التطور نقول:

1 - عدم كفاية الذبائح الحيوانية للفداء:

بما أن الفدية التي تصلح للتكفير عن الإِنسان يجب أن تكون معادلة له في القيمة، حتى تكون كافية للتعويض عنه. وبما أنَّ نفس الإِنسان روحية خالدة وذات خواص أدبية وعقلية سامية، بينما نفس الحيوان فضاً عن كونها دموية لا خلود لها، هي خالية من هذه الخواص، إذاً لا يمكن أن تكون في ذاتها كافية لفداء الإِنسان والتكفير عنه أمام عدالة الله.

2 - أسباب استعمال الذبائح الحيوانية للفداء:

يتساءل بعض الناس: إذا كانت الذبائح الحيوانية غير كافية في ذاتها للتكفير عن الإنسان، فلماذا أمر الله بتقديمها؟.

وللرد على ذلك نقول: لم يكن الإنسان في العصر الأول يقدّر القيم الأخلاقية تقديراً صحيحاً، كما يشهد بذلك الكتاب المقدس وكتب التاريخ، فكان يتعذر عليه إدراك نتائج الخطية في نفسه، أو مقدار الإساءة التي يوجهها إلى الله بفعلها. لذلك كان من البديهي أن يبدأ الله وهو الحكيم العارف بطباع البشر وطرق تعليمهم وتهذيبهم، بإظهار خطورة الخطية ووخامة عواقبها بوسائل ملموسة تستطيع عقولهم البدائية فهمها وإدراكها. وذلك بتصوير الموت الذي هو النتيجة الحتمية للخطية بعمل يمكنهم رؤيته بعينهم وفهم مرماه بعقولهم، كما هي الحال في تعليمنا للأطفال، فإننا نقدم لهم الصور قبل الكلمات المعبِّرة عنها، لأنهم يستطيعون إدراك مدلول الصور قبل إدراك معاني الكلمات المذكورة. ولما كان الحيوان هو أقرب الكائنات إلى الإِنسان شعوراً بالراحة ولألم، كما تظهر عليه بوضوح علامات الحياة والموت، كان من البديهي أن يعلن الله للخطاة ما يستحقونه من عذاب مصوّراً في ذبح حيوان وحرقه، ليدركوا أنه بسبب خطاياهم كان يجب أن يكونوا مكان هذا الحيوان، لكن الله من باب العطف عليهم سمح به كفارة عنهم. ولذلك كانوا يشعرون بشناعة الخطية، ويشكرون الله لأنه جعل لهم طريقاً للخلاص من قصاصها.

3 - أسباب تطوّر الآراء من جهة الذبائح الحيوانية:

لكن بارتقاء البشر أدبياً وروحياً، أخذوا يدركون نجاسة الخطية وتأثيرها الشنيع على نفوسهم، كما أخذوا يدركون فداحة الإساءة التي يوجّهونها إلى الله بارتكابها، فأدركوا أن الذبائح الحيوانية لا يمكن أن تكون في ذاتها هي الفدية التي قصدها الله للخلاص من عقوبة الخطية. وقد صادق الله على إدراكهم هذا فقال «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأَتَكَلَّمَ. يَا إِسْرَائِيلُ فَأَشْهَدَ عَلَيْكَ. اَللّٰهُ إِلٰهُكَ أَنَا لا عَلَى ذَبَائِحِكَ أُوَبِّخُكَ، فَإِنَّ مُحْرَقَاتِكَ هِيَ دَائِماً قُدَّامِي. لا آخُذُ مِنْ بَيْتِكَ ثَوْراً، وَلا مِنْ حَظَائِرِكَ أَعْتِدَةً. لأَنَّ لِي حَيَوَانَ ٱلْوَعْرِ (أي الغابة) وَٱلْبهَائِمَ عَلَى ٱلْجِبَالِ ٱلْأُلُوفِ... هَلْ آكُلُ لَحْمَ ٱلثِّيرَانِ أَوْ أَشْرَبُ دَمَ ٱلتُّيُوسِ؟ اِذْبَحْ لِلّٰهِ حَمْداً، وَأَوْفِ ٱلْعَلِيَّ نُذُورَكَ، وَٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (ممور 50: 7 - 15). ولذلك قال داود النبي: «لأَنَّكَ لا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لا تَرْضَى» (مزمور 51: 16). وميخا النبي تساءل: «بِمَ أَتَقَّدَمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟!» (ميخا 6: 6 ، 7).

هذا هو ما انتهى إليه الأنبياء الذين كانوا يؤمنون بالله ويعملون كل ما في وسعهم لينجوا من عقابه ويحصلوا على ثوابه، كما كانوا يكثرون من الصلوات والأصوام وأعمال الرحمة والإحسان وتقديم الذبائح والقرابين، ومع ذلك كانت خطاياهم على الرغم من قلتها أكثر وأشنع من أن يجدوا لها بهذه الوسائل غفراناً. لذلك قطعوا الأمل من جهة القبول أمام الله، فقال أيوب: «لَيْسَ بَيْنَنَا (أي بينه وبين الله) مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا ِيَرْفَعْ (الله) عَنِّي عَصَاهُ وَلا يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ». وقال أيضاً: «فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ (إذاً) عِنْدَ ٱللّٰهِ ؟» (أيوب 9: 33 و34 و2). كما قطعوا الأمل من وجود أي فدية عن نفوسهم. فقال داود النبي «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلا يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِم، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مزمور 49: 7 ، 8). أي أنَّ الإِنسان لا يستطيع أن يفدي أخاه الإِنسان مهما كانت علاقة المحبة التي بينهما، لأن الفدية الحقيقية ليست في متناول البشر على الإطلاق (كما سيتضح في الباب الرابع). وقد صادق المسيح على اعتقادهم فقال «مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 26).

والحق أنه لا غرابة في استيلاء الحيرة على هؤلاء الأفاضل، وشعورهم بالعجز عن معرفة الفدية الحقيقية التي تصلح للتكفير عنهم، لأنهم لتأثرهم بقداسة الله تأثراً حقيقياً كانوا يرون الخطية كما هي بكل شناعتها وخطورتها. أما البعيدون عن الله فلا يستطيعون رؤية الخطية في هذه الصورة، فيظنون أنه من السهل الحصول على الغفران بواسطة أي عمل من الأعمال التي يطلقون عليها الأعمال الصالحة. لكن لو تطلعوا إلى ذواتهم في نور عدالة الله وقداسته اللتين لا حدّ لهما كما فعل هؤلاء الأفاضل، لاستطاعوا أن يدركوا عجزهم الكلي عن محو خطاياهم بكل أعمالهم الخيرية وممارساتهم الدينية، ولصرخ كل واحد منهم كما صرخ إشعياء النبي قديماً «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ ٱلشَّفَتَيْنِ!!» (إشعياء 6: 5)، ولتهيأوا تبعاً لذلك لمعرفة الطريق الذي أعلنه الله للخلاص من عقوبة الخطية ونتائجها الشنيعة، والذي سنتولى إيضاحه بشيء من التفصيل فيما يلي.

أما الاعتراضات الموجهة ضد هذه الحقائق ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - يدل عدم طلب الله ذبيحة من بني إسرائيل الوارد في مزمور 50: 7 - 15 على عدم ضرورة تقديم الذبائح لأجل الحصول على الغفران. كما أنَّ قول الله على لسان إرميا النبي لليهود «ضُمُّوا مُحْرَقَاتِكُمْ إِلَى ذَبَائِحكُمْ وَكُلُوا لَحْماً. لأَنِّي لَمْ أُكَلِّمْ آبَاءَكُمْ وَلا أَوْصَيْتُهُمْ يَوْمَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ مُحْرَقَةٍ وَذَبِيحَةٍ» (إرميا 7: 21 - 22) يدل على وجوب عدم تقديم الذبائح المذكورة.

الرد: بالرجوع إلى مزمور 50: 7 - 15 نرى أن المراد ليس النهي عن تقديم الذبائح للحصول على الغفران، بل التنبيه إلى عدم استطاعة البشر أن يقدموا الذبيحة الكافية عن خطاياهم، فإن الله تولَّى تدبيرها بنفسه (عبرانيين 10: 5 - 9). والدليل على ذلك أنَّ الله حرّضهم بعد هذه الآيات ب 600 سنة تقريباً بواسطة ملاخي النبي على تقديم الذبائح التي لا عيب فيها، فقال لهم: «وَإِنْ قَرَّبْتُمُ ٱلأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرّاً؟ وَإِنْ قَرَّبْتُمُ ٱلْأعْرَجَ وَ ٱلسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرّاً؟» (ملاخي 1: 8).

كما أنه بالرجوع إلى الآيات الواردة في سفر إرميا 7: 21 - 22 ، نرى أن المراد بها ليس وجوب امتناع اليهود عن تقديم الذبائح، بل وجوب توبتهم لله وإصلاح طرقهم أمامه، لأنهم كانوا يظلمون الغريب واليتيم والأرملة، كما كانوا يسفكون دماء الأبرياء ويركضون وراء العبادة الوثنية، وبعد ذلك كانوا يتقدمون بذبائحهم إلى الله!! (إرميا 7: 1 - 15).

الباب الرابع: تفرُّد الله بالقدرة على الفداء الحقيقي

1 - الشروط الواجب توافرها في الفادي، وإمكانية تحقيقها

عجز الأنبياء وهم صفوة الناس عن الاهتداء إلى الفدية التي تصلح للتكفير عنهم، على الرغم من أصوامهم وصلواتهم وصدقاتهم وذبائحهم المتعددة، لأنهم وجدوا وجوب اشتمال هذه الفدية على مميزات يتعذر تحقيقها في نظرهم. ولذلك سنبحث فيما يلي على قدر ما يتسع المجال أمام عقولنا، عن الشروط الواجب توافرها في الفدية، أو بالحري في الفادي، حتى يكون قادراً على التكفير عن خطايانا تكفيراً حقيقياً، وعلى تحمُّل قصاصها بأسره، إيفاء لمطالب قداسته التي لا نهاية لها، حتى يمكن الحصول على الغفران التمتع بحضرة الله.

أولاً - الشروط الواجب توافرها في الفادي

  1. بما أنَّ الفدية يجب أن تكون على الأقل مساوية في قيمتها للشيء المطلوب فداؤه، وبما أنه لا يساوي الإِنسان إلا إنسان مثله لأنه ليس له نظير بين الكائنات يعادله ويساويه، لذلك فالفدية أو بالحري الفادي الذي يصلح للتكفير عن نفوسنا، يجب أن لا يكون حيواناً بل أن يكون على الأقل إنساناً.

  2. وبما أنَّ هذا الفادي سيكون فادياً ليس لإِنسان واحد بل لكل الناس، لتعذُّر وجود فادٍ لكل واحد من بلايين البشر الذين يعيشون في العالم، في كل العصور والبلاد، يجب أن تكون قيمته معادلة لكل هؤلاء الناس.

  3. وبما أنه لو كان الفادي من جنس يختلف عن جنسنا (على فرض وجود مثل هذا الجنس)، لما استطاع أن يكون نائباً عنا، لأن النائب يكون من جنس الذين ينوب عنهم، لذلك فإنه مع عظمته التي ذكرناها يجب أن يكون واحداً من جنسنا.

  4. وبما أنه لو كان الفادي خاطئاً مثلنا، لكان محروماً من الله وواقعاً تحت قضاء القصاص الأبدي نظيرنا، ولا يستطيع تبعاً لذلك أن ينقذ واحداً منا من هذا المصير المرعب، لأنه يكون هو نفسه محتاجاً إلى من ينقذه منه، لذلك فالفادي مع وجوب كونه واحداً من جنسنا، يجب أن يكون خالياً من الخطية خلواً تاماً.

  5. وبما أنَّ خلوه من الخطية وإن كان أمراً سامياً، لا يقوم دليلاً على كماله، وبالتالي على أهليته ليكون فادياً. فآدم مثلاً رغم أنه خُلق خالياً من الخطية غير أنه لم يكن معصوماً منها، لأنه عندما عاش على الأرض سقط فيها، لذلك لا يكفي أن يكون الفادي خالياً من الخطية، بل يجب أن يثبت بالدليل العملي أنه معصوم منها أيضاً.

  6. فضلاً عن ذلك، بما أنه لو كان مخلوقاً، لكان بجملته ملكاً لله. وشخص ليس ملكاً لنفسه بل ملكاً لله، لا يحقّ له تقديم نفسه فدية لله عن إنسان ما، إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً غير مخلوق ليكون من حقه أن يقدم نفسه كفارة.

  7. بما أنه لا يمكن الحصول على الغفران والتمتع بالوجود في حضرة الله إلا إذا تمّ أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته التي لا حدَّ لها، إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً ذا مكانة لا حدَّ لسموها حتى يستطيع إيفاء مطالب الأولى بتحمل كل قصاص الخطية عوضاً عنا، وإيفاء مطالب الثانية بإمدادنا بحياة روحية ترقى بنا إلى درجة التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية.

فترى من يكون هذا الفادي العظيم القدر، الخالي من الخطية والمعصوم منها، غير المخلوق في ذاته وغير المحدود في مكانته، حتى يستطيع متطوعاً أن يفي مطالب عدالة الله التي لا حدَّ لها عوضاً عنا، ويبعث فينا أيضاً حياة روحية ترقى بنا لدرجة التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، وليس من يتصف بهذه الصفات أو يستطيع القيام بهذه الأعمال سوى الله؟ فهل هذا الفادي بجانب إنسانيته الممتازة يجب أن يكون هو الله؟!

حقاً إنه لسؤال خطير، لكن جوابه واضح كل الوضوح، ولا مفر منه على الإِطلاق.

ثانياً: إمكانية تحقيق الشروط السابقة

  1. إن اتخاذ الله ناسوتاً من جنسنا ليكون فيه فادياً لنا، فضلاً عن أنه أمر يمكنه القيام به، فإنه باتخاذه هذا الناسوت (أ) لا ينحصر في مكان ما. لأن اللاهوت لا يتحيز بحيز، إذ أنَّ وجوده في مكان (حسب تقديراتنا البشرية) لا يمنع وجوده ي مكان آخر في نفس الوقت. (ب) إنه باتخاذه هذا الناسوت، لا يفقد شيئاً من مجده الذاتي، لأن هذا المجد لا يتعرض للزيادة أو النقصان على الإطلاق (ج) إنَّ اتخاذه هذا الناسوت أمر تتطلبه رغبته في أن تكون لنا جميعاً علاقة حقيقية معه، إذ لا يمكن أن تقوم لهذه العلاقة قائمة إذا ظل بعيداً عن مداركنا، وظللنا نحن بعيدين عن التوالف معه.

    «الناسوت» مصدر من «الإنسان»، يُراد به الطبيعة البشرية بما تحويه من جسد ونفس وروح. أما كلمة «اللاهوت» فهي على وزن الناسوت والجبروت، يُراد بها جوهر الله، وجوهر الله هو عين ذاته، لأنه لا تركيب فيه على الإطلاق، أما الألوهية فهي مصدر منسوب إليه تعالى، مثل الفروسية المنسوبة إلى الفارس.

  2. والشرط الخاص بخلو هذا الناسوت من أي ميل للخطية يمكن تحقيقه، لأن الله عندما يتخذ لنفسه ناسوتاً لا يحتاج الأمر في تكونه إلى بذرة حياة من رجل ما، لأنه هو الحياة نفسها. وبما أن الطبيعة التي تميل إلى الخطية لا تنتقل إلى الإنسان إلا بواسطة التناسل الطبيعي، إذاً من البديهي أن يكون هذا الناسوت خالياً من الطبيعة المذكورة، ويكون أيضاً بسبب كماله الذاتي قادراً على أن يكون معصوماً من السقوط في الخطية.

  3. ويمكن تحقيق الشرط الخاص بوجوب مساواة نفسه لنفوسنا في القيمة، إذا عرفنا أن ناسوت الله فضلاً عن كونه مقترناً به كل الاقتران، الأمر الذي يجعل قيمته لا حد لها على الإطلاق، فإن هذا الناسوت قدوس كل القداسة، والقدوس أعظم من كل الخطاة بما لا يقاس.

  4. والشرط الخاص بوجوب امتلاك الفادي لناسوته (أي بكونه غير مخلوق بواسطة كائن ما) من البديهي أن يتوافر فيه، لأن هذا الفادي هو الله، والله هو الخالق لكل الأشياء ومالكها.

  5. والشرط الخاص بوجوب احتمال قصاص الخطيئة عوضاً عنا إيفاء لمطالب العدالة الإِلهية التي لا حد لها، من البديهي أن يتوافر فيه أيضاً، لأنه بوصفه هو الله، يحيط بمطالب هذه العدالة، ويستطيع أيضاً تحقيقها في الناسوت الذي يتخذه.

  6. والشرط الخاص بوجوب استطاعته أن يرقى بنا في حالة التوافق مع الله، من البديهي أن يتوافر فيه كذلك، لأنه في ذاته هو الله، والله هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة.

مما تقدم نرى أن الشروط الواجب توافرها في الفادي ليست معقولة فحسب، بل ويمكن تحقيقها بوسيلة معقولة أيضاً.

2 - أدلة كتابية على تفرُّد الله بمهمة الفداء

أولاً - شهادة التوراة

  1. قال موسى النبي لله: «ترشد برأفتك الشعب الذي فديته» (خروج 15: 13). ولم يكن المقصود بفداء الله لبعض البشر في العهد القديم، فداء أرواحهم، بقدر ما كان يُراد به فداء أجسادهم، أي إنقاذهم من الموت بوسيلة ما. أما فداء الله لنا، بمعنى احتماله في نفسه كل خطايانا لإِنقاذنا من القصاص الأبدي الذي نستحقه بسببها فلم يُعلن (كما سيتضح فيما يلي من هذا الباب) إلا في المسيحية.

    ولما كان قصد الله منذ الأزل أن يقوم بهذه المهمة، ترد الأفعال الخاصة بها في التوراة «فديتَه» في الزمن الماضي، كما يتضح من خروج 15: 13 ، ومما سنقتبسه بعد ذلك. أما إذا وردت في صيغة المضارع، فيكون المُراد بها التحدث عن الفداء أو التكفر كحقيقة من الحقائق الإلهية الثابتة، لأن التعبير عن هذه الحقائق يُصاغ في الفعل المضارع. وقال موسى أيضاً لله: «اِغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي فَدَيْتَ يَا رَبُّ» (تثنية 21: 8)، ومن هذه الآية يتضح لنا أنه لا غفران إلا بعد الفداء - وهذا ما يتفق مع الحق كل الاتفاق.

  2. وقال حزقيا الملك التقي «ٱلرَّبُّ ٱلصَّالِحُ يُكَفِّرُ عَنْ كُلِّ مَنْ هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ ٱللّٰهِ» (2 أيام 30: 18 ، 19).

  3. وقال أيوب عن الله «فَدَى نَفْسِي مِنَ ٱلْعُبُورِ إِلَى ٱلْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ ٱلنُّورَ» (أيوب 33: 28).

  4. وقال داود النبي «ٱلرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ» (مزمور 34: 22). وقال أيضاً «إِنَّمَا ٱللّٰهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ» (مزمور 49: 15). كما خاطب نفسه قائلاً عن الله: «ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. ٱلَّذِي يُكَلِّلُكِ بِٱلرَّحْمَةِ وَ ٱلرَّأْفَةِ» (مزمور 103: 4)، لأنه «إِلٰهُ خَلاصِي» (مزمو 25: 5). ولذلك خاطب الله بالقول «مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا» (مزمور 65: 3) والخلاص المقصود هنا هو الخلاص من الضيقات والآلام، كما يراد به الخلاص من الخطية ونتائجها.

  5. وقال إشعياء النبي «فَادِينَا رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ» (إشعياء 47: 4). وقال أيضاً: «ٱلرَّبَّ قَدْ فَدَى يَعْقُوبَ» (إشعياء 44: 23). وقال الله على لسانه: «إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ» (إشعياء 45: 21) والبار هو العادل، والمخلِّص هو الرحيم، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، إلا إذا قبل المخلّص تحمُّل نتائج خطايانا عوضاً عنا تحقيقاً للعدالة. وإلا كان الخلاص رحمة لا سند لها من العدالة، ومن ثمّ لا تكون ثابتة أو راسخة. كما قال للشعب الخاطئ: «اِرْجِعْ إِلَيَّ لأَنِّي فَدَيْتُكَ» (إشعياء 44: 22).

  6. وقال زكريا النبي عن الله «وَيُخَلِّصُهُمُ ٱلرَّبُّ إِلَهُهُمْ» (زكريا 9: 16). وليس هناك إشكال في هذه الآية، إذ يُقصد «بالرب الإله هنا» المسيح من الناحية الجوهرية (كما سيتضح فيما يلي من هذا الصل) وبذلك يكون المعنى أن الله يخلّص البشر بواسطة المسيح. وقال الله على لسانه «أَجْمَعُهُمْ لأَنِّي قَدْ فَدَيْتُهُمْ» (زكريا 10: 8).

ثانياً: شهادة الإنجيل

  1. قالت العذراء مريم عن الله: «ٱللّٰهِ مُخَلِّصِي» (لوقا 1: 47). قاصدة بذلك أنه مخلِّصها من الخطية، لأنه لم تكن لديها وقتئذ مشكلة دنيوية ترجو الخلاص منها.

  2. وقال زكريا عندما ألهمه الله أنَّ ابنه يوحنا سيُعدّ الطريق أمام المسيح «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ» (لوقا 1: 68).

  3. وقال بولس الرسول عن الله إنه يفدينا من كل إثم (تيطس 2: 14)، وإنه افتدانا من لعنة الناموس (غلاطية 3: 13)، وإنه يكفّر الخطايا (عبرانيين 2: 17) وإنه خلصنا (من خطايانا) ودعانا دعوة مقدسة (2 تيموثاوس 1: 9). وإنه بمقتضى رحمته خلصنا من خطايانا (تيطس 3: 5).

  4. وقال بطرس الرسول إنَّ «ٱلَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا» (1 بطرس 3: 21) و «أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لا بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلا عَيْبٍ وَلا دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (1بطرس 1: 18 - 20).

  5. وقال يوحنا الرسول عن الله إنه «يُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1 يوحنا 1: 9) - وهذا يتضمَّن الخلاص منه. وقال عن المسيح إنه «كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يوحنا 2: 2).

  6. (6) وقال يهوذا عن الله إنه «ٱلإِلٰهُ ٱلْحَكِيمُ ٱلْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا» (آية 25).

    والفعل «كفَر» (بوجود فتحة على الفاء) معناه في اللغتين العبرية والعربية «ستر». فنحن نقول: كفر الفلاح الحبوب، أي «سترها» بالتراب. والفعل «كفَّر»، بوجود شدة على الفاء، يراد به المبالغة في الستر مثل الفعلين: فتح وقفل. أما إذا استعمل حرف الجر «عن» بعد كفّر فيكون المراد به تقديم التعويض اللازم عن الخطية أو عن إنسان مذنب. فنحن نقول: «كفَّر فلان عن ذنوبه»، أي قدَّم التعويض اللازم عنها حتى تُرفع عنه عقوبتها. ونقول «كفَّر فلان عن المذنبين» أي قدّم التعويض اللازم عنهم حتى لا يلحقهم أذى من جراء ذنوبهم (لاويين 5: 5 - 19 ، 16: 30 - 34).

والتكفير وإن لم يكن هو ذات الغفران، لكنه مقترن به، فلا غفران إلا ويسبقه تكفير (أياً كان نوع هذا التكفير)، ولا تكفير إلا ويتبعه غفران. ولما كان الإنسان لا يستطيع التكفير عن خطاياه بالدرجة التي تفي مطالب عدالة الله التي لا حد لها، كان الله وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة، فإن تكفير الله بنفسه عن خطايانا بمعنى احتمال نتائجها في نفسه (على نحوٍ ما) عوضاً عنا قبل أن يغفرها لنا، أمر لا يجوز الإختلاف بشأنه على الإطلاق. ولا غرابة في ذلك، فنحن نرى أنه إذا أساء عبد إلى سيده، فإن لسيده الحق أن يعاقبه، أو يعفو عنه. فإذا أبت نفسه أن تتحمل إِساءة العبد، عاقبه من أجلها. لكن إذا رضيت نفسه أن تتحمل هذه الإِساءة عطفاً وشفقة على العبد، فإنه يعفو عنه. وفي هذه الحالة يكون قد فداه أو كفَّر عن إساءته، لأنه حمل الألم في نفسه عوضاً عن أن يصبّه على رأسه ناراً حامية. وكل ما في الأمر أن الله في عفوه عنا يتحمل إساءتنا في نفسه، ليس فقط بسبب العطف علينا، بل أيضاً لإِيفاء مطالب عدالته، لأن هذه ليست مجرد شريعة لديه كما هي الحال معنا، بل إنها صفة من الصفات التي تتميز بها ذاته، من الضروري إيفاء مطالبها بأي حال من الأحوال.

3 - قانونية قيام الله بالفداء

تساور الشكوك بعض الناس في موضوع «ظهور الله في ناسوت للقيام بالتكفير عن خطايانا»، وإن كان لا بد من التسليم به للأسباب التي ذكرناها في الباب السابق. فلنفحص فيما يلي اعتراضاتهم عليه.

1 - الله منّزه في ذاته كل التنزيه، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ناسوتاً مثلنا، لأي غرض من الأغراض.

الرد: إذا وضعنا أمامنا أنَّ الله يحبنا محبة شديدة، لأنه خلقنا على صورته كشبهه كما ذكرنا في الباب الأول، أدركنا أنه لا يمكن أن يكون متباعداً عنا، بل لا بد أن يكون حانياً علينا أكثر مما نفتكر أو نتصور. وهذا ما يدعوه إلى أن يشق لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدودية مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه، مع بقائه قدوساً في ذاته. كما أنَّ هذه المحبة تدعوه أن يعلن ذاته لنا بهيئة نستطيع إدراكه بها، هي الهيئة لبشرية. إذ بدونها لا نستطيع أن ندرك أنه يحبنا، وبالتالي لا نستطيع أن نحب أو نثق أنه يمكننا الاقتراب منه والتوالف معه. وعندما يريد الله أن يعلن لنا محبته ويكفر بنفسه عن خطايانا، لا يكون هناك مانع لديه من الظهور في ناسوت خاص، طالما أنَّ هذا الناسوت خال من الخطية ومعصوم منها. لأنه لو ظهر لنا في هيئة ملائكية مثلاً، لما استطعنا إدراكه حق الإدراك، إذ ليس هناك مجال للتوافق الحقيقي بيننا وبين الملائكة.

وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أنَّ التنزيه الذي يليق بالله هو التنزيه عن الخطأ وعدم البر، وعن العجز والضعف، وليس التنزيه عن الاتصال بالناس الذين خلقهم على صورته، أو إظهار المحبة لهم والعطف عليهم بكل وسيلة من الوسائل.

2 - كيف يشق الله لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدود مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه مع بقائه قدوساً في ذاته؟

الرد: بما أن وجود الله مع جماعة من الناس في وقت ما، لا يمنعه كما نؤمن جميعاً من الوجود مع آلاف غيرها في جهات متباعدة في نفس الوقت، لذلك لا اعتراض على إمكانية ظهوره لنا في ناسوت مع بقائه غير محدود في ذاته. كما أن قداسة الله المطلقة لا تسمح لأي شرّ بالتسرب إليه مهما كان هذا الشر على مقربة منه، لأن القداسة المطلقة التي يتصف بها الله عازل يحول دون ذلك، فهو والحالة هذه يشبه (إن جاز التعبير) النور الذي يشق طريقه في وسط الظلمة، دون أن تختلط به أو يختلط هو بها.

3 - كيف يظهر الله الذي لا حدّ لعظمته، في ناسوت مثلنا؟

الرد: إن محبة الله الشديدة لنا، لا تسمح لأي عقبة بالوقوف في سبيل تحقيق أغراضها، لا سيما وأن العظمة الحقيقية ليست في تشامخ العظيم بل في تواضعه، وليست في تعاليه بل في تنازله، كما أنها وليست في الأثرة والأنانية بل في الإيثار والتضحية. ولذلك لا يمكن أن يستنكف الله من أن يظهر لنا في ناسوت خاص، طالما أنَّ هذه هي الوسيلة الوحيدة لفدائنا، وفي الوقت نفسه هي الوسيلة الوحيدة التي بها نستطيع إدراك محبته الفائقة لنا، ونستطيع بها أيضاً الدنو منه والتوالف معه. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أنَّ الله كان يتراءى أحياناً لأصفيائه بهيئة مُدرَكة لديهم، اتضح لنا أن ظهوره في ناسوت ليعلن لنا جميعاً محبته الفادية، لا يتعارض مع طبيعته أو مقاصده من نحونا، لا سيما إذا كان هذا الناسوت قدوساً خالياً من الخطية ومعصوماً منها كما ذكرنا.

كان الله يظهر لليهود في صوت دون هيئة ما، لئلا يعملوا له تمثالاً يسجدون له. فقد قال موسى النبي لبني إسرائيل: «فَكَلَّمَكُمُ ٱلرَّبُّ مِنْ وَسَطِ ٱلنَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلامٍ، وَلٰكِنْ لَم تَرُوا صُورَةً بَلْ صَوْتاً» (تثنية 4: 12) أما في حالة عدم احتمال عمل تمثال له بسبب الرسوخ في الإِيمان، فكان يظهر في هيئة ملاك أو إنسان، لأنها الهيئة التي يمكن للبشر التوالف بها معه، فظهر في الهيئة الأولى لهاجر. ولما أدركت أن الله بعينه، قالت له: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي»، أي «أنت إله حقيقي يمكن رؤيته» (تكوين 16: 10 - 13). وظهر في الهيئة الثانية لمنوح أبي شمشون. ولما سأله هذا عن اسمه قال له: «لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟!» وعندما تجلّت حقيقة هذا الإنسان عند صعوده إلى السماء، سقط منوح هو وزوجته على الأرض، قائلاً لها: «نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قضاة 13: 18 - 22).

4 - القول «بظهور الله في ناسوت خال من الخطية لكي يعلن محبته الفادية لنا، هو محاولة لإِخضاع الله لعقولنا، مع أنَّ عقولنا هي التي يجب أن تخضع لله في روحانيته المطلقة وتنّزهه عن كل غرض من الأغراض».

الرد: إن هذا الموضوع ليس محاولة منا لإِخضاع الله لعقولنا، بل إنه من مستلزمات طبيعته وعلاقته بنا كما اتضح لنا مما سلف. فالله ليس ملكاً متكبراً لا عمل له إلا قبول الإكرام والاحترام من أتباعه، ومعاقبة الذين يسيئون إليه ومكافأة الذن يُخلِصون له منهم، وإظهار شيء من العطف في بعض الأحيان على من تنزل بهم الكوارث مثلاً، مع بقائه في برجه العاجي مترفّعاً عنهم أجمعين. لكنه الأب الطيب الذي لا يدع فاصلاً بينه وبين أولاده، بل وفي محبة شديدة يقترب إليهم ويقربهم إليه، كما ينزل إلى مستوى مداركهم ليعلن لهم ما خفي عنهم من جهة شخصه وأغراضه الصالحة من نحوهم. وإذا استلزم الأمر فإنه يضحي بكل ما لديه من أجلهم، ليرقى بهم إلى أسعد حالة ممكنة.

فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ الله لا يريد أن ندنو منه ونحن في حالة الرعب أو الذعر، لأن هذه الحالة لا تتوافق مع كماله، ولا تعود علينا بخير ما، بل أن ندنو منه ونحن في حالة المحبة له والشوق إليه. وإنه لا يمكن أن ندنو منه في الحالة الثانية إلا إذا أعلن لنا ذاته ومحبته بهيئة مُدرَكة لنا، اتضح لنا أن اتخاذ الله لنفسه ناسوتاً قدوساً لإِعلان محبته لنا وتكفيره عن خطايانا، أمر يتوافق مع ذاته ومع علاقته بنا كل التوافق كما ذكرنا.

5 - الفداء لا يكون إلا بين جماعة تربطها رابطة خاصة أو يجمعها جنس واحد، والله في ذاته لا تربطنا به هذه الرابطة، كما أنه ليس من جنسنا، فكيف يكون فادياً لنا؟

الرد: خلقنا الله على صورته كشبهه، وأعطانا نسمة حياة خالدة من لدنه، كما جعلنا أعزّ الكائنات وأقربها إليه، وعرّفنا بالكثير عن ذاته ومقاصده من نحونا بواسطة وحيه الذي كان يرسله إلينا من وقت إلى آخر، وقال لنا إنه ألصق نفسه بنا وألتصقنا به (إرميا 13: 11)، وليس هناك رابطة في الوجود مثل هذه الرابطة. أما من جهة وجوب كون الفادي واحداً من جنسنا، فهذا يتحقق بالتمام باتخاذ الله لنفسه ناسوتاً مثلنا (إنما خالياً من الخطية خلواً تاماً كما ذكرنا). وقد أشار الإنجيل إلى هذه الحقيقة فقال: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ» (عبرانيين 2: 14 - 15).

6 - كيف نعلم أن الله يريد فداءنا، أو التكفير عنا بنفسه؟

الرد: (ا) فضلاً عن الأدلة المتعددة الواردة في التوراة والإنجيل عن قيام الله بفدائنا أو التكفير عنا، كما ذكرنا فيما سلف، نقول: بما أن الله لم ينفذ حكم الموت في آدم بعد سقوطه في الخطية مباشرة، بل أبقاه حياً. وبما أنه ليس من المعقول إزاء كمال الله أن يكون قد أبقاه حياً لكي يلد ملايين البشر للشقاء الأبدي. إذاً فعدم قضاء الله على آدم بالموت بعد سقوطه في الخطية مباشرة، دليل على أنه لا يريد هلاك البشر بل خلاصهم. وبما أن خلاصهم لا يتحقق إلا بفدائه إياهم بنفسه، إذاً فمن المؤكد أنه أراد أن يقوم بهذه المهمة منذ القديم.

(ب) فإذا وضعنا أمامنا، أنَّ الذبائح الحيوانية التي كانت تُقدّم بقصد التكفير عن الخطية، لم تكن صالحة فعلاً لهذا الغرض كما مرّ بنا، وأنه على الرغم من عدم صلاحيتها كان الله يأمر الناس بوجوب المواظبة على تقديمها طوال العهد القديم، بل وجعل تقديمها وقتئذ الوسيلة الوحيدة لقبولهم أمامه، اتضح لنا أنه لا بد أنها كانت ذات معنى لديه، وهذا المعنى (كما يتضح من دراسة التوراة والإنجيل) ينحصر في أنَّ الذبائح كانت رمزاً إلى فادٍ يستطيع التكفير عن الخطية تكفيراً حقيقياً إلى الأبد (1 كورنثوس 5: 7 ، عبرانيين 13: 11 و 12). وبما أنَّ الذي يقوم بهذه المهمة هو الله دون سواه، إذاً لا بد أنه قصد أن يفتدينا بنفسه منذ القديم.

(ج) فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الإنسان عندما يطيع الله، تصبح الملائكة خداماً له، لأن الملائكة أرواح خادمة مُرسَلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عبرانيين 1: 14)، الأمر الذي يدل على أن الإِنسان هو أعظم المخلوقات وأقربها إلى الله وأحبها إليه، وأن الله قصد منذ الأزل أن تكون له مع هذا الإِنسان علاقة وثيقة مستمرة. وبما أنه لا مجال لهذه العلاقة مع وجود الخطية، ولا مجال لمحو الخطية إلا بفداء الله للإِنسان (أو بالحري إلا بتكفيره عن خطاياه وإمداده بحياة روحية يستطيع بها التوافق معه)، إذاً لا شك أن الله قصد منذ الأزل أن يفتدينا بنفسه.

7 - ألا توجد وسيلة للخلاص من خطايانا إلا بافتداء الله لنا بنفسه؟

الرد: (ا) حقاً ما أصعب هذا السؤال أمام بعض الناس، وما أكثر الحيرة التي يسبِّبها لهم. لا نستطيع بعقولنا أن نعرف كل أفكار الله وتدبيراته، لأن إدراكنا محدود وهو فوق الحدود، لذلك فمن الشطط أن نتصوّر خطة خاصة يتحتم عليه استخدامها في أمر خلاصنا من الخطية. لكن بحسب العقل الذي تفضّل وأعطاه لنا نقول: لو كان من الجائز أن تقل عدالة الله وقداسته عن رحمته ومحبته، لكان من الجائز أن ينقذ جميع البشر من خطاياهم ويقربهم إلى حضرته بكلمة واحدة، كما خلق العالم من قبل بمثل هذه الكلمة. لكن بما أنَّ عدالته توازي رحمته، وقداسته توازي محبته بسبب كمال كل صفة من صفاته وتوافقها معاً توافقاً تاماً، إذاً فمع رحمته ومحبته اللتين لا حدَّ لهما، فإنَّ من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، ألا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته. وبما أنه لا يستطيع سواه إيفاء مطالب هذه وتلك، إذاً لا سبيل للخلاص من الخطية ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه.

(ب) أما لو صفح الله عنا وقرّبنا إليه دون أن يفتدينا بنفسه، لكانت عدالته وقداسته قد انخفض قدرهما عن رحمته ومحبته، أو لكان قد انحاز إلى رحمته ومحبته دون عدالته وقداسته. وبما أنه لكماله المطلق لا يمكن أن تقل عدالته عن رحمته أو قداسته عن محبته، ولا يمكن أيضاً أن ينحاز إلى صفة فيه دون أخرى، إذاً فمن المؤكد أنه يقبل القيام بافتدائنا بنفسه، لأن هذا يكون أكثر موافقة لكماله من الصفح عنا وتقريبنا إليه بوسيلة لا تتفق مع عدالته وقداسته. وبالإِضافة إلى كل ما تقدم، فإنه أيسر لنا أن نؤمن بإِله يحب خليقته ويبذل كل ما لديه في سبيل إسعادها، من أن نؤمن بإِله غير كامل الصفات أو ينحاز إلى صفة دون الأخرى.

8 - إنَّ الله (كما أعلن الوحي) بطيء الغضب وكثير الإحسان (خروج 34: 6)، فيمكنه أن يصفح عن الخطاة من مجرد رحمته، لا سيما وأن هذا التصرف يكون أحسن لدى الله من الفداء الذي يكلفه كثيراً.

الرد: (ا) إذا كان الله يصفح عن الخطاة دون مراعاة لعدالته ويقرّبهم إليه دون مراعاة لقداسته، تكون عدالته قد قلت في قيمتها عن رحمته، وتكون قداسته قد قلت في قيمتها عن محبته، وهذا ما لا يمكن حدوثه بسبب كماله المطلق وتوافق صفاته معاً كما ذكرنا. كما أنه إذا كان الله يترك الأشرار يطغون ويعبثون، وفي نهاية الأمر يأتي بهم إلى سمائه لينعموا معه فيها (إذا كانوا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً)، لا يكون رحيماً أو رؤوفاً بل متساهلاً مع الشر. ولكن بتكفيره عن البشر بنفسه وبتحمله نتائج خطاياهم عوضاً عنهم، وإمداده إياهم بحياة روحية يمكنهم بها التوافق معه في صفاته السامية، يُظهر منتهى العدالة ومنتهى الرحمة، كما يظهر منتهى القداسة ومنتهى المحبة. فضلاً عن ذلك فإنه يذيب قلوب المخْلِصين منهم، فيُقبِلون إليه بكل حب وإخلاص، وهم على استعداد تام لخدمته وإكرامه مهما كلفهم الأمر من جهد.

ولا مجال للاعتراض على وضعنا لعدالة الله وقداسته نصب أعيننا دائماً عند البحث في مسألة الغفران والقبول لديه، لأن العدالة والقداسة لديه ليستا مبدأين أدبيين منفصلين عن ذاته، يراعيهما عند القيام بأعماله كما هي الحال عند المخلصين من الحكام والقضاة، بل أنهما (مع المبادئ الأدبية الأخرى) صفتان كائنتان في ذاته. فلا يمكن أن يتخلى عنهما أو يتصرف بالرحمة والمحبة. دون إيفاء مطالب كل منهما أولاً.

(ب) أخيراً نقول: إنَّ الأحسن لدى الله ليس هو الأسهل في نظرنا، لأن الله لا ينظر إلى أمر من الأمور التي يعملها من جهة كونه سهلاً أو صعباً، إذ أنَّ كل الأمور سهلة لديه. لكنه ينظر إلى كل أمر من جهة كونه متوافقاً مع كماله أو غير متوفق معه. ولما كان فداء الله لنا بنفسه يتوافق مع كماله كل التوافق، لأنه يتمشى مع عدالته وقداسته التي يجب إيفاء مطالبهما على أي نحو من الأنحاء، لذلك فهو الشيء «الأحسن» لديه - إن كان هناك مجال لوجود شيء (حسن) وآخر «أحسن» في الأعمال التي يقوم بها.

9 - إذا كان ولا بد من الفداء، فهل يعجز الله عن خلق شخص يقوم به نيابة عنه؟

الرد: بما أنه لا يستطيع القيام بالفداء إلا الله كما مرَّ بنا، وبما أنه ليس من المعقول أن يخلق الله شخصاً نظيره، لأن المخلوق يكون مُحدَثاً، والمحدَث لا يكون مثل القديم الأزلي في شيء من خصائصه، إذاً ليس هناك كائن غير الله يستطيع أن يفدينا ويكفر عنا سيئاتنا.

فضلاً عن ذلك لو أنَّ الله خلق شخصاً نظيره للقيام بهذه المهمة، لكان قد ظلم هذا الشخص وعاقبه بأشنع عقوبة دون ذنب جناه. أما إذا كان هو يقوم بافتدائنا بنفسه، فلا يكون قد ظلم أحداً أو قسا عليه، بل يكون قد أظهر منتهى المحبة والرحمة لنا الأمر الذي هو خليق به. كما أنه لو قام شخص غير الله بفدائنا، لأصبح هذا الشخص مصدر حياتنا وولي نعمتنا، لأنه يكون بالنسبة لنا المنقذ من العذاب الأبدي والواهب الحياة الأبدية لنا، ولصرنا كلنا تبعاً لذلك عبيداً له من دون الله. كما يكون الله قد تنازل لهذا الشخص عن مجده الذاتي كالسيد الرب الوحيد الذي له وحده الإكرام والعبادة. ولا يمكن أن يتنازل الله عن مجده هذا لكائن ما (إشعياء 42: 8)، لأنه فضلاً عن أنه لا إله إلا هو، لا يجوز أن يكون هناك إله معه على الإطلاق (وإلا لكان محدوداً في قدرته، وهذا محال)، لذلك كان أمراً بديهياً أن يقوم الله نفسه بافتدائنا كما ذكرنا.

10 - إنَّ محبة الله للبشر، مهما بلغت شدتها، لا يمكن أن تصل إلى الدرجة التي يقوم معها بفدائهم بنفسه، لما يتطلبه الفداء من تضحية لا نقدر أن نتصورها.

الرد: إذا كان الأب البار بأبنائه، مع ما فيه من نقائص، يحبهم محبة شديدة ويحتمل بنفسه نتائج أخطائهم عوضاً عنهم، لذلك لا غرابة إذا كان الله الكامل كل الكمال يرضى، في محبته التي تفوق محبة الآباء بدرجة لا حدَّ لها، أن يتحمل عنا نتائج خطايانا، بل يعوّض لنا أيضاً ما نكون قد فقدناه، بل وأكثر مما نكون قد فقدناه من امتيازات، بسبب جهلنا وانحرافنا عنه. والكتاب المقدس مليء بالآيات التي تدل على أنَّ الله يُسرّ بنا ويحبنا محبة لا حد لها، الأمر الذي يدل على أن فداءه لنا أمر يوافق ليس فقط مع ذاته وما بها من كمال مطلق، بل ويتوافق أيضاً مع علاقته بنا كما ذكرنا.

ففي التوراة، أعلن الوحي أنَّ لذّات الله هي مع بني آدم (أمثال 8: 31)، وأنَّه أحب المؤمنين محبة أبدية، ولذلك أدام لهم الرحمة (أرميا 31: 3). وأنهم أعزاء ومكرمون في عينيه (إشعياء 43: 4)، وبمثابة حدقة العين لديه (تثنية 32: 10) وأنه بمحبته ورأفته يفكهم من ضيقاتهم (إشعياء 63: 9)، وأنه يجذبهم بربط المحبة إذا ضلوا عنه (هوشع 11: 4)، وأنه أحبهم ليس لصلاح فيهم بل أحبهم فضلاً (هوشع 14: 4)، أو بالحري دون أن يكون هناك شيء فيهم يدعوه إلى إظهار المحبة لهم.

وفي الإنجيل، أعلن الوحي أنَّ مسرة الله هي في الناس (لوقا 2: 14)، وأنه أحب العالم بأسره (يوحنا 3: 16)، وأنه أحب المؤمنين به إلى المنتهى (يوحنا 13: 1) وأنهم لذلك يدعون أحباء الله (رومية 1: 7)، وأولاده (1 يوحنا 3: 1).

فضلاً عن ذلك فقد أعلن الوحي أنَّ المحبة ليست مجرد صفة من صفات الله بل أنها ذات طبيعته، فقد قال: «الله محبة» (1 يوحنا 4: 8)، أي أنه بكلياته وجزئياته (إن جاز التعبير) محبة. ولذلك فإنه لا يقف عند حد الاهتمام بالناس أو الإحسان إليهم، بل إنه أيضاً يتوق إليهم ويريد الاتصال بهم إتصالاً وثيقاً. وعندما نقول إن الله يحب البشر، نعني أنه يضحي بكل شيء لديه في سبيل خيرهم وإسعادهم.

والمسيحية وحدها هي التي تعلن أن الله يحب جميع الناس، وليس الصالحين منهم فحسب كما تقول غيرها من الأديان. ومحبة الله لنا ليست هي الرحمة والشفقة فحسب (كما يظن البعض)، بل هي (إن جاز التعبير) التعلُّق بنا تعلقاً يجعله يجد كل سروره فينا، كما يجعله يضحي بكل عزيز وغال لديه في سبيل إسعادنا. ولإِيضاح الفرق بين المحبة والرحمة بمثل مادي نقول: قد تأخذنا الشفقة أحياناً على مجرم أثيم وصل إلى أحط درجات البؤس والشقاء، فنمدّه بما يحتاج إليه من غذاء أو كساء، ولكننا لا نستطيع أن نأتي به إلى منزلنا ليعيش بين أفراد عائلتنا ويأكل ويشرب ويتسامر معنا، وذلك بسبب اختلاف أخلاقه عن أخلاقنا. فنحن بتصرفنا هذا، نكون قد أشفقنا عليه، لكن لا نكون قد أحببناه. والرحمة الخالية من المحبة قاسية كل القسوة، ولا تقبلها إلا النفوس النيئة الحقيرة، كما أنها لن تكون عاملاً في تهذيب هذه النفوس أو إصلاحها. أما الله جل شأنه فلا يشفق على الخطاة فقط بل ويحبهم أيضاً، ويتحمَّل في نفسه خطاياهم، ويعمل على تأهيلهم للتوافق الروحي معه، الأمر الذي يملأ المخلصين منهم بالمحبة الخالصة له، ويجعلهم يحفظون وصاياه ويتفانون في خدمته وإكرامه دون النظر إلى جزاء أو ثواب.

11 - مَن هو الإنسان بالنسبة إلى الكون المترامي الأطراف، حتى يحبه الله بهذا القدر؟

الرد: ليست العظمة في الضخامة بل في الفهم والإدراك، وإلا لكان الفيل أعظم قدراً من الإِنسان لأنه أكبر حجماً منه. حقاً إنَّ الإِنسان مخلوق ضعيف، إذ أن أصغر الميكروبات تستطيع الفتك به. لكن الله في نعمته الغنية ميّز الإِنسان عن كل لمخلوقات بمميزات سامية، إذ فضلاً عن أنه خلقه على صورته كشبهه، فقد جعله الممثل له على الأرض والمتسلط عليها من قبله (تكوين 1: 28). والواقع يؤيد هذه الحقيقة كل التأييد، فإنَّ آثار الإِنسان في العالم تدل على أنه أسمى المخلوقات وأعظمها إدراكاً وذكاء، فقد أخضع قوى الطبيعة لسلطانه، واستأنس الحيوانات واستخدمها لقضاء حاجاته، وزرع النباتات وألف منها أنواعاً جديدة، وكشف عن مصادر الثروة في البر والبحر معاً. كما عرف الكهرباء والطاقة الذرية واستخدمهما في قضاء مآربه، وانطلق إلى الفضاء وهبط على القمر وغيره من الكواكب. وصَدَق شكسبير في قوله عن الإنسان «إنه أعظم من كل ما في الكون من كائنات»، فليس في العالم كائن يشبه الإِنسان في الفهم والإدراك والطموح إلى العلاء، فلا عجب إذا كان الله يحب الإنسان محبة لا حد لها، ويقبل على افتدائه بنفسه طالما أنه ليس هناك من يفتديه سواه.

12 - الله وإن كان لا يعسر عليه أمر، لكن تحمُّله نتائج خطايانا في نفسه عوضاً عنا، أمر لا يتفق مع العقل.

الرد: (ا) إنَّ الله ليس فقط مثل الحاكم الذي لا يعامل شعبه إلا بالحق والعدل، بل مثل الأب الذي يبذل النفس والنفيس من أجل إسعاد أبنائه. وهناك فرق كبير بين الأمور التي لا تتفق مع العقل وبين تلك التي تفوق إدراكه. فالثانية هي ما تتفق مع العقل في ذاتها، لكن لعظمتها تسمو فوق إدراكه في كيفية تنفيذها، فلا يستطيع الإحاطة بها. أما الأولى فلا تتفق مع العقل إطلاقاً، لا في ذاتها ولا في كيفية تنفيذها، فإذا قيل (مثلاً) إن الله لا يعبأ بالإِنسان (كما ينادي بعض الفلاسفة)، فإنَّ هذا القول لا يتفق مع العقل، لأنه من المفروض أن يهتم الله بالإِنسان الذي خلقه على صورته كشبهه. أما إذا قيل إنَّه أحب الإِنسان وفداه بنفسه، فإنَّ هذا القول لا يكون ضد العقل بل أسمى منه، لأنه من المفروض أن يحب الله الإِنسان كما ذكرنا، ومن المفروض أيضاً أن تكون محبته له متناسبة مع ذاته. وبما أنَّ ذاته لا حد لها، تكون محبته للإِنسان لا حد لها أيضاً. وبما أنَّ المحبة التي لا حد لها تظهر في القيام بخدمات وتضحيات لا حد لها في قدرها ونوعها قام الله بأعظم تضحية في سبيل إنقاذنا من قصاص خطايانا ومنحنا طبيعة روحية نتوافق بها معه في صفاته السامية. وليس هذا أمراً ضد العقل، بل أسمى من العقل، وفي الوقت نفسه يتفق مع العقل كل الاتفاق. وهذا ما يدعونا إلى تصديقه وقبوله بكل شكر وحمد.

(ب) إذا كانت الحكومات تبجّل من يضحّون بعضو من أجسامهم. ومن بين الذين قاموا بهذا العمل في مصر في عام 1964 سيدة، فاعتبرت أماً مثالية، وعامل في عام 1966 فمنح وسام الجمهورية، وسيدة في عام 1972 فمنحت وسام الكمال من الدرجة الثانية، واعتبرت أماً مثالية. وإذا كنا نحن نبجل الفدائيين ونجلهم ونشيد بعظمتهم، مع أنهم في سبيل إنقاذ بلادهم من أيدي الأعداء المغتصبين، يقتلون أشخاصاً قد يكونون أبرياء. فلا شك أنَّ فداء الله لنا الذي يترتب عليه أن يتحمل نتائج خطايانا عوضاً عنا، دون أن يسبب ضرراً أو أذى لواحد منا، أمر عظيم كل العظمة وسامٍ كل السمو، وجدير أيضاً بكل إكرام وتقدير.

13 - افتداء الله لنا بنفسه يفرض عليه التأثر، والتأثر يدل على التغيير، والله لا يتغير.

الرد: إذا نظرنا إلى الله كمجرد فكرة أو قوة، أو كإله جامد، أو كمقيم في عزلة عن خليقته (كما ينظر إليه بعض الفلاسفة)، لا يمكن طبعاً إسناد التأثر إليه بحال. لكن إذا نظرنا إليه كما هو، ذات يتصف بكل صفات الكمال ويتصل بنا اتصالاً وثيقاً لمحبته التي لا حد لها لنا، ووضعنا أمامنا أنَّ كل علاقة بين طرفين تقتضي حدوث تأثير في كل منهما، اتضح لنا أنه لا مفر من التسليم بأن الله يتأثر (على نحو يتفق مع روحانيته المطلقة) بسبب علاقته بنا كما ذكرنا في الباب الأول. غير أنَّ تأثر الّله هذا لا يؤدي إلى حدوث تغير في ذاته، لأنه كان يعرف كل شيء عنا منذ الأزل، فقصد من الأزل أن يفتدينا بنفسه، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لخلاصنا. وعندما أخطأنا في الزمان وتطلب الأمر أن يعلن فداءه لنا، لا يكون قد طرأ عليه أمر جديد يستدعي حدوث تغير في ذاته، إذ يكون فقط قد أعلن لنا ما قصد أن يعمله أزلاً، كما خلق العالم في الزمان دون أن يطرأ عليه تغير ما، بسبب علمه بهذا العالم منذ الأزل.

14 - ما الذي يُلزِم الله بافتدائنا، وما الذي يهدف إليه بهذا الافتداء؟

الرد: (ا) ليس هناك شيء في الوجود يستطيع أن يفرض على الله القيام بعمل ما، بل إنه يقوم بكل أعماله بمحض إرادته ومشيئته، لأنه ليس هناك من له أدنى سلطة أو تأثير عليه. فمن البديهي أن يكون الباعث الوحيد على افتدائه لنا، هو كماله المطلق ومشيئته الصالحة من نحونا. فقد قال الوحي عنه: يعمل كل شيء «حسب قصده» و «حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ»، و «حَسَبَ مَسَرَّتِهِ ٱلَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ» (أفسس 1: 5 - 1).

كما أنَّ الله لا يهدف بهذا الفداء إلى الحصول على خير منا، لأنه فضلاً عن أنه ليس في حاجة إلى خير من أي كائن من الكائنات، لأنه كامل في ذاته كل الكمال ومستغنٍ عن كل شيء من الأشياء، فإن التضحية التي تعمل للحصول على خير تفقد قيمتها وتصبح عملاً تجارياً لا يليق بكائن عظيم مثل الله. فهو لا يقصد بالفداء إلا خير البشر وإسعادهم، وفي خيرهم وإسعادهم تتحقق أغراضه السامية من نحوهم.

(ب) إذا كان الأمناء من البشر يتصرفون في الأعمال المسندة إليهم بكل نزاهة وإخلاص. وإن استلزم الأمر، فإنهم يضحون عن طيب خاطر بصحتهم ومالهم للقيام بهذه الأعمال على الوجه الأكمل، ليس خوفاً من رؤساء أو طمعاً في جزاء بل مراعاة لضمائرهم وبادئهم، لذلك ليس من المعقول إطلاقاً أن يترك الله، وهو الكامل في كل صفاته، طريق الفداء الذي يتفق مع عدالته وقداسته، ويلجأ إلى طريق التساهل معهما أو عدم المبالاة بهما، بطريق الغفران بدون فداء.

والقضاة أمثلة للأمناء من البشر، فقد عُرضت عليهم قضايا ضد أشخاص يمتّون إليهم بصلة القرابة. ولما درسوها وجدوا أن القانون يقضي على هؤلاء الأشخاص بغرامات مالية يعجزون عن دفعها، فأبت نزاهتهم أن يستغلوا مراكزهم لتبرئة أقربائهم أو تخفيض الغرامات الواجب تحصيلها منهم، ولذلك بعد أن أصدروا الأحكام عليهم بالغرامات القانونية، دفعوا من جيوبهم هذه الغرامات عوضاً عنهم، فحفظوا للقانون كرامته، ولنفوسهم نزاهتها وعفتها، كما رفعوا رؤوس أقربائهم وصانوهم من نقد المنتقدين وتهكم المتهكمين فإذا كان بعض البشر يتصرفون هذا التصرف النبيل، فلا شك أنَّ الله الذي هو أسمى منهم بدرجة لا حد لها، لا يمكن أن يهمل مطالب عدالته وقداسته بسبب عطفه على الناس ومحبته لهم.

(ج) أما الاعتراض بأن القضاة المذكورين ربما دفعوا الغرامات خوفاً من المؤاخذة وبالأخص من رؤسائهم، لكن الله ليس عليه رقيب يحاسبه، ولذلك لا حرج عليه إذا كان يعفو عن الخطاة دون تضحية من جانبه فنقول: إن الله وإن لم يكن عليه رقيب يناقشه الحساب، لكن له كماله الذاتي الذي ينزهه عن أي تصرف لا يتفق مع القداسة والعدالة، كما ذكرنا في الباب الثالث.

15 - التضحية بالمال والصحة والوقت أمر جائز، لكن تحمُّل الآلام نيابة عن المذنبين أمر لا يتفق مع العدالة، لأن هذه تقتضي بأنَّ المذنب هو نفسه الذي يجب أن يُسجَن أو يجلد أو يقتل.

الرد: (ا) طبعاً لو كان المذنبون السابق ذكرهم محكوماً عليهم بالسجن أو الجلد أو القتل، لما كان من الجائز للقضاة مهما كانت درجة القرابة التي تربطهم بهم، أن يتحملوا عنهم هذه العقوبات. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو الحال من جهة موقف الله إزاء الخطاة، لأنه هو وحده الذي وضع القانون الخاص بمعاقبتهم، وهو وحده الذي ينفذ هذا القانون، بالطريقة التي تتفق ليس مع عدالته فحسب بل ومع رحمته أيضاً، لأن هذه متحدة مع تلك كل الاتحاد في ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن عقولنا لا تستبعد مطلقاً أن يقوم الله بالتكفير بنفسه عنا، لأنه بهذه الوسيلة يفي مطالب عدالته التي لا حد لها، وفي الوقت نفسه يظهر لنا رحمته التي لا حد لها أيضاً. ولو لم يقم بهذا العمل من تلقاء ذاته، لكان حرج موقف الأتقياء الذين يحبونه والبؤس الذي يهددهم في الحاضر والمستقبل معاً مثل غيرهم من الناس، يطالبانه باسم رحمته ومحبته اللتين لا حد لهما، أن يقوم به على حساب نفسه، لأنه خالقهم ولا ملجأ لهم إلا شخصه ولا رجاء لهم إلا عنده، ولا ريب أنه كان يستجيب لهم، مهما تطلب الأمر من تضحية، وهذا ما حدث فعلاً كما سنرى في الباب التالي.

16 - العدالة، كما أعلن الوحي، هي أن لا يحمل الابن إثم أبيه، أو الأب إثم ابنه (تثنية 24: 16 ، حزقيال 18: 20)، بل أنَّ النفس التي تخطئ هي تموت. فكيف يحمل الله إثمنا ويتألم بسببه عوضاً عنا؟!

الرد: (ا) الأب والابن مخلوق بواسطة الله، وكلٌّ منهما مسئول شخصياً أمامه عن الآثام التي يقترفها وحده، ولذلك لا يحمل أحدهما من إثم الآخر. ولكن الله وإن كان غير مسئول أمام كائن ما، غير أنه مسئول (إن جاز التعبير) أمام ذاته، وذاته لا تتصف فقط بالعدالة التي لا حد لها، بل وأيضاً بالرحمة التي لا نهاية لها، لأن هذه وتلك متحدتان في ذاته دائماً أبداً، وذلك لكماله المطلق في كل صفة من صفاته. وموقف الله إزاءنا لا يكون موقف العدالة المجردة، بل موقف العدالة المتحدة بالرحمة، أو بالحري موقف التضحية. وهذا ما يدعوه إلى تحمل نتائج خطايانا إيفاء لمطالب عدالته، وتحملها نيابة عنا إيفاء لمطالب رحمته.

فناموس التضحية وإن كان يختلف عن ناموس العدالة، لكنه لا ينقض أحكامه بل يثبتها، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الله في قيامه بالتضحية لا يكون مرغماً أو مجبراً، بل متطوعاً للقيام بها بمحض اختياره ومشيئته لأجل الخير العام، لا يبقى هناك مجال لاعتراض.

(ب) حقاً ما أخطر النتيجة التي وصلنا إليها، لكنها على أي حال ليست مؤسسة على ظنون أو أوهام بل على حقائق معقولة، ولذلك فإنَّ سموها عن إدراكنا لا يقلل مطلقاً من قانونيتها ولزومها وصحّتها. وإننا إذ نقرر ذلك، لا نكون قد سلكنا مسلكاً شاذً بل مسلكاً طبيعياً مألوفاً، فنحن جميعاً نؤمن بوجود الروح البشرية وتكوين الأفكار المعنوية في المخ المادي، ليس لأننا أدركنا ماهية الأولى أو كيفية حدوث الثانية، بل لمجرد ظهور أدلة معقولة تثبت حدوث هذه ووجود تلك، فلا يجوز رفض حقيقة افتداء الله لنا، طالما قد توافرت الأدلة على صدقها.

أما من جهة تهكم بعض الناس علينا بسبب اعتقادنا بتكفير الله بنفسه عن خطايانا، فلا يؤثر على موقفنا منه في قليل أو كثير، لأنهم إذا كانوا على شيء من الإخلاص، فلينبئونا كيف يمكن أن يغفر الله لنا خطايانا وهو عادل بقدر ما هو رحيم، وكيف يمكننا أن ندنو منه وهو قدوس بقدر ما هو رؤوف؟! وإن عجزوا عن الإجابة، ولا نخالهم إلا عاجزين، فإنهم كما قال الوحي يعترضون باب الخلاص، فهم لا يدخلون، ولا يدعون الراغبين في الدخول أن يدخلوا (متى 23: 13)، فلا يكون لأقوالهم وزن أو قدر.

4 - ظهور الله في ناسوت للقيام بالفداء

ليس هناك مؤمن في الوجود إلا ويتوق لمعرفة الشخص (أو بالحري الناسوت) الذي ظهر الله فيه للقيام بالفداء. فمن هو هذا الشخص يا ترى؟

الجواب: إذا تصفحنا حياة الأشخاص الذين ظهروا في العالم نرى أن هذا الشخص هو المسيح، لأنه هو الذي توافرت فيه جميع الشروط التي ذكرناها في الفصل الأول، كما يتضح فيما يلي:

  1. فهو لم يرث الخطية في طبيعته الإنسانية، لأنه وُلد بدون الأب المورّث لها، إذ كانت ولادته من العذراء بقوة الروح القدس (لوقا 1: 35).

  2. وعاش بقوته الذاتية دون خطية، مع أنه كانت له كل الإحساسات الطبيعية مثل الشعور بالجوع والعطش والألم والحاجة إلى النوم (متى 4: 2 ، يوحنا 4: 7 ، 18: 23 ، لوقا 8: 23)، وغير ذلك من الإحساسات التي كانت كافية (لولا كماله الذاتي) بأن تميل به إلى الانحراف عن حق الله، ولكنه لم ينحرف عنه على الإطلاق. ولذلك كان أسمى من آدم بما لا يقاس. فقد خُلق آدم خالياً من الخطية، غير أنه مال إليها وسقط فيها، على النقيض من المسيح تماماً.

  3. نفس المسيح توازي نفوس البشر جميعاً، بل وتفضل عنها قيمة وقدراً. لأنه هو الكامل، أما هم فبسبب خطاياهم ناقصون. وإن اجتمع بعضهم إلى البعض الآخر، فإن هذا لا يقلل من نقصهم، بل يزيده نقصاً.

  4. المسيح (من الناحية الناسوتية) إنسان حقيقي من جنسنا، فجسده وإن كان خالياً من الخطية، غير أنه كان جسداً مادياً مثل أجسادنا. فقد قال الوحي: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشتَرَكَ هُوَ (أي المسيح) أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا» (عبرانيين 2: 14). كما أنه لما ظن تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات أنه روح، قال لهم: «اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» (لوقا 24: 36 - 39).

  5. ورغم أنه كان إنساناً حقيقياً، كانت نفسه ملكاً له، فقد قال عنها: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا (أي أسلِّمها) أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا (أي أستردّها) أَيْضاً» (يوحنا 10: 18).

    وقد برهن عملياً على صدق شهادته هذه، إذ أنه بعدما قدم نفسه كفارة عن البشر وأسلم روحه من أجلهم، استردها ثانية وقام من بين الأموات، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب «قيامة المسيح والأدلة على صدقها».

  6. وكان في إمكانه أن يبعث حياة روحية في البشر، ترقى بهم فوق قصورهم الذاتي وتجعلهم أهلاً للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية إلى الأبد. فقد قال عن رعيته: «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا 10: 28).

    وقد اختبر المؤمنون به هذه الحياة عملياً في نفوسهم، فقد قال أحدهم: «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَ ٱلْمَوْتِ» (رومية 8: 2.

  7. فضلاً عما تقدم فقد كان من الناحية الباطنية (كما يتضح مما يلي) هو ذات الله، فاستطاع أن يكفّر عن البشر جميعاً تكفيراً يفي مطالب عدالته التي لا حدّ لها، كما يتضح من الباب التالي.

  8. إذا كان الأمر كذلك، فالمسيح هو أيضاً الشفيع أو المحامي الذي أشرنا إليه في آخر الباب الثاني، قال عنه الرسول يوحنا للمؤمنين الحقيقيين: «أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لا تُخْطِئُوا (لأنه أعطاكم بالمسيح حياة روحية تستطيعون بها التسامي فوق الخطية). وَإِنْ (حدث أن) أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يوحنا 2: 1 و2).

5 - شخصية المسيح

قبل التحدُّث عن شخصية المسيح، نوجه أذهان القراء إلى أننا نحن المسيحيين نؤمن أنه لا إله إلا الله، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق. فقد قال على لسان إشعياء النبي «أَنَا ٱلأَّوَلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ وَلا إِلَه غَيْرِي» (44 :6). وقال الوحي عنه إنه «روح» (يوحنا 4: 24)، والروح لا تركيب فيه بحال. كما نؤمن أنه ذات أي ليس مجرد عقيدة في الذهن، أو قوة تحرك الكون. وذاته وإن كانت لا يحدها زمان أو مكان، تتصف بالصفات اللائقة بكماله، مثل السمع والبصر والكلام والعلم والإرادة والقدوة والعدالة والقداسة والمحبة والرحمة، دون أن تكون له أعضاء ما. أما ما نختلف فيه عن غيرنا من المؤمنين بالله، فهو نوع الوحدانية الخاصة به ودرجة علاقته بنا، ولذلك نحصر الحديث عنهما فيما يلي:

أولاً - نوع الوحدانية اللائقة بالله

  1. عدم توافق الوحدانية المطلقة مع الله: بما أن الله ذات يتصف بصفات خاصة، وبما أن هذه الصفات لو كانت عاطلة أزلاً ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، لكان (أ) قد تعرض للتغيُّر، إذ تكون صفاته قد صارت عاملة بعد أن كانت عاطلة، ويكون قد دخل في علاقات بعد أن كان بلا علاقة أصلاً، (ب) ولكان أيضاً قيامه بالخلق ضرورة لجأ إليها ليُظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة ورجال الدين، الأمر الذي يتنزه عنه لتعارضه مع كماله الذاتي كل التعارض. لذلك لا بد أنَّ صفاته وعلاقاته كنت بالفعل أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه.

  2. توافق الوحدانية الجامعة أو الشاملة مع ذات الله الواحدة: وهنا تساءل البعض «كيف يكون الله واحداً لا تركيب فيه، وفي الوقت نفسه تكون وحدانيته وحدانية جامعة؟» وللرد على ذلك نقول: بما أن الله جوهر، لأنه تعالى قائم بذاته وكل قائم بذاته، جوهر (المدخل في الفلسفة ص 177) وفي الوقت نفسه له تعيُّن خاص يدل عليه، لأنه ليس بلا تعيُّن إلا غير الموجود، لذلك إذا قلنا إنَّ الله جامع أو شامل من جهة وواحد من جهة أخرى، لا يكون هناك تناقض ما، لأن التناقض لا يكون إلا إذا كان الاختلاف في أمر واحد من جهة واحدة (كما لو قلنا عن شخص ما، إنه ضعيف البنية وقوي البنية في نفس الوقت) فمن أي جهة يكون الله واحداً ومن أي جهة يكون جامعاً أو شاملاً؟ طبعاً يكون واحداً من جهة الجوهر لأنه لا تركيب فيه، ويكون جامعاً أو شاملاً من جهة التعيُّن، لأن وجود صفاته وعلاقاته بالفعل أزلا، يدل على أنه جامع من هذه الجهة.

    وعندما نقول إنَّ الله جوهر ذو تعيُّن، لا نفرق بين جوهر الله وتعينه، بل نقصد فقط أنه ليس جوهراً مبهماً أو غامضاً بل جوهراً له وجود حقيقي يتميَّز به عن غيره. فجوهر الله ما هو إلا اللاهوت، وهذا الجوهر نفسه بالنظر الى تعيُّنه ما هو إلاّ الله. والله ليس شيئاً غير اللاهوت بل هو اللاهوت مُعيّناً. واللاهوت ليس شيئاً غير الله بل هو الله جوهراً. ولذلك كثيراً ما تستعمل كلمة «اللاهوت» بدلاً من كلمة الله، وكلمة «الله» بدلا من كلمة اللاهوت.

    مما تقدم يتضح لنا أن جوهر الله الذي لا تركيب فيه، والجامع أو الشامل في تعينه لكل ما هو لازم لوجود صفاته بالفعل أزلاً، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، أمر يتوافق مع كماله كل التوافق.

  3. ماهية الجمع أو الشمول القائمة بها ذات الله: يقول معظم الفلاسفة وعلماء الدين الذين يعتقدون معنا أنَّ وحدانية الله هي وحدانية جامعة أو شاملة بأنَّ هذه الوحدانية الجامعة، هي ذات الله وصفاته. لكن لو سلمنا باعتقادهم هذا، ووضعنا أمامنا أنَّ صفات الله وعلاقاته كانت بالفعل أزلاً كما اتضح لنا مما سلف، لانتهى بنا الأمر إلى أنَّ الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويريدها... أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتريده... أو أنها كان يكلم بعضها بعضا ويسمع بعضها بعضاً يبصر بعضها بعضاً ويريد بعضها بعضاً... وكل ذلك باطل، لأن الله لا يتعامل مع الصفات ولا الصفات تتعامل مع الله، أو مع بعضها البعض. إذ أن التعامل لا يكون إلا بعد التعينات العاقلة، والصفات معان وليست تعينات، فلا يمكن أن يكون المراد بالجمع أو الشمول لدى الله، هو ذاته وصفاته، بل هو ذاته وحدها. فالله مع وحدانية جوهره وعدم وجود تركيب فيه، هو نفسه جامع أو شامل، أو بتعبير آخر إنه قائم ليس بتعيُّن واحد بل بتعينات.

    وبما أن ذات الله تعينات، إذاً فكل تعين من تعيناته لا يكون جزءاً من ذاته، بل يكون ذاته بعينها (لأنه غير مركب من عناصر أو أجزاء) وأن يكون أيضاً ذاته بكل خواصها وصفاتها (لأن تعينات الله هم عين جوهره) ولذلك يكون كل تعين لله، هو الله الأزلي الأبدي السميع الكليم البصير المريد... إذ أنه على هذا الأساس يكون الله ممارِساً لكل صفاته وعلاقاته بينه وبين ذاته منذ الأزل، إلى درجة الكمال الذي ليس بعده كمال، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه.

  4. عدد التعيُّنات وأسماؤهم: أما عدد التعيُّنات أو أسماؤهم فليس في وسعنا أن نتكهن به، لأن المرجع الوحيد بشأنه هو الوحي الإلهي. وبالرجوع إليه يتضح أن العدد المذكور هو «3» لا أكثر ولا أقل. وقد اصطلح المسيحيون منذ القديم على تسمية هؤلاء التعينات بالأقانيم (والمفرد أقنوم). فالأقانيم إذاً ليسوا كائنات في الله أو مع الله، بل هم ذات الله الواحد الأحد، لأنهم تعينات اللاهوت أو اللاهوت معيَّنا. فضلاً عن ذلك فقد أطلق الوحي على تعينات الله اسماً واحداً، وليس أسماء كثيرة فقال: «بِٱسْمِ (وليس بأسماء) ٱلآبِ وَ ٱلابْنِ (أو الكلمة) وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متى 28: 19)، وفيما يلي معنى كل أقنوم من هؤلاء الأقانيم.

ثانياً - معاني الأقانيم

  1. «الابن» أو «الكلمة»: لا يراد بهذا الأقنوم أنه «ابن» بالمعنى الحرفي لأن الله لا يولد ولا يلد، بل يراد به ابن بالمعنى الروحي، وهذا المعنى كما يتضح من الكتاب المقدس هو «المعلِن». كما دُعي «الكلمة» (يوحنا 1: 1 و2) بهذا المعنى عينه لأن الكلمة هي التي تعلن صاحبها. ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ المسيح لم يُدع كلمة الله لأنه خُلق بكلمة الله، إذ أنَّ هناك فرقا بين «الكلمة» و «أثر الكلمة». فالمخلوقات ليست كلمة الله بل إنها «أثر كلمة الله» لأنها مخلوقة بواسطته. ولذلك قال الوحي: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18). ولا يُراد بالحضن هنا المعنى الحرفي بل الروحي، لأن الآب ليس له صدر مادي. والمعنى الروحي للحضن هو الحب العميق والوحدة الروحية الكاملة. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن الأقانيم ليسوا هم الآب والأم والروح القدس، بل هم «الآب والابن والروح القدس».

    وبما أنه لا يعلن الله إلا الله، لأنه لا نظير له على الإطلاق، لذلك «فالمعلِن لله» (أو بالحري ابن الله أو كلمته) هو نفسه الله مُعلَناً. ولا غرابة في ذلك فالاصطلاح «ابن الشيء» كثيراً ما يرد في اللغة العبرية بمعنى «ذات الشيء». فمثلا قول الله «بنت شعبي» أو «ابنة شعبي» (إرميا 8: 11) لا يراد به إلا ذات شعبه. كما أن الاصطلاح «بنات الفكر» في اللغة العربية، لا يراد به إلا «ذات الفكر واضحا ومعلناً».

  2. «الآب»: هذا الأقنوم لا يُسمى «الوالد» بل «الآب». وهناك فرق عظيم بين الاثنين. فقد يكون هناك والد مجرد من كل صفات الأبوة، وقد يكون هناك شخص تتجمع فيه هذه الصفات، دون أن يكون متزوجا أو له أولاد. فلا يراد بهذا الأقنوم المعنى الحرف بل الروحي. والمعنى الروحي للآب كما يتضح من الكتاب المقدس، هو القائم بالمحبة الباطنية. وهذا المعنى معروف لدينا جميعاً.

    وقد أعلن أقنوم الابن عندما كان في الجسد على الأرض عن محبة الآب الأزلية له، فقال له: «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 24) وبذلك كشف المسيح لنا عن سر من الأسرار التي كانت في اللاهوت، بين أقانيم اللاهوت، قبل خلق أي شيء في الوجود. ففي الأزلية السحيقة المجهولة لديهم، أعلن لنا «الابن» أنَّ المحبة كانت متبادلة بين الآب وبينه، ومتبادلة طبعاً بكل سموها وكمالها.

    والوحي لا يسند المحبة إلى أقنوم أو أقنومين بل إلى الأقانيم جميعاً، أو بالحري إلى اللاهوت الذي هو جوهر كل أقنوم وجوهر الأقانيم معا، فقد قال «الله محبة» (1يوحنا 4: 8). ولذلك فإن الآب يحب الابن كما ذكرنا، والابن يحب الآب (يوحنا 14: 31) والروح القدس هو روح المحبة (2 تيموثاوس 1: 7). وتبادل المحبة بين الأقانيم، هو النتيجة الحتمية لوحدة جوهرهم، والدليل على وحدتهم التامة في كل أعمال اللاهوت وتصرفاته.

    أخيراً نقول: إنَّ كون «الآب» منذ الأزل، دليل واضح على أنَّ «الابن» هو «الابن» منذ الأزل أيضاً، لأنه ليس هناك أبوة إلا ومعها بنوّة، كما أنه ليست هناك بنوّة إلا ومعها أبوة. وإذا كان الأمر كذلك، لا يبقى لدينا أي شك في أن «الابن» ليس مخلوقاً بواسطة الآب أو مولوداً منه، بل إنه واحد معه في الأزلية. لأنه ليس من المعقول أنَّ الله كان غير مُعَلن أولا، ثم صار مُعلَناً في دور من الأدوار.

  3. «الروح القدس» - هذا الأقنوم لا يدعى بهذا الاسم لأنه يتميز دون الأقنومين الآخرين بروحانية الجوهر، كلا، لأن جوهر الأقانيم واحد كما ذكرنا. فقد قال الوحي بعبارة صريحة إنَّ الله (من جهة أقانيمه الثلاثة) هو روح (يوحنا 4: 24) إنما دع بهذا الاسم لأنه يقوم (كما يتضح من اسمه) بأعمال اللاهوت بطريقة روحية. بينما يقوم الابن بها بطريقة علنية أو ظاهرية.

    كما أن هذا الأقنوم لا يوصف بالقدوس لأنه يتميز بالقداسة دون الأقنومين الآخرين، كلا. لأن الأقانيم الثلاثة يتصفون معاً بهذه الصفة وبكل صفات الكمال الأخرى بدرجة واحدة، ولكن يوصف بالقدوس لأنه هو الذي يعلن بحالة روحية قداسة الله في كل صرفاته، ولأنه أيضاً هو الذي يقدس نفوسنا حتى تتوافق مع الله في قداسته.

مما تقدم يتضح لنا ما يأتي:

  1. سُمّي كل أقنوم باسم خاص، ليس لأن أحدهم أقدم من الآخر زماناً، أو أفضل منه مقاماً، أو لأنه يختلف عنه جوهراً، بل لأن كلا منهم يقوم بعمل يتناسب مع أقنوميته، ولأن بين أحدهم والآخر نِسباً روحية خاصة، بها للاهوت أو لله علاقات متكاملة بينه وبين ذاته منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، بغض النظر عن وجود أي كائن من الكائنات سواه. فالوحي يسمي أحد الأقانيم بالآب، لأنه يبطن كل معاني المحبة في اللاهوت، ويسمي أقنوماً آخر بالابن لأنه يعلن كل معاني المحبة في اللاهوت، ويسمي أقنوماً غيره بالروح القدس، لأنه يقوم بأعمال اللاهوت بطريقة روحية.

  2. إن الله، لتبادل المحبة بين أقانيمه إلى درجة الكمال، هو مستغن بذاته عن كل شيء في الوجود منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، لأن حياة المحبة هي في الواقع أسمى نوع من أنواع الحياة، إذ أنَّ من يحياها لا يشعر أنه في حاجة إلى شيء على الإطلاق. فيكون الخلق ضرورة لجأ الله إليها ليظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة وعلماء الدين، بل يكون نتيجة طبيعية للمحبة العاملة في ذاته، لأن من شأن المحبة أن تعمل عملاً نافعاً.

    أخيراً نقول: وإن كان «قيام الله بثلاثة أقانيم» يتفق كل الاتفاق مع ذاته وما هو لازم لكمالها واستغنائها عن كل شيء في الوجود، غير أنه يسمو فوق العقل كثيرا. ولا غرابة في ذلك، فهو وصف لذات الله، والبحث في ذات الله لا تصل إليه المدارك على الإطلاق. وهذا ما تجنبه علماء الدين جميعاً، فقد قالوا «من خاض في الذات بفكره، فهو عاص لله ورسوله». كما قالوا «إن الحق تعالى لا يُدرَك بالنظر الفكري أبداً، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم» (كتاب الفتوحات ص 65). وإنا نتفق مع هؤلاء العلماء على تعذر البحث في ذات الله، بل وأيضاً على عدم جواز البحث فيها. ومن جانبنا لولا أن الكتاب المقدس أعلن لنا أن الله هو «الآب والابن (أو الكلمة) والروح القدس»، وأن الأدلة العقلية والنقلية، أثبتت لنا صدق هذا الإعلان، لما خطر ببالنا مطلقاً أن يكون هذا هو كنه الله. وأقصى ما كان يخطر ببالنا عنه، أنه جامع في ذاته ومستغن بها كل الاستغناء، كما يعتقد كل الفلاسفة ورجال الدين الذين يتأملون كثيراً في ذاته.

ثالثاً - ظهور أقنوم الابن في المسيح

بما أنَّ أقنوم الابن هو الذي يعلن الله أو اللاهوت بطريقة منظورة كما ذكرنا فيما سلف، لذلك كان أمراً بديهياً أنه إذا أراد الله أن يُظهر ذاته لنا (وعملٌ مثل هذا يتوافق مع كماله كل التوافق، لأن من دواعي هذا الكمال أن لا يكون في عزلة عنّا، بل أنه يُظهر ذاته لنا لكي ندركه ونتوالف معه)، أن يتم هذا الظهور بواسطة أقنوم الابن. ومن ثم فالله الذي لا يمكن رؤيته أو إدراكه في ذاته، يصبح من الميسور لنا أن نراه وندركه في اقنوم الإبن. وهذا ما حدث فعلاً، فقد اتحد الأقنوم المذكور بالمسيح اتحاداً تاماً، فاستطعنا به أن ندرك قداسة الله وقدرته ومحبته ومعرفته التي لا حد لها.

أما قبل ظهوره في المسيح، فكان تارة يظهر في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ولكن تدل كل القرائن على أنه لم يكن في ذاته هذا أو ذاك، بل كان هو الرب نفسه الذي يستحق كل إكرام وسجود (تكوين 21: 17-20 وقضاة 6: 11-24). وفيما يلي بعض الأدلة التي تثبت هذه الحقيقة:

(أ) الأدلة الكتابية على شخصية المسيح

  1. شهادته عن ربوبيته وبنوته لله ووحدته الجوهرية مع الآب وإعلانه له: فقد قال المسيح إنه الرب (متى 21: 3) وإنه رب داود (متى 22: 42-45)، ورب الرسل (متى 24: 42)، كما قال إنه ابن الله (يوحنا 9: 35-38 ، 10: 36)، وإن الله أبوه بمعنى أنه معاد له، أو بالحري واحد معه (يوحنا 5: 18) وإنه والآب واحد (يوحنا 10: 30 ، 17: 22)، وإنه في الآب والآب فيه. وإن كل من رآه فقد رأى الآب (يوحنا 14: 9 و10) وإنه يجب على جميع الناس أن يكرموه كما يكرمون الآب (يوحنا 5: 23).

  2. شهادته عن أزليته وأبديته: فقد قال إنَّ له مجداً خاصاً قبل إنشاء العالم (يوحنا 17: 5)، وإنه قبلما وُلد إبراهيم على الأرض، هو كائن أو بالحري كائن بذاته (يوحنا 8: 58)، وإنه الألف والياء. البداية والنهاية. والأول والآخِر (رؤيا 1: 8 و7).

  3. شهادته عن عدم تحيّزه بزمان أو مكان: فقد أعلن أثناء وجوده على الأرض أنه وقتئذ في السماء أيضاً (يوحنا 3: 13)، وأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه على الأرض، يكون في وسطهم (متى 18: 20)، وأنه يظل مع تلاميذه، والمؤمنين الحقيقيين به إلى انقضاء الدهر (متى 28: 20).

  4. شهادته عن كونه الحياة والمحيي: فقد شهد أنه الحياة (يوحنا 11: 25)، وأنه يحيي من يشاء (يوحنا 5: 21)، وأنه أتى لتكون لنا حياة وحياة أفضل (يوحنا 10: 10)، وأن من يؤمن به إيماناً حقيقياً تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).

  5. شهادته عن سلطانه في غفران الخطايا وإدخال التائبين إلى الفردوس: فقال للمفلوج: «مغفورة لك خطاياك» )لوقا 5: 20)، وقال عن المرأة الخاطئة: «قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ» (لوقا 7: 47) وقال للص الذي التجأ إليه نادماً عما فعله من شر: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا 23: 43).

  6. شهادته عن سلطانه في قبول السجود: فقد سجد له المجوس وهو بعد طفل صغير (متى 2: 1-11)، وسجد له الأبرص (متى 8: 2)، والأعمى (يوحنا 9: 38)، ورئيس المجمع (مرقس 5: 22)، والكنعانية (متى 15: 25)، وبطرس الرسول (لوقا 5: 8)، وكل الذين كانوا في السفين (متى 14: 33)، وسجد له الرسل جميعاً (متى 28: 17).

  7. شهادته عن محاسبته للناس وقضائه على الشيطان: فقد قال إنه متى جاء في مجده «وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِداءِ، فَيُقِيمُ ٱلْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْجِدَاءَ عَنِ ٱلْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ ٱلْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ... ثُمّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ ٱلْيَسَارِ: ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (متى 25: 31-46) كما أعلن أن الشيطان سقط أمامه كما يسقط البرق من السماء (لوقا 10: 18).

(ب) الأدلة العقلانية على شخصية المسيح

  1. لو كان المسيح يسعى وراء العظمة الدنيوية، أو لو كان ذا بطش وقوة، أو لو كانت شهادته قد وجدت قبولاً لدى الكثيرين من الناس لكان هناك مجال للطعن في شهادته السابق ذكرها، بدعوى أنه كان متكبراً، أو أنَّ الناس هم الذين شجعوه على الادعاء بالألوهية. لكن المسيح (على النقيض من كل ذلك) كان وديعاً كل الوداعة وحكيماً كل الحكمة وصادقاً كل الصدق (متى 11: 29)، فضلاً عن ذلك كان معاصروه يقاومونه بسبب شهادته المذكورة (يوحنا 10: 32 ، 33). فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان يصر على الشهادة عن نفسه أنه ابن الله على الرغم من إهانة الناس له (يوحنا 5: 17-23 ، 10: 30-38)، وأنه لو كان قد تنحى عن هذه الشهادة لما أصابوه بسوء ما، اتضح لنا أنه لا بد أنه ابن الله كما قال.

  2. كان اليهود قد التفوا حول المسيح في أول الأمر ليجعلوه ملكاً عليهم لأنهم وجدوا فيه المسيا الذي كانوا يحلمون به (يوحنا 6: 15). ولو كان المسيح أراد أن يؤله نفسه لكان قد أجابهم إلى رغبتهم، لأن الملوك كانوا وقتئذ يُعامَلون معاملة الآلهة (أعمال 12: 22). لكن المسيح رفض رغبتهم هذه، وفي الوقت نفسه ظل يشهد أنه ابن الله وهو في حالة الوداعة والفقر التي اختارها لنفسه، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن مدَّعياً بل صادقاً كل الصدق في شهادته عن نفسه.

  3. لم يفرض المسيح على الناس الاعتقاد بأنه ابن الله، حتى كان يجوز الشك في صدق شهادته عن نفسه، بل تركهم يستنتجون هذه الحقيقة من تلقاء أنفسهم (يوحنا 6: 66-71 ، متى 16: 13-18). ولم يطلب منهم أن يؤمنوا بشهادته المذكورة إيماناً أعمى، بل كان يثبت لهم بالدليل العملي صدقها. فمثلاً عندما أعلن لهم أنَّ له سلطاناً على غفران الخطايا، الذي يتفرَّد به الله، أظهر أحقيته في ممارسة هذا السلطان إذ شفى بكلمة واحدة مفلوجاً لم يكن يستطيع حراكاً على الإطلاق. وكان يقول للناس: «اَلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي» (يوحنا 10: 25) و «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَ ٱلآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسهَا» (يوحنا 14: 11)، والذي يضع حياته وأعماله تحت الاختبار ليفحصها الناس بأنفسهم ويحكموا بواسطتها على حقيقة أمره، هو شخص صادق كل الصدق في شهادته لنفسه.

  4. ولادته من عذراء: إنَّ ولادة المسيح من عذراء دليل على أنَّ له وجوداً ذاتياً قبل ولادته منها، ودليل على أنَّ له حياة ذاتية تجعله في غنى عن بذرة حياة من رجل ما. وكائن له وجود ذاتي وله حياة ذاتية، هو الله، أو أقنوم من أقانيمه.

    أما القول: إنَّ الله خلق آدم دون أب أو أم، وأخذ حواء من أب دون أم، ولكي يبين قدرته سمح بأن يولد المسيح من أم دون أب، ومن ثم لا يكون إلا واحداً من البشر، فلا يجوز الأخذ به. لأن الله خلق آدم دون أب أو أم، لأنه لم يكن قبله رجل وامرأة يولد منهما. وأخذ حواء من آدم فقط لكي يكونا واحداً فلا ينفصل أحدهما عن الآخر (متى 19: 5)، وفي الوقت نفسه لأنه لم يكن قبل حواء امرأة لتولد منها. لكن بعد وجود الذكور والإناث على الأرض، لم يبق هناك داع لأن يأتي إنسان من أم دون أب، أو من أب دون أم، أو من دونهما معاً. لأن الله أوجد الجنسين في بدء الخليقة ليتناسل منهما البشر جميعا. ولو كان المسيح مجرد إنسان، لما وُلد إلا من أب وأم مثل باقي الناس. حقاً إنَّ الله أظهر قدرته في ولادة المسيح من عذراء، ولكن يجب أن لا يفوتنا أنَّ إظهار قدرته في ولادة المسيح من عذراء، دليل على أنه ليس له مثيل أو نظير بين البشر على الإطلاق.

  5. عصمته: مع أنَّ المسيح عاش في جسد من لحم ودم، وسكن في ذات العالم الذي نعيش فيه، وكانت كل مغريات هذا العالم تحيط به مثلنا سواء بسواء، لكنه لم يتجه إلى واحدة منها (على النقيض من كل الرسل والأنبياء، فقد عثروا جميعا وتلوثت حياتهم بخطايا متنوعة). ولذلك لما اجتمع اليهود حول المسيح محاولين اختلاق التهم التي تبرر في نظرهم القبض عليه، وقف بينهم عالي الرأس وقال لهم «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46) فلم يقدر أحد أن يذكر له خطية واحدة في أي دور من أدوار حياته. أما عن شهادة الأصدقاء عنه فكثيرة. ولذلك نكتفي بالقول: إن بولس الرسول الذي كان ألد أعداء المسيح فيما سلف قال عنه عندما عرفه، إنه قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات في الطهر والقداسة (عبرانيين 7: 26).

  6. عمل المعجزات بسلطانه الذاتي: كان أنبياء الله يعملون المعجزات ليس بناء على إرادتهم الشخصية بل بناء على إرادة الله، أما المسيح فكان يعملها بإرادته الذاتية، ولذلك كانت بالنسبة له أمراً عادياً. فكان يقول للأبرص «أريد فاطهر» فيطهر في الحال (متى 8: 3). ويقول للمفلوج «قم واحمل سريرك وامش»، فتزول علته كما تدب فيه العافية ويحمل سريره ويمشي (مرقس 2: 9). ويقول للميت «قم»، فيقوم على الفور وليس به عرض من أعراض الموت أو الضعف (لوقا 7: 14). فضلاً عن ذلك كان يمشي على الماء لينقذ أشخاصاً كانوا مشرفين على الغرق، ويدخل البيوت والأبواب مغلّقة لكي يهدئ روع أشخاص تملكهم الخوف والفزع (متى 14: 25 ، يوحنا 20: 26)، وكان ينتهر العواصف فتهدأ في الحال ويعود السلام إلى قلوب الذين فيها (مرقس 4: 39). فضلاً عن ذلك فقد استطاع أن يمنح تلاميذه سلطاناً على عمل المعجزات، فكانوا يعملونها باسمه (متى 10: 1)، الأمر الذي لم يفعل مثله نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل.

  7. علمه بالغيب: كان يعرف أسماء الناس دون أن يكون قد التقى بهم من قبل، كما كان يعرف الأعمال التي كانوا يقومون بها في الخفاء (يوحنا 1: 42-47) والخواطر التي كانت تجول في عقولهم (يوحنا 6: 6). والأسرار الكامنة في أعماق نفوسهم (يوحنا 4: 8) وكان يعرف ما جاء في الكتب دون أن يدرسها (يوحنا 7: 15)، وما يحدث في الأماكن التي تبعد عنه كثيراً (مرقس 14: 13)، وما يوجد في أعماق البحار وما ابتلعه السمك من أشياء (متى 17: 27)، كما كان يعرف ما يخبئه المستقبل من مختلف الأحداث. فعرف أنَّ أورشليم سيحل بها الخراب والدمار (لوقا 21: 6)، وأنَّ لعازر سيموت وأنه سيقيمه من بين الأموات (يوحنا 11: 11 و14)، وأنَّ يهوذا سيسلمه لليهود (متى 26: 23) وأنَّ بطرس سينكره ثلاث مرات (متى 26: 34)، وأنه هو نفسه (أي المسيح) سيُصلب ويقوم من بين الأموت في اليوم الثالث (متى 16: 21). أضف إلى ذلك أنَّ علمه بهذه الأمور لم يكن مرتبطاً بزمان ما، بل كان لديه أزلاً (يوحنا 6: 64)، الأمر الذي ينفرد به الله دون سواه.

  8. قيامته من بين الأموات: بالرجوع إلى الكتاب المقدس نرى أن الذين قاموا من بين الأموات بقوة معجزية، عادوا فماتوا بعد ما عاشوا على الأرض مدة من الزمن. أما المسيح ففضلاً عن أنه لم يمت بعد قيامته، بل بعد ما عاش على الأرض مدة من الزمن يثبت فيها إيمان تلاميذه، ارتفع الى السماء (لوقا 24)، فإنه له المجد قام من بين الأموات بقوته الذاتية وبإرادته الشخصية. فقد قال لليهود قبل صلبه عن جسده «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا 2: 19) وقال لهم أيضا عن نفسه «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 11: 25)، وشخص تكون نفسه ملكاً له، يسلِّمها إذا أراد ويستردها إذا أراد، ويكون أيضاً هو القيامة والحياة لا يكون مخلوقاً. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال عن المسيح إنه اتضح أنه ابن الله بالقيامة من الأموات (رومية 1: 4).

أخيرا نقول: (أ) لو كان الله قد ظهر لنا في مجده الخاص ليعلن لنا ذاته ويقربنا إليه، لما استطاع واحد منا أن يقف في حضرته، بل لسقط ميتاً في الحال أمامه فقد قال لموسى «الإنسان لا يراني ويعيش» (خروج 33: 20)، وبما أنَّ الله لا يريد أن يرعبنا، بل يريد أن ندنو منه حباً فيه وشوقاً إليه، فكان من البديهي أن يظهر لنا في ناسوت مثل ناسوتنا. وكل ما في الأمر يكون هذا الناسوت خالياً من الخطية، ليكون متوافقاً مع قداسته المطلقة.

(ب) إنّ الله بظهوره في المسيح لم يتحيّز بحيّز بل ظل كما هو المنزَّه عن الزمان والمكان. وقد أشار المسيح من جهة لاهوته إلى هذه الحقيقة، فقال عندما كان بالجسد على الأرض إنه كان في نفس هذا الوقت، في السماء عينها (يوحنا 3: 13).

(ج) كما أنه بظهوره في المسيح ظل هو الله بكل خواصه. كما ظل ناسوت المسيح هو الناسوت بكل خواصه، لأنه لم يحدث بين اللاهوت وبين الناسوت اختلاط أو امتزاج يؤدي إلى طروء تغيير في أيهما.

وهكذا فقد ظهر من خلال حياة المسيح الناسوتية مجد أدبي لا يقل في شيء عن ذاك الذي ينتظر ظهوره من الله نفسه، فآمن الأتقياء من البشر أنه «ابن الله» أو «الله الظاهر في الجسد» كما يتضح من (يوحنا 1: 49 و2: 11 و23 و4: 39-42 و7: 31 و11: 27 ومتى 16: 16).

مسابقة القسم الأول من كتاب فلسفة الغفران في المسيحية لزوم كفارة المسيح

أيها القارئ الكريم، إن كنت قد درست القسم الأول من هذا الكتاب، فستجاوب على الأسئلة التالية. إن أرسلت لنا ردا صحيحا على عشرين سؤالا من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك جائزة. لا تنس كتابة اسمك وعنوانك بوضوح على رد المسابقة، ليس على المظروف الخارجي فقط.

  1. ما هي الخطية؟

  2. هل هناك صغائر وكبائر في نظر الله؟

  3. كيف تسربت الخطية إلى البشر جميعاً من آدم؟

  4. ما هي نتائج ولادة البشر بالخطية؟

  5. كيف ستكون الأبدية بالنسبة للخطاة؟

  6. كيف تتفق محبة الله للبشر مع معاقبته إياهم من أجل خطاياهم؟

  7. لماذا لم يحدد لنا الله أوقاتاً محددة نصلي فيها؟

  8. ما الفرق بين معرفة الله والمعرفة عنه؟

  9. على أي أساس تقوم العلاقة والمعرفة عنه؟

  10. ما الغرض الحقيقي من الصوم؟

  11. هل تمحو التوبة خطايا الماضي؟ ولماذا؟

  12. لماذا لا تفيد الصَّدقة في غفران الخطية؟

  13. هل لأنَّ لله حرية مطلقة، يصفح عن الخطاة بدون تعويض؟ ولماذا؟

  14. ما هي الشروط الواجب توافرها في الحيوان الذي كان يُقدَّم للفداء في اليهودية، ولماذا؟

  15. لماذا قبل الله قربان هابيل ورفض قربان قايين؟

  16. ما هي الشروط الواجب توافرها في الفادي؟

  17. لمن تشهد التوراة والإنجيل بالتفرُّد بعملية الفداء؟

  18. لماذا يظهر الله، الذي لا حدّ لعظمته في ناسوت مثلنا؟

  19. ألا توجد وسيلة للخلاص إلا بافتداء الله لنا بنفسه؟ اشرح ذلك.

  20. ما رأيك في القول: إنَّ محبة الله للبشر، مهما بلغت شدتها، لا يمكن أن تصل إلى الدرجة التي يقوم معها بفدائهم بنفسه، لما يتطلبه الفداء من تضحية تفوق التصور؟

  21. لماذا تكون الوحدانية الجامعة هي اللائقة بالله؟

  22. ما هو التفسير لكون الله قائماً ليس بتعيُّن واحد بل بتعيُّنات ثلاثة؟

  23. ما هو سبب تسمية كل أقنوم باسم خاص؟

  24. ما رأيك في الأدلة العقلانية على شخصية المسيح؟

  25. لماذا ظهر الله في شخص المسيح؟

نحن بانتظار إجابتك.

عنواننا:


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany