العودة الى الصفحة السابقة
من هو يسوع؟

من هو يسوع؟

القس جون نور


Bibliography

من هو يسوع؟. القس جون نور. Copyright © 2005 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1999. SPB 4305 ARA. English title: Who is Christ?. German title: Wer ist Christus?. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

من هو يسوع

غالباً ما يُسأل هذا السؤال وعلى كل إنسان أن يقرّر بنفسه ما هو الجواب الصحيح، وقد سُئل هذا السؤال من قِبل يسوع: «ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو؟» (متّى 22: 42). ومرة أخرى سأل: «من يقول الناس إنّي أنا ابن الإنسان؟» (متّى 16: 13).

تلك أسئلة هامة جداً، وللحصول على الإجابات فإننا نطرح غيرها من الأسئلة: هل كان حقيقة قدوساً؟ هل هو ابن الله؟ هل وُلد من عذراء؟ ماذا كان قصده من مجيئه إلى الأرض؟ هل قام من الأموات؟ دعونا أولاً نتأمل حقيقة ميلاده:

من هو أبوه؟

إنَّ القصة مدوَّنة في الإنجيل حسب البشير لوقا الذي كان طبيباً، وهي قصة بسيطة جداً. «وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيّتها المنعم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنّك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لوقا 1: 26-35).

إنَّ القصة المدونة في القرآن تشابه في أوجُهٍ كثيرة القصة الموجودة في الإنجيل. كلتاهما تتفقان على أنَّ يوسف لم يكن أبا يسوع وأنَّه لم يكن شخصاً عادياً مثلنا من أبٍ أرضي. ويخبرنا الكتاب المقدس أنَّ الروح القدس يظلل مريم ويحلّ عليها. والطفل القدوس المولود منها يدعى ابن الله. يذكر القرآن أنَّ روح الله اتخذ شكل إنسان كامل وكان هذا سبباً في حملها طفلاً. وهذا يعني أنَّ روح الله هو أبو يسوع وهذا ما يجعله بالحقيقة ابن الله. وحيث أنَّه ابن الله، يجب أن يشبه أباه في بعض صفاته. وبهذه الأسئلة نتقدّم إلى طريقة أطول للإجابة على السؤال الهام:

من هو يسوع؟

نقرأ في إشعياء 7: 14: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمّانوئيل». ويخبرنا متّى في إنجيله أنَّ هذا قد تمَّ في ميلاد المسيح: «وكان هذا كله لكي يتمّ ما قيل من قبل الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متّى 1: 22-23).

يقول البعض إنَّ كلمة «عذراء» ليست مهمة وهي تعني فقط فتاة شابة. ولكنك عندما تقرأ القصة بانتباه تستطيع أن ترى أنها نقطة هامة جداً. هذا هو السبب في أنَّ يوسف البار أراد تخليتها سراً. لم يرد أن يجعل منها مثلاً عاماً. حتى ظهر له ملاك الرب في حلم وأخبره ماذا حدث. «فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع» (متّى 1: 24-25). إنَّ هذا كافٍ ليبرهن الحقيقة، أنَّ يسوع المسيح هو ابن الله.

إن لم يكن يسوع ابن الله، إذن ابن من هو؟ إنَّ أولئك الذين ينكرون باستمرار ولادة يسوع من العذراء، عليهم أن يعطوا جواباً لهذا السؤال، هل كان ابن يوسف؟ إنَّ الكتاب المقدس ينفي هذا، وكذلك القرآن، ولا يوجد دليل من أي مصدر يؤكد ويثبت ذلك. هل كان ابن إنسان آخر؟ مرة أخرى ينفي الكتاب المقدس والقرآن ذلك.

ومن غير الممكن أن يكون عظيماً وابن العلي إذا كان ابن يوسف أو ابن إنسان آخر. لقد دعا نفسه ابن الله. وكان يشير في كثير من الأحيان إلى نفسه بذلك.

إننا جميعاً ندعى أبناء الله، إذ نحن سلالة آدم الذي خُلق من قِبل الله فدُعي ابن الله من حيث الخلق كما جاء في سلسلة نسب سلالة يسوع (لوقا 3: 38) ونحن كذلك أولاد الله باستعمال هذا التعبير روحياً.

ولكنَّ يسوع هو ابن الله بطريقة مختلفة تماماً. كان آدم ابن الله بمعجزة الخليقة وصُنع إنساناً كاملاً. لم يكن له وجود من قبل فأصبح بعدئذ روحاً حيّة. نحن أبناء الله بالسلالة أو بولادتنا ثانية روحياً. ولكنَّ يسوع هو الابن الوحيد لله. هو إنسان وإله. كانت مريم أمه إنساناً مثلنا والله هو أبوه. وبكونه ابن مريم فإنه أشار إلى نفسه كابن الإنسان، هو الشخص الوحيد الذي جاء إلى العالم من عذراء دون مشيئة رجلٍ بعكس كافة البشر.

ولهذا كانت ولادة يسوع معجزة حية لم تحصل من قبل ولا بعد. ومن ناحية أخرى كان يسوع مختلفاً بصفته ابن الله عن آدم حيث أنّه وجد كإله وكان مع الله قبل ميلاده. في الإشارة إلى المسيح قال يوحنا كاتب الإنجيل: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان... والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً» (يوحنا 1: 1- 3 و14).

قال يسوع: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنا 8: 58) وبكونه جسدياً من قبل، يقول الرسول بولس: «الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس» (فيلبي 2: 6- 7). ولهذا السبب أشار الله في صيغة الجمع في تكوين 1: 26: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا»، لم يكن وحده بل كان معه المسيح وروح الله (تكوين 1: 2).

أصبح الله جسداً في ميلاد المسيح: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد...» (1 تيموثاوس 3: 16) اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا (متّى 1: 23). ندرك عظمة يسوع عندما نفهم أنّه أكثر من إنسان وأنَّه بالحقيقة ابن الله.

شهادات تدل على أنَّ يسوع هو ابن الله

إننا عادة نتقبّل شهادة ما إذا وُجد شاهدان أو ثلاثة يوثق بهم لكي يشهدوا على حقيقتها. ولحقيقة كون يسوع ابن الله يوجد شهود كثيرون. دعونا نلاحظ بعض شهاداتهم:

لدينا شهادة ملاك الله الذي أعلن لمريم عن مجيء يسوع: «هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى» (لوقا 1: 32).

فأجاب الملاك وقال لها: «الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظللك فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لوقا 1: 35).

لقد شهد الله بذاته لهذه الحقيقة عندما تعمَّد يسوع في نهر الأردن وصعد من الماء: «وصوت من السَّموات قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (متّى 3: 17).

ومرة أخرى عندما تجلّى يسوع أمام بطرس ويعقوب ويوحنا وأبدى بطرس رغبته في أن يصنع ثلاث مظال، واحدة لكل منهم: «وفيما هو يتكلّم إذا سحابة نيّرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا» (متّى 17: 5).

أجاب بطرس الرسول على سؤال الرب الذي كان شاهداً لقيامة المسيح من بين الأموات، قائلاً: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متّى 16: 16).

كان بولس وهو رسول آخر من رسل الله شاهداً على قيامة المسيح من بين الأموات عندما قال: «وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات» (رومية 1: 4).

قدَّم يوحنا المعمدان شهادته ليس من معرفة شخصية ولكن بما بيّنه الله له: «وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمِّد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أنَّ هذا هو ابن الله» (يوحنا 1: 33-34).

كان يوحنا الرسول كبقية الرسل شاهداً وهذه كانت إحدى صفات الاثني عشر: «الذي كان من البدء الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة» (1يوحنا 1: 1). «ونحن قد نظرنا ونشهد أنَّ الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم» (1يوحنا 4: 14).

وليس من الضروري أن نضيف على هذه الشهادات باقتباسنا مما كتبه أو قاله بقية الرسل. لكنَّ البعض يدّعون أنَّ أصدقاءه وأتباعه حتماً يوافقون مع المسيح على أنّه ابن الله، ولكننا نستطيع أن نرى أيضاً أنَّ عدد أعداء يسوع الذين يؤكدون هذه الحقيقة يزيدون على عدد الشهود.

بعدما حُكم على يسوع بالموت وسُمِّر على الصليب أقنعت الأشياء الغريبة التي حدثت، أولئك الذين ساعدوا في تنفيذ الحكم عليه بالموت بأنّه ابن الله: «وكذلك قائد المئة والذين كانوا معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة وما كان خافوا جداً وقالوا حقاً كان هذا ابن الله» (متّى 27: 54).

إنَّ الأرواح النجسة شهدت أيضاً أنَّه ابن الله: «ولما جاء إلى العبر استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جداً حتى لم يكن أحد يقدر أن يجتاز من تلك الطريق. وإذا هما قد صرخا قائلَين ما لنا ولك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟» (متّى 8: 28-29). ومرة أخرى: «الأرواح النجسة حينما نظرته خرَّت له وصرخت قائلة إنك أنت ابن الله» (مرقس 3: 11).

كذلك لم يكن أي شك في عقل الشيطان عندما حضر بنفسه أمام المسيح ليجرّبه بأنّه ابن الله: «إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً» (متّى 4: 3). لقد عرف من كان المسيح. وهذا كان سبب التجربة.

بالإضافة إلى تلك الشهادات فقد استطعنا أن نقتبس من كثير من الذين قبلوا بركات المعجزات من يديه.

فالأعمى الذي شُفي وعرف من شفاه قال: «لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» (يوحنا 9: 33). «فقال أومن يا سيد وسجد له» (يوحنا 9: 38).

إنه من الصعب جداً إقناع أيّ واحد من الكثيرين الذين شفوا من قبل المسيح خلال فترة حياته أنّه ليس ابن الله.

يعترف معظم الناس بالحق خوفاً من العذاب والعقاب، وأحياناً يعترفون بأشياء ليست صادقة ليتجنَّبوا العقاب الأكبر. كان هذا ذات السؤال الذي طُرح على المسيح قبل صلبه: «وأما يسوع فكان ساكتاً. فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنت قلت. وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء. فمزَّق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً قد جدَّف. ما حاجتنا بعد إلى شهود. ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون، فأجابوا وقالوا إنّه مستوجب الموت» (متّى 26: 63-66).

إنَّ يسوع علم تماماً نتيجة كلامه، لقد أخبر بعض تلاميذه ماذا سيحدث، ولقد وقف ثابتاً في قوله إنَّه كان ابن الله وحتى لو كلّفه حياته.

نادراً ما يموت إنسان من أجل كذبة أو يقاسي أحدٌ آلاماً كآلام الصلب من أجل شيء لم يكن حقيقياً.

هل استطعنا أن نرى قوة إدانته في هذا الوقت المؤلم؟ ربما سيقتنع معظمنا في من كان يسوع، وكاللص الذي شهد أيضاً وقال له: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لوقا 23: 42). أو مثل الجنود القائلين: «حقيقة إنّه ابن الله».

كثيرون يشكّون في هذه الحقيقة العظيمة. كثير من الناس اليوم يشبهون توما أحد رسله، كان من الصعب عليه أن يصدّق أنَّ يسوع قام من بين الأموات لأنّه كان غائباً عندما ظهر يسوع لرسله الأحد عشر في اليوم الأول، ولم يقبل شهادة الآخرين الذين رأوه بأعينهم، فقال: «إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن» (يوحنا 20: 25). وعندما دخل يسوع، والأبواب مغلقة، بعد أسبوع من قيامته وظهر لرسله ومعهم توما، قال توما: «ربي وإلهي» (يوحنا 20: 28). سوف لا نجد مثل هذه الفرصة للشهادة ولكن يجب أن نقبل شهادة الآخرين ونقبل الإيمان أنَّ يسوع المقام هو ابن الله.

لماذا أتى الله في الجسد للإنسان؟

يمكن أن يُفسّر تجسّد الله بوضوح في المثل المُعطى من قبل المسيح نفسه: «إنسان غرس كرماً وسلَّمه إلى كرامين وسافر زماناً طويلاً. وفي الوقت أرسل إلى الكرامين عبداً لكي يعطوه من ثمر الكرم. فجلده الكرامون وأرسلوه فارغاً. فعاد وأرسل عبداً آخر، فجلدوا ذلك أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغاً. ثم عاد فأرسل ثالثاً. فجرَّحوا هذا أيضاً وأخرجوه. فقال صاحب الكرم: ماذا أفعل؟ أُرسل ابني الحبيب. لعلَّهم إذا رأوه يهابون... فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه» (لوقا 20: 9-15).

يمثل هذا المثل جهود الله في جمع ثمار البر من الإنسان. لقد أرسل الأنبياء قدامه ولم ينجحوا في إرجاع الناس إليه. وأخيراً أرسل ابنه يسوع المسيح. لماذا؟ لأنه أراد أن يخلّص العالم وأن يحوّل العالم عن الخطية. ومقدار هذا الحب يظهر في مجيء المسيح.

«لأنّه هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16).

لا شيء يقدر أن يخبرنا عن عظم محبته لنا مثل بذله ابنه الوحيد لأجلنا. «فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بارٍّ. ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضاً أن يموت. ولكنَّ الله بيَّن محبته لنا لأنَّه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 5: 7 و8).

بهذا نستطيع أن نعلم كم أحبَّنا الله وكم كان راضياً أن يفعل هذا من أجلنا لكي يعيدنا إليه.

كان الله دائماً يطلب ذبيحة من أجل الخطية، وكانت الحيوانات تُقدَّم في بداية الأزمنة ككفارة لخطايا الإنسان. في العهد القديم كانت الذبيحة حملاً بلا عيب. ولكنَّ هذه الذبائح لم تكن كاملة. والذبيحة الوحيدة الكاملة والتي قُدّمت مرة واحدة وإلى الأبد وللجميع هو الذبيح يسوع ابن الله، وهي تحرّر الإنسان من الخطية إذا آمن بالمسيح وقبل تعاليمه.

هل تؤمن أنَّ يسوع المسيح هو ابن الله؟ إنَّ خلاصك الأبدي يعتمد على هذا الإيمان.

لم يضع صلب المسيح نهاية له، بل أنهى فقط وجوده الجسدي وعاد إلى وجوده الممجد الذي كان فيه قبل ميلاده.

كانت صلاة يسوع قبل صلبه إلى الله: «والآن مجّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يوحنا 17: 5). أصبح هذا المجد مرة ثانية له عندما قام من بين الأموات وصعد إلى أبيه، والآن هو: «جالس عن يمين الله» (كولوسي 3: 1). ولأنّه ابن الله فهو ربنا ومخلصنا. ألا تقبل ذلك بالإيمان؟

يسوع المسيح محور المسيحية

ليست المسيحية مجموعة من القواعد أو نظاماً عقائدياً بصورة رئيسية، وذلك خلافاً لمفهوم معظم الناس عن الدين. لكنها تتمثل بالحري في أن يعرف الإنسان يسوع المسيح ومن ثم يحبه ويطيعه. فهو بالذات محور المسيحية.

فمن كان المسيح إذاً؟

صرخ بعضهم بحماس: «إنّه مجنون يدّعي بأنّه الله». وعلّق آخرون بعد تفكير عميق: «إنّه نبي ينبغي أن نتبع تعاليمه». وربما كان تخمين بعض الحالمين يقول: «إنّه فيلسوف يسدي النصح العملي بشأن طريقة للحياة سوف تُحدث ثورة في العالم».

فمن هو؟ ومع أنّ الاقتباسات الثلاثة هذه مأخوذة عن أشخاص غير مؤمنين، لكنَّ كلماتهم تُظهر كيف لقي المسيح الإعجاب، باعتباره المثال المُصغّر للصلاح الإنساني، من قبل أشخاص كثيرين لم يقبلوا مطالبه السامية.

كتب المؤرخ البارز و. أ. ه. ليكي: لم يكن خُلق يسوع أسمى مثال للفضيلة فحسب، بل كان أيضاً أقوى حافز على ممارستها. لقد كان تأثيره عميقاً جداً بحيث يمكن القول بصدق إنّ السجلّ البسيط الذي تضمّن وقائع ثلاث سنين قصيرة من حياته النشيطة، قد نجح في تجديد وترويض الجنس البشري، أكثر مما نجحت فيه جميع مقالات الفلاسفة وعظات الأخلاقيين.

كتب الفيلسوف جون ستيوارت ميل: نلاحظ في حياة يسوع وأقواله طابعاً من الأصالة الشخصية يقترن بعمق البصيرة، وهذا ما يضع نبي الناصرة، حتى بحسب تقدير أولئك الذين لا يؤمنون بوحيه، في أسمى مرتبة بين الرجال الذين بلغوا أوج العبقرية والذين يفتخر بهم جنسنا. وعندما تقترن هذه العبقرية المتفوقة بصفات أعظم مصلح أخلاقي على الأرجح، عاش على هذه الأرض واستشهد في سبيل بعثته، فلا يمكن أن يقال بأنّ الدين أخطأ باختيار هذا الإنسان ليكون ممثل الإنسانية النموذجي ومرشدها. ولن يكون من السهل الآن حتى على شخص غير مؤمن أن يجد ترجمة أفضل لقانون الفضيلة، تنقله من المجرد إلى المحسوس، من الترجمة التي تتمثل في الجهد الذي نبذله كي نحيا حياة ترضي المسيح.

كتب روسو: «لقد مات سقراط بسلام وهو يتفلسف محاطاً بأصدقائه. وتبدو تلك أفضل ميتة سائغة يتمناها المرء. أما يسوع فقد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يعاني الآلام المبرحة، بينما انهال عليه أبناء أمّته بالشتم والإهانة والاتهامات. وهذه أرهب ميتة يخافها الإنسان. صحيح أنّ سقراط حين تناول كأس السم، بارك الجلاد الباكي الذي قدَّمها له، ولكن يسوع، وهو في وسط عذاباته الشديدة، صلّى لأجل معذبيه العديمي الرحمة. وإذا كانت حياة سقراط وموته يضعانه بحق في مصاف الحكماء، فإنّ حياة يسوع وموته يؤكدان أنّه كان إلهاً».

فمن هو المسيح؟

يجيب المسيحي فوراً: هو الله - الله الذي صار إنساناً.

وجواب الكتاب المقدس فهو كما يلي: «الذي (المسيح يسوع) إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنّه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب» (فيلبي 2: 6- 11).

فيسوع المسيح هو الله الكائن منذ الأزل. إلا أنّه بتاريخ معيّن اتّخذ جسداً بشرياً ووُلد من مريم العذراء بقدرة الله. وعاش حياة خالية من الخطيئة، انتهت فجأة عندما صلبه أعداؤه. وبعد دفنه بثلاثة أيام عاد إلى الحياة ثانية. وبعد أربعين يوماً أُصعد إلى السماء.

هذه هي الأحداث الأساسية في حياة المسيح. فهل تنسجم مع الوقائع التاريخية؟ لا ينفرد الكتاب المقدس في الشهادة على أنّ يسوع عاش فعلاً، ومات بيد بيلاطس البنطي، بل تشهد على ذلك أيضاً المصادر العلمانية.

قال يوسيفوس المؤرخ غير المسيحي، ما يلي: «وفي ذلك الحين عاش يسوع، الرجل الحكيم، هذا إن جازت تسميته إنساناً. لأنه كان صانع عجائب، ومعلماً لرجال يكفي أن يُقال عنهم أنهم يتقبلون الحق بسرور. وكيف لا يكون كذلك وهو المسيح الموعود. وعندما حكم عليه بيلاطس بالصلب، بناءً على اقتراح رؤسائنا، لم يتركه الذين أحبّوه منذ البداية لأنّه ظهر لهم حياً من جديد في اليوم الثالث. وذلك وفق ما أنبأ به أنبياء الله إلى جانب آلاف الحوادث العجيبة المتعلقة به. وما زالت قبيلة المسيحيين المسمّاة باسمه باقية حتى الآن».

وهناك مؤرخ آخر من أعاظم المؤرخين اللاتينيين، واسمه تاسيتوس، عاش في المطلع الأول من القرن الثاني. وقال في سياق حديثه حول الإشاعات القائلة بأنّ نيرون كان مسؤولاً عن الحريق الكبير الذي خرّب روما عام 64 ب م، ما يلي:

«لا لن تفلح كل النجدات البشرية وكل السخاءات التي يمكن أن يغدقها الأمير، وكل الكفارات المقدمة إلى الآلهة، لن تفلح كلها في تخليص نيرون من العار الذي لحق به من جرّاء الاعتقاد بأنّه هو الذي دبّر الحريق الهائل. ومن َثمّ عمد نيرون، بغية كبت الإشاعة، فوجّه الاتهام الكاذب ونفّذ أقصى أشكال التعذيب في أولئك المعروفين باسم المسيحيين الذين كانوا موضع كراهية بسبب أعمالهم الشائنة. وقد دُعوا كذلك نسبة إلى المسيح الذي نُفّذ فيه حكم الموت كمجرم من قبل بيلاطس البنطي، حاكم اليهودية في أيام طيباريوس. ولكن الخرافة الخبيثة، التي كُبحت بعض الوقت، برزت من جديد. ليس في اليهودية حيث نشأ هذا الأمر المزعج فحسب، بل في مدينة روما أيضاً». وكتب بليني، مراسل الامبراطور تراجان، عن المسيحيين ما يلي:

«مهما يكن من أمر فقد أقرّوا بأنّ كل ذنبهم أو خطئهم هو أنهم كانوا يجتمعون بصورة دورية في يوم محدّد قبل الفجر ويرنّمون ترانيم معيّنة للمسيح، بصفته إلهاً، كما أنهم التزموا بموجب قسم جليل بأن يمتنعوا عن القيام بأي عمل شرير وأن لا يرتكبوا أي شكل من أشكال الخداع أو السرقة أو الزنى، وأن لا يحرّفوا كلامهم وأن لا ينكروا أمانة إذا طُلب منهم تسليمها...».

وتحدّث لوسيان الكاتب الهجّاء الذي عاش في القرن الثاني فوصف المسيح بما معناه: «..... الرجل الذي صُلب في فلسطين لأنّه أدخل هذه الديانة الجديدة إلى العالم.... وأنّ أول مشرّع للمسيحيين علّمهم بأنهم جميعاً أخوة بعد أن أثموا جميعاً مرة. وأقنعهم بإنكار الآلهة اليونانية وبعبادة ذلك الفيلسوف المصلوب وبالعيش بحسب تعاليمه».

وكتب المؤرخ تالوس حوالي عام 52 م، أي بعد مرور بضع سنوات على موت يسوع، واقتبس عنه يوليوس أفريكانوس، وهو كاتب مسيحي عاش في مطلع القرن الثالث. وتحدّث عن الظلمة الغامضة التي حدثت في منتصف النهار إبّان صلب يسوع فقال: «لقد حاول تالوس في الكتاب الثالث من مؤلفاته التاريخية أن يفسر هذه الظلمة باعتبارها ناجمة عن كسوف الشمس - لكنّ هذا التعليل يبدو لي غير معقول». إذاً فقصة الصلب، كما يبدو، كانت معروفة في روما لدى غير المسيحيين وذلك بعد مرور بضع سنوات على الحادث.

كتب سويتونيوس في كتابه «حياة كلوديوس» حوالي 100 م: ولما كان اليهود يُحْدثون الاضطرابات بصورة مستمرة بناء على تحريض المسيح فقد أمر كلوديوس بطردهم من روما.

وتصف وجهة النظر المسيحيّة نفس الحدث فتقول: «وبعد هذا مضى بولس... فوجد يهودياً اسمه أكيلا بُنطيَّ الجنس كان قد جاء حديثاً من إيطاليا وبرسكيلا امرأته. لأنّ كلوديوس كان قد أمر أن يمضي جميع اليهود من رومية» (أعمال 18: 1 و2).

وهكذا نجد أنّ المؤرخين العلمانيين، المعادين للمسيحيّة، يقيمون الدليل على أنّ حياة يسوع المسيح وتنفيذ حكم الموت فيه حقيقة لا مراء فيها.

خُلُق المسيح وادعاءاته المحقّة

لقد أظهر المسيح ذاته بأنّه سيد كل موقف وسيد نفسه. ورغم أنّه كان موضع الاحتقار والسخرية والتعذيب لكنه لم يتفوّه أبداً بكلمة بغض أو انتقام. وخلال محاكمته تعجّب الحاكم من رباطة الجأش التي واجه بها غضب الجماهير وصيحاتهم واتهاماتهم وحتى تهديدهم له بالموت. لقد كان مثالاً لضبط النفس رغم أنّه لم يحي حياة النساك.

إنّما أبرز صفة من صفات يسوع هي حياته المقدسة، تلك الحياة التي كانت خالية من أية خطيئة. وقد ادّعى بأنّ كل ما فعله حاز مسرّة أبيه. ورداً على أعدائه الذين كانوا يسعون إلى تشويه سمعته، سألهم متحدياً: «من منكم يبكّتني على خطيئة؟» (يوحنا 8: 46). وخلال محاكمته حاول أعداؤه عبثاً أن يوجّهوا إليه أية تهمة، لكن الحاكم قال أخيراً: «لست أجد فيه علة» (لوقا 23: 4). عاش تلاميذه بصحبته ثلاث سنوات ورأوا رد فعله تجاه مختلف الأشخاص في ظروف متنوعة. ومع ذلك فإنّ هؤلاء التلاميذ، الذين تعلموا منذ طفولتهم حقيقة شمولية الخطيئة، أكدوا بصورة متكررة أنّ المسيح لم يفعل أية خطيئة.

فأيّ إنسان استطاع أن يحيا بدون خطيئة؟ حتى أعظم القادة الدينيين أقروا بأن حياتهم لم تكن كاملة. ونستنتج من خبرات القديسين العادية أنّه كلما زاد اقتراب القديس من الله، ازداد إدراكه لخطاياه في ضوء قداسة الله.

لقد جسّد المسيح، كإنسان، الفضيلة بأسمى درجاتها. فمع أنّه ادّعى ادّعاءات مذهلة، لكنه لم يفعل ذلك بروح متبجحة. اتسمت حياته بتواضع لا يُصدّق. تكلم بسلطة مطلقة وبثقة لا مجال للشك فيها. ومع ذلك فقد امتلك قدراً كبيراً من التواضع جعله يغسل أرجل أتباعه ويدعو نفسه خادمهم. كان اقتناعه باستقامة موقفه قوياً إلى حد أنّه طرد الذين كانوا يهينون مكان العبادة، ولكن حنانه قاده إلى أخذ الأطفال بين ذراعيه. كانت محبته العظيمة خالية من النزعة العاطفية بسبب التوازن بين قداسة حياته وبين رحمته تجاه البشر الذين كانوا بطبيعتهم أقل قداسة منه. وكانت غيرته خالية من التعصب.

لم يدّعِ يسوع بأنّ حياته مقدسة فحسب بل ادّعى أيضاً بأنّ له القدرة على مغفرة الخطايا - وهو امتياز مقصور على الله وحده. وقد أوضح ذلك ذات يوم في بيت صغير مكتظ بالناس كانوا يصغون بكل جوارحهم إلى المعلم العظيم، وكان بين الحشد قادة دينيون ومحامون وعمال. وبينما كان الجميع يجهدون أنفسهم ليسمعوا كلمات هذا الإنسان غير العادي، أزاح أربعة من الرجال بعض قطع الأجر من السقف ودلوا رجلاً مشلولاً إلى أن وصل قبالة يسوع. ولما رأى الإيمان الذي أظهره هؤلاء الرجال نظر إلى الرجل المريض وقال: «مغفورة لك خطاياك» (لوقا 5: 20).

أدرك يسوع الأفكار التي تدور في أذهان مشاهديه. مَن هذا؟ من يستطيع أن يغفر خطايا إلا الله؟ فجادلهم يسوع قائلاً: ماذا تفكرون في قلوبكم. أيّما أيسر أن يقال (للمفلوج) مغفورة لك خطاياك أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أنّ لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا. التفت إلى المريض وقال: «لك أقول قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك. ففي الحال قام أمامهم وحمل ما كان مضطجعاً عليه ومضى إلى بيته وهو يمجّد الله» (لوقا 5: 21-25). وبهذه الأمثولة المثيرة الفعالة أكد يسوع بصورة جازمة سلطته على الخطيئة.

ولم يكن هذا الادّعاء هو الوحيد، بل ادّعى يسوع أيضاً أنه يملك قوات لا يملكها إلا الله وحده. فقد ادّعى أن بوسعه أن يمنح الحياة حين قال: «لأنه كما أنّ الآب يقيم الأموات ويحيي كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء» (يوحنا 5: 21). وقال في مناسبة أخرى: «أنا هو خبز الحياة» (يوحنا 6: 35)، و «أنا هو القيامة والحياة... من آمن بي وإن مات فسيحيا» (يوحنا 11: 25).

وأعلن يسوع بأنّه سيدين العالم: «لأنّ الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن. لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب... من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة» (يوحنا 5: 22-24).

أجاب يسوع: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يوحنا 6: 29). وقال في مناسبة أخرى إنّ روح الله سوف يقنع العالم بمعنى الخطيئة والصلاح الحقيقي والدينونة وسوف يفضح جريمة البشر لأنهم لا يؤمنون بي (العدد المشابه في يوحنا 16: 8).

فمن هو الإنسان الذي يستطيع أن يطالب لنفسه بهذه الادّعاءات؟

كتب سي.إس.لويس: إنني أحاول هنا أن أمنع أي إنسان من أن يقول عن المسيح الكلام الذي كثيراً ما يقوله الناس عنه. ولكنه بالحقيقة ليس سوى كلام أحمق: إنني مستعد أن أقبل يسوع كمعلم أخلاقي عظيم، ولكنني لست أقبل ادّعاءه بأنّه الله. فهذا القول لا يجوز لنا أن نقوله أبداً. لو قال إنسان، مجرد إنسان، الأشياء التي قالها يسوع لكان رئيس أبالسة الجحيم. وعليك أن تختار، فإما أن يكون هذا الإنسان ابن الله، أو أنّه كان مجنوناً أو أشر من ذلك. بوسعك أن تحكم عليه بأنّه مجنون وتستطيع أن تبصق عليه باعتباره شيطاناً، أو تستطيع أن تخر عند قدميه وتدعوه ربي وإلهي. ولكن دعنا من أي مظهر أجوف من مظاهر المناصرة له بوصفه معلماً إنسانياً عظيماً.

هل كان كذاباً متعمّداً؟ لم يقترح هذه الفكرة حتى أشد الباحثين مناهضة للمسيحية. إنّ نقاوة سيرة يسوع والإخلاص الواضح في تعاليمه وكرهه الشديد للرياء يكذب مثل هذه التهمة. كما أنّ المستوى الرفيع للحياة الذي أخذه عنه أتباعه يحول دون وجود هذه الإمكانية.

هل كان مضطرب العقل؟ هنا أيضاً نجد بعضاً من أعظم الباحثين ثقافة ونقداً على مر العصور يقدمون الإجلال للمسيح باعتباره المثل الأسمى للحياة الفاضلة. وليس في حياته ما يبرر أقل تبرير تهمة كهذه.

فهل كان فعلاً، كما ادّعى، الله نفسه، مخلص البشر وسيدهم الشرعي؟

لماذا الإيمان بيسوع؟

أومن بيسوع الذي يدعى المسيح لأنه هو الله، الكل وفي الكل القادر على كل شيء.

كثيرون في هذا العالم قد ألّهوا معلمين وفلاسفة وكثيرون قد عبدوا أباطرة وملوكاً، لكن هؤلاء الأباطرة والمعلّمين والملوك والفلاسفة قد جاءوا إلى هذا العالم ورحلوا إلى الأبدية في طريق لا يعودون منها كأي إنسان آخر. فقد مروا في فترة معينة من التاريخ، والأكثرون منهم طواهم النسيان في ملفه الكبير وسمّكت الأيام طبقة كثيفة من الغبار عليهم وعلى عابديهم حتى أنّ المتعمّق في التاريخ فقط يعرف بعض الأسماء التي ظن الناس يوماً بأنّ أصحابها آلهة ستخلد أسماؤهم ما دام هناك أناس وما دامت هناك أيام.

مرت الأيام وتعاقبت السنون فاندثر معبودو البشر والذين ألّهوهم، وجعلت منهم الأجيال نسياً منسياً.

إنّ أكثر أفراد الأمم الذين مروا فوق سطح هذه الغبراء قد عبدوا الأصنام صُنع أيدي الناس، وسجدوا إلى عمل أيديهم وخروا على وجوههم أمام حجارة نحتوها لا قوة لها سوى صلابة صوانها، بقاياها في هذه الأيام تشهد على عدم نفعها وبطلان عبادتها، وهي دلالة واضحة على عجزها إذ: «لها أفواه ولا تتكلم. لها أعين ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع. لها مناخر ولا تشم. لها أيدٍ ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي. ولا تنطق بحناجرها. مثلها يكون صانعوها بل كل من يتكل عليها» (مزمور 115: 5-8).

ورغم الفن الساحر الخلاب المسكوب فيها، فلا تزال هذه الأصنام سخافة وعبادتها بطلاناً سافراً.

أمّا يسوع فهو خالق السماء وسيّد الأرض كلها وكلما شاء صنع. هو:

جابل الإنسان ونافخ الروح فيه...

مبدع الرجل ومكوّن ابن آدم على صورته وشبهه ومثاله...

إنّ ولادة يسوع بينة واضحة وشهادة علنية على أنّه غافر الخطايا... على أنّه الله. «اسمه يسوع لأنّه يُخلّص شعبه من خطاياهم» (متّى 1: 21). «ويكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية» (لوقا 1: 32-33). ومع أنّه ولد في مذود وضيع في ناحية مجهولة من العالم إلا أنّ ذلك المكان قد أصبح محج أجيال كل الأمم. لم ترتّل له جوقة الشرف ولم يولد في قصر عظيم ولم تُحط به باقات الورد، ذلك ليؤكد للعالم بأنّ المظاهر التي يتباهى بها الناس ويكون لها فيهم أثر عميق، لا تهم الله ولا تحرك فيه ساكناً إذ أنّه الوحيد الذي ينظر إلى القلب وإلى الدافع الذي يحرك الإنسان.ولأنّه عرف بأنّ الخطية تسكن في الإنسان، جاء لكي يطردها ويسكن في قلب كل من يقبله تائباً عن خطيته متجاوباً مع دعوته العظمى.

إنّه الإله الحي الذي تغلّب على الموت ملك الأهوال وقد كان الأموات يطيعون صوته، وكأني بهم كانوا في قيلولة، في نوم خفيف، وهبّوا وقوفاً عند سماع صوته.

فمن تغلّب على قبر لعازر؟ ومن حوّل بلدة نايين من مناحة إلى مهرجان عرس؟ ومن أرجع الفرحة والسعادة إلى بيت يايرس...

إلا يسوع وحده!!

لقد ثبت عبر هذه الحوادث بأنّه معطي الحياة لبني البشر. ومن هو معطي الحياة إلا الله وحده؟ هو الذي نفخ في الإنسان نسمة حياة، وهو الذي يستطيع أن يأخذ الحياة وقد برهن بأنّه وحده، ووحده فقط ولا غير، يستطيع أن يرجع الحياة للإنسان. وما حياتنا على هذه الأرض إلا ظاهرة لسلطانه المطلق، وما هذه العمليات التي أنجزها إلا إعلاناً صارخاً بأننا «به وحده نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال 17: 28)، وبأنّه وحده الذي «يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء» (أعمال 17: 25).

لقد برهن لبني البشر بأنّه هو وحده الإله الحق إذ تمكن من أن ينجز إتمام ما لم يخطر على بال بشر أنّه بالإمكان إنجازه، واستطاع أن يتمم ما كان الناس يخافون من أن يقتربوا منه: فمن استطاع بلمسة أن يطهر الأبرص النجس؟ ومن قدر أن ينتهر الأرواح الشريرة ويخرجها من الإنسان؟ ومن استطاع أن يخرس البحار، ويجعل من عجيج الأمواج هدوء أرض السكوت؟ ومن استطاع أن يهدّىء العاصفة ويبكم زئيرها؟ إلا يسوع وحده!!

ومما ورد يتثبت لنا أنّ ما قاله كان الحق كله وخاصة حين صرّح قائلاً: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا 14: 6).

لم يكن حقاً ... بل الحق المطلق

لم يكن طريقاً ... بل الطريق الوحيد

لم يكن إلهاً ... بل الله نفسه

إنّ يسوع هذا الذي يدعى المسيح هو الله لأنّه كلمة الله - الكلمة التي عبّر بها الله عن ذاته وعن شخصيته وعن محبته... محبته كلها، ومن هو الكلمة؟ أليس الله نفسه؟ - من هو فلان؟ أهو الجسد الذي يسير في الطريق ويقف أمامي ويقوم بالعمل الفلاني؟ كيف أتعرف على شخصية فلان؟ هل أتعرف على الشخصية والذات بالنظر إلى الجسد؟ هل عندما أسأل عن شخصية رجل أقول هو طويل، جميل الطلعة، عريض المنكبين، الخ؟ هل وصف الإنسان الخارجي يعطي تعبيراً صادقاً عن شخصية الإنسان وذاته ونوعيته؟ كلا- لماذا؟ لأنه كم من شاب جميل الطلعة وعريض المنكبين ومفتول العضلات يكون ذا شخصية ضعيفة ومعنويات منحطة ونفسية تعبة! وكم من شاب جميل الطلعة بحاجة إلى مستشفى للأمراض العقلية! وإن كانت الشخصية بالجمال والقوة فلماذا ننسى بأنّ الجمال ذاهب والحداثة والشباب باطلان ولن يدوما؟

عندما أرسل الله صموئيل النبي ليمسح ملكاً على شعبه، ذهب إلى البيت المعيّن وطلب الابن الأكبر. نظر صموئيل وإذا بالرجل الواقف أمامه طويل القامة جميل الطلعة وجذاب، فظن أنّ الله قد إختار هذا الإنسان ليكون ملكاً، لكنّ كلمة الله له كانت: لا، ليس هذا. وقد رفض الله ذلك الإنسان لأنّه أراد شخصية من نوعية أخرى، وهو يعرف النوعيات إذ أنّه: «فاحص القلوب ومختبر الكلى» (إرميا 17: 10)، يعرف الشخصيات رأساً وليس له حاجة لأن ينظر إلى الظواهر الخارجية والمرئيات، ولكن إن كنا نحن نريد أن نتعرف على شخصية فلان وذاته، على نوعيته، فعلينا أن نتحدث معه ونعيش معه، لأنّ شخصية فلان تتجلى في كلماته وفي أفعاله وانفعالاته. فالشخص يظهر بأنّه رصين وعاقل وحكيم وفهيم من طريقة حديثه وتفاعله مع من يحادثه، وبالأعمال التي يقوم بإنجازها - بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نتعرف على شخصية أي إنسان - إن كان متزناً رصيناً حكيماً ذكياً جدياً ... أو العكس.

ويسوع نفسه أراد من تلاميذه ومن البشر أن يصدقوه بأنّه هو الإله الحي القادر على كل شيء، لذلك صرّح قائلاً: «صدّقوني أني في الآب والآب فيّ» (يوحنا 14: 11). واستدرك إذ علم بأن هناك أشخاصاً كثيرين يصرحون تصاريح اعتباطية نتيجة لكبرياء جارف أو زلقة لسان أو جهل أو نتيجة لخلل في العقل، وتابع قوله مؤكداً: «وإلا فصدقوني لسبب الأعمال» (يوحنا 14: 11).

فالمتكبر أو الجاهل أو الغبي أو المختل لا يستطيع أن يسند القول بعمل تأكيدي فيقيم موتى أو يشفي مرضى أو يقوم بالأعمال التي صنعها يسوع مثبتاً القول بالعمل، لذلك شدد على هذه النقطة عالماً أنّ الذين يتكلم معهم كانوا يراقبون تحركاته وسكناته كلها عن كثب فقال: «إنّي قلت لكم ولستم تؤمنون، الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي» (يوحنا 10: 25).

لم يكن الرب يسوع بحاجة إلى أعمال لكي تشهد له لأنّ كلامه كان كلاماً واعياً، ولكن لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يميّز تمييزاً مطلقاً بين الكلام الواعي والكلام اللاواعي، كان على يسوع أن يجعل كلامه ينعكس في أفعال واعية وأعمال تثبيتية شهادية، لكي يفهم ويدرك من يسمع كلامه بأنّ ما يقوله الرب يسوع حق واعٍ ومطلق لا تشوبه ذرة من اللاوعي أو اللاحق أو الاستهتار، وبأنّه: «لم يحسب نفسه خلسة أن يكون معادلاً لله» (فيلبي 2: 6) لأنّ ذاك حقاً مطلقاً له.

وعندما صرّح لهم قائلاً: «أنا والآب واحد، تناول اليهود حجارة ليرجموه، فأجابهم يسوع: أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أيِّ عملٍ منها ترجمونني؟ أجابه اليهود قائلين: لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف. فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً. أجابهم يسوع: أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت إنّكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له أنك تجدّف لأنّي قلت إنّي ابن الله. إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أنّ الآب فيَّ وأنا في الآب» (يوحنا 10: 30-38).

لقد كان اعترافاً صريحاً واضحاً من أعداء الرب يسوع بأنّه الله القادر على كل شيء. فهم لم يستطيعوا أن ينكروا أعمال ألوهيته وأن يطمسوا حقيقة لاهوته، بل ثبتوها باعترافهم بأعماله الحسنة المعجزية العجائبية التي لم يروا مثلها قط، هذه الأعمال التي لم يقصد الرب من ورائها إلا إثبات هويته السماوية اللاهوتية.

إذاً قول المسيح لم يكن اعتباطاً وذلك لأنّه دلّ على كلامه وأثبته بالأعمال والآيات المعجزية البرهانية التابعة. وبما أنّ الشخصية - بالنسبة للإنسان - هي حصيلة كلامها وأعمالها التثبيتية - وليس الجسد إلا خيمة (وسيلة) لتظهر فيها الشخصية بالكلام والأعمال - كان على يسوع أن يعمل ليؤكد أقواله الصادقة الحقة.

ورُبّ قائل يقول بأنّ الله قادر على أن يعطي الإنسان قوة لكي ينجز أعمالاً خارقة، أعمالاً فوق الطبيعة. نعم، لقد أعطى الله أشخاصاً الامتياز لكي يفعلوا العجائب ويصنعوا المعجزات، لكنّ واحداً منهم لم يتجرأ على أن يقول: «أنا والآب واحد». بل إنّ بعض الذين صارت إليهم كلمة الله وانحرفوا قليلاً رفضهم الله وازدرى بهم إذ أنّ الله لا يمكن أن يعطي مجده لآخر لأنّه هو نفسه قال: «ومجدي لا أعطيه لآخر» (إشعياء 42: 8). أمّا يسوع فمنذ يوم ابتدأ يخدم كان يصرح أنّه والآب واحد وأنّه الإله الحقيقي وأنّه يصنع كل هذه الأمور بسلطانه هو ومع ذلك لم يرذل من الله ولم يجرد من سلطانه - والسبب - لأنّه هو الله الذي ظهر في الجسد لكي يُفهم بني البشر بكلمة واضحة عن كيفية خلاص نفوسهم. ولذا نجد بأنّ شهادة الكتاب المقدس له حقة إذ تقول: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.... كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة... والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقاً» (يوحنا 1: 1-4 و14).

إن كان يسوع هو كلمة منه، أي كلمة الله إذاً هو الله، لأنّ الله لا يتكلم بكلام خارج عنه أي من نوعية أخرى، بل إنه يتكلم بذاته أي أنّ كلامه فيض من ذاته، لذلك فالكلام الذي يتكلمه هو، هو ذاته: هو الله نفسه.

وفي الليلة التي أُسلم فيها، جلس يسوع مع تلاميذه يحدثهم عن ذهابه عنهم، قال له توما: «يا سيّد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه. قال له فيلبُّس: يا سيِّد أرنا الآب وكفانا. قال له يسوع: أنا معكم زماناً هذه مدَّته ولم تعرفني يا فيلبُّس. الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب؟ ألست تؤمن أنّي أنا في الآب والآبَ فيَّ ؟» (يوحنا 14: 5-10).

وكأني بالرب يسوع يلوم تلاميذه على غباوتهم ويقول لهم: ها قد صرفت معكم طيلة هذه المدة وأنا أصنع أمامكم المعجزات وأعلمكم بأني أنا الله مثبتاً القول بالعمل، ألم تستطيعوا أن تميزوا وتدركوا؟ ألم تؤمنوا بعد أنّي أنا هو؟ والتفت إلى فيلبُّس ليؤكد له قائلاً: الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب؟

لقد تجسّد الإله القادر على كل شيء ليسير بين البشر ويعلمهم ويشفي أمراضهم ويخلصهم... ولكي يتمم ويثبت العهد الأبدي. لقد كان الإله اللامحدود الذي خلق الكائنات وأبدع الوجود، هو الذي كان في البدء قبل الأزمنة الدهرية. وقد نوّه بنفسه عن ذلك وشهادته حق، إذ قال: «الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنا 8: 58). إنّ كلمة «كائن» التي جاهر بها الرب يسوع تعني بأنّه قد تخطى محدوديات الوقت وفاق على الزمن إذ أنّ الزمن نسبي وكلمة «كائن» في هذا النص مطلقة، فالماضي لا يربطه والحاضر لا يحدده والمستقبل لا يسيّره، فالأزلية والسرمدية والأبدية قدامه، ولا يخفى عليه منها شيء. «لأنّ يوماً واحداً عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد» (2بطرس 3: 8).

إنّ ما اكتشفه العلماء البارحة عن نسبية الوقت، كان قد كتبه الأنبياء في الكتاب المقدس منذ مئات السنين وذلك لأن يسوع «الكائن» قد أعلنها لهم. ويوحنا شهد له ونادى قائلاً: «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي صار قدامي لأنّه كان قبلي» (يوحنا 1: 15).

ومع أنّ يوحنا المعمدان وُلد قبل ولادة المسيح، إلا أنّنا نسمعه يقول عن يسوع بأنّه كان قبله، أي أنّ يسوع كان موجوداً قبل ولادة يوحنا. وكيف يكون هذا لو لم يكن يتكلم عن يسوع؟ الله الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء.

لقد أراد الله أن يعبر لنا عن فكره وعن ذاته وعن شخصه بكلام واضح جلي لا يفضي إلى ملابسات وغموض فكان: يسوع.

ولم يفهم البشر مقاصد الله إلا عندما وضّحها لهم وهو في الهيئة كإنسان. فيسوع - الله الذي ظهر في الجسد - هو الذي عمل العالمين... وهو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته، إذ أنّه بداءة الخليقة - وما بداءة النهر إلا النبع، والنبع هو علة النهر وسبب وجوده - ويسوع الذي يدعى المسيح هو بداءة الخليقة - نبع الخليقة - علة وجود الخليقة وسببها وواجب الوجود، الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.

وفيه يقول الكتاب المقدس: «من قدم أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى. كرداء تغيرهن - فتتغير وأنت هو وسنوك لن تنتهي» (مزمور 102: 25-27).

وقد قال عن نفسه، ولا يعلو كلامه ذرة من الشك كما قد تبرهن لنا، ومن يقول هذا القول إلا الله وحده: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، أنا هو الأول والآخر، أنا هو الحي، وكنت ميتاً، وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين ولي مفاتيح الهاوية والموت» (رؤيا 22: 13 و1: 18).

وبذلك: «يفتح وليس من يغلق ويغلق وليس من يفتح» (رؤيا 3: 8). لقد استطاع أن يقول هذا لأنّ: «مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2). هذا الذي كان من البدء. ومن كان من البدء إلا الله وحده؟!

لماذا أتى يسوع إلى الأرض؟

إنّ السؤال الذي يواجهنا هو ليس القول: هل أتى يسوع إلى الأرض؟ ولكن لماذا أتى؟

إنّ الإنسان الكافر الذي ينكر وجود الله لا يقدر أن ينكر أنّ يسوعَ واحداً فقط عاش ومات وقام على الأرض قبل ألفي سنة، فهناك براهين كثيرة تؤكد أنّ المسيح عاش في أرض فلسطين حيث راح يعمل الصالحات إلى أن صُلب ودُفن وقام من الأموات.

ومما لا شك فيه أنّ الأسباب التي دعت المسيح إلى المجيء إلى الأرض كانت أسباباً هامة بحيث اقتضت مثل تلك التضحية، ونحن نقرأ في رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي : «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذا وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (فيلبي 2: 5-8).

فما هي الأهمية المتعلقة بخير وسعادة الإنسان التي دعت المسيح وهو كائن سماوي إلى النزول من السماء ليأتي إلى الأرض ويقاسي العذاب وآلام الموت؟ونحن إذا ما أردنا أن نجيب على هذا السؤال إجابة صحيحة، يجب علينا أن نستمع إلى ما قاله يسوع نفسه بهذا الصدد.

نقرأ في إنجيل يوحنا قول يسوع التالي: «لأنّي قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني» (يوحنا 6: 38). وفي إنجيل يوحنا أيضاً الأصحاح التاسع والعدد الرابع نرى كيف أنّ يسوع نزل من السماء إلى الأرض حيث أصبح من دم ولحم وعاش بين الناس لكي يعمل مشيئة الله الآب.

إنّ مجيء المسيح إلى الأرض كان جزءاً من الخطة التي وضعها الله ليتم خلاص الناس (عبرانيين 10: 7). كما أنّ البحث الأساسي الذي يدور حوله الكتاب المقدس هو سقوط الإنسان وفداؤه. فصفحات التاريخ التي تنطوي عليها التوراة، تحدثنا عن العناية التي أولاها الله لشؤون البشر، وكيفية إرسال ابنه الوحيد إلى العالم بولادته المعجزية من امرأة، والنزاع العنيف بين ثمرة تلك المرأة والحية. خطة الفداء هذه ظلت «سراً لدى الله حتى أكملها بواسطة المسيح، وكشفها للناس بالروح القدس» (أفسس 3: 9و10).

كان الله هو المبدع العظيم الذي وضع التصميم لخلاص الإنسان. (أفسس 3: 8 و9) فعندما خلق الله الإنسان قال إنّ خليقته كانت صالحة، (تكوين 1: 31) ولكنّها تمرّدت وثارت على سلطته وفضلت خدمة الشيطان، وهنا قال الله للحية: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تكوين 3: 15). وعلى هذا فإنّ دراسة التوراة تكشف لنا نيّة الله الدائمة لفداء الإنسان، فقد خلّص نوحاً وأفراد أسرته من ذلك العالم الشرير (تكوين 7: 1)، ثم ذلك الوعد الذي أعطاه لإبراهيم بأن تتبارك ذريته، وأخيراً ما كان يظهره كل نبي من أنبياء العهد القديم من نوايا الله الحسنة نحو البشر حتى ذلك اليوم الذي أتى فيه يسوع إلى الأرض ليخلص الإنسان من خطاياه.

إنّ العهد القديم مليء بالنبوّات المتعلقة بمجيء المسيح، فقد علّم تلاميذه أنّه أتى ليتمّم الأشياء التي تنبّأ بها الأنبياء عنه. فاسمعوا ما يقول المسيح في إنجيل متّى: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل» (متّى 5: 17). كذلك فإنّ بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس قال إنّ موت المسيح ودفنه ومن ثم قيامته كانت جميعها حسب الكتب (1 كورنثوس 15: 1-4).

لقد تحدثت الكتب عن مجيء المسيح وحياته واسمه وعمله وعن الموت الذي سيقاسيه، ولو كان الناس يعرفون التوراة والكتب حقاً لكانوا عرفوه حين أتى. ولكن، أليس هذا هو واقع الحال اليوم؟

إنّ الكتاب المقدس يعلمنا أنّ أولئك الذين يعرفون الله يعرفون ما هو الحق وما هو الباطل (يوحنا 6: 4).

المسيح جاء ليشهد للحق

جاء يسوع إلى العالم ليشهد لحقائق الله الأبدية (يوحنا 18: 37). وقد ولد في هذا العالم لينشئ مملكة روحية، الأمر الذي أتمّه وتثبّت في الحقائق الإلهية المسجلة في الكتاب المقدس، لذلك فإنّ كل إنسان يستمع إلى تلك الحقائق ويحبها فإنه أيضاً يطيع الله. فبالحق وحده يستطيع المسيح أن يؤثر في عقول البشر.

كان الإنسان يعيش في الظلام مهملاً وصايا الله ومتبعاً تعاليم الناس وعقائد الشيوخ (متّى 15: 9)، وهكذا فقد كان من المساوئ الكبرى للإنسان على مر العصور أنه كان يضع أحكاماً من عنده ليبرر تصرفاته، غير أنّه لم يعط مطلقاً الحق في تنظيم شؤون عبادته لله حسب أوامره. فالعبادة يجب أن تكون كما أمر الله وليس كما يعتقده الناس من حق أو باطل، صالح أم طالح. ومهما كان الإنسان مخلصاً في عبادته التي وضعها هو وفي اتّباعه تعاليم البشر، فإنّ ذلك لن يجديه نفعاً لأنّ المسيح نفسه قال إنها تكون مجرد عبث لا خير فيه.

قال يسوع: «وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يوحنا 8: 32). من هذا نرى أنّ الحق الآتي من الله فقط هو ما يحرر الإنسان من خطاياه، وكما جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: أنّه ما من إنسان متحرر من الخطيئة إلا الذي أطاع من القلب صورة التعليم الصحيح الذي أعطاه المسيح للناس (رومية 6: 17).

ومما يجدر ذكره أنّ عبودية الخطيئة هي أكبر قوة مدمرة في العالم وأنّ التحرر من تلك العبودية هو من أعظم النعم التي يمكن أن توهب للإنسان.

المسيح جاء ليجلب النور الروحي

جاء المسيح بوصفه نوراً ليبدّد الظلمات الروحية السائدة في العالم (يوحنا 12: 46). فلقد كان الناس يقومون بواجباتهم اليومية غير مبالين بالله وبوصاياه. وكانوا يظنون أنهم في مأمن إذا هم لم يرتكبوا الخطايا مثل الزنا والقتل وظلم الآخرين والتسلط عليهم. ولكن يسوع جاء إلى العالم ليقنع أبناء الخطيئة بالبر والتقوى، ومن خلال هذا النور أمكن الناسَ أن يعرفوا خطاياهم كما أمكنهم معرفة علاج الله الشافي من هذه الخطايا، لأنه كما أنّ الشمس ونورها واضحان وضروريان لهذا العالم كذلك فإنّ يسوع هو واضح وضروري للعالم الروحي والأبدي.

لقد نزل يسوع من السماء وأتى إلى الأرض ليرجع الناس من سلطان الشيطان إلى الله (أعمال 26: 18). وعلّم في إنجيل يوحنا: أنّه لا يمكن أن يأتي أي إنسان إلى الله ما لم يسمع ويتعلم أولاً من الآب (يوحنا 6: 44و45)، كما أنّ المسيح في رسالته الشخصية على الأرض بشّر بالتوبة وباقتراب ملكوت السموات (متّى 4: 17) وأوصى تلاميذه بكرازة الإنجيل وبتعميد من آمنوا لغفران خطاياهم (مرقس 16: 16 وأعمال 2: 28). لذا فإنّ كل شخص سمع وآمن بالحقائق المتعلقة بموت المسيح ودفنه وقيامته، وأطاع وصاياه، خلص من سلطان الشيطان وأُرجع إلى الله، ذلك أنّه استنار وأُعتق من مملكة الظلام لينتقل إلى مملكة ابن الله (كولوسي 1: 13).

إنّ مجيء المسيح إلى الأرض قد مكّن الناس من أن يستنيروا (يوحنا 12: 46). فالعالم لم يعرف الله بالحكمة، ذلك أنّ يسوع هو الطريق وأنّ مجيئه فتح سبيلاً جديداً وحيوياً إلى السماء. ونحن نقرأ في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس: «وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تيموثاوس 1: 10)، وفي إنجيل يوحنا نجد أنّ المسيح اشترى وأوجد طريقاً للبشر (يوحنا 16: 5)، كما أنّه وعد بإعطاء الحياة الأبدية إلى كل من يسمع صوته ويتبعه (يوحنا 10: 27و28).

المسيح جاء ليعطي الإنسان حياة أفضل وأوفر

جاء المسيح ليتمكّن كل الناس من أن يعيشوا حياة أفضل وأوفر (يوحنا 10: 10). حياة أفضل وأوفر بالنعم الروحية التي تتكون منها الحياة الأبدية، وأعطاهم الوافر من النعم والسلام والمحبة والحياة والخلاص. كما أنّه ترك لنا مثلاً نحتذي به ونتبعه في حياتنا (1 بطرس 2: 21)، وقد حدثنا الرسول بطرس كيف أنّ المسيح أرانا السبيل المستقيم وعلّمنا كيف يجب أن نعيش. فواجبنا نحن أن نتقيّد بخُطى المسيح تماماً كما يفعل الطفل عندما يحاول جاهداً أن يتمثل بأبيه بأن ينتعل نعليه ويتتبع خطواته واحدة واحدة. فالمسيح أرانا كيف يمكننا أن نستغل حياتنا هذه ونستفيد منها أكثر وأكثر فيما لو اتّعظنا به واقتدينا به. ونحن كلما زاد اجتهادنا في عمل مشيئة الله، كلّما أغدق علينا من نعمه، وكلما ازدادت محبّتنا للآخرين ازداد حبّهم لنا، ولو أننا اتّبعنا هذه القاعدة البسيطة لاستطعنا أن نقوي حياتنا الحاضرة وأن نرث الحياة الأبدية أيضاً.

المسيح جاء ليكمّل ناموس العهد القديم وليعطي ناموس العهد الجديد

إنّ موت يسوع على الصليب قد أكمل ناموس العهد القديم (رومية 10: 4) كذلك فإنّه أزال ذلك الناموس وأبطل مفعوله في اللحظة التي سُمّر فيها على الصليب (كولوسي 2: 14). فحينما تمّ صلب يسوع المسيح أُعفي الإنسان من التزاماته تجاه الناموس القديم الذي لم تعد إطاعته تجدي أي نفع وأي بركة.

ولو أنّ المسيح لم يأتِ إلى الأرض لما كان هناك عهد جديد، وظلّ العهد القديم ساري المفعول على بني إسرائيل، لأنّه أُعطي فقط لهم في الوقت الذي ظلّت فيه الشعوب الأخرى غريبة عنه لا أمل لها ولا إله (تثنية 5: 2و3 وأفسس 2: 12). وبالرغم من أنّ بني إسرائيل كان لهم ذلك الناموس القديم فإنّه لم يكن هناك غفران للخطايا (عبرانيين 10: 1-4). ففي اليوم العاشر من الشهر السابع من كل سنة كانت تُعاد إلى الأذهان كل الخطايا المرتكبة في العام السابق وتُحضر الذبائح إلى الكاهن الذي كان بدوره يقدمها كفارة عن تلك الخطايا (لاويين 16: 29 و15: 1). وكما سبق وذكرنا أنّه لو لم يأت المسيح لظلّ ناموس العهد القديم قائماً على بني إسرائيل ولبقيت الأمم الأخرى بدون إله لا أمل لها في هذه الحياة.

لم يعد الإنسان مُلزماً بأحكام ناموس العهد القديم الذي كان بمثابة مدرسة يتعلم فيها بنو إسرائيل ويتهيأون لمجيء المسيح (غلاطية 3: 24 و25). فبعد مجيء المسيح تبرّر اليهود وسائر الأمم بالإيمان بيسوع المسيح، ذلك الإيمان الناتج عن الاقتناع بالحقائق المتعلقة بحياة المسيح وموته ودفنه ومن ثم قيامته (يوحنا 20: 30و31).

لقد أصبح عهد يسوع المسيح ساري المفعول (عبرانيين 9: 15-17). لذلك كما أنّه من المستحيل لأي إنسان أن يعيش في ظل القانون المعمول به في الأردن مثلاً في نفس الوقت الذي يعيش فيه في ظل قوانين الولايات المتحدة، فهو كذلك لا يمكنه أن يعيش في ظل العهدين القديم والجديد. وكما ذكرنا فيما تقدم أنّ ناموس العهد القديم أُعطي لبني إسرائيل (تثنية 5: 2و3)، وأنّ العهد الجديد هو لكافة الأمم (مرقس 16: 15 و1 كورنثوس 12: 13)، لذلك فإنّه عندما يستمع شخص ما إلى الإنجيل ويتعلم من المسيح ويطيعه فإنّه يولد من جديد ويصبح فرداً من أفراد أسرة الله (يوحنا 3: 5). وإذا كان يستطيع تحقيق ذلك بواسطة ناموس العهد الجديد، فهل يتوجب عليه أن يسعى حثيثاً ليطلب الخلاص والتبرير عن طريق الرجوع إلى الناموس القديم؟ فبالمسيح وحده ينتفع الإنسان.

المسيح جاء ليفتدي الكنيسة ويشتريها

لقد اشترى المسيح بدمه تلك المؤسسة الروحية الوحيدة الموجودة في هذا العالم، ألا وهي الكنيسة (أعمال 20: 28)، ونحن إذا ما أردنا أن نشتري شيئاً ما، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أمرين هامين: الأول منهما حاجتنا لما نريد ابتياعه أي مشتراه والثاني الثمن الذي سندفعه لشراء ذلك الشيء، وبناءً على هذا المنطق فإنّه لو لم تكن هناك حاجة إلى الكنيسة ولو أنها لم تكن ضرورية لخلاص البشر لما قاسى المسيح عذاب الموت من أجلها، ولما دفع دمه وبذل نفسه وحياته ثمناً لها (أفسس 2: 25). ما كان ليدفع لشراء الكنيسة مثل هذا الثمن العظيم لو لم يكن للكنيسة تلك الأهمية الكبرى التي علقها عليها.

إنّ كلمة كنيسة مشتقة أصلاً من كلمة «أكليزياً» اليونانية ومعناها «المدعوون» من أبناء الأرض. والكنيسة تضم كل المدعوين بالإنجيل والمخلّصين (2 تسالونيكي 2: 14). وأما سواهم فهو ضائع في هذه الدنيا.

ولو أنّ المسيح لم يأت إلى العالم لما كانت هناك كنيسة ولما كانت هناك ديانة مسيحية ولبقي الإنسان تائهاً في ظلمات الخطايا والضلال.

المسيح جاء ليُخلّص الضالين

لقد وعد الله بني إسرائيل أنّه سيأتي وقت يقطع فيه عهداً جديداً، وهذا العهد يعكس وعد الله بأنّه سيغفر خطايا الناس ولا يذكرها (إرميا 31: 31-34). وتحقيقاً لذلك نقرأ في إنجيل متّى أنّه عندما خاطب ملاك الله يوسف الذي كان على وشك الاقتران بمريم قال له: «فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنّه يخلص شعبه من خطاياهم» (متّى 1: 21). وعندما بدأ يسوع مهمّته قال: «لأنّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك» (لوقا 19: 10). وقال أيضاً: «لأنّه لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم» (يوحنا 3: 17). ومن هذا نفهم أنّ العالم كان تائهاً في الخطايا وأن الله أرسل ابنه ليوجد طريقاً يستطيع الإنسان بواسطتها أن يخلص. ولو أنّ يسوع لم يأت إلى العالم لظل الإنسان غارقاً في خطاياه وضائعاً للأبد (رومية 3: 23). ليس هناك أيّ فرق بين يهودي وأممي، غني أو فقير مثقف أم غير مثقف لأن الجميع أخطأوا أمام الله وعلى هذه الخطايا أن تُغفر وتُغسل إن أراد الإنسان أن يسكن في السماء حيث لن يدخل أي شيء دنس (رؤيا 21: 27).

لقد بانت ووضحت نعمة الله ومحبته للإنسان بشخص يسوع المسيح (تيطس 2: 11). الذي جلب له الخلاص وأصبح به الطريق مفتوحاً أمام الجميع ولهم الخيار في القبول أم الرفض. وفتح يسوع الباب وأشار بوضوح إلى الطريق داعياً الجميع للعودة إلى الله لينعموا ببركاته الوافرة. فيسوع حقاً هو الأمل الوحيد للإنسان وهو عطية الله له (2 كورنثوس 9: 15). كذلك فقد أصبح الخلاص في متناول جميع الناس، ولكن البعض لا يعلمون بوجوده بينما ينبذه آخرون. فالذين ينبذون المسيح ويرفضون إطاعته تُقفل أمامهم كل السبل لغفران خطاياهم وتزول كل آمالهم بالعيش في الجنة وبذلك يكون المسيح الذي أرسله الله إلى الأرض ليتألم ويموت من أجلهم قد تألم ومات عبثاً ودون جدوى.

يسوع موجود في السماء، وهو الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا 14: 6)، ونحن إن أردنا أن نتبع يسوع يجب علينا أن نصغي إليه ونسلك الطريق الذي رسمه لنا فهو يحذرنا بقوله: «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يوحنا 8: 24).

هل تؤمن أنّ يسوع هو المسيح ابن الله الحي؟ إذا كنت تؤمن بذلك فإنّك تكون قد ابتدأت في اللحاق به، ولكن الإيمان وحده، لن يحقق أي شيء وبه فقط لن يتبرر أي إنسان (يعقوب 2: 24). فاستمع إلى يسوع وهو يكمل إرشاداته لك قائلاً: «كلا أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لوقا 13: 3)، والتوبة هي أن تعدل عن نهج حياتك وأن تلتفت لعبادة الله وخدمته. فهل تريد أن تخدم الله؟ إن كان هذا ما تريد فيجب عليك أن تعترف وتجاهر به (متّى 10: 32) وأن تعتمد لغفران خطاياك وغسلها (أعمال 2: 16 و38)، وبعد ذلك فقط يضمك الله إلى كنيسته (اعمال 2: 47). لقد وعد يسوع أن يأتي ثانية ليأخذ الذين يحبونه ويطيعونه إلى السماء (يوحنا 14: 1-3). وهو ما زال يدعو كل الذين يؤمنون به إلى قبول البركات التي هيّأها لهم.

يسوع المسيح هو الحل الوحيد

يمكن اعتبار ديانات العالم مجموعة من المحاولات الهادفة إلى توفير أجوبة عن الأسئلة الأساسية: من أنا؟، من أين جئت؟، إلى أين أنا ذاهب؟، لماذا؟... وهكذا دواليك. لما فكر بوذا مثلاً في الوجود البشري صعقه على الأخص شمول الألم وارتأى أنّ في وسعنا الإفلات من الألم بسلوك سبيل وسط: ألاّ نكون مفرطين في الانضباط، وألاّ نكون عديمي الانضباط، ألاّ نضحك كثيراً وألاّ نغرق في سيول من الدموع. ولنأخذ مثلاً الأجوبة التي قدّمها كارل ماركس لحل مشكلات الحياة الناشئة من نظام الطبقات: «فإن تخلّصنا من طبقية المجتمع، يبدأ الظلم عندئذ بالزوال تدريجياً».أمّا في المسيحية، فالأجوبة عن الأسئلة الأساسية تأتينا من طريق إعلان الله لذاته عموماً في الكتاب المقدس وخصوصاً في يسوع المسيح.

والإسم «يسوع» بحد ذاته مهم بسبب معناه: «الرب يخلص» (متّى 1: 21). وهذا الاسم يفترض مسبقاً وضعاً يحتاج الناس لأن يخلصوا منه، ويدل على أنّ لدى الله سبيلاً للخلاص. كذلك لقب يسوع «المسيح»، وهي الترجمة العربية للّفظة العبرية «مسيّا» ومعناها «الممسوح». وبحسب الفكر العبري، كان الشخص يُمسح بالزيت (الدهن) علامة على أنّه مدعو إلى مهمة خاصة. وكان الملوك يُمسحون، شأنهم شأن الكهنة والأنبياء أيضاً. ويبدو مرجحاً بالنسبة إلى يسوع أنّ عمله قد جعله يحمل الصفات الثلاث: فهو النبي والكاهن والملك معاً.

لما قدّم يسوع المسيح للذين كانوا يسمعون له أجوبته عن الأسئلة الأساسية، قدمها بطريقة جديدة كلياً. فبوذا تفحص الحياة وتأمل غوامضها ثم عرض ما طلع به من حل، غير أنه أبقى الله خارج نظامه. أما بالنسبة إلى يسوع المسيح، فالأمر مختلف كلياً، إذ قد صرّح المسيح بأنّه جاء من لدن الله وأنّه هو الله.

المسيح في التاريخ

أليس من المستغرب أنّه من اللازم لنا أن نبدأ بحوثنا في الإعلان المسيحي بالتحقق من أنّ المسيح نفسه كان في الواقع حقيقة تاريخية - لا مجرد شخص خيالي خرافي؟ ولكننا قد صادفنا هذا الرأي الغريب عند قوم من الذين اتفق لهم أن قرأوا كتب الملحدين دون غيرها من كتب العلم الحديث، والذين يصدقون كل ما يقرأون، من غير بحث تاريخي أو استقراء منطقي. ومع أنّ الوثائق الموجودة عن سيرة المسيح وفيرة جداً - والجانب المتعلق منها بالأسبوع الأخير من حياته، يزيد وفرة على أيّ نوع أو عدد من الوثائق المتعلقة بأي أسبوع آخر في التاريخ القديم - إلا أنّه - على ما يظهر - لا بد من وجود قوم ينكرون كل ما يجهلون ويجحدون بكل ما لا يتفق وفلسفتهم.

فهل كان المسيح إذن شخصاً تاريخياً ذا لحم ودم، قد عاش بين الناس في عالم الحقيقة والواقع، أو كان مجرد مثل أعلى اخترعته مخيلة المسيحيين الأولين كأساس لدينهم ومصدر لوحي خاطرهم؟ هل توجد وثائق كتابية معاصرة تبرهن صدق حقيقته التاريخية، أو هل نعتمد على مجرد أحاديث شفوية؟ ثم ما هي هذه الوثائق وما الثقة التي تعيرها إياها أساليب النقد والبحث الحديث؟وجواباً على هذا نقول: إنّ الوثائق الكتابية التي بلغتنا هي وفيرة وقديمة. وأهم هذه الوثائق هي الأربع البشائر: متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، وعدة رسائل كتبها زعماء الكنيسة الأولى لجماعات من المؤمنين - كما هي الآن موجودة في العهد الجديد - مع آثار أخرى مخلّفة لنا من المسيحيين الأولين. وربّ سائل: هل من وثائق أخرى غير العهد الجديد تبرهن على حقيقته التاريخية، بما لا يمكن اتهامها بالتغرّض والتحيّز؟ وجواباً على ذلك نقول: إنّ وثائق أخرى قد حُفظت لدينا من كُتّاب الرومان الوثنيين في ذلك العصر، وقد جاء في كتاباتهم ذكر المسيح. فلنبحث في هذه الوثائق بشيء من التفصيل.

شهادة الأخصام

منذ ختام العصر الأول للميلاد - على وجه التقريب - نجد كُتّاب الرومان يذكرون المسيحيين كجماعة مألوفة مشهورة في كثير من أنحاء الإمبراطورية. ومن أقدم هذه الإشارات إلى شهادة المسيحيّة وإلى موقف الحكومة نحوها، ما دوّنه بليني الأصغر - وقد كان حاكماً رومانياً على بيثينيا - في إحدى رسائله المشهورة التي بعث بها إلى الامبراطور تراجان حوالي سنة 114 ميلادية. وهذه الوثيقة تشهد للمسيحية واتساعها في هذا التاريخ القديم - ولا سبيل إلى دحضها - لأنها كتبت كإشارة رسمية بقلم شخص لا مصلحة ذاتية له في الأمر. فكتب أنّه قد استجوب كثيرين من المسيحيين وعاقبهم. أما بعض الذين اتهموا بالمسيحية فإنهم: «أنكروا أنهم كانوا مسيحيين وصلوا للآلهة طوعاً لأمري، مع سجودهم لتمثالك... وفوق ذلك فإنهم شتموا المسيح. ولقد قيل إنّ المسيحيين الحقيقيين لا يمكن إجبارهم على أن يعملوا شيئاً من هذه». ثم قال: «إنّ المسيحيين - على ما يظهر - كانوا يقسمون ألا يسرقوا ولا ينهبوا ولا يزنوا أو يخالفوا وعودهم أو ينكروا وديعة سُلّمت إليهم». ويذكر أيضاً أنّ: «كثيرين من مختلف السن والمرتبة والجنس انضموا إليهم، لأنّ عدوى هذا المذهب لم تكن قد تغلغلت في المدن وحدها، بل سرت أيضاً إلى القرى والريف». إلا أنه اقتنع أنه يمكن استئصاله بعد زمن قصير. لكنّ التاريخ قد كذب زعمه هذا.

وكان تاسيتوس المؤرخ المشهور لذلك العصر يشهد أيضاً لاتساع المسيحية فيما كتب عن اضطهاد المسيحيين في أثناء حكم نيرون، إذ قال في مؤلفه التاريخي: «المسيح الذي تُسموا باسمه قد كابد قصاص الموت في أثناء حكم طيباريوس قيصر، على يدي والٍ من ولاتنا اسمه بيلاطس البنطي». ونجد أيضاً قوانين رسمية ومهاجمات من كتاب وثنيين آخرين من ذلك العصر، مما يدل حتماً على صدق هذه الحقائق. وبديهي أنّه لم يكن من داعٍ لذكرها لو لم تكن حقائق وثيقة لا يأتيها الشك من إحدى نواحيها.

وثائق المسيحيين أنفسهم

ومهما يكن من الأمر، فإننا بطبيعة الحال نرتكن فعلاً في درس تفاصيل سيرة المسيح إلى وثائق المسيحيين أنفسهم، لأنّ الأخصام لم يهتموا قط بها. أما المسيحيون الأولون، فإنهم لم يكتبوا شيئاً في الغالب قبل صعود المسيح إلى السماء، بل إنّ كل التعاليم التي قدموها للمتنصرين الأولين - الذين لم يتمتعوا بسماع أقوال المسيح نفسه ورؤية أعماله - كانت شفوية كما جرت العادة في بلاد الشرق حيث تقوى الذاكرة إلى حد عجيب، ولا سيما قبل اختراع الطباعة. على أنهم لجأوا بعد زمن قصير جداً إلى آثار كتابية. أمّا هذه الآثار فإنها تحتوي على رسائل مبعوثة من طرف قادة الكنيسة إلى جماعات من المؤمنين، ومواعظ ألقاها هؤلاء القادة ثم دوّنها أحدهم، ومقتطفات من شرح العقائد المسيحية مؤلفة لمساعدة المتنصرين، وأسفار تاريخية عن سيرة المسيح والرسل، ومؤلفات تدافع عن المسيحية تجاه مهاجمات الأخصام. وقد بلغتنا كتلة وافرة من هذه الآثار، من إكلمندس وأغناطيوس اللذين كتبا قبل سنة 120 ميلادية، ومن بوليكاربوس المتوفّى في سنة 155 ب.م. ومن بابياس ويوستنيان الشهيد ومن تاتيان وأوريجانوس وترتليانوس وأوغسطينوس وغيرهم من آباء الكنيسة الأولين. أما هذه الآثار فمع أنها ذات قيمة كبرى، من أوجه كثيرة، إلا أنّ أهميتها العظيمة في هذا الصدد هي أنها تؤكد عن طريق إشاراتها واقتباساتها قدم عهد تلك البشائر والرسائل التي نسب إليها المسيحيون الأولون سلطة خاصة ممتازة، والتي يبقى نفوذها إلى اليوم في سطور العهد الجديد.

لنلتفت الآن إلى هذه الوثائق الممتازة. إنها تنقسم إلى قسمين بوجه عام: الرسائل والأسفار التاريخية. وقد قبلت معظمها من زمن باكر جداً كأسفار مقدسة حفظها القوم ونقلوها باحترام دقيق - حتى أنه قيل بالنسبة إلى العهد الجديد: لم يبلغنا كتاب قديم آخر نال نصيباً من العناية مثلما نال هذا الكتاب في وفرة النسخ - إذ قد عثر المنقبون حتى الآن على أكثر من خمسمئة نسخة خطية. ولذلك يمكننا أن نتناول هذه السجلات واثقين في أنّ لدينا أحسن مصدر للتاريخ القديم ألا وهو وثائق كتابية قد حفظت في حرز حريز.

(1) الرسائل

منذ نشأة المسيحية شرع قادة الكنيسة مسوقين بالروح القدس يكتبون رسائل إلى جماعات من المؤمنين في شتى بلاد العالم القديم. وقد جُمعت منها إحدى وعشرون بين دفتي كتاب سُمّي «العهد الجديد». ومما يزيد قيمة شهادتها أنّ مؤلفيها لم يخطر لبالهم قط أنها سوف تحفظ للعصور المقبلة بل دوّنوها كسجل طبيعي، لا صناعة فيه، لأفكارهم وظروفهم. فهي لذلك تقدم شهادة لا ريب فيها لعقائد المسيحيين الأولين.

وقد تتبع المؤرخون بعض هذه الرسائل إلى ما قبل سنة 57 ميلادية. فقد أجمع العلماء على أنّ مؤلف الرسالة إلى أهل غلاطية مثلاً هو بولس بلا منازع كما أنّ بعضاً منهم يقررون أنها كتبت سنة 49 ميلادية. ثم يُرجعون الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي إلى سنة 51 ميلادية ويُجمعون على أنّ الرسائل إلى رومية وإلى أهل كورنثوس قد كتبها بولس قبل سنة 57 ميلادية. أمّا الرسائل التي كتبها في أثناء سجنه إلى أهل أفسس وفيلبي وكولوسي وفليمون فتاريخها في الغالب حول سنة 60 ميلادية.

أمّا الرسالة إلى العبرانيين والتي لا نعرف بالتحقيق اسم مؤلفها، ورسائل يهوذا ويعقوب وبطرس ويوحنا - ما عدا رسالة بطرس الثانية حسبما يرتئي البعض - فكلّها أيضاً يمكن إسنادها إلى هذا التاريخ القديم.

وخلاصة القول إنّ جانباً عظيماً من هذه الرسائل يرجع إلى ما حول خمس وعشرين سنة فقط بعد موت المسيح، كما أنّ السواد الأعظم منها كتب في مدة لا تتجاوز الخمس والثلاثين سنة بعد موته. ولذلك لم يتسع الوقت البتة لنمو الخرافات بل تقوم هذه الرسائل شهادة قاطعة لحقائق المسيحية وعقائدها في القرن الأول.

ولكن ما هي شهادة هذه الرسائل؟ إنّ معظم محتوياتها يتضمن شرحاً للعقائد المسيحية وتطبيقاً لهذه العقائد لمشكلات الحياة اليومية. وهي أيضاً تحوي إشارات عديدة إلى المسيح التاريخي وإلى موته وقيامته بنوع خاص. إنّ الإيمان القوي الذي يلمع في كل جزء من هذه الرسائل أساسه ومصدره شخص المسيح.

لنقرأ أولاً ما قاله يوحنا في رسالته مشيراً إلى المسيح: «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإنّ الحياة أُظهرت. وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به» (1يوحنا 1: 1-3). ثم ما قاله بولس في إحدى رسائله: «فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أنّ المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنّه دُفن وأنّه قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1كورنثوس 15: 3و4). وقد وُجد في هذه الكلمات إشارات تؤدي بهم إلى الفكر أنها عبارة عن شهادة رسمية للإيمان المسيحي، كان المؤمنون يقرونها قبل سنة 55 ميلادية. أما موت المسيح وصلبه - مع ما ينطويان عليه من تعليم عميق - فإننا نجده مذكوراً مراراً عديدة في الرسائل كلها، مثلاً في غلاطية 1: 3 و4، 2: 20، 3: 13، 6: 14، وفي 1 تسالونيكي 4: 14، وفي 1 كورنثوس 1: 13و17، 2: 2 و8، 10: 16، 11: 23 و26، وفي 2 كورنثوس 4: 10، 5: 14 و21، وفي رومية 3: 25، 4: 25، 5: 6 و8 و10، 6: 3 و5 و10، 8: 32، 14: 15، وفي أفسس 1: 7، وفي فيلبي 2: 8 ، 3: 10، وفي كولوسي 1: 14 و22، 2: 12 و14، وفي عبرانيين 2: 9 و14، 6: 6، 9: 14 و26 و28، 10: 10 و19 و29، 12: 2 ،13: 12، وفي 1 بطرس 3: 18، وفي 1 يوحنا 1: 7، 4: 10 - وما إلى ذلك مما يكفينا معه أن نقتبس ما ورد في 1 بطرس 2: 21 حيث نقرأ: «فإنّ المسيح أيضاً تألّم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته. الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر. الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً. وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل. الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجلدته شفيتم».

أما عن قيامة المسيح من بين الأموات، فإننا نقرأ في 1كورنثوس 14: 15 هذه الكلمات: «إن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم. ونوجد نحن أيضاً شهود زور لله لأننا شهدنا من جهة الله أنّه أقام المسيح». وذُكرت القيامة أيضاً في 1تسالونيكي 4: 14 وفي 1 كورنثوس 6: 12، 15: 20 و23، وفي 2كورنثوس 4: 14، وفي رومية 1: 4، 4: 24 و25، 6: 5 و9، 10: 9، وفي فيلبي 3: 10، وفي كولوسي 2: 12، 3: 10، وفي عبرانيين 13: 20. أما في 1 بطرس 1: 3 فإننا نقرأ: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات».

ومهما يكن فما من شك في أنّ الحقائق المسيحية الأساسية، بل موت المسيح الكفاري وقيامته الظافرة بنوع خاص، هي أُسس تعليم الكنيسة منذ بادىء الأمر. ويتضح من دراستنا لسفر أعمال الرسل أنّ بطرس وغيره أخذوا يكرزون بهذه الحقائق بعد صعود المسيح بعشرة أيام فقط. فأين الفرصة في هذه الفترة القصيرة لنمو الخرافات؟

(2) الوثائق التاريخية - البشائر

ندقق الآن في وثائق تزيد قيمة هذه الرسائل نفسها، وهي ترجع إلى نفس هذا التاريخ القديم. لأنّ التعليم الشفوي الذي أُلقي على المتنصرين الأولين سرعان ما استبدل بذكريات مكتوبة دوّنها الرسل أو زملاؤهم لتسجيل الحقائق. ومع أنّه يجب علينا أن نبحث في الثقة التي يمكننا أن نوجهها إلى هذه البشائر، إلا أنّه يجدر بنا أن نبدأ باقتباس مقدمة إحداها دلالة على الدقة والأمانة اللتين استعان بهما المؤلف في تأليفه: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا - كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة - رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي... لتعرف صحة الكلام الذي عُلمت به» (لوقا 1: 1-4).

إنّ السّيَر على نوعين. النوع الأول يقدّم لنا مجرد قائمة من الحقائق في تتابعها الزمني، على أنّ النوع الثاني نجد فيه الحقائق مرتبة منظمة، لكي تمثل لنا صورة متناسقة لأخلاق الشخص الموصوف. والبشائر من هذا النوع. ولأنّه من المحال على أيّ مؤلف فرد أن يقدم للعالم صورة كاملة لشخصية مثل شخصية المسيح لذا قام أربعة مؤلفين مختلفين بهذه المهمة بوصف هذه الشخصية مسوقين بالروح القدس. أما هذه البشائر الأربع فكل واحدة منها صحيحة صادقة ولكنها في ذاتها ليست كاملة، بل مكملة لغيرها - ولا يلزمنا أن نعتبر هذه الحقيقة نقصاً فيها بل قوة وفخراً. ما الثقة إذن التي توجهها أساليب النقد والبحث الحديث إلى هذه الوثائق؟ فمع أنّ الكثيرين - ومن ضمنهم مؤلف هذا الكتيب - يؤمنون كل الإيمان بوحي هذه الأسفار، إلا أننا لا نفترض بالضرورة وجود هذا الإيمان في كافة قرائنا الكرام، بل على عكس ذلك نفترض جدلاً باعتبار هذه الأسفار كأنها مخطوطات بشرية لها نفس الثقة التي لغيرها من المخطوطات القديمة - لا أكثر ولا أقل. على أنّه من المستغرب أنّ قوماً من الذين يدّعون لأنفسهم قوة الإدراك وفضيلة الإنصاف، يتوهمون أنّ الافتراض جدلاً بعدم وحي هذه الأسفار، يجرّدها حتماً من قيمتها التاريخية كوثائق قديمة، ويتركها بلا قيمة إلا في دائرة الروح والأخلاق.

أما هذا الرأي فهو غاية في السخف - لأنّ العلم الحقيقي يحتم علينا أن ننظر إلى هذه الأسفار على الأقل بنفس نظرة الاحترام التي نعيرها سائر المخطوطات التاريخية القديمة. ولكن - أهي قديمة حقاً وما الدلالة على ذلك؟ فلا مجال لنا أن نعالج هذه النقطة هنا بما تستحق من التفصيل، دون أن نصرّح بأنّ المؤرخين - سواء أكانوا من المحافظين أم من العصريين، أي ممن قد ترقى إليهم تهمة التحيّز أو ممن لا تصل إليهم هذه التهمة - إنّ هؤلاء المؤرخين بعد ما أجمعوا في السنين الماضية على أنّ البشائر الثلاث الأولى يمكن إسنادها إلى ما قبل سنة 80 ميلادية على الأكثر، قد أظهروا في هذه الأيام الأخيرة ميلاً شديداً إلى إسنادها تاريخياً إلى ما بين سنة 45 و46 ميلادية. وكذلك أيضاً قد أجمع معظم المؤرخين على أنّ البشارة الرابعة - وهي الأخيرة بين البشائر في ترتيب الزمن - كتبت قبل ختام القرن الأول للميلاد. ورب سائل: وما فائدة هذا الإجماع، وليس بين أيدينا الآن نسخة خطية واحدة ترجع بالذات إلى القرن الآنف الذكر؟

ويكفينا إجابة على هذا أن نقول إنّ المنقبين لا يزالون يعثرون في هذه الأيام على نسخ قديمة جداً منتشرة في شتى البلاد، مما يدل حتماً على قدم تاريخ المخطوطات الأصلية، بل وفوق ذلك - لدينا - وكما رأينا - مخطوطات وافرة دوّنها آباء الكنيسة، بل أيضاً بعض الخارجين عليها - في ختام القرن الأول وفي القرن الثاني للميلاد. وقد نقلوا فيها نصوصاً عديدة واقتباسات مهمة من هذه الوثائق، مما يدل كل الدلالة على وجود هذه البشائر، بل على انتشارها والثقة بها، في هذا التاريخ القديم. وتتفق شهادة هذه البشائر تمام الاتفاق وشهادة الرسائل التي ترجع معظمها أيضاً إلى منتصف القرن الأول كما سلفت الإشارة.

وخلاصة القول إنّ البشائر هي - على الأقل - وثائق تاريخية، كتبها كُتّاب عاينوا الحوادث الموصوفة بعيونهم، وهي تحوي تعاليم ألقيت في نفس البيئة والزمان اللذين كانوا يعيشون فيهما. ومع أننا أسلفنا أننا لا نفترض جدلاً وحي هذه الأسفار بالنسبة للبعض وعصمتها بالضرورة من الخطأ الإنساني في بعض التفصيلات، إلا أننا نقرر مؤكدين أنّه لا مناص لنا من قبول محتوياتها العامة كأخبار صحيحة لحقائق وقعت بالفعل.

ويكفينا في هذا الصدد أن ننقل أقوال فريزر أستاذ علم الدين المقارن في جامعة كامبردج - رجل لا يمكن أن يتهم بالتحيّز للمسيحية - ونحن نورد هذا الاقتباس نموذجاً لموقف غيره ممن يبحثون في هذه الحقائق بحثاً علمياً بحتاً. قال: «إنّ نظريتي تفترض وجوداً تاريخياً حقيقياً ليسوع الناصري كمعلم عظيم في الأمور الدينية والخلقية، وهو بعد أن أسّس المسيحية، صُلب في أورشليم أثناء حكم بيلاطس البنطي. إنّ شهادة البشائر مؤيدة بشهادة تاسيتوس وبليني الأصغر - وهما من أخصام المسيحية - هذه الشهادة تكفي - على ما يظهر، كل الكفاية لإثبات هذه الحقائق لدى كل باحث غير متحيز... أما الشكوك التي ألقاها البعض على وجود يسوع المسيح تاريخياً فإنها لا تستحق في نظري كبير اهتمام. وبغض النظر عن الدلائل الإيجابية في كتب التاريخ والأحاديث، فإنه لا سبيل إلى تعليل أصل إصلاح عظيم في الدين والأخلاق من غير وجود شخص مصلح عظيم». أضف إلى هذا ما قاله مورسون أستاذ التاريخ في جامعة نيوكاسل: «إنني أعتقد اعتقاداً شخصياً على أنّ لنا في هذه الوثائق... علماً يقيناً ليسوع المسيح».

هذا إذا لم يزعم أحد أنها كتابات اخترعها مؤلفوها اختراعاً لأسباب شخصية، فإذا كان هناك من يذهب هذا المذهب فليتأمل في الأفكار الآتية:

  1. قدّم هؤلاء المؤلفون أسمى تعليم في المسائل الأخلاقية لم يكن للعالم القديم سابق علم به، بل قدّموا تعليماً لم ينافسه تعليم آخر إلى اليوم. هذا التعليم هو الحكم الأعلى لكل تعليم آخر أو عليه. فهل من المعقول إذن أنّ قوماً كهؤلاء، هذه أخلاقهم، قد تآمروا جميعاً على تضليل العالم بأكاذيب مختلقة؟ ولا ننسى أن نضيف إلى هذا أنّ هذه البشائر والرسائل لم تكن تقوم على شهادة المؤلفين وحدهم، بل على شهادة الكنيسة المسيحية الأولى بأسرها لأن هذه الأسفار لم تكن مقبولة عند الكنيسة كلها فحسب، بل هي في الواقع سجل لعقائد العامة، صدرت في وقت كان فيه الكثيرون من معايني الحوداث وسامعي الأقوال، عائشين، شاهدين.

  2. لم يوفّق أي مؤلّف من أشهر المؤلفين للخيالات والروايات في تاريخ الأدب إلى ابتكار شخصية تعادل شخصية المسيح أو تشابهها. فهل مما يقبله العقل السليم أن يوفق أربعة مؤلفين مغمورين في قرن واحد هذا التوفيق العجيب دون أن يتركوا مؤلفات أخرى لنبوغهم؟ وإذا اعترض معترض قائلاً بأنّ الشخصية واحدة، ولذا لا بد أن يكون المبتكر الأصلي واحداً أيضاً - وأنّ الآخرين نقلوا عنه نقلاً - فكيف نجد إذن تبايناً ظاهرياً سطحياً بين بعض الأخبار الواردة في البشائر المختلفة؟ بل لماذا نجد أنّ كل واحد من المؤلفين رسم صورة مميزة للسيرة المجيدة، مكملة للصورة التي رسمها زملاؤه؟ - وهذا مما لا سبيل إلى حدوثه إلا إذا كانوا قد دوّنوا ذكرياتهم الفردية لشخص حقيقي قد عاشروه وعرفوه. نعم - إنّ شخصية المسيح لا سبيل إلى ابتكارها من خيالات البشر.

  3. نعلم من التاريخ أنّ هؤلاء القوم - من المؤلفين أنفسهم ومن الذين كُتبت هذه الأسفار برضاهم وبسلطتهم والذين علموا حتماً بصحتها أو بطلانها - قد تغيروا والتغيّر كله بعد قيامة المسيح من بين الأموات (حسب ادعائهم). فبدلاً من أن يكونوا جماعة من الجبناء الخائفين أصبحوا فجأة أبطالاً شجعاناً، قلبوا العالم القديم بتعليمهم وتبشيرهم وحياتهم. فهل يتغير الناس هذا التغيّر بسبب كذب بشروا به وأودعوه كتباً بعد أن أودعوه صدورهم؟ ألا يعلمنا علم النفس أنّ لا شيء يحمل الإنسان على الجبن مثل الكذب المخفي في باطنه؟ إنّه يتّضح لنا وضوحاً لا ريب فيه أنّ المسيحيين الأولين آمنوا كل الايمان بصدق هذه الحقائق.

  4. لم يتركنا التاريخ بلا دليل على ما يكون البشيرون قد ابتكروه - لو اعتمدوا على الإطلاق على خيالاتهم أو خرافات الناس، دون تدوين الحقائق الواقعية، لأنّه قد بلغتنا مجموعة من بشائر مؤلفة في القرن الثاني والثالث والرابع - مثل بشارة بطرس وبشارة يعقوب (من القرن الثاني غالباً) وبشارة توما وبشارة نيقوديموس (من القرن الثالث والرابع غالباً). ومع أنّ مؤلفي هذه المخطوطات كانوا - على ما يظهر - مؤمنين مخلصين، إلا أنّ البون شاسع بين مؤلفاتهم وبين البشائر الأربع الحقيقية. أما هذا الاختلاف الواضح بين العجائب والحوادث الغريبة التي يصفها هؤلاء المؤلفون في القرون التي نمت فيها الخرافات حول شخص المسيح، وبين حكمة البشائر الأربع التي لا تذكر معجزة ما لا تتفق وأخلاق المسيح وشخصيته - فإنّ هذا يقدم برهاناً قاطعاً على أنّ البشيرين الحقيقيين دوّنوا الحقائق التي رأوها والأقوال التي سمعوها - دون أيّ اعتماد على إطلاق العنان لمخيلاتهم، أو أي التفات إلى الخرافات التي لم يتّسع الوقت لنموها بعد.

  5. إذا لم يكن من المصدق أنّ هذه الأسفار مجرد أكاذيب مختلقة فليس من المحتمل البتة أن تكون هي خرافات أو أوهاماً كتبها مؤلفوها واثقين بصدقها. وكيف تكون خرافات وقد رأينا أنّ معظمها كُتب فيما بين خمس عشرة وخمس وثلاثين سنة بعد موت المسيح، ولم يزل السواد الأعظم من معاصريهم موجودين شاهدين؟

هناك أقوال تدّعي بأنّ هذه الوثائق أصابها التحريف والتبديل ولكن لا سبيل إلى إثبات هذا الأمر تاريخياً او عقلياً. جوابنا هو عكس ذلك، لأنّ هذا الادّعاء لا يقرّه أي باحث مدقق. ويكفينا هنا دلالة على ذلك ما يأتي: من يدّعي بتحريف هذه الوثائق، عليه أن يبيّن متى حدث هذا التحريف ومن أحدثه.

  • أيدّعي أحد أنّ المسيحيين الأولين قد تآمروا على تحريف إنجيلهم المقدس؟ فما الذي دعاهم إلى ذلك؟ وكيف يتفق هذا الخبث القبيح وأخلاقهم وتصرفاتهم وشهادة حياتهم - كما رأينا؟ أفما كان يمكن على أقل تقدير أن يرتفع صوت واحد - من المسيحيين أو من أعدائهم متهماً إياهم بذلك؟ ولماذا لم تخطر هذه التهمة على بال أحد حتى جاء الإسلام في القرن السادس للميلاد؟

  • فهل يفترض جدلاً أنّ هذا التحريف وقع فيما بين عصر المسيحيين الأولين وصدر الإسلام - في تلك العصور التي فقدت فيها المسيحية الرسمية بعض قوتها؟ ولكن كيف كان ذلك؟ لقد كانت نسخ عديدة من هذه الوثائق منتشرة انتشاراً واسعاً بين شتى الكنائس في كل أنحاء العالم القديم. فمن هو الذي سافر يا ترى هنا وهناك عاملاً على تحريفها كلها؟ ولماذا لم يقاومه أحد - وهو يتناول الكتب المقدسة بالتحريف الذي ينطوي على تزوير فاحش؟ إننا لم نر قط ما يدل على شيء من هذا بين سطور التاريخ. بل فضلاً عن ذلك فلو حصل هذا التحريف في أي عصر قبل صدر الإسلام فكيف يتأنّى لمسلم أن يعتقد بأنّ نبيّه الكريم اعترف بكتاب مزيّف وصادق على ما قد أصابه من تحريف؟

  • فهل يُحتمل إذن أن يكون قد وقع هذا التحريف بعد عصر نبي الإسلام؟ وكيف ذلك ونحن نعلم أنّ علماء الآثار قد عثروا على مخطوطات عدة لهذه الوثائق ترجع إلى العصور التي سبقت الإسلام - مخطوطات تتفق كل الاتفاق والوثائق التي بين أيدينا اليوم؟ وفوق ذلك، فقد رأينا أنّ بعض آباء الكنيسة الأولى، الذين عاشوا سنين طويلة قبل الإسلام، قد تركوا آثاراً خطية تتضمن نصوصاً عديدة واقتباسات دقيقة من هذه الوثائق تبرهن صحة الموجودة الآن.

وخلاصة القول إنّه قد تبيّن لنا مما قدمنا من أدلة أنّ البشائر الموجودة اليوم هي هي تلك التي كانت موجودة في أيام نبي الإسلام والتي شهد هو لصدقها، بل هي هي التي تتبّع المؤرخون تاريخها إلى القرن الأول للميلاد. ومع أنها ما زالت منذ ذلك الزمان القديم إلى يومنا الحاضر منتشرة انتشاراً في كل أنحاء العالم، منقولة بخطوط كُتّاب عديدين في عصور متتابعة، إلا أنها قد بقيت سليمة من الاختلاف أو التباين - فيما عدا مسائل خطية بسيطة ونقط نقلية لا قيمة لها.

وإذا كانت هذه الأسفار فعلاً وحقاً وثائق تاريخية معاصرة للحوادث التي سجلتها، مما لا يرقى إليها الشك، فعلينا أن نتناولها بأيدي الاحترام وأن ننظر إليها بعين التقدير والاعتبار. ومع أننا لا نفترض جدلاً عصمتها الإعجازية من الأخطاء من كتابتها وحفظها، لذا لا نؤسس حجتنا على تفصيلات دقيقة بل على شهادتها العامة - إلا أننا نعتقد أنّ هذه الشهادة الإجمالية تدل دلالة لا غموض فيها على عقائد المسيحية الأساسية، وبخاصة على تلك الشخصية الفريدة التي تتجلى أمامنا في هذه الصفحات على اعتبار أنها الكل في الكل. وإذا أراد أحد - بلا مبرر في اعتقادنا - ألا يقبل إلا ما قد دوّنه اثنان أو ثلاثة من البشيرين، فلا يجديه هذا الحذر شيئاً - لأن الحقائق الأساسية المتعلقة بشخصية المسيح التاريخية - من ولادته وتعليمه ومعجزاته وقيامته وصعوده - تبقى ثابتة راسخة رسوخ الجبل الأشم.

حقائق عن حياة يسوع العامة:

  1. نتعلم إذن أنّ يسوع المسيح ولد في بيت لحم في أيام الاكتتاب الذي أجرته الإمبراطورية الرومانية في أثناء حكم أوغسطس قيصر «إذ كان كيرينيوس والي سورية». فوُلد المسيح من مريم العذراء التي حبلت به فيها من الروح القدس. ظنّ الناس أنّ الطفل المسيح كان قد ولد كغيره من والدين بشريين، مع أنّ مريم ويوسف وإليصابات وغيرهم علموا يقيناً بولادته الإعجازية العذراوية.

    أما هذه الحقيقة العجيبة فلا نريد بحثها الآن، لأننا نعتقد أنّ الله دبّر ظروف ولادته هذه لكي لا يعلم الناس حقيقة ميلاده إلا بعد أن يكونوا قد آمنوا به من دافع حياته ومماته وقيامته. فبعد أن يعترف الإنسان بألوهية المسيح - مسوقاً إلى هذا الاعتراف بما تعلّمه عن شخصية المسيح الفريدة، وقوته الفائقة وما إلى ذلك - لا تبقى لديه صعوبة في الاعتراف بولادته من عذراء، بل على عكس ذلك يشعر الإنسان بأنّ شخصاً فريداً في حياته وفي موته وفي قيامته ليس بأمر غريب أن يكون فريداً في ولادته أيضاً.

  2. منذ أن سيطر الرومان على الأمة اليهودية في سنة 63 ق.م. لم يزل القطر مضطرباً. أما في سنة 6 للميلاد فقد عزل الرومان أرخيلاوس الملك اليهودي ونظموا البلاد اليهودية كإقليم روماني. فثارت الأمة اليهودية حالاً، ومع أنّ الرومان قمعوا هذه الثورة قمعاً عنيفاً، إلا أنّ اليهود كبتوا غيظهم وحنقهم نحو الحكومة الأجنبية المستعمرة.

    في هذه الظروف يظهر يوحنا المعمدان فجأة على مسرح التاريخ. شخص خشن، خرج من صحراء عبر الأردن منادياً بكلمات نارية ملتهبة. لم يكن يوحنا يدعو الناس إلى الثورة ضد الحكومة بل إلى التوبة إلى الله، لم يدعهم إلى محاربة الرومان بل إلى مصارعة خطاياهم هم: «فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا» (لوقا 3: 3). «حينئذ خرج إليه أورشليم وكلُّ اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن. واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم» (متّى 3: 5 و6).

    فلم يكرز يوحنا بالتوبة فقط بل باقتراب ملكوت السموات أيضاً. وصرح تصريحاً لا لبس فيه ولا إبهام بأنّه ليس هو المسيا المنتظر الذي كانت الأمة اليهودية ترقب ظهوره، بل كان مجرد صوت صارخ في البرية «أعدوا طريق الرب» - تمهيداً لشخص أعظم منه سيأتي عن قريب.

    أمّا المسيح فإنه عاش في الناصرة يعمل في حانوت نجار نحو ثلاثين سنة بعد ولادته - إلى أن بدأ يوحنا المعمدان خدمته وكرازته «في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس البنطي والياً على اليهودية وهيرودس رئيس ربع على الجليل... أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا» (لوقا 3: 1 و2). فهل يا ترى بمثل هذه الكلمات الدقيقة التاريخية تدوّن الخرافات؟

    لما سكت صوت يوحنا لم تزل الحركة الروحية نشطة قوية إذ قد بدأ المسيح خدمته الجهرية فأدرك الشعب أنه قد جاء من هو أعظم من يوحنا - أليس هو الذي تنبأ يوحنا عنه - الذي كان يمهد له الطريق؟.

  3. جاء المسيح يكرز، بل كان يعتبر الكرازة مهمته العظمى في الشهور الباكرة في خدمته. «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1: 14 و15). فكان يطوف بالبلاد والقرى واحدة واحدة قائلاً لتلاميذه: «لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضاً لأني لهذا خرجت» (مرقس 1: 38). ولقد تعوّد اليهود في ذلك العصر - عندما كانوا يجتمعون في مجامعهم لعبادة الله - أن يطلبوا إلى أي زائر أو ضيف أن يلقي درساً عليهم فانتهز المسيح هذه الفرصة «وكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل» (مرقس 1: 39). وفي أوقات أخرى كان يكرز في الخلاء تحت قبة السماء، تارة على جبل، وتارة أخرى على شاطىء البحر، آونة في الحقول الخضراء، وآونة أخرى في الصحراء.

    فكان يعلم كل من أتى إليه متكلماً بعبارات سهلة وكلمات مألوفة، متخذاً أمثاله من مناظر الريف العادية التي كان يشير إليها أثناء تعليمه.

  4. جاء المسيح يشفي - لأنّ شفاء المرضى أيضاً كان جانباً عظيماً من مهمته. وكم من مرات بُهت الناس من معجزاته أكثر من كلماته. ولم تكن غايته مجرد إثارة إعجاب الناس وولائهم، بل مساعدة المساكين، وتعزية الحزانى، وتقوية إيمان تلاميذه. فامتلأت أيامه من مطاليب المصابين والمتألمين «ولما صار المساء إذ غربت الشمس قدموا إليه جميع السقماء والمجانين. وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب فشفى كثيرين» (مرقس 1: 32-34).

    وإذا أردنا صورة حقيقية لهذا الجانب من خدمة المسيح، لا بد لنا من أن نتذكر الآلام والجهالة والقذارة والأمراض السائدة في ذلك الوقت، وأن نتصور هذا التلهف الملتهب الذي أظهره الشعب في طلب شفائه - هذا التلهف الذي ذاب أمامه قلبه الحساس.

  5. كان المسيح معبود الجماهير. وكم من مرة نقرأ أنّ الجموع «زحمته»، والجميع «طلبوه»، «وكانوا يأتون إليه من كل ناحية». وفي شدة حماسهم له حاولوا يوماً جعله ملكاً عليهم، غير أنّه اختفى عنهم لأنّه لم يرغب في عرش أرضي. أما رؤساء الشعب وقادة الدين فسرعان ما ظهرت مقاومتهم له. فاتهموه بالتجديف حيناً، لأنّه ادعى بمساواته لله، وبمعاشرة الخطاة حيناً آخر، لأنّه اختلط بالأشرار والمنبوذين قاصداً تخليصهم. آونة اتهموه بالتغافل عن تقاليد الشيوخ، وأخرى ألصقوا به تهمة مخالفة شريعة الله - وفي النهاية طلبوا قتله.

  6. في الشهور الأخيرة من خدمته صرف جانباً كبيراً من وقته في تعليم التلاميذ الذين اختارهم ليساعدوه في خدمته ويواظبوا عليها بعد صعوده إلى السماء. فلقبهم أحياناً «بتلاميذ» مشيراً إلى العلاقة الكائنة بينهم وبينه، «ورسلا» أحياناً أخرى مشيراً إلى مهمتهم التي كلفهم القيام بها في العالم. فمن هذا الزمن نرى جانبين من تعليمه يتميز أحدهما عن الآخر: تعليمه العام للجماهير، وتعليمه الخاص لتلاميذه.

  7. أما الرؤساء وقادة الدين، فقد أمعنوا في مقاومتهم له. ولم يخامر المسيح شيء من الشك فيما سينتهي إليه الأمر، بل تنبأ مراراً عن موته وقيامته. فعلم تلاميذه أنّ موته المقبل لا يكون موت الشهيد فحسب، بل تاج حياته الذي جاء لأجل تكميله من مجد السماء. فلم يكن هذا الموت كرهاً منه، بل طوعاً واختياراً، كما صرّح المسيح قائلاً: «لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً، ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي» (يوحنا 10: 17 و18).

وأخيراً اغتنم اليهود الفرصة التي كانوا ينتظرونها زمناً طويلاً وقبضوا عليه في غيبة جمهور الشعب. وفي محاكمتهم إياه ظلماً أمام رئيس الكهنة لم يقدر شهود الزور أن يثبتوا عليه شيئاً مما ادعوه عليه. وبالرغم من كل ذلك حكموا عليه أخيراً بناءً على اعترافه بأنّه هو المسيح. وكذلك أيضاً لم يجد هيرودس ولا بيلاطس نقصاً فيه، بل اعترف الوالي ببراءته. أما اليهود فقد هدّدوا بيلاطس حتى أسلم المسيح للصلب.وإنه لمن المدهش لنا - أن ينكر موت المسيح - مع أنّ هذه الحقيقة هي تاج المسيحية.

ومهما يكن من الأمر، فليس من سبيل إلى إثبات هذا التفسير الغريب من التاريخ أو المنطق - بل إنّ موت المسيح لمن أثبت الحقائق. لأن تفسير «شُبّه لهم» بأنّ شخصاً آخر مات محل المسيح لا يعلل لنا واحداً من الحقائق الآتية:

  1. أكّد التلاميذ موت المسيح لا من جسده الميت فحسب، بل أيضاً من جسده المقام ومن شخصه الكريم بعد قيامته من بين الأموات، ولقد شهد المسيح المقام نفسه لحقيقة موته (فكيف نسلم بأنّ التلاميذ خدعوا العالم هذا الخداع الفاحش، بل إنّ المسيح هو نفسه خداع؟) إنّ هذا مما لا يقبله العقل.

  2. لم يكن موت المسيح حادثاً عرضياً طرأ عليه، بل كان غاية حياته المنشودة. لأنه لم يتنبأ عن موته عدة مرات فحسب، بل صرح بأن هذا الموت كان تسليماً منه طوعاً واختياراً - لا كرهاً واضطراراً (يوحنا 10).

  3. لم يكن موت المسيح غاية حياته المنشودة وكفى، بل كان أيضاً نتيجة طبيعية لتعليمه، إذ علم المسيح دائماً أنّ الموت هو باب الحياة، وأنّ المحبة العظمى لهي تسليم الإنسان نفسه في سبيل تخليص الآخرين. وفي هذه النقطة من تعليمه - كما في سائر الأمور - قدم المسيح في نفسه القدوة العظمى لتعليمه.

    علّم المسيح تلاميذه أنّ علة موته هي تخليصهم من خطاياهم وفداؤهم من قصاص ذنوبهم. «هذا هو دمي... الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متّى 26: 28). وعلى هذا الأساس أمرهم بتناول العشاء الرباني ذكراً لموته، وحفظت الكنيسة المسيحية هذه الفريضة في كل العصور وبدأت بحفظها مباشرة بعد صعود المسيح إلى السماء. فما معنى هذه الفريضة لو لم يكن المسيح قد مات بالذات؟

  4. تتفق أسفار الكتاب المقدس كلها بدءًا من أسفار موسى الخمسة ونبوات الأنبياء المختلفين ومزامير داود في العهد القديم، ومن البشائر والرسائل في العهد الجديد، على أنّ هذه الحقيقة هي أساس إعلان الله للناس. فعلم الله بني إسرائيل أن يقدموا ذبائح كفارية فدائية عن خطاياهم ولا قيمة لدم هذه الذبائح إلا الرمز لذبيحة المسيح المقبلة. إنّ الكتاب وحدة إعجازية تشهد بصوت واحد لصدق هذه الحقيقة.

  5. هذه الحقيقة يؤيدها اختبار المسيحيين في كل العصور - إذ وجدوا في المخلص الذي مات لأجلهم غفراناً وفداءً - بل وجدوا فيه أيضاً مخلصاً حياً مقاماً من الأموات يقدر أن ينقذهم من قوة الخطية ويمكنهم من أن يتحرروا من عبودية الذنب والإثم إلى مجد أبناء الله.

  6. وغاية الأمر أنّ إنكار موت المسيح لا يتفق والحقائق التاريخية والاختبارية معاً. وكل من يرغب في الحق ويتأمل في الحقائق كلها - لا شك في أنه يهتدي إلى نور اليقين بموت السيد المسيح.

  7. أما التلاميذ فقد كانوا منسحقي القلوب إزاء موته. وبدا لهم أنّ الحياة قد فقدت معناها وقيمتها. لم يتذكروا قط ما قاله لهم المسيح عن موته وقيامته بل أصبحوا جماعة من الجبناء الخائفين اليائسين. فأشرقت الشمس في اليوم الثالث بعد صلبه وإذا بأخبار غريبة تتوافد إلى التلاميذ: - ها قد أصبح قبر المسيح فارغاً... بعض النساء ذكرن أنّ الملاك أخبرهن بأنّه قد قام... وادعى بعض التلاميذ بأنهم قد رأوه هو بالذات. صدّق البعض هذه الأخبار، وكذبها البعض الآخر. على أنهم لم يظلوا زمناً طويلاً في غياهب الشك والريب، لأنه لم يتوان عن أن يظهر لهم جميعاً، فأراهم أيضاً نفسه حيّاً ببراهين كثيرة بعدما تألم - «وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله» (أعمال 1: 3).

  8. وفي ختام الأربعين يوماً صعد إلى السماء وظهر ملاكان للتلاميذ الذين كانوا واقفين شاخصين إلى السماء وأخبراهم بأنّ: «يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» (أعمال 1: 11) فرجع التلاميذ إلى أورشليم. وبعد أن امتلأوا من الروح القدس بدأوا خدمتهم بقوة فعالة. كانوا يكرزون بموت المسيح الكفاري وقيامته المنتصرة، وانضم إليهم جمهور كبير. وهكذا أُسّست الكنيسة المسيحية.

يكفينا هنا أن نقول: إذا اعترض معترض على هذه السيرة التي بحثنا في يقينيتها العامة، قائلاً إنّه توجد أديان أخرى تدعي بولادة أبطالها من عذراء، بل بموت أبطالها ورجوعهم إلى قيد الحياة، فنجيب عليه بقولنا إنّ هؤلاء الأبطال إنما هم أشخاص خياليون خرافيون لم يظهروا قط في عالم الواقع، أو هم أشخاص قد عاشوا في زمن لا ذكر له في التاريخ مطلقاً. فمن ذا الذي قد رأى أوزيريس وتعرف بمثراس مثلا؟ وما أعظم الفرق بين هؤلاء الأبطال جميعاً وبين المسيح الذي عاش في زمن معين وشهد له معاصروه شهادة قابلة لكل أساليب النقد العلمي الحديث!

المسيح الفريد

قد رأينا في الفصل السابق أنّ المسيح كان - بلا جدال - شخصاً عاش فعلاً بين الناس كحقيقة تاريخية. كما أننا رأينا أيضاً أنّ الوثائق التي نرتكن إليها في معرفتنا حقائق سيرته هي معاصرة له ولا شبهة فيها، بل أنّه لا سبيل إلى تعليلها إلا كسجلات موثوق بها لما رآه المؤلفون أنفسهم وسمعوه، أو لما تعلموه عن شهادة أصدقائهم. وقد رأينا أخيراً أنّ هذه الوثائق مملوءة بأمثال تعبر عن تعليمه وحكمته ومعجزاته وغير ذلك من الحوادث المختلفة التي تتمثل لنا فيها شخصيته تمام التمثل. وسنبحث في هذا الفصل عن الوجوه الرباعية للمسيح كحقيقة تاريخية: تعليمه الممتاز وحكمته الفائقة ومعجزاته العظيمة وشخصيته العجيبة، لكي نستعين بها في تكوين تقديرنا له، وفي جوابنا عن هذا السؤال القديم: ماذا تظنون في المسيح؟

(1) تعليم المسيح

كان المسيح معلماً فريداً كما اعترف بذلك سامعوه سيما في أول خدمته. فمتّى البشير يحدثنا عن ذلك بقوله: «لما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه. لأنّه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (متّى 7: 28). ويخبرنا البشير لوقا أيضاً أنّ الجميع كانوا «يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه» (لوقا 4: 22). ولم يكن معاصروه هم فقط الذين انفردوا في تقديرهم لتعليمه، بل شهدت أيضاً الأجيال المتتابعة هذه الشهادة نفسها. لأن الجميع - مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم، حتى الذين ينكرون ألوهيته - يشهدون بصوت واحد: بأنّ ذلك «النجار» الجليلي كان بلا نزاع أعظم معلم في الأمور الأدبية والأخلاقية أتى في تاريخ البشرية. ويكفينا في هذا الصدد أن نقتبس ما كتبه بيفرلي نيكولس، في مؤلفه الحديث، مشيراً إلى كلمات المسيح: «لا يمكننا أن نجد - في كل الأدب المعاصر - عبارة ما، فيها ظل من الجمال والحق، من الذاتية والعنصر الخالد، كالذي نجده في هذه العبارات». أما هذه الشهادة فإننا نجدها أيضاً عند جميع الذين يتشربون من تعليمه، وحتى عند الذين يقتربون منه قاصدين النقد والعدوان.

حقاً إنّ معلمين آخرين قد قاموا بنصيبهم المشكور في سبيل التهذيب الخلقي، ولكنهم يبدون كمن يتلمسون الطريق عن غير يقين أو توكيد. فيؤسسون آراءهم على أسس متزعزعة، ويخترعون فلسفات غير معتدلة، ويستنتجون مبادىء ذات قيمة نسبية فقط. أما المسيح فكان يتكلم بيقين وسلطان شهد لهما الجميع، حتى أننا نجد المعلمين الذين جاءوا بعده تباعاً لم يتجاوزوا تعاليمه قط، بل قصرت أفكارهم عن أن تسبر غور مبادئه. فقد أخذ العالم تعليمه - إن عمداً أو عفواً - قياساً عاماً يحكم به لكل تعليم آخر أو عليه. ويكفينا أن نقابل تعليمه بتعليم سقراط وسينكا ومرقس أوريليوس (الذين قد بلغت بهم الفلسفة الوثنية ذروتها) لكي ندرك أنّ الفرق ليس في الكمية بل في النوع، بل فهو فريد لا نظير له!

نقول بكل إجلال إنّ المسيح كان ثائراً في تعليمه، ولكنه كان فريداً في أسلوب ثورته. فقد طرح العادات القديمة جانباً، وكان شديد الوطأة على بعض تقاليد الشيوخ، فحسبه رؤساء الدين خطراً يهدد تعاليمهم لدرجة أنهم كانوا دائماً يحاولون إهلاكه. ولكن مع أنّه صرح بعدم تقديره أو اهتمامه بالتعاليم البشرية التي أُلحقت بشريعة موسى، إلا أنه كان يشير دائماً إلى تلك الشريعة نفسها باعتبارها صادرة من منشأ إلهي، وعلّم أتباعه أنه لم يأت لينقضها بل ليكملها. وليس ذلك فقط بل أظهر بغاية الوضوح مبادئها الخفية التي لم يكن يعلمها أنصارها الغيورون - لأنه حارب الرأي القائل بأنها كانت مجرد مجموعة لقواعد خارجية طقسية، بل طبقها بقوة خارقة على أفكارنا وحياتنا الباطنية. ومع أنّه تعرض لآثام المجتمع أشد التعرض، إلا أنّه علّم تلاميذه ألا يستعملوا العنف الجسدي لأغراض ذاتية، بل بالأحرى أن يتغلبوا بقوة أدبية وسلطان المحبة.

كشف المسيح عن قيمة الفرد وقرر احترام الشخصية الإنسانية. أما هذه الحقيقة فإنها أساس تعليمه عن العلاقات بين الجنسين. فالمرأة في نظره ليست أمَة ولا هي مملوكة، بل شخصية حرة، لها الاحترام والتقدير اللذان يجب أن يُنسبا لمثل هذه الشخصية. أما العالم القديم فلم يسبقه فيه أحد إلى معرفة هذه الحقيقة أو الاعتراف بها. بل إنّ تعليمه عن الأولاد يقوم على حقيقة قوله: «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار» (متّى 18: 10). وندّد أيضاً بالذين يعثرونهم أشد تنديد. وليس ذلك فقط بل إنّ هذه الحقيقة هي أساس معاملاته كلها مع الناس وتفسير موقفه تجاههم. لأنّه كان يدعو الناس ليتبعوه، ولكنه لم يجبرهم على ذلك، بل صارحهم بالصعوبات التي ستعترضهم، وأمرهم أن يحسبوا حساب النفقة.

كان تعليمه أيضاً مناسباً للجميع. فكان تارة عميقاً لدرجة أنّ أحكم الناس تحيّروا منه، وتارة بسيطاً إذ وجّه معظم تعليمه إلى البسطاء والأشخاص العاديين. وكان يتهلل بالروح أنّ الله أخفى أسراره عن الحكماء والفهماء وأعلنها للأطفال، إذ أنّ إدراك الحقائق الروحية لا يتوقف على مقدار التعليم العالي والثقافة العقلية، بل بالحري فالشرط الأساسي في ميدان المعرفة الروحية هو الإخلاص القلبي. ولذلك ومع أننا نعثر أحياناً على أعمق الألغاز في تعليم المسيح إلا أننا نجده في أغلب الظروف يعبر عن أعجب الأسرار بأحد تلك الأمثال الجميلة التي يتميز بها. وزيادة على ذلك فقد كان تعليمه للجميع في الدائرة الخلقية أيضاً - لأنه يتطلب من أتباعه أسمى مستوى سلوكٍ أدبي يتصوره الفكر - مستوى لم يحصل عليه تمام الحصول أحسن الناس وأقدسهم - ولكنه في الوقت نفسه يمد يديه ليقبل ويعزي - بل ليخلص ويقوي - المسكين والساقط والفاسق.

لنبحث الآن في بعض تعاليمه لنلمس سلطانه الفريد:

  1. موقفه إزاء الطهارة الخلقية والنظافة الطقسية - وما يشبه هذا في كثير من الوجوه - الإخلاص القلبي في الدين دون القيام بالطقوس الرسمية. فالعالم القديم كان يهتم بالنظافة الطقسية أضعاف اهتمامه بحياة الإنسان الخلقية. وحتى إلى اليوم أيضاً نجد معظم الطقوس في كل الديانات غير المسيحية تقوم على النظافة الطقسية، ولذلك فإنّ الغسل والوضوء وما إلى ذلك هي أمور ذات أهمية عظيمة بالنسبة لها. وقد عمّت هذه الفكرة وذاعت بين الناس حتى تسربت مع الأسف إلى بعض المذاهب المسيحية.. أما المسيح نفسه فقد قال: «اسمعوا مني كلكم وافهموا. ليس شيءٌ من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجّسه. لكنّ الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجّس الإنسان... أما تفهمون أنّ كلّ ما يدخل الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه؟ لأنّه لا يدخل إلى قلبه بل إلى الجوف ثم يخرج إلى الخلاء وذلك يطهّر كل الأطعمة... إنّ الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان. لأنّه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجّس الإنسان» (مرقس 7: 14-23). أما عن الإخلاص القلبي دون الطقوس الرسمية فقال: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات» (متّى 6: 1). «ومتى صلّيت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء... وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم. فإنهم يظنون أنّه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم، فلا تتشبهوا بهم» (متّى 6: 5-8). وكان هذا تعليم المسيح في كل مناسبة لأنه فضّل دائماً الحقيقة الروحية الباطنية على الصورة الطقسية الخارجية. ولم يقتصر هذا المبدأ على إخلاص الإنسان القلبي لله وحده، بل علّم المسيح أيضاً أنّ عبادة الله الحقيقية ليست بممكنة ما دامت علاقات العابد بإخوانه من البشر غير صالحة. «فإن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أنّ لأخيك شيئاً عليك. فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدّم قربانك» (متّى 5: 23 و24)، وإلا فالقيام بفرائض دينية لا يجدي نفعاً. فقد قال المسيح بلغة التأنيب الشديد: «احذروا من الكتبة.. الذين يأكلون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون الصلوات. هؤلاء يأخذون دينونة أعظم» (لوقا 20: 46 و47).

    علّم المسيح أنّ النظافة الطقسية ليست ذات شأن كبير وأوجب التدقيق في موضوع الطهارة الخلقية ولم يتساهل فيه قط. وبينما نرى سقراط «أعظم فلاسفة الإغريق» يداعب مومساً هاذراً معها عن حرفتها - إذا بالمسيح يجهر قائلاً: «من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم» (متّى 5: 28 و29). فكلمة الحب التي كانت في العالم القديم كلمة ملوثة، أصبحت في المسيحية تاج الفضائل. لأنّ المحبة الطاهرة في نظر المسيح هي قوة ترفع الإنسان وتطهره، غير أنها كانت في ذلك العصر في أفكار الرواقيين مرضاً نفسانياً، وهي في عرف الأبيقوريين كلمة مرادفة للتمتّع الذاتي. أما في المسيحية فالمحبة بين الزوجين تمثل اتّحاد الروح مع الله، والمحبة بصفة عامة هي واجب الإنسان نحو جميع الناس.

  2. موقف المسيح إزاء الغفران وموقف الإنسان إزاء أعدائه هو تعليم لا يقل غرابة من النقطة السابقة في عصره. لأنّ المسيح - كما رأينا آنفاً - عرّفنا قانون المحبة الكاملة الشاملة. غير أنّ العالم القديم قد أظهر إعجابه وولاءه بقاعدة أخرى بينها وبين هذه القاعدة هوّة سحيقة. ويتبين البون الشاسع بينهما من مقارنة ما كتب على قبر سلى - القائد الروماني العظيم: «لا صديق أعانني ولا عدو أضرني إلا ووفيت ديني مع ربح»، مع كلمات المسيح الفريدة: «سمعتم أنّه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متّى 5: 43 و44). أو: «إن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضاً يحبون الذين يحبونهم»(لوقا 6: 32).

  3. فلسفة المسيح في الحياة البشرية. كان الفلاسفة في ذلك العصر منقسمين إلى قسمين هما: الرواقيون والإبيقوريون، وكانت لكليهما فلسفة في الحياة البشرية متميزة عن غيرها. فالإبيقوريون قالوا: عش للذة... لأنّ اللذة هي الخير الأوحد. وليست الحياة إلا حياة الدنيا.. فتمتع بالحياة ما دمت حياً. وأما الرواقيون فقالوا: إنّ عمل الواجب - لا طلب اللذة - هو أساس الحياة. فقم بما وجب عليك طوعاً واختياراً - وإلا فإنك تجد نفسك تقوم به مجبراً وكرهاً. فليس الإنسان حراً فيما يعمل، بل هو يمشي في طريق مقدر من المهد إلى اللحد، الذي لا شيء وراءه. أما المسيح فقد تجاوز كلاً من هذين المذهبين كل التجاوز، إذ علّم الناس أنّ القبر ليس هو النهاية، بل بالحري هو المنفذ إلى حياة أفضل. وكما أنّ اللذة فانية بائدة، لا يمكن أن تكون غاية جديرة بالاحترام في حياة الإنسان، كذلك أيضاً لا يقتنع قلب الإنسان باستسلام الرواقي إلى القضاء والقدر. فالواجب فعلاً حق راسخ ولكن المسيح دعا الناس ليقوموا بما وجب عليهم طائعين مختارين، لأنّ المحبة تصيّر الواجب امتيازاً. ومع أنّ مطاليب المسيح من تلاميذه تبدو لأول وهلة كأنها قاسية صارمة كقساوة مطاليب الرواقيين أنفسهم، إلا أنها في الواقع تختلف عنها كل الاختلاف، لأنّ المسيحي يسعى في الطريق الصعب طوعاً واختياراً، رغبة منه في أن يتمتع بالمجد الروحي الذي يضيء كل الطريق، والذي سوف يتوج نهاية الجهاد تتويجاً. «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟» (متّى 16: 24-26). ومما يلاحظ أيضاً في هذا الصدد أنّ المسيح هنا (وفي كثير من تعاليمه الأخرى) سبق كل الناس إلى التصريح بأحسن مكتشفات علم النفس الحديث لأنّ هذا المبدأ الذي وضعه المسيح ما هو إلا مبدأ «التسامي» موضوعاً في صيغة إلهية ومصحوباً بالقوة اللازمة لتنفيذه. تلك القوة الإلهية الفائقة التي يعجز علم النفس عن إعطائها.

    وجرياً على هذا علّم المسيح التواضع حين أُعجب العالم بالكبرياء، وحتّم تفضيل الآخرين عندما مدح العالم روح الأثرة: «وأكبركم يكون خادماً لكم. فمن يرفع نفسه يتضع. ومن يضع نفسه يرتفع» (متّى 23: 11 و12). «الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات» (متّى 18: 3 و4).

  4. تعليم المسيح عن الله. كان العالم القديم - ما عدا إسرائيل - وثنياً، وكان الناس ينظرون إلى الآلهة كأنها أبطال تفوق الناس قوة ولكنها تشاطرهم حمقهم وتقصيرهم. أما اعتقاد اليهود في «يهوه» فقد علا عن ذلك الفكر علو السماء عن الأرض، لأنّ إعلانات الله عن طريق أنبياء اليهود كانت سامية جداً. ولكنّ هذا الإعلان نفسه يقصر كل القصور عن تعليم المسيح الفائق. علّم المسيح أنّ علاقة الله بالمؤمنين هي علاقة الأب الكامل بأولاده، الأب الذي يطلب دائماً خيرهم وسعادتهم. «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه» (متّى 7: 11). فهذا الآب السماوي يحبّهم حباً فائقاً، «أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم. وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة» (متّى 10: 29-31).

ومع أنّ الله أبٌ للمؤمنين وحدهم بكل ما في الكلمة من معنى - إلا أنّه ينظر إلى العالم كلّه بعين المحبة الشاملة الجامعة، لا فرق في ذلك بين شاكرين وناكرين أو محبين ومبغضين: «فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين» (متّى 5: 45). وقد أعدّ الخلاص والغفران لكل من يقبلهما: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16). ولم يُعدّ هذا الخلاص فحسب بل يريد أيضاً أن يقبله الجميع: «هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار» (متّى 18: 14). بل وأكثر من ذلك كله أنّه لا شيء يسرّه مثل توبة الخاطىء: «أقول لكم هكذا يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة» (لوقا 15: 7).

وكذلك قد سما تعليم المسيح عن الله عن كل حدود الجنس أو المكان، والطقوس أو الصورة. أما الفكر الوثني فقد ذهب إلى ضرورة تقرب الإنسان من الآلهة طبق طقوس معينة وفي معابد خاصة - وكانت طقوس عديدة في عبادة اليهود في الهيكل تؤدي إلى فكر شبيه بذلك من بعض الوجوه. أمّا المسيح فإنّه علّم قائلاً: «إنّه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.. حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يوحنا 4: 21-24).

وأخيراً جعل المسيح تعليمه عن طبيعة الله أساساً - جديداً فريداً - لتعليمه عن الخُلق والآداب. أما في الديانة اليهودية فمع أننا نجد تلميحات للإعلان الكامل المقبل، إلا أنّ أساس التعليم الخلقي، بل الداعي إلى الحياة الأدبية، كان مجرد أوامر معينة ونواهٍ خاصة. فيعتبر هذا الشيء صالحاً لأنّه أمر إلهي، كما أنّ ذلك الشيء حرام لأنّه مُنهىً عنه. لم يفهم الناس أيّ مبدأ أساسي شامل لهذه الأوامر والنواهي. وكذلك الحال إلى الآن في معظم الأديان غير المسيحية. أما المسيح فإنّه أقام مبدأً جديداً وباعثاً فريداً، إذ يعلمنا أننا أولاد الله وأنّه يجب علينا العيش كذلك، لا بل أن نجتهد كي نكون مثله تعالى ونحيا بحسب ما نعرفه عن طبيعته. علينا أن نحب أعداءنا لا لأنهم يستحقون ذلك، ولا لأنّه أمرنا بذلك فحسب، بل لأنّ هذا ما يفعله الله، إذ يشرق شمسه على الجميع على السواء. والفضل العملي في تعليم المسيح عظيمٌ واضحٌ، لأنّ الأمر قد يكون حملاً ثقيلاً، ولكنّ هذا المبدأ الجديد قوة حية. ولا يختلف هذا المبدأ عن كل الأديان الأخرى فحسب، بل يتجاوز أيضاً مذاهب الفلسفة الأخرى التي تؤسّس التعليم الخلقي على فكر غير راسخ مثل المنفعة أو «مصلحة السواد الأعظم». وربما لا يكون في الواقع من مصلحتنا المادية أن نحب أعداءنا دائماً، إنما هذا واجبنا كوننا أولاد الله ولأنّه هو أحبّ ويحب أعداءه: «وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم... لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات... فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (متّى 5: 44-48).

(2) حكمة المسيح ومعرفته

لم يُظهر سامعوه ومعاصروه إعجابهم بتعليمه الخلقي والروحي فقط ولكنهم أُعجبوا أيضاً بحكمته العملية ومعرفته الشاملة. أما هذه النقطة فهي ما يقصر دونها مراراً عديدة المفكرون والقديسون، الذين يظهرون أنفسهم أحياناً مجرد أطفال إزاء مشكلات الحياة اليومية. لم تحدثنا سطور التاريخ عن إنسان له علم شامل بالأشياء الماضية والحالية والمستقبلة وله خبرة بقراءة خفايا قلوب الناس مثل الشخص الذي نحن بصدده. ومع أنه كان على الدوام يشير إلى الطبيعة في وقت لم يفهم الناس الطبيعة فيه إلا فهماً بسيطاً، إلا أنه لم يخطىء أبداً في تعبيره. حقاً أنه يستعمل أحياناً عبارات متداولة بين الناس دون الإصطلاحات العلمية الدقيقة... ولكنه جاء ليشرح الأسرار الإلهية لأناس عاديين غير مبال بتفصيلات لا قيمة لها. ثم تنبأ عن موته وعن القيامة التي تليه بكثير من التفصيل قبل حدوثهما بشهور. وتنبأ أيضاً عن محاصرة أورشليم (وما تسببه من الضيق ومن خراب الهيكل). فأخبر تلاميذه بخيانة يهوذا وبإنكار بطرس قبل حدوثهما، كما أنه علم كل العلم بسريرة المرأة السامرية الملطخة، وبموت لعازر من غير أن يخبره أحد بذلك. زد على ذلك أنه كان يقرأ أفكار الناس الخفية، ويخبرنا يوحنا أنّ اليهود تعجبوا قائلين: «كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟» (يوحنا 7: 15).

وبينما كان أعداؤه دائماً ينصبون الحبائك للإيقاع به ويحاولون الاحتيال عليه ليمسكوه في جواب غير حكيم، ولكن دون جدوى، تمكّن المسيح دائماً من أن يلقي عليهم درساً روحياً ثميناً. فذات يوم اتّحد ضده حزبان سياسيان متناقضان - الوطنيون المتطرفون، وأنصار ولاية هيرودس الأجنبية الرومانية - واتفق الرؤساء على الكيد له اتفاقاً ماهراً. فاتّفق الرؤساء على أن يختفوا ويبعثوا بأتباعهم الشبان مخاصمين بعضهم بعضاً في الطريق حتى يعرضوا المشكلة عليه بغاية الاحترام: هل ندفع الضرائب الرومانية أم لا؟ فإذا أجاب بالإيجاب عرّض نفسه للعنة الشعب أو لقتله. وإذا أجاب جواباً سلبياً أوقع نفسه في قبضة الرومان. الإنسان الخائف يلجأ إلى الإعراض عن أن يجيب على هذا السؤال. ولكن المسيح لم يكتف بأن قدم جواباً جيداً بل تمكن أيضاً من تحويل الدفاع إلى هجوم، إذ أظهر لهم واجبهم نحو الله، ذلك الواجب الذي تغافلوا عنه: أروني معاملة الجزية... لمن هذه الصورة والكتابة؟ أمامهم ملامح قيصر القاسية وألقابه الرسمية. قد قبلتم معاملة قيصر، وعليه قد اعترفتم بحقه في الجزية. أوفوه حقه - وأوفوا الله أيضاً حقه (متّى 22: 15-22).

وفي مثل آخر علمهم درساً آخر عندما أحضر أمامه جمع من الفقهاء والعلماء والعظماء امرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل. فبناءً على شريعة موسى كان يجب أن تُرجم مثل هذه المرأة، ولكن هذا الحكم لم يطبق من زمن طويل، نظراً لاتجاه الرأي العام ولكثرة حدوث الجريمة.

أما المسيح فقد كان ينادي بمستوى خلقي أعلى من المستوى الذي نادى به موسى. فماذا يقول إذن؟ هل يناقض كلامه هو ويكذب الكتب المقدسة، أو يثير غضب الشعب بما يحسبونه قساوة وصرامة وفي الوقت نفسه يخالف القانون الروماني الذي حرّم على اليهود تنفيذ حكم الإعدام؟ يمكننا أن نتصور الفخ المنصوب أمامه. ولكنه علم ما بقلوبهم وأدرك أنهم لم يكونوا جماعة من أناس أطهار، متألمين مرتعبين من هذه الخطية الشنيعة، لأنّ أناساً من هذا النوع لا يجرون المرأة المسكينة أمامه علانية. فلننظر إذن الحكمة والرحمة والقوة التي سيطر بها على ضمائر الناس والتي بها حل هذه المشكلة. لم يرض أن يهين المرأة المسكينة أكثر وينظر إلى عارها، بل التفت كأنه لم ينظر أحداً حوله وكان يكتب بأصبعه على الأرض ما معناه على ما نظن: أيهما أقبح - خطية هذه المرأة الشنيعة أو موقف متّهميها المرائين الخبثاء؟ ولما استمروا يسألونه رغم سكوته، انتصب شاخصاً إليهم وقرأ أسرار قلوبهم، متّهمهم أمام محكمة ضمائرهم قائلاً: «من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر وانحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض» (يوحنا 8: 7 و8). وهذا ما جعل الشيخ الأكبر الذي يتصدّر الصف الأول من هؤلاء المتهمين يبطل صياحه ويصغر فجأة. فتسلل من بين زملائه وترك إقامة الدعوى لغيره، لكي لا يكتب المسيح عن خطاياه الشنيعة أكثر من ذلك. وهكذا تسلل الجميع واحداً واحداً إلا المرأة وحدها، لأنها لو لم تكن تائبة لكانت قد انطلقت أيضاً. ولكنها مكثت لأنها أرادت أن تسمع عما إذا كان هناك من أمل لها في الغفران. ولذا سُرّ المسيح أن يقول لها: «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً» (يوحنا 8: 11).

(3) معجزات المسيح

لم يتعجب معاصرو المسيح من كلماته وكفى، بل تعجبوا من أعماله أيضاً. ومهما كان تأثير تعليمه وجاذبيته لمن استطاع تقديره، فإنّ الوثائق لا تترك لنا مجالاً للشك في أنّ معجزاته التي شاع خبرها شيوعاً كانت تؤثر أشد التأثير في عامة الشعب. ومع أننا في نور التأمل الرزين قد نندفع إلى الرأي القائل بأنّ تعليمه كان أعجب من أية معجزة، إلا أنّه علينا أن نضع معجزاته أيضاً في محلها الحقيقي في سلسلة الدلائل على ذاته الفريدة.

وهنا تعترضنا مشكلة علينا أن نواجهها لأنه يوجد قوم يسلمون بالوثائق الموجودة كحقيقة تاريخية، غير أنهم يريدون تجريدها من العنصر الإعجازي. أما هذه المحاولة فهي مستحيلة - ومع أنه من الجائز لمن لا يسلم بوحي هذه الوثائق أن يشك في أية معجزة بمفردها - إلا أنه مما لا يقبله العقل السليم أن يجرد سيرة حياة المسيح عن المعجزات بجملتها من غير أن يعبث بالكل. فالزعم بأنّ التعليم الخلقي والأخبار الطبيعية العادية الواردة في البشائر هي تاريخية صادقة، وأما المعجزات فإنها خرافات قد أُلحقت بالنص الأصلي في القرون المتأخرة، إنما هو زعم باطل، لأنّ المعجزات تدخل في سياق التعليم، وقد نُسجت في نسيج باقي الحوادث بحيث أنّ هذا التعليم أو تلك الحوادث، إذا جُرّدت من العنصر الإعجازي، أصبحت بلا معنى. خذ مثلاً تعليم المسيح عن يوم السبت واغتياظ قادة اليهود منه. فقد نشأ كل هذا عن المعجزات التي أجراها المسيح في أيام السبت، إذ بدونها لا يبقى له سبب ولا مسوّغ. وكذلك أيضاً تلك التهمة التي ألصقها به رؤساء اليهود بقولهم إنه كان يخرج الشياطين بقوة رئيس الشياطين. فإنّ هذه تصبح بلا معنى وبلا قيمة إن لم يكن المسيح قد أخرج الشياطين بالفعل... وهلم جراً. بل إنّه لا سبيل إلى الشك في أنّ المعجزات كانت جزءاً من البشائر الأصلية المعاصرة، وأنّ حياة المسيح لن تفهم إلا على أساس التسليم بصحتها تاريخياً. ولم تكن هذه المعجزات مسلماً بها عند الكنيسة الأولى بأسرها فقط (إذ كان الكثير من أعضاء هذه الكنيسة معاينين للحوادث نفسها)، بل نجد أنّ أعداء المسيحية الأولين وحتى المرتدين عن العقائد السليمة لم يحاولوا إنكارها قط.

حقاً أنّ بعض المفكرين العصريين قد حاولوا فصل بعض المعجزات عن البعض الآخر، بمعنى أنهم يقبلون معجزات الشفاء بينما يرفضون قبول المعجزات التي تتضمن العنصر الإعجازي بالنسبة إلى قواعد الطبيعة والمادة. وسبب هذه المحاولة أنهم يريدون تفسير معجزات الشفاء بالإكتشافات الحديثة عن علاج الأمراض الجسمية بقوة العقل، ولذلك يحسبون المسيح أعظم علماء النفس وأسبقهم. ولكن هذا لا يكون معجزة عظيمة في ذاته فحسب، بل إنّ هذه النظرية لتعجز كل العجز عن تفسير الحقائق. لأنّ المعجزات التي يريد هؤلاء المخترعون أن يرفضوها، مثل إسكات الرياح والمشي على الماء وإطعام الخمسة آلاف وإقامة الموتى، هذه المعجزات لها الثقة نفسها والأسانيد عينها التي لمعجزات الشفاء، بل إنّ هذا التمييز هو بلا معنى أو قيمة.

ومما يجدر بنا ملاحظته أنّ معجزات المسيح تتفق كل الاتفاق مع تعليمه وأخلاقه. وتتضح لنا هذه الحقيقة بوضوح إذ نقارن المعجزات الموصوفة في البشائر التاريخية مع تلك الخوارق التي نجد وصفها في المؤلفات المتأخرة، عندما ألحقت الخرافات بسيرة المسيح بعض العجائب التي تنسبها عادة إلى أبطال خرافية. أما هذه القصص المزيفة فإنها تمثل المسيح كمجرد صانع عجائب، عمل معجزات ليكسب ولاء الشعب أو لينتقم لنفسه من أعدائه أو ليتخلص من ظروف حرجة.. وما أبعد الفرق بين هذه الصورة وبين المعجزات المذكورة في البشائر التاريخية التي دوّن فيها المعاينون الحقائق الواقعية الصحيحة، لأننا نرى في هذه المعجزات التاريخية صورة المسيح الحقيقي وهو يعمل كما كان يعلم وكما كان يعيش.

لقد أبى المسيح دائماً أن يستعمل قواه الإعجازية لتسهل ظروف حياته الذاتية، كما حدث في قصة التجربة، لما رفض طلب الشيطان أن يجعل الحجر خبزاً ليسد جوعه الشديد. وكذلك أبى أن يستعمل هذه القوى ليستعين بها في تأدية رسالته بأن يستميل الناس إلى كرازته ودعوته، كما حدث عندما رفض اقتراح إبليس أن يطرح نفسه من فوق جناح الهيكل، ليلفت أنظار الناس إليه. وكذلك أيضاً لم يرض أبداً أن يعمل الآيات التي طلبها منه أعداؤه، بل على عكس ذلك طلب مراراً من الذين شفاهم أن لا يقولوا لأحد عما عمله بهم. ولم يستعمل قواه قط لإضرار الناس أو إيذائهم. ولكن مع أنه أبى استعمال قواه لأية غاية من هذه الغايات غير الجليلة، إلا أنّه ما أن واجه آلام الناس وشقاءهم - المقرونة بالإيمان الضروري - حتى ذاب قلبه الحساس ودفعه إلى مساعدتهم. وكما كان يعلّم الناس عن محبة الله كان أيضاً يظهر هذه المحبة عملياً. ومع أنه لم يرض أن يسد جوعه الذاتي بصنع معجزة إلا أنّه لم يتأخر عن عمل معجزة يسد بها جوع الآخرين. ولذلك كان يشفي المرضى ويقيم ابن الأرملة، وابنة القائد، وغيرهما. وفي كل هذه الحوادث أظهر سموّه الخلقي، واحترامه لحرية الشخصية الإنسانية، ومحبته الفائقة. إنّ معجزات المسيح كانت جزءاً من ذاته.

(4) أخلاق المسيح وشخصيته

إنّ أخلاق المسيح وصفاته هي في الواقع معجزة المعجزات وأعجوبة العجائب. فقد تأثر الناس في كل الأجيال وجميع العصور بفضائله الفريدة. ويكفينا أن نقتبس ما قاله جون ستيورت مل - وليس هو بمؤمن - في آخر مؤلفاته، نموذجاً لاعتراف الجميع: «مهما انتزع عن طريق النقد العقلي يبقى المسيح - شخصية فريدة - لا يختلف عن الذين سبقوه فحسب بل يختلف أيضاً كل الاختلاف عن أتباعه، حتى عن الذين تمتعوا مباشرة بتعليمه الشخصي».

ولا مجال لنا هنا أن نتوسع في هذا الموضوع بل نكتفي بثلاث نقاطٍ:

أولاً: اعتدال المسيح الكامل

إنّ معظم قادة الفكر والعمل هم متطرفون غير معتدلين، وتميل طبيعتهم إلى فضائل خاصة دون غيرها وإلى مزايا معينة دون سواها من المزايا وقد قال أرسطاطليس إنّ الفضيلة هي الوسط بين رذيلتين، ولكن من أصعب الأشياء على الإنسان أن يستقر في هذا الوسط السعيد. أمّا المسيح فنجح في هذا كل النجاح.

  1. من النادر أن نجد أشخاصاً شجعاناً وحلماء في الوقت نفسه - أقوياء وودعاء. أما المسيح فجمع بين هذه الفضائل كلها. تأمل أولاً في شجاعته، التي تقدم بها في طريقه المعيّن له بهدوء وثبات، مع يقين العلم بالآلام الجسمية الشنيعة والأوجاع الروحية المروعة التي كان عليه أن يجتازها. ولكن «حين تمت الأيام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم» (لوقا 9: 51)، مع أنّه أخبر تلاميذه مراراً عما سوف يكابده هناك. تأمل أيضاً في سكوته الجليل ورزانته الكاملة في أثناء تلك القضايا المظلمة، وهيبته في ساعة الشدة والآلام. ثم ومن الناحية الأخرى، فكر في حلمه الرقيق نحو الأولاد الصغار عندما وبخ التلاميذ على طردهم إياهم وقابلهم وباركهم. أو حين «أخذ ولداً وأقامه في وسطهم ثم احتضنه وقال لهم: ... من قَبِل هذا الولد باسمي يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني» (مرقس 9: 36 ولوقا 9: 48). أو حين بكى عند قبر لعازر على حزن مرثا ومريم، مع العلم بأنّه سوف يقيم أخاهما حالاً. ومع ذلك نجده يطرد الذين كانوا ينجسون الهيكل ولا يبالي بوجوه الناس في خدمة أبيه، مع أنه رفض الدفاع عن نفسه مهما اشتدت المهاجمات عليه.

  2. قلما نجد العطف الرقيق في من تمكن منه العنف والشدة، وعلى عكس ذلك قلما يستطيع العطوف أن يستعمل العنف. أما المسيح فقد جمع بين الاثنين، لأنّه كان المثل الأعلى لمن يقدر أن يبغض الخطية وفي الوقت نفسه يحب الخاطىء. تأمل في بعض تنديده: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون. لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم. ويل لكم.. لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلاً واحداً. ومتّى حصل، تصنعونه ابناً لجهنم أكثر منكم مضاعفاً.. ويل لكم.. المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة، تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة.. أيها الحيات، أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم؟» (متّى 23: 13-35). وبعد دقائق قليلة نجده يعطف على أورشليم ويظهر حنانه القلبي في قوله: «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا» (متّى 23: 37). تأمل أيضاً بالعطف والعنف المختلطين في قوله: «ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له لو طوّق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر» (مرقس 9: 42). وقارن بين ما قاله لرؤساء الدين المحترمين: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا» (يوحنا 8: 44). وبين هذه الكلمات الرقيقة الموجهة إلى امرأة ساقطة منبوذة: «إيمانك قد خلَّصك. اذهبي بسلام» (لوقا 7: 50). أو تلك التي نطق بها إلى عشار غشاش مكروه «أسرع وانزل لأنّه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك» (لوقا 19: 5) من غير كلمة من كلمات التوبيخ.

  3. من الناس من يعتزلون للتأمل والتفكير ومنهم من يفضلون حياة الجد والعمل. وكثيراً ما نجد الإنسان الذي يركز أفكاره وآماله في عالم الروح غير قادر على القيام بواجبات العالم اليومية، والشخص الذي يبذل جهده في حياة الدنيا يجد نفسه مشغولاً عن الاهتمام الكافي بما وراء القبر. أما المسيح فلم تكن الحال كذلك في حياته هو، بل كان من جهة يتكلم عن أبيه السماوي كمن هو أقرب إليه من أصدقائه ورفقائه البشريين. كما أنّه كان يشير إلى السماء والملائكة بالسهولة الطبيعية نفسها التي يشير بها إلى الدنيا والناس. وكان مغزى تعليمه دائماً: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟» (متّى 16: 26)، لأنّه فضل في كل حين ما للروح على ما للجسد. ولكنه من الجهة الأخرى صرف وقته وجهده في خدمة أجساد الناس أيضاً، لأنّه كان يعمل الخير لكل الناس في شفاء المرضى وفي إطعام الجياع وإقامة الموتى، ولم يكن يميّز بين الأمور المختصة بالله وبين الأمور الزمنية العادية، بل كان كل ما قام به «عمل» الآب ومشيئته. ولم يكن الجانب الروحي من حياة البشر يرغمه أن يعتزل العالم لينهمك فيه. فكم من مرة نقرأ أنّه لم يكن لديه الوقت حتى يأكل، ومع ذلك فقد كان دائماً يلبي كل دعوة بنعمته الفياضة، ولم يؤثر في هدوء روحه ضوضاء الحياة. فكان المسيح المثل الأعلى للجد في غير همّ، وللكد في غير قلق.

ثانياً: قدوة المسيح

غالباً ما نجد - بالنسبة إلى المعلّمين والمفكرين - فرقاً عظيماً بين أفكارهم وأعمالهم، وبين تعليمهم وقدوتهم. ويقدم لنا التاريخ أمثالاً ممتازة لهذه الحقيقة. مثل سنيكا الذي - رغم فلسفته كلها وإعجابه بالعدل والإنصاف - كان دائناً مشهوراً، خرّب بيوت الكثيرين بطلبه ديونه دون سابق إنذار. ومرقس أوريليوس الذي حدث في أثناء حكمه اضطهادات دموية قاسية. وغيرهما من المرموقين. ومهما يكن من الأمر فإنهم جميعاً لم يصلوا في حياتهم إلى المستوى الذي نادوا به. أما المسيح فلم يكن كذلك البتة، لأنّ حياته كانت تلائم تعليمه كل الملاءمة، وتقدم لنا قدوته ذلك المستوى السامي عينه الذي دعتنا إليه كلماته. فلنراجع بعض تعاليمه المذكورة آنفاً لكي نرى كيف كانت تصرفاته وأخلاقه تطابق تعاليمه:

  1. كان المسيح يدعو الناس إلى الطهارة، فكان هو طاهراً في حياته طهارة ملموسة - حتى أنّ النساء الساقطات المسكينات التجأن إليه وهنّ يشعرن بتبكيت الضمير، ليس بسبب كلماته فحسب بل بنظرة من عينيه. لجأن إليه باكيات وغسّلن قدميه بدموعهن، لأنهن شعرن يقيناً أنّه لن يخطىء في ظنه بهن بل يمكنهنّ أن يثقن فيه كل الثقة.

  2. علّم المسيح الغفران ودعا الناس إلى محبة أعدائهم. وقابل هو نفسه يهوذا الخائن قائلاً: «يا صاحب لماذا جئت؟» (متّى 26: 50)، فكان حزيناً حقاً ولكن دون أن يتملّكه الغضب. وكذلك الحال أيضاً إزاء التلاميذ الذين تركوه وبطرس الذي أنكره. فكانت نظرة الحزن في عينه هي التي سحقت قلب بطرس ودفعته إلى توبته المرّة. بل أعجب من ذلك إنه كان ينفذ تعليمه القائل: «صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم» (متّى 5: 44) تنفيذاً حرفياً إذ صلى على الصليب لأجل ظالميه من غير أن يوجه إليهم كلمة تعنيف أو توبيخ قائلاً: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34).

  3. وأخيراً علّم المسيح الناس أنهم يحصلون على الحياة الفضلى من وراء الموت، بل إنّ الموت هو الباب لحياة أسمى وأمجد. فطبّق هذا التعليم أولاً على الموت الأدبي لطبيعة الإنسان الدنيئة حتى يتمكن من الوصول إلى الحياة الأدبية الرفيعة، وثانياً على الموت الجسدي الشريف في سبيل نيل مجد السماء. أما هو فقد قدّم لهم أعلى قدوة لهذا التعليم. لم يعش لنفسه قط بل عاش ليعمل مشيئة الله ويخدم الآخرين. كان وديعاً ومتواضع القلب، حتى أنّه غسل أقدام التلاميذ، بل قال لتلاميذه أيضاً: «قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» (يوحنا 12: 23 و24)، «وأنا إن ارتفعت عن الأرض (على الصليب) أجذب إليّ الجميع» (يوحنا 12: 32).

ولم يكن المثل الأعلى لتعليمه فحسب بل كان أيضاً يدعو الناس إليه كمن استطاع وحده أن يخلصهم من الخطية ويمكنهم من أن يحفظوا تعاليمه. قال: «تعالوا إليّ.. وأنا أريحكم» (متّى 11: 28) «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب» (يوحنا 7: 37). وعلينا أن نلاحظ أنّ المسيح علّم الناس دائماً أنّ سر الحياة هو «الإيمان به» و «قبوله» و «طاعته» و «اتّباعه» - أي في العلاقة الكائنة بين النفس وبين شخصه المجيد.

ثالثاً: عصمة المسيح

وأخيراً نقول إنّ معجزة أخلاقه الفضلى وميزة طبيعته العظمى كانت كمالاً وعصمة من أي نقص أو خطأ - وقد شهد لها الجميع. ولسنا نستند في هذا الصدد إلى الوجهة السلبية فقط. أعني أنّ السجلات، مع تصريحها بعيوب التلاميذ ونقائصهم، قد سكتت سكوتاً تاماً عن نسبة أي نقص إلى السيد نفسه. هذا حق كله وله مغزاه وقيمته، ولكننا لا نرتكن إليه وحده لأنّ المعترض قد يجيب على هذا بأنّ هذه السجلات لا تشتمل على كل ما فعله وقاله وفكر فيه، بل نستند بالأحرى إلى الدلائل الإيجابية الوثيقة كما يأتي:

  1. كان اليهود - ومن بينهم التلاميذ - شديدي التعصُّب لعقيدة التوحيد، وكان من الصعب جداً أن يؤمنوا بألوهية المسيح، ولكنهم قد دُفعوا إلى هذا الإيمان بدافع الحقائق الاختبارية التي لم يكن مفر منها. ولسنا ننكر أنّ معجزاته لعبت دوراً عظيماً في هذا الاعتقاد، لكن المصدر الحقيقي لهذا هو الاتفاق الكلي بين المعجزات وحياة صانعها، بين العجائب العملية وشخصية عاملها. فإيمانهم به إلهاً لهو أقوى شهادة وأبلغ حجة لكماله وعصمته.

  2. لم يشهد أصدقاؤه وأتباعه وحدهم لسمو أخلاقه ورفعة طبيعته، بل شهد أعداؤه أيضاً - تصريحاً وتلميحاً - لكماله الخلقي وعدم نقصه. قال يوماً للذين كانوا ينتقدونه: «من منكم يبكّتني على خطية؟» (يوحنا 8: 46)، فلم يجسر أحد أن يجيبه بكلمة. وكم من مرة حاول أعداؤه - بل بالغوا في محاولتهم - أن يتلمّسوا خطأً يجدونه فيه، لكنهم فشلوا كل الفشل في هذه المحاولة. وفي محاكمته الظالمة لم يجدوا شهوداً عليه إلا شهود الزور، بل حتى أولئك الكذبة لم يتفقوا في أكاذيبهم.

  3. ولم يكن معاصروه منفردين في تقديرهم له هذا التقدير، بل قد شهدت الأجيال كلها بما هو عليه من تفوق خلقي وكمال أدبي، لا يدانيه فيهما سواه. ودليل هذا أنّ المفكرين في كل عصر من العصور قد اتخذوه المثل الأعلى، وجعلوه المقياس السامي الذي يحكمون به على سواه. بل زد على ذلك أنّ القليلين الذين قد حاولوا أن يتلمّسوا إنقاصاً في تفصيل من تفصيلات حياته لم يجدوا قياساً يحكمون به عليه إلا قياس حياته وتعليمه هو.

  4. ولا ننسى أن نضيف إلى هذا كله ما شهد هو به عن نفسه. لأننا نتعلم من التاريخ والاختبار أنّ القديسين الحقيقيين يشعرون شعوراً عميقاً بنقائصهم وعيوبهم. بل كلما تزداد قداسة المرء كلما يزداد أيضاً حزنه على خطاياه. وإذا تجاسر أحد أن يدّعي الكمال لنفسه لم يتوان أصدقاؤه وأعداؤه أن يكذبوا إدعاءه. أما المسيح - وهو أول القديسين وأعظمهم - فإنه لم يشر قط في مواعظه أو صلواته لأي شعور بنقص أو عجز، بل على عكس ذلك استطاع أن يقول مع أنّه وديع ومتواضع القلب: «إني في كل حين أفعل ما يرضيه» (أي الله( (يوحنا 8: 39).

قال يوحنا التلميذ المحبوب: «ليس فيه خطية» وصادق بطرس على ذلك قائلاً: «الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر» (1بطرس 2: 22). وقالت عنه امرأة بيلاطس: «ذلك البار» (متّى 27: 19). وأجاب بيلاطس نفسه: «إني بريء من دم هذا البار» (متّى 27: 24)، «لم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه ولا هيرودس أيضاً» (لوقا 23: 14 و15). صرخ قائد المئة الذي وقف بجانب صليبه: «بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً» (لوقا 23: 47). كما شهد اللص المصلوب معه: «هذا لم يفعل شيئاً ليس في محله» (لوقا 23: 41). وصرخ يهوذا الخائن: «سلّمت دماً بريئاً» (متّى 27: 4) ثم خرج وخنق نفسه.

كان المسيح فريداً في تعليمه، في حكمته، في معجزاته، وفي شخصيته - لا نظير له. فلا مناص لنا من أن نواجه هذا السؤال القديم: ماذا تظنون في المسيح؟ أكان مجرد إنسان قد تفوق على الإنسانية كلها في كمال إنسانيته؟ أو هل كان أكثر من ذلك بكثير - الإله السرمدي ظاهراً في الجسد؟

يسوع المعلم والرب

كتب جورج أنجل، أسقف ولسدن الراحل، عن: «الوضع المؤسف للكنيسة المنقسمة» وعن «الإنقسام... داخل الكنيسة نفسها» الذي يبعث على المزيد من الأسف. واستأنف قوله: «الولاء لكنيسة ما، أو حتى لحزب في تلك الكنيسة يتقدّم على الولاء للمسيح. لو خطر في بالي في يوم من الأيام أنّ كون المرء مسيحياً إنجيلياً يتضمن الولاء لحزب قبل الولاء للمسيح، لكنت أتخلى عن إنجيليتي فوراً. إنّ فكرة إخضاع المسيح لحزب ما كافية لأن تهز مشاعري. إنّ العقيدة التي يتمسّك بها الإنجيلي بإخلاص هي أنّ ولاءه للمسيح هو الذي يجعله يعتنق الرأي الإنجيلي».

لقد قمنا بدراسة حوارات المسيح الرئيسية مع الفريسيين والصدوقيين. لقد نسب ضلال الصدوقيين إلى جهلهم قوة الله. وأكد، على نقيض الفريسيين، على أنّ سلطاننا يجب استمداده من كلمة الله فقط دون إضافة تقاليد بشرية، وعلى أن قبولنا من الله هو بالرحمة فقط دون إضافة استحقاقات بشرية. وعلّم أنّ الأخلاقية والعبادة المرضيتين عند الله هما الصادرتان من القلب، أي من الداخل لا الخارج. وشدَّد على أنّ مسؤوليتنا المسيحية تحتم علينا التدخل في العالم لا الخروج منه، وأنّ مطمحنا المسيحي السائد يجب ألا يكون طلب مجد نفوسنا بل مجد الله.

هذه النتائج تنبثق بصورة جلية وطبيعية من مباحثات المسيح مع زعماء الدين في عصره. وكل من هذه المباحثات لا زالت جارية في أيامنا ولم تمت على الإطلاق. وأهم ما في الأمر هو ما إذا كنا نقف إلى جانبه أم إلى جانب منتقديه. وما إذا كانت مسيحيتنا مسيحية بالفعل أم أنها طبعة جديدة للفريسية والصدوقية.

في هذه المناسبة لا بد لي من أن أذكر أني قد استفدت كثيراً مما قاله يسوع في العلية بعد غسله أرجل الرسل. فبعد أن عاد إلى مكانه خاطبهم قائلاً: «أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض» (يوحنا 13: 13و14).

إنّ «معلم» و «سيد» كانتا كلمتين مهذبتين تستعملان لمخاطبة الربيين في الحديث معهم. وقد استعملهما الرسل في مخاطبة يسوع. وما عناه في كلامه أعلاه هو أنّ الرسل استخدموهما لا اعتباراً ووقاراً فحسب بل إقراراً بجوهر واقعه وحقيقته. فكان يقول لهم ما معناه: أنا في الواقع ما أنتم تلقبونني به.

وهذه الآية تكشف لنا أمراً على جانب كبيرٍ من الأهمية عن المسيح والمسيحيين.

أولا: ما تكشفه لنا عن المسيح له صلة بوعيه الإلهي الذاتي. فمع أنّه كان من بسطاء الجليل، نجاراً وكارزاً، فقد ادّعى بحق أنّه معلم البشر وسيدهم. ومما قاله: إنَّ له سلطاناً عليهم أن يأمرهم بما يؤمنون ويفعلون. وما هذا إلا ادّعاء صريح (وإن يكن غير مباشر( بالألوهية، إذ لا يستطيع الإنسان العادي أن يتحكم بأفكار الآخرين وإرادتهم. وفوق هذا، فقد تدعمت صحة ادّعاءاته بعدم ظهور أية بادرة منه تدل على عدم اتزانه العقلي. على نقيض ذلك، قام عن العشاء واتّزر بمنشفة وصبّ ماءً في وعاء وانحنى مستنداً على يديه وركبتيه وغسل أرجلهم. فالذي قال إنّه «معلّمهم وسيدهم» وضع نفسه صائراً خادماً لهم. وهذا التآلف المتناقض ظاهرياً بين السيادة والخدمة، السلطة والتواضع، الإدعاء الرفيع والسلوك الوضيع، هو الذي يشكل الدليل الأقوى على أنه كما قال يوحنا: «من عند الله خرج وإلى الله يمضي» (يوحنا 13: 3).

ثانياً: تكشف لنا الآية ذاتها العلاقة الصحيحة التي تربط المسيحية بالمسيح. وهذه ليست مجرد علاقة خاطئ بمخلصه بل أيضاً علاقة تلميذ بمعلمه وعبد بسيده. بل إنّ هذه العلاقات مرتبطة دونما انفصال. فهو «ربنا ومخلصنا يسوع المسيح». فما هي إذاً مضامين الاعتراف بيسوع معلماً ورباً؟

طبعاً، جميع الناس يوافقون على أنّ يسوع الناصري كان معلماً عظيماً، وكثيرون هم على استعداد أن يذهبوا على الأقل إلى الحد الذي ذهب إليه نيقوديموس داعين إياه معلماً آتياً من عند الله. ثم من الواضح أنّ إحدى ميزات تعليمه البارزة هي السلطة التي كان يقدمه بها. فهو لم يهمهم أو يتلعثم أو يتردد، ولم يكن يتكلم بصورة تجريبية اعتذارية عديمة الثقة بالنفس. كلا، بل كان يعرف ما يريد قوله، وكان يقول ما يريد بصورة جازمة، هادئة، بسيطة. وهذا ما أثر على الناس كثيراً. نقرأ أنهم إذ أصغوا إليه بُهتوا من تعليمه، «لأنّه كان يعلّمهم كمن له سلطان» (متّى 7: 29).

وثمة نتيجة منطقية واحدة فقط مما قلنا، وهي: إن كان يسوع الذي علّم هكذا بسلطان هو ابن الله المتجسد، فما علينا إلا أن نحني رؤوسنا لسلطانه ونقبل تعليمه. علينا أن ندع أفكارنا تتقولب بقالب أفكاره، وآراءنا تتكيف بحسب آرائه. ومن ضمن ذلك تعاليمه التي قد تبدو قديمة العهد وغير مستساغة. مثال على ذلك رأيه في كون الله كائناً متفوقاً، روحياً، شخصياً، وقوياً كما وأنه الخالق، المسيطر، الآب، والملك. وكذلك رأيه في الإنسان بوصفه كائناً مخلوقاً على صورة الله وهو الآن في حال السقوط، قلبه فاسد لدرجة أنّه مصدر لكل الشرور التي يفكر بها ويقولها ويفعلها. وأيضاً، كما سبق ورأينا فقد علّم يسوع أنّ الكتاب المقدس هو كلمة الله المكتوبة الكافية الوافية. مصدره إلهي، وسلطته فائقة، وغرضه الرئيسي توجيه الخاطئ إلى مخلصه ليجد فيه الحياة. وعلّم كذلك بحقيقة الدينونة الإلهية بوصفها عملية غربلة تبدأ في هذه الحياة وتنتهي عند الوفاة. وقد أكد على أنّ مصير البشر النهائي هو إما في النعيم وإما في الجحيم، وأضاف أنّ ذلك المصير نهائي محتوم إذ «تفصل بين المكانين هوّة عظيمة قد أثبتت».

إنما هذه الحقائق المسيحية التقليدية هي موضع بحث اليوم. فكيان الله المستقل الشخصي الفائق، وكون الإنسان خاطئاً جذرياً، وسلطة ووحي الأسفار المقدسة. وحقيقة النعيم والجحيم الرصينة الأبدية - هذه كلها (وأكثر منها) لم تثر حولها الشكوك وحسب بل أُهملت فعلاً في أماكن عدة. إنّ رأينا البسيط هو: ما من إنسان يقدر أن يضرب بحقائق الإنجيل البسيطة هذه عرض الحائط ويدعو، مع ذلك، يسوع معلماً.

كان هناك معلمون دينيون آخرون، ولو أنهم أقل سلطاناً من يسوع. بيد أنّ يسوع ذهب إلى أبعد من ذلك قائلاً عن نفسه إنّه رب أيضاً. فالمعلم يعلم تلاميذه، بل قد يذهب إلى حد التوسل إليهم أن يتبعوا تعليمه. لكنه لا يقدر أن يفرض عليهم قبوله حتى ولا إطاعته. مع هذا فقد مارس يسوع هذا الحق بصفته الرب. قال: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي» (يوحنا 14: 15). «من أحبّ أباً أو أماً.. ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني» (متّى 10: 37). إنّه لم يطلب من تلاميذه ما هو دون فائق محبتهم وولائهم.

إذاً ينظر المسيحيون المؤمنون إلى يسوع المسيح بوصفه معلماً وسيداً لهم - معلماً يعلمهم وسيداً يأمرهم. ومن دواعي افتخارنا أننا أكثر من تلاميذ له (أعني أننا خدامه أيضاً). ونحن نعترف بحقه أن يلقي واجبات ومسؤوليات علينا: «فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض». ونحن نقبل هذه الـ (يجب) بسلطان يسوع. وإننا لنتوق لا أن نخضع عقولنا لتعليمه وحسب بل أيضاً إرادتنا لطاعته. وهذا عين ما توقعه هو: «الحق الحق أقول لكم إنّه ليس عبد أعظم من سيده» (يوحنا 13: 16). فهو إذاً يدعونا لتقبّل مقاييسه المغايرة كلياً لمقاييس العالم، ولأن نقيس العظمة لا بمقياس النجاح وازدهار الذات بل بمقياس الخدمة ونكران الذات.

ولأننا بشر ساقطون متكبرون، نجد أنّ هذا الجانب من التلمذة المسيحية عسير جداً. إننا نريد العمل بآرائنا (لا سيما إن اختلفت عن آراء الغير) والمباهاة بها في أحاديثنا. وأيضاً نحب أن نعيش حياتنا كما نريد، ونضع المقاييس لأنفسنا ونسلك في طرقنا الخاصة. وقصارى القول: نحن نريد أن نكون أسياداً ومعلمين وأرباباً لأنفسنا. وأحياناً يدافع الناس عن هكذا موقف بقولهم إنه من المستحيل (إذ من الخطأ أن يكون ممكناً) التخلي عن استقلالنا الفكري. وقد عبّر أحدهم عن وجهة النظر هذه بقوله: «أنا ضد كل أشكال التفكير المنظم. أنا ضد الدين المنظم، كالكنيسة مثلاً. ولست أفهم كيف تقدرون أن تجعلوا عشرة ملايين عقل تؤمن إيماناً واحداً». هذا هو مزاج العصر في العالم والكنيسة معاً. إنّه مزاج يؤكد على الذات ويندّد بالسلطة. فلا هو مستعد أن يصدق ولا هو مستعد أن يفعل شيئاً، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ «سلطة» ما تتطلبه. ولكن ماذا يكون من أمره إن كانت السلطة هي سلطة المسيح، وإن كانت سلطة المسيح هي سلطة الله؟ ماذا تكون النتيجة؟ الجواب المسيحي الوحيد هو أن نخضع بتواضع وسرور، وبكامل تأييدنا الفكري والإرادي.

ولكن هل نحن نفعل ذلك؟ أهذا في الواقع ما نمارسه بانتظام؟ من السهل جداً أن نضع أنفسنا على المحك التالي: ما هي السلطة التي نستند إليها في ما نؤمن به ونفعله؟ أهذا ما نفكر به ونريده بالفعل؟ أم أنّ ذلك هو ما كتبه الأستاذ «فلان» أو صرح به الأسقف «علان»؟ أم ذلك ما أعلنه يسوع المسيح مباشرة أو بواسطة رسله؟

ربما لا نستسيغ ما علمه المسيح عن الله والإنسان، عن الكتب المقدسة والخلاص، عن العبادة والأخلاق، عن الواجب والمصير، وعن النعيم والجحيم. ولكن أنتجاسر نحن على أن نؤثر آراءنا ومقاييسنا على آرائه ومقاييسه ومع ذلك ندعو أنفسنا مسيحيين؟ أم أننا نجترئ على القول إنّه لم يكن يفقه ما يقول، وإنه كان معلماً ركيكاً معرضاً للخطأ، بل وأنّه كيّف نفسه حسب آراء معاصريه رغم اقتناعه بخطئها؟ إنّ أفكاراً كهذه هي إهانة كبرى لكرامة ابن الله.

طبعاً، من واجبنا أن نتمسّك بتعاليم المسيح، بما فيها من مربكات وتعقيدات، ونسعى إلى فهمها وربطها بالظروف والأوضاع التي نحن فيها. إنما في النهاية يمكن ببساطة إيراد السؤال أمام الكنيسة هكذا: هل يسوع المسيح ربٌّ أم لا؟ وإن كان رباً، هل هو رب الكل؟ إنّ ربوبية يسوع يجب أن يسمح لها بتغطية كل جزء من حياة القائلين «يسوع رب» حتى عقلهم وإرادتهم. فما الداعي لإعفاء هذه من سلطانه الشامل؟ إنّ أحداً لا يُعتبر قد اهتدى حقاً إن هو لم يهتد فكرياً وأدبياً. وما من أحد يهتدي فكرياً إن لم يخضع فكره لفكر المسيح الرب، ولا يهتدي أدبياً إن لم يخضع إرادته لإرادة المسيح الرب.

ليس خضوع كهذا عبودية بل حرية. أو بالأحرى، إنه ضرب من العبودية المسيحية الاختيارية التي إن هي إلا حرية مسيحية كاملة - حرية من أهواء الذات ومن أنماط العالم (والكنيسة)، حرية من الأنا المتقلبة فينا، حرية في تشغيل أفكارنا وإرادتنا حسب قصد الله، أي بخضوعها له لا بتمرّدها عليه.

ولا أتردّد في القول إنّ يسوع المسيح يبحث اليوم في الكنيسة عن رجال ونساء من هذا الطراز يتخذونه بجد وإخلاص معلماً ورباً لهم ولا يقدمون على استعمال هذين اللقبين بشفاههم وحسب، «لماذا تدعونني يا رب، يا رب، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟» (لوقا 6: 46)، بل يحملون بالفعل نيره عليهم ليتعلموا منه وليستأسروا «كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كورنثوس 10: 5).

وهذا يفرض علينا أولاً، اجتهاداً أكثر في الدرس. ليس في مقدورنا أن نؤمن أو أن نطيع يسوع المسيح ما لم نلم بما علّم. إنّ من أمسّ حاجات الكنيسة في هذا العصر هي أن يزداد أعضاء الكنائس العاديون معرفة وإلماماً في الكتاب المقدس. وما أحبّ على قلب التلميذ أن يراعي تعليم معلم كهذا المعلم!

وكذلك يحتم علينا مزيداً من التواضع في الخضوع. نحن بفطرتنا نكره السلطة ونحب الإستقلال. ونظن أنّه لشيء عظيم أن يصدر الواحد منا حكماً مستقلاً أو يظهر روحاً إستغلالية. وهذا صحيح إن كنا نعني أننا لا نريد أن نُساق سوق الأنعام أو نكون قصبة تحركها رياح الرأي العام. غير أن الاستقلال عن يسوع ليس فضيلة بل خطية - خطية جسيمة في من يعترف بأنه مسيحي. ليس المسيحي حراً في أن يضاد أو يعصي المسيح، بل على عكس ذلك، إنّ همّه الأكبر هو أن يجعل فكره وحياته معاً مطابقين لتعليم المسيح.

ومعقولية هذا الرضوخ المسيحي تكمن في هوية المعلم. فلو كان يسوع الناصري مجرد إنسان، لكان من السخرية أن نُخضع له عقولنا وإرادتنا هكذا. ولكن بما أنه ابن الله، فيكون من السخرية أن لا نفعل. الخضوع له هو بالحري من أبسط ما يتطلبه الذوق والواجب المسيحيان.

إني أؤمن أنّ يسوع المسيح يخاطب كنيسة عصرنا بالكلام نفسه قائلاً: «أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك» (يوحنا 13: 13). وصلاتي هي أن لا نكتفي، بعد الإصغاء إلى كلامه، باستعمال هذين اللقبين على سبيل اللياقة، بل نقدم له الإكرام الواجب له عن طريق إيماننا المتواضع وطاعتنا من كل القلب.

ملخص سيرة يسوع أو من هو يسوع؟

تبدأ سيرة يسوع بداية غير عادية وتنتهي نهاية بعيدة عن المألوف، (أمر متوقع إذا كان هو الله). فقد كان ليسوع أم بشرية، ولكن لم يكن له أب بشري. وسيرة يسوع الفريدة على الأرض تبدأ بحادث حَبَلٍ فريد، ذلك أن يسوع ولد من عذراء.

يروي إنجيل لوقا الخبر بكل بساطة. فقد أُرسل الملاك جبرائيل من الله إلى مريم ليبشرها بأنها ستلد ابناً ينبغي أن تسمّيه «يسوع»، ولسوف يعرف بأنه ابن الله العلي. إذ ذاك تتحير مريم حيرة نفهم سببها إذ تقول: «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟» (لوقا 1: 34).

ورد في الكتاب المقدس أنّ البشير متّى يفسر هذه المعجزة بأنها إتماماً لنبوة نطق بها إشعياء منذ زمن بعيد (متّى 1: 22 و23). وقد دُوّنت هذه النبوة في الفصل السابع من سفر إشعياء: «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل، وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير، تُخلى الأرض التي أنت خاشٍ من مَلِكَيْها» (إشعياء 7: 14-16).

إن لهذه النبوة شأنها شأن الكثير غيرها من النبوات الموجودة في الكتاب المقدس مرمَيَيْن، أحدهما قريب والآخر بعيد. أما الإتمام القريب فقد تمّ بعيد النطق بالنبوة. وأما البعيد، فبعد مئات السنين. وقد حصل الإتمام الأول في أيام إشعياء نحو السنة 730 ق.م.

أمّ وابن

على أنّ إشعياء استخدم في نبوته هذه كلمتين مميّزتين، إحداهما تدل على الأم والأخرى على الابن. والكلمة المستخدمة للدلالة على الأم تعني امرأة شابة عذراء. إذ لما كتب متّى إنجيله باليونانية استعمل في ترجمة هذه الكلمة اللفظة «بارثينوس» وتعني «عذراء» بلا لبس ولا غموض.

والآن، إلى الكلمة الثانية. فقد قال إشعياء إنّ ذلك الولد سيدعى «عمانوئيل»، ومعنى هذا الاسم «الله معنا». وكانت الشعوب السامية قد درجت على تسمية المواليد غالباً بأسماء تتضمن تعليقاً على حادثة ما مرتبطة بولادة أولئك المواليد. فنسبةً إلى نبوة إشعياء، سُمّي الطفل «عمانوئيل» لأنّ المعنى الأوفى لهذه النبوة لا يظهر إلا في الإتمام المتعلق بيسوع المسيح. فالمسيح كان فعلاً «الله ... معنا». إنه لم يكن مجرد آية - علامة - على أنّ الله في جانبنا، بل كان في نفسه «الله ... معنا» (متّى 1: 23).

لذا كانت البداية الفريدة لسيرة المسيح على هذه الأرض حدثاً هاماً. وقد جرى التمهيد لها بنبوة عنها جاءت قبلها بسبعمئة سنة. وهذا يبين دخول الله إلى العالم الذي خلقه، لا كإنسان متفوق من صنف ما، ولا كملك، بل كطفلٍ حُبل به بأعجوبة وما هو إلا «الله ... معنا».

من الواضح أنّ هذه النظرة إلى ولادة المسيح تختلف كلياً عن نظرة أولئك الذين يعتبرونه مجرد إنسان. فربما اعتبروه إنساناً صالحاً على نحو مميز أو معلماً شهيراً، ولكنهم مع ذلك يعتبرونه مجرد إنسان يفسر العالم ويشرحه كما يراه. إلا أنّ الكتاب المقدس، على نقيض هذا، يقدم لنا إنساناً فريداً، إنساناً لا يبدأ وجوده عند ولادته بل يدخل عالمنا هذا من العالم الآخر، أعني من الأبدية. وبالحقيقة، هذا هو ما يعنيه المسيحيون بالتجسد. ذلك أنّ الله صار إنساناً وجاء إلى العالم، بطريقة تشبه الطريقة البشرية المعهودة لكنها تختلف عنها بفرادةٍ عجيبة: حادثة فريدة كانت لها بداءة فريدة.

حداثته

ولد يسوع في عائلة فقيرة، ولا نعرف عن حداثته إلا القليل. والأرجح أنّه كان يذهب مع العائلة إلى أورشليم كل سنة. فنحن نعلم أنه ذهب إلى هناك لما كان ابن اثنتي عشرة سنة، حيث أذهل معلمي الشريعة بالأسئلة التي سألهم والأجوبة التي أجابهم (لوقا 2: 46 و47).

ومن المشوق أن نلاحظ الطريقة التي بها صحح المسيح بلطف زلة لسان من مريم خلال تلك الزيارة إلى العاصمة. فلما بدأ المسافرون من الناصرة طريق العودة إلى بلدهم، كانوا قد تركوا يسوع في أورشليم. لذا كان على مريم ويوسف أن يعودا إلى المدينة ليجداه. ولما وجداه بعد عناء، أبدت مريم انزعاجها إذ قالت: «يا بني ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين؟ فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟» (لوقا 2: 48 و49).

نشأته

يرجّح أنّ يسوع قضى ساعات طويلة وهو يراقب يوسف إذ يعمل صانعاً الكراسي والأسرَّة، وقبضات الفؤوس، والأنيار التي توضع على أعناق الثيران عند الحراثة. ولعل هذه هي الخلفية وراء دعوته اللطيفة التي أطلقها بعد عدة سنين:

«تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم: لأن نيري هين وحملي خفيف» (متّى 11: 28-30).

خدمته

لما بلغ يسوع الثلاثين تقريباً، اختار له جماعة صغيرة من اثني عشر تابعاً، وانطلق في خدمة دامت نحو ثلاث سنين تميزت بالتجوال شبه الدائم في أنحاء مملكة هيرودس البالغة نحو ثمانية آلاف كلم مربّع، حيث كان يعلم ويشفي في أثناء تجواله.

المسيح كارزا

لم يكن معلم الدين اليهودي، أي «الرابّي»، مجرد خطيب، بل كان يتوقع من تلاميذه أن يتشرّبوا نمط حياته بالكامل وأن يحفظوا تعاليمه غيباً. ويبدو أنّ المسيح حذا حذو معلمي الدين اليهود. فكان لزاماً على أتباعه الاثني عشر أن يتركوا أعمالهم من صيدٍ وجباية ونحوهما، كي يتفرغوا لاتباع معلمهم.

إلا أنّ المسيح كان مختلفاً عن غيره من الرابيين. ذلك أنّه كان - وقد علم تلاميذه - معلّماً وسيداً في آنٍ واحد: «أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك» (يوحنا 13: 13). وليس أتباعه وحدهم من علموا أنّه كان مختلفاً عن غيره من الرابيين، بل عامة الشعب أدركوا ذلك أيضاً. فالرابيون ما ادّعوا لأنفسهم أي سلطان، بل كانوا دائماً يستشهدون بأقوال الرابيين السالفين كمرجع ذي سلطان يعتمدونه في آرائهم وأحكامهم.

أما يسوع، فلم يكن من هذا النوع: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بُهتت الجموع من تعليمه، لأنّه كان يعلّمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة» (متّى 7: 28 و29).

وقد كان «ملكوت الله» واحداً من الموضوعات العظيمة التي دار عليها تعليم المسيح. ففي مستهل إنجيل مرقس، نقرأ: «جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1: 14و15).

هذا الموضوع الرائع يذكرنا أنّ زمام العالم ليس مفلتاً، إذ إنّ الله يسيطر عليه. غير أنّ ملك الله هذا لا يعني أننا محرومو الحرية. فنحن لسنا أشبه بآلات الساعة يعبئها الله ويحتم عليها أن تظل تدور إلى أن تفرغ، بل إننا بالأحرى أحرار، ومع ذلك - شئنا أم أبينا - نعيش في عالم يسيطر عليه الله باعتباره الملك.

إن وضعنا يشبه حالة من يعيش في بلد تعرف حكومته كل شيء عن كل مخالفة للقانون. حتى إنّ أحداً ما لا يستطيع أن يجاوز حد السرعة المسموح بها دون أن تعلم السلطات بأمره. وحكومة هذا البلد فعالة بحيث إنّ كل مخالف للقانون لا بد أن يلقى عليه القبض ويلقى عقابه. ففي بلد كهذا يكون الناس أحراراً، أحراراً حتى في خرق القانون، ولكن لا بد أن يعلموا أنهم إن اختاروا سبيل الجريمة فعليهم أن يتحملوا العواقب.

طبعاً، إنّ التشبيه ليس كاملاً كلياً، غير أنّه يصف بالفعل عالماً مختلفاً جداً عن عالم الهندوسية مثلاً، حيث لا أكون حراً في أفعالي. ففي الهندوسية تكون أحوالي وأفعالي اليوم نتيجة لما يسمونه «كرما» أي ما اشتمل عليه ماضيّ من «حاصل تسوية الميزان»، إذ أن ما يحدد حياتي اليوم حتماً يعود إلى ما كان لي وما كان عليّ لا في ماضي حياتي الحالية فقط بل في جميع حيواتي الماضيات أيضاً.

ثم إنّ صورة العالم التي ترسمها المسيحية تختلف عما هي عليه بحسب الإسلام، حيث يعتبر حكم الله مطلقاً. ونحن نعلم أنّ العبارة «إن شاء الله» تتردّد كثيراً في جميع البلدان العربية. حتى إنّ «الأشعرية»، وهي المذهب اللاهوتي الأشهر والأكبر، تنكر كلياً الحرية البشرية وتقول بالجبرية الشاملة (أي تسيير القضاء والقدر للبشر في كل شيء).

تصوير ملكوت الله

عندما تحدّث المسيح عن ملكوت الله، كان قصده أن يدعو الناس إلى الاعتراف بحكم الله وإلى إخضاع أنفسهم له، لا بسبب الامتيازات التي ستكون لهم، بل إقراراً منهم بأنه هو الله. كان اليهود قد أساءوا فهم رسالة الله إليهم، إذ رأوا فيها إعطاءهم امتيازات خاصة، وكأنّ الله كان معنياً بهم وحدهم دون غيرهم، كما لو كان حكم الله لهم وحدهم. حتى إنّ الكبرياء القومية أدت بهم في نهاية المطاف إلى كارثة قومية. فلما كان المسيح هناك يتحدث إليهم عن ملكوت الله، لم يكن اليهود أحراراً، بل كانوا جزءاً من الإمبراطورية الرومانية. وكما تكون الحال دائماً في مثل هذه الأوضاع، كانت لديهم آمال بالتحرر يمنون النفس بها. أيلجأون إلى العصيان أم إلى الثورة؟ غير أن المسيح ذكرهم بما كانوا قد نسوه من عهد بعيد في غمرة انشغالهم بالسياسة. لقد ذكرهم بالله، وبملكوت الله.

في الفصل الثالث عشر من إنجيل متّى نقرأ سبعة أمثال عن ملكوت الله. والمثل حكاية يمكن فهمها، تمّ استخدامها لتفسير حقيقة ليس من السهل فهمها. فتلك الأمثال السبعة توضح ما أراد المسيح قوله عن ملكوت الله.

تكلم المسيح عن رجل يبذر البذار. وواضح أنّ النتائج تعلقت بنوعية التربة التي وقع فيها البذار، فكانت أرضاً لينة وغنية ومحضرة جيداً، أو أرضاً مليئة بالأعشاب الضارة والأشواك، أو أرضاً داستها أقدام الدائسين أو أرضاً صخرية. ههنا أول شيء يود المسيح أن يقوله عني وعن ملكوت الله. فإن كان قلبي قاسياً ومراً ومليئاً بالكبرياء والإكتفاء الذاتي، فحتى لو وقع البذار الجيد عليّ - حتى لو سمعت عن ملكوت الله - فإني لا أريده إذ ذاك.

وتكلم عن الإنسان الذي زرع زرعاً جيداً ثم جاء عدوٌّ وزرع زواناً في الحقل عينه. ولما طلع الزرع الجيد وبدأ ينمو، لم يكن ثمة طريقة يستطيع الفعلة بها أن يقتلعوا الزوان دون إتلاف الزرع. ههنا ردٌّ على الذين يرفضون الدخول إلى الملكوت بسبب خليط الناس الذين يرونهم يدّعون أنهم جزءٌ منه. فلربما زعم الزوان أنّه جزء من المحصول الرئيسيّ، فقط لأنّه شارك الحنطة في الحقل الواحد. وإنه لأمر صحيح أننا نجد بين المعترفين بأنهم أولاد الله من هم غشاشون أو كذابون أو انتهازيون، مثلهم مثل الزوان المزروع بين الزرع الجيد. وكم من كنيسة ناشطة أفسدها وجود مرائين، ومؤمنين شرفاء أخزاهم وجود أناس فاسدين بينهم. فهوذا المسيح ينذرنا أنّ الحال الآن ستكون على هذا المنوال. أما طبيعة الملكوت الحقيقية فلن تعرف قبل أوان الحصاد، أي عند يوم الدينونة الذي فيه يفصل الزوان من بين الحنطة الجيدة، يوم يُفصل المراؤون من بين المؤمنين الأمناء.

وتكلم عن كنز مخفي في حقل، وعن تاجر يبحث عن لآلىء حسنة. كان التاجر مستعداً لأن يدفع أيّ ثمن ليشتري لؤلؤة جميلة جداً، وما كان أي ثمن غال ليحول دون ذلك. صحيح بالطبع أننا لا نستطيع أن نشتري ملكوت الله، غير أنّ الدخول إليه له ثمن لا بدّ أن يُدفع. فالناس لا يفهمونك، وينعتونك بأنك متطرف أو رجعي دينياً، ويستغربون استرسالك في الحديث عن الله، بل إن إصرارنا على الاستقامة قد يسبب الإزعاج لبعض الذين حولنا. ذلك أنّ وجود الشرف والاستقامة في مجتمع يندران فيه، من شأنه أن يكون مصدر إزعاج دائم للجميع، وهكذا نخسر صديقاً تلو الآخر. وفي بعض البلدان قد يكون الأمر أخطر جداً، حيث قد يعني دخول ملكوت الله فقدان الوظيفة وسلب الحرية، والسجن بل الموت أيضاً. ففي هذين المثلين، أي مثل الكنز المخفي في حقل ومثل التاجر الطالب لآلىء حسنة، يلمّح المسيح إلى هذه الحقيقة: ربما كان عليك أن تدفع ثمناً غالياً لقاء دخولك ملكوت الله... ولكنّ الأمر يستحق ما يبذل في سبيله من عناء.

وضرب المسيح مثلاً عن صيادين وما صادوه من سمك. لا شك أنّ سامعيه غالباً ما كانوا يرون صيادي الجليل وهم يجرون شباكهم الملأى سمكاً من كل صنف على الشاطىء ويفصلون رديء السمك عن جيده. وقال المسيح إنّ الحال عند رجوعه لاستلام ملكه ستكون على هذه الشاكلة، إذ يكون ذاك أوان الفصل، حيث يضم الجيد ويطرح الرديء، عند ذاك يظهر الحق جلياً. ولا شك أنّ هذا المثل ينطوي على تحذير: إن هنالك ملكوتاً ينبغي دخوله، ونعيماً ينبغي اكتسابه، وجحيماً ينبغي اجتنابه.

يتبقى لنا من أمثال متّى السبعة اثنان: مثل حبة الخردل، ومثل الخميرة. فإنّ بزرة الخردل الدقيقة تنمو لتصير شجرة كبيرة تأوي إليها الطيور وتبيت فيها. والخميرة تفعل فعلها في العجين فتخمره كله. هكذا كانت لملكوت الله بداءات صغيرة (ربما كان المسيح يفكر ساعتئذٍ بمجموعة أتباعه تلك الصغيرة وغير المؤثرة). ولكن لننتظر حتى نرى إلى ما سيؤول إليه الأمر كله. فعندما يعود الملك، عندئذ يعرف امتداد ملكوته. إنّ أهل الملكوت قليلون نسبياً وعديمو الأهمية ظاهرياً، غير أنهم مبعوثون إلى العالم أجمع كشهود للمسيح، وقوة الله عاملة فيهم وحولهم والعالم يتغير بواسطتهم. يساعدنا تشديد المسيح على ملكوت الله في تفسير الأجوبة عن الأسئلة الأساسية المشار إليها في الفصل الأول: من أين جئت أنا؟ من أين جئت أنت؟ من أين جاء هذا العالم. إن الله هو صانعنا جميعاً. ونحن لله، والعالم له. إلى أين نحن جميعاً ذاهبون؟ إنّ الأمور ليست خارجة عن السيطرة، ولا هي تتجه إلى التصادم والتحطم، بل إنها سائرة إلى الوقت الذي فيه سيظهر الملك نفسه ملكاً ويجمع رعاياه إلى ملكوته. وماذا يجري بالباقين؟ إنهم سيرفضون ويطرحون خارجاً، أشبه بزوان الحقل وبالسمك الرديء العالق في شبكة الصيادين.

إنّ سيرة يسوع تبدأ بمعجزة هي ولادته من العذراء، وتبلغ ذروتها في معجزة هي قيامته. والمعجزات بين هذه وتلك هي لافتات تجابه كل عاقل قائلة: قف! انظر! وفكر من هو هذا الإنسان!!

مسابقة كتاب من هو يسوع؟

أيها القارئ الكريم،

بعد أن تأملت ملياً في شخصية يسوع الفريدة، يسعدنا أن نستلم إجابتك على الأسئلة أدناه لنرسل لك جائزة من منشوراتنا.

  1. اذكر خمسة أعدادٍ من شهادات الرسل تبرهن أنّ يسوع هو ابن الله.

  2. اذكر ثلاثة أعداد من شهادات أعداء يسوع تبرهن أنّه ابن الله.

  3. كيف كانت الذبائح في العهد القديم، وما هي الذبيحة الوحيدة في العهد الجديد؟

  4. اذكر بعض شهادات المؤرّخين العلمانيين التي تثبت حقيقة حياة يسوع التاريخية.

  5. عدّد بعض صفات خُلق يسوع.

  6. بأيّ مقياس ينظر الله للإنسان؟

  7. لماذا قال يسوع: «الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي»؟

  8. كيف برهن يسوع أنّه غير محدودٍ بزمنٍ؟

  9. لماذا جاء يسوع إلى العالم؟

  10. يسوع هو الحل الوحيد لمشاكل العالم. كيف؟

  11. اذكر خمسة أعداد من الرسائل كدليل على المسيح كحقيقة تاريخية.

  12. كيف ندحض تهمتي التحريف والتبديل للكتاب المقدس؟

  13. اذكر أربعة براهين تثبت موت المسيح.

  14. ما الفرق بين ظهور المسيح كحقيقة تاريخية مؤكدة وبين بعض أبطال الأساطير.

  15. ماذا كان تعليم المسيح عن الغفران؟

  16. كيف كانت نظرة كلّ من الأبيقوريين والرواقيين إلى الحياة؟

  17. كيف اختلفت نظرة المسيح إلى الحياة عن نظرتي الأبيقوريين والرواقيين؟

  18. اذكر مثلاً أظهر فيه يسوع معرفته المسبقة بما كان يجول في أفكار سائليه للإيقاع به.

  19. لماذا حاول بعض المفكرين العصريين فصل معجزات المسيح بعضها عن البعض الآخر؟

  20. قال نيقوديموس عن يسوع إنّه معلم آتٍ من عند الله. أوضح ذلك بإيجاز.

  21. إلى ماذا يحتاج المسيحيون العاديون هذه الأيام؟

  22. ماذا يعني المسيحيون بالتجسّد؟

  23. كيف أوضح يسوع مفهوم ملكوت الله؟

إنْ أرسلتَ إجابة هذه المسابقة الينا، فلا تنْسَ أن تذكر إسمك وعنوانك بالكامل وبوضوح.

ارسل الاجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمَل، ونحن بانتظار إجابتك.

عنواننا:


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany