العودة الى الصفحة السابقة
الباحث عن الله

الباحث عن الله

مذكرات كتبها الفيلسوف المصري المشهور نوسترداميس

الدكتور القس . لبيب مشرقي


List of Tables

1.
2.
3.
4.
5.
6.

Bibliography

الباحث عن الله. لبيب مشرقي. Copyright © 2009 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . . SPB 4281 ARA. English title: . German title: . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

السائح يستيقظ

اليقظة

من أين جئت أيها الغريب؟ من الذي حملك إلى هذا المكان؟ أم لعلي أسأل: ما الذي أتى بك إلى هذه الصحراء؟

كنت لا أزال في شبه غيبوبة. جعلت أتلّفت هنا وهناك بعينين زائغتين. أضع يدي أحياناً على رأسي وأحياناً أمشط بها شعري. ثم أتلّفت إلى جسدي وأهز رأسي هزات متتالية. وقد كرر الرجل الواقف أمامي سؤاله: من أين جئت أيها الغريب؟ تُرى هل تسمعني؟ هل تفهم لغتي؟ هل تستطيع الكلام؟

قلت بعد صمت طويل: «إني أسمعك وأفهم مرمى كلامك. ليست المشكلة في أذنيّ أو في لساني. إن المشكلة أعمق من هذا بكثير. المشكلة أني لا أعرف من أنا، ولا أعرف من أين أتيت، ولا أعرف كيف جئت إلى هنا، ولا أعرف لماذا جئت بالطبع. بل دعني أسألك: هل أنا مستيقظ أم إني أحلم؟ هل لك أن تفرك أذني أو خدي أو أنفي لأتأكد أني لا أحلم، وأني كائن حي، لأتأكد أني... أني أنا.. ترى هل أنا أنا؟ ومن هو أنا هذا.. أوه ليتك تخبرني!».

وتبسم الرجل الواقف أمامي وقال: «إني أفهم. نعم أنا أفهم. لست أول من جاء إلى هذا المكان. لقد استقبلت العدد العديد من أمثالك. هلمّ معي. استرح في بيتي. تناول شيئاً من الطعام وتمدد على الفراش.. وبعد، نعم وبعد نتكلم؟».

القصة:

سرت مع الرجل في سفح الجبل مسافة طويلة، كانت الطريق خالية. ومع أني رأيت بعض مظاهر العمران إلا أني لم أشاهد أحداً من البشر!!

وصلت إلى بيت الرجل وكان بيتاً بدائياً أقرب إلى الكهف منه إلى الكوخ. استقبلتنا زوجة الرجل مرحبة. لم يكن لها بنون. كانت جميلة الطلعة، أنيقة في بساطة. ولما جلسنا على المائدة رفع الرجل وجهه نحو الجنوب وتمتم بكلمات لم أسمعها، ثم دعاني لأتناول من طعامه البسيط المؤلف من الخبز واللبن والزبد والعسل. أكلت واغتسلت ثم رافقني إلى غرفة فيها سرير من الجريد بُسطت عليه حشية نظيفة. تمددت على الفراش واستغرقت في نعاس. لا أعلم كم من الوقت.. لا بد أني استغرقت وقتاً طويلاً.. أيقظني الرجل وقال: «أعتقد أنك أخذت قسطاً من الراحة.. وأعتقد أنك الآن تستطيع أن... أريد أن أقول: تستطيع أن تعود إلى نفسك».

انحنيت إلى الأرض مدة طويلة. ثم رفعت رأسي وقلت: «صدقني يا سيدي إني لا زلت أجهل حقيقة نفسي. لا أزال أسأل نفسي من أنا. والماضي، هل كان حلماً أم أنه كان شيئاً حقيقياً. ولئن كان حلماً فهل استيقظت منه أم أني لا أزال أحلم. وفي كلا الحالين أحاول أن أكشف الماضي بصعوبة. إنه يبدو لي أشباحاً في وسط غيوم، بعضها مضى، لكن الجزء الأكبر منه معتم. سأحاول أن أرى ذلك الماضي. ولكني أصدقك القول إني لا أقدم لك شيئاً كثيراً».

هل قرية أم مزرعة أم... كنا عائلة كثيرة الأفراد. كان أبي رجلاً جاوز الشباب. اختلط سواد شعره بشيء من الشيب. كنا كلنا في الأصباح عندما نستيقظ من النوم، وفي الأمساء عندما نذهب إلى الفراش نتقدم منه باحترام ونحييه بتقبيل يده.. آخرون من الجيران يفعلون ذلك معه.. أذكر الآن بيوتاً أخرى كانت بالقرب منا، أقصد أنها لم تكن أبعد من مرمى النظر، كان يقيم فيها جيراننا، ولكني في الحقيقة لا أذكر شيئاً عنهم. كانوا يقيمون على مبعدة، أقصد لم يكونوا ملاصقين لنا. كان أبي يُدعى الشيخ. قيل لي إننا قبيلة وإن بيوتها لا تزيد عن أصابع اليد. وقيل لي إن أبي كان كبير هذه القبيلة!

كذلك أذكر تلك المرأة الجميلة الكبيرة.. كلا، لم تكن أمي. قيل لي أن أمي ماتت عندما ولدتني.. على أني كنت أدعو تلك المرأة أمي، فقد كانت توليني المعزة التي أولتها لإخوتي الآخرين، بل أجسر أن أقول أكثر. لم أكن أعرف أنها ليست أمي إلا بعد وقت طويل. كانت تُدعى الشيخة. وكان أبي يناديها يا «أم البنين». كانت هي صاحبة السلطان في البيت. وكان هناك عدد من النساء زوجات الشيخ، أو زوجات الأبناء والأعمام، ولكنهن كن جميعهن خاضعات لسلطان الشيخة. أما عدد الأولاد والبنات فكان فوق الحصر.

وكان البيت يضم قاعة كبيرة جداً.. جداً. كان الضيوف يُستقبلون فيها نهاراً وكانوا ينامون فيها وفي قاعة ملحقة بها إذا ما اضطروا أن يبيتوا عندنا. وكان الطعام يُقدم فيها إذا كان الطقس لا يسمح بتناوله في الساحة الخارجية. بالطبع كانت هناك عشرات الغرف، كل غرفة بيتاً مستقلاً تقيم فيها المرأة وأولادها.. وزوجها. كانت الأسِرّة من الجريد، لكن الحشيات والوسائد والأبسطة والسجاجيد من أنواع ممتازة. كان أبي يشتريها من «الكنعاني» الذي سأحدذك عنه!!

وكان أبي يملك من الماشية ألوفاً مؤلفة من أبقار وجواميس وجِمال.. خراف وماعز.. خيول وبغال وحمير، وعدد لا حصر له من الدجاج والأوز والبط والحمام وغير هذا مما يقتنيه المزارعون!!

وكانت الملابس لا بأس بها، تأتينا مع «الكنعاني».. نعم، نعم أنا أرى أنك تسأل عن هذا «الكنعاني».

أنا لم أعرف اسمه إلا كما قيل لي عنه أنه «الكنعاني». كان يأتي إلينا من بلاد في الشمال بعيدة جداً عنا. كان يأتينا مرتين في السنة، ومعه قافلة كبيرة تضم أزيد من مئة عبد وجمالاً لا عدد لها. كان يقيم عندنا شهراً في كل مرة. كان يأخذ منا محاصيل الأرض من حبوب وأصواف وزبد وعسل ويعطينا، نظير ما يأخذ ملابس من قطن وكتان وحرير وأحذية وعقود وحلّي..

الجوع القلبي:

كانت حياتنا رضيّة!!

وكانت تحيط بنا قبائل كنا نرتبط بها برباط القرابة والود!!

كنا نعيش في راحة واطمئنان، لم نكن في حاجة إلى شيء، الطعام موفور ومن أنواع طيبة. اللباس كثير، والبركة في التاجر. الهدوء والسلام شامل، لكن شيئاً ما لا أعلم ماذا أدعوه كان يناديني من داخلي.. فراغ. نعم فراغ في قلبي. لا أعلم ماذا أدعوه. كنا في حاجة إلى شيء غير الطعام واللباس!

وقد خطبوا لي ابنة عمي مذ كنت ولداً صغيراً لتكون زوجتي.. بل قالوا لي إنها زوجتي مذ خطبوها لي. كانت فتاة حلوة معتدلة القامة، بيضاء يزين خديها وردتان، أسنان كالعقد اللؤلؤي. .ماذا يعوزني بعد؟

طعام، لباس، زوجة، هدوء، كل شيء متوفر..

لكن جوعاً من نوع غريب كان يناديني من الداخل: أنا جائع، أنا جائع.

جلست في إحدى الليالي على مقعد في الساحة أمام البيت الكبير، وتساءلت: ماذا يعوزني؟ ألم يكن كل شيء متوفراً لديّ؟ ألا أحيا حياة طيبة؟ ألست محسوداً من الآخرين، على الأقل مغبّطاً؟ ماذا يعوزني بعد؟ لكني سألت نفسي: هل أعيش حقاً؟ ما الفرق بيني وبين الحيوانات التي أملكها؟.. كنت أعيش في دوامة أبحث عن مشكلتي فلا أعرفها..

ظللت في هذه الدوامة إلى أن هبط علىّ الجواب.. هبط على فم.. أول لأقُل لك القصة من أولها!!

جاء «الكنعاني» كما كان يجيء عادة في قافلته الكبيرة.. جِمال محملة بضائع شرقية وغربية.. عبيد وإماء - لكن كان هناك شيء جديد. جاء ومعه عبد «فينيقي». أعجب أبي «بالفينقي» فاشتراه من «الكنعاني».

كان «الفينقي» شيئاً آخر، يختلف عن كل العبيد الذين عندنا. كان يحمل صورة نبيلة. كان يتحرك كأمير. أحببته واتخذته صديقاً لي. لم يكن يكبرني إلا بعدة شهور. كان يجلس معي في الليالي القمرية يحدثني عن بلاد أخرى فيها أقوام بيض وسمر وسود وحُمر.. كان يحدثني عن جبال وتلال وأنهار. كان يذكر لي أشياء عن العالم الخارجي تذهلني. على أنه كان يملك أشياء أخرى أكثر من التحدث عن عجائب العالم. كان يملك نوعاً من «السحر». كان يستطيع أن ينقل الكلام في صور مرسومة يدعوها كتابة، وأذهلني هذا السحر فطلبت منه أن يطلعني على أسراره.. وتعلمت الكتابة والقراءة، كنت أجلس طول النهار أكتب وأقرأ.

الله!!

طالت جلستنا في إحدى الليالي، تحدثنا في أشياء كثيرة. فرغ من حديثه وانحنيت أراجع بعض ما قال، وبغتة فاجأني بسؤال: أي إله تعبدون؟ فقلت له: «ما هذا السؤال الغريب؟ ما معنى ما تقول؟ ما معنى إله وتعبدون؟» قال: «كيف تسأل هذا السؤال؟ أليس لكم إله؟ لقد ظننت طول الوقت أن إلهكم يقيم على مبعدة، ولذلك لم أر له معبداً، ولم أركم تقدمون له العبادة». قلت: «إنني لا أفهم معنى كلمة إله». قال: «فإلى من تلجأون إذا أصابتكم كارثة أو هاجمكم عدو؟ إلى أي اتجاه تتوجهون إذا ضافت بكم السبل: إذا تأخر عنكم المطر، أو إذا أحركقم القيظ». قلت «إننا لا نعرف هذا الذي تقوله، إننا تعيش مع آبائنا وأمهاتنا وإخوتنا وأهلينا.. ونعيش وسط حقولنا ومعنا أبقارنا وجواميسنا وحميرنا وطيورنا» قال: «يا لكم من تعساء! ترى ما الفرق بينكم وبين الحيوانات التي تعيش معكم؟ ما الفرق بينك وبين البقرة التي تستخدمها؟ هي تأكل وأنت تأكل، وتشرب هي وأنت تشرب، وتموت وأنت تموت. بل هي أفضل منك لأنها تعطي حي وميتة. أما أنت فإنك إذ تموت ينقطع نفعك نهائياً. لماذا إذن تسود على البقرة؟ ما هو مستقبلك؟ إلى أي مستقر تصل بعد موتك؟ ألم تسأل نفسك يوماً كيف وُجدت الشمس والقمر والنجوم؟ بل ألم تفكر كيف وُجد آباؤك الأولون، كيف وُجد هذا الكون كله؟».

وجعلت أتأمل كلامه. قلت حقاً لو أن أحدهم درب الحيوانات التي في البيت لاستطاعت أن تكون لها السيادة. وسألت نفسي: لماذا إذاً أسود عليها؟

وقرأ «الفينقي» ما كان يجول في فكري وأجاب: «لأنك إنسان وفيك شيء من ذلك الكائن الأعلى الذي تدعوه إلهاً»!!

وقال الفينيقي إنه لا يعرف الكثير عن ذلك الإله. لقد نزل عندهم في أحد الأيام في سنين ماضية تاجران: أحدهما يوناني والثاني مصري. وحدثاه عن إله.. كائن عظيم. ووصفا له عظمة أعماله وسلطانه، لكنهما لم يخبراه عن صورته أو مكانه!!

قال «الفينيقي»: «وقامت حروب بين بلدنا وبلدان أخرى، كانت الهزيمة من نصيبنا، فقُتل أبي وسبيت أمي وإخوتي، وباعوني عبداً، فاشتراني التاجر الكنعاني الذي عاملني بمنتهى الرفق، وقد أوكلني على كل حساباته، لكنه لم يترك لي وقتاً لأفكر في هذا الإله.. لذلك لا أستطيع أن أخبرك الكثير عنه. إن كل ما علمته عنه أنه كائن كبير، أعظم من الإنسان وهو الذي يملك كل ما يتصل بنا من خير ومن شر». وصمت الفينيقي لحظة ثم قال: «أظن أني سمعت منهما أنهم آلهة كثيرون وليس إلهاً واحداً. الحقيقة أن الأمر مختلط عليّ، فقد كان حديثهما الأول عن إله كبير. ربما كان هو رئيس الآلهة».. قلت: «ألم يخبرك على الأقل أين يقيم هذا الإله الكبير، وما هي صورته، وما هي علاقته بنا. هل ينتظر منا شيئاً؟». قال: «كلا،لأني لم أستطع أن أسألهما شيئاً، ولكنهما أشارا في حديثهما نحو الشرق - وقد حملني سيدي الكنعاني إلى كل البلاد التي كان يشتري فيها ويبيع - هو شخصياً لم يفكر في إله. كان كل وقته يفكر في الصوف واللبن والزبد والجبن واللحوم والعبيد والجواري والملابس والنقود والخردوات.. إن سيدي يتعامل مع ألوف من الناس. إلهه تجارته. هو نفسه يقول: لقد ولدت تاجراً وعشت تاجراً، وسأموت تاجراً. التجارب ربي والأموال إلهي. ثم قال الفينيقي: إني كنت أرغب أن أتحدث مع العملاء عن الله، ولكنه لم يترك لي وقتاً» قلت: «لكن ألم تعثر في كل البلاد التي ذهبت إليها على هذا الإله، أو على شيء من آثاره؟ لا شك أن الكائن الكبير لا يختفي، ولو غطاه سيدك بآلاف الأغطية».

فأجاب: «ًلقد عثرت على آلهة، لكن من عثرت عليهم لم يكن لهم أو بينهم إله كبير. رأيت قوماً يعبدون الحجر، وبعضا يعبدون الشجر. رأيت أقواماً يعبدون كائنات حقيرة جداً جداً، الناس أعظم منها بكثير. فتأكد لي أنها لم تكون آلهة، لقد كانت شيئاً حقيراً، وأنا كنت أبحث عن إله كبير!!».

ولما فرغ «الفينيقي» من حديثه اكتشفت حقيقة الجوع الذي كنت أحس به دون أن أعرف كنهه. ولكن ذلك الاكتشاف ملأني بالضيق. لقد كنت أحس بجوع لشيء لا أعرفه، وها أنا الآن أعرف حقيقته، ولكني أرى استحالة ملء هذا الفراغ. أين أجد ذلك الإله وأنا أقيم في واد ضيق محصور بين جبال لا أعلم شيئاً عن العالم الخارجي، ولا رباط لي بذلك العالم إلا عن طريق الكنعاني الذي لا يعبد إلا التجارة. واشتعلت نيران شديدة في صدري. تكلمت مع أبي في ذلك فقال: «دعك من هذا الهراء. لقد نشأنا كما ترى، ننشأ صغاراً ونكبر ونتزوج ونلد أولاداً ونربيهم ونزوّجهم ليتوالدوا وتنتهي مهمتنا فنموت، ليقوموا هم بما قمنا به نحن. وهكذا دواليك. يقوم جيل جديد... وتتلوه أجيال. نولد ونتزوج ونلد البنين والبنات.. ثم نموت ليقوم أولادنا ويسيرون كما سرنا. لقد مرت بنا السنون ونحن على هذا المنوال، فلماذا تأتينا اليوم بما يعكر صفونا بكائن يأتينا، لا نعلم ما يكون مكانه بيننا وما يتطلبه منا أو ما يضع علينا من أعباء نحن في غنى عنها. كلا يا بني اتركنا وشأننا. لسنا في حاجة إلى ما قد ينغّص علينا، أو ينتقص من مقدار هدوئنا».

قلت: «ولكن الغد يا أبي؟ لا يمكن أن أكون أنا والبقرة سواء. أعيش كما تعيش وأموت وأنتهي كما تموت وتنتهي». ثم قلت له: « ما سبق أن قاله الفينيقي، إن البقرة خير مني لأنها عندما تموت نجني منها الكثير، أما أنا فأموت وأكون عبثاً على قومي، والغد يا أبي»..وصرخ أبي فيّ قائلاً: «دعك من الغد. عش وتمتع بالساعة التي أنت فيها، لا تزعجنا بحديثك عن الغد وما بعد الغد!!».

ذهبت إلى الفراش في المساء بصدر ثقيل، وقد سألت المرة بعد المرة: هل هناك إله كبير في يده آجالنا وإليه مآلنا؟ هل لنا مستقبل أم لنا مجرد حاضر؟ هل كان لنا ماضٍ.. تُرى كيف وُجد الجد الأول؟

ونمت وأنا في غاية الاضطراب. وفي الليل رأيت في حملي أني في صحراء شاسعة الأبعاد، لم يصل نظري إلى أي بعد من أبعادها. لم أر لها أولاً ولا آخراً. وفيما أنا أسير على غير هدى رأيت ذلك الإله. رأيته في حلمي يقترب مني، وإن ظلت المسافة بعيدة بيننا.. وقد ابتسم في وجهي فتشجعت وسألته أين يقيم، وهل يسمح لي أن أصل إلى مقره لأسأله الكثير مما يشغل فكري. وكان جوابه: «إنك ستراني إذا طلبتني بخلوص نية. أنا كبير جداً وفي نفس الوقت صغير جداً. تراني في الجبل الشامخ وتراني أيضاً في الزهرة الصغيرة. مطالبي عسيرة جداً وفي نفس الوقت هينة جداً. أنا قريب منك جداً.. وبعيد عنك جداً. عليك أن تترك عشيرتك وبيت أبيك لتبحث عني، وفي نفس الوقت يمكنك أن تراني حيث أنت.. سأوجد لك إذا طلبتني بخلوص النية».

وفي الصبح عاودت أبي في موضوع الإله. فقال لي: «ألا زلت تسير خلف أوهامك يا بني؟ ما لنا وللآلهة؟ يكفي ما قاله الأقدمون عما لاقوه من معاناة من هؤلاء الآلهة. لقد طلق أجداد أجدادنا هؤلاء الآلهة لما لم يجدوا منهم إلا كل شر»...

وإذ ذاك ذكرت لأبي حلمي، وقلت له إني ألتمس منه أن يسمح لي بالخروج للبحث عن هذا الإله. إن نيراناً تلهب قلبي. لن أستريح حتى أجد هذا الإله. وسخر أبي مني ومن حلمي، وأكد لي أن حلمي لم يكن إلا صورة من ارتباك نهاري. ليس هناك إله كبير أو صغير. لقد صنعت أنت إلهك. إن أحلام الليل هي تجسد أفكار النهار!!

واشتد النقاش بيننا. هو يصر على أنني مجنون أو شبه مجنون، ويقول إن اليوم الذي دخل «الفينيقي» فيه بيتنا كان يوم نحس. إنه لا يمكن أن يسمح لي بالخضوع لنزوة حمقاء قد توردك موارد الحتوف. وأنا أقول له إنها ليست نزوة. إنه يوجد إله وإني سأجده. وامتدت المناقشة بيننا. وبكى أخي الكبير، وبكى الآخرون. والتمست مني خطيبتي أن أعدل عن رأي.. دعنا نتزوج ونتمتع بالحب. وتوسطت الشيخة.. ولكت أبي تمسك برأيه: أنا مجنون! ليست هناك قوة تجعله يعدل عن رأيه.

وهنا هددت أبي أني سأترك البيت حقاً. سأتركه سراً إذا استحال تركي له علناً. سأتركه ليلاً إذا لم أستطع ذلك نهاراً. سأتركه وحدي إذا لم أجد رفيقاً.. سأتركه لأستقبل كل مخاوف الصحراء مهما اشتدت... سأتركه!!

ولما رأى أبي جدية إصراري، وأن الشدة ليست علاجاً، صرّح لي بالخروج. أعدّ لي قافلة من عشرة جمال وعشرة عبيد. وأعد لي زاداً وعتاداً، وقال إنه يمكنني أن أتغيب سنة كاملة. قال: «وستعود بعد رحلة السنة هذه لتخبرني بعجائب الدنيا والتحدث معي عما رأيت من العجائب والغرائب في العالم الخارجي، ولكنك ستخبرني أيضاً أنك بحثت عن الإله الذي اخترعه ذهنك المريض فلم تجده بالطبع، لأنه فعلاً لا وجود له»!!

كانت فرحتي لا حد لها. لم أستطع أن أغفو لحظة واحدة وأنا أترقب الصباح. في نصف الليل سمعت حركة أقدام تسير متلصصة، فقمت ووجدت الباب الخارجي مفتوحاً، وفي ركن الساحة أبصرت شبحاً. اقتربت من المكان فإذا بابنة عمي ووجهها نحو الجدار تجهش ببكاء صامت. رأتني أقترب منها فانطرحت على الأرض وأمسكت بقدمي تقبلهما. أقمتها واحضتنتها وقبلت وجهها وشفتيها لأول مرة في حياتي.. ووعدتها أني سأعود إليها وسنتزوج وسنلد بنين وبنات في ظل بركة ذلك الإله العظيم الذي خرجت أبحث عنه والذي سأجده.

ورفعنا كلانا وجهينا نحو السماء وقلنا: «أيها الإله المنشود، اكشف عن عيني عبدك حتى يجدك فنتولى حراسته ونعبده. لنتزوج في ظلك.. وببركتك»

رحلة الحدود:

وخرجت مع صديقي الفينيقي وقد شدد أبي عليه الوصية أن يكون «كلبي الحارس».. وقد كان فعلاً حارساً أميناً. كنا قافلة صغيرة ولكنها كانت مسلحة. سرنا أياماً وليالي أسابيع وشهور.. إلى أن حدث الزلزال... وصمتُّ.

ولما طال صمتي سألني الرجل: «ما هذا الزلزال الذي تقول عنه؟» حاولت أن أذكر ما حدث. لم يكن من السهل أن أستعيد أخبار الرحلة. هوذا سحابة سوداء تحيط بي. على أنها بدأت تنقشع شيئاً فشيئاً، وإذا رأيتني راكباً على جمل، ويركب خلفي صديقي الفينيقي وبقية العبيد على جمال آخرى، وجمال أخرى تحمل الماء والزاد!!

قطعنا مسافا طويلة في الطريق الرملي في الجبل - كانت الشمس شديدة الحارة. لم يكن بإمكاننا السفر نهاراً. كنا نبدأ رحلتنا قبل الغروب ونظل طول الليل نقطع المسافات المترامية. وقال دليلنا: «لقد أوشكنا على الوصول إلى حافة الصحراء، سندخل الأرض العامرة بعد أقل من يوم» - كان ابتهاجنا لهذا الإعلان طاغياً. لقد تعبنا من جهة السفر، ومن الأكل بحساب ومن الشرب بحساب أدق. سنصل إلى العمران لنأكل حتى الشبع ولنشرب حتى نرتوي. وعسى أن نجد بشراً يدلنا على الطريق للعثور على الله، على الحق الأزلي الذي نبحث عنه!!

وفد جعلت أفكر إذ ذاك في أمور كثيرة، في الوادي الذي قامت فيه بيوتنا، وفي أبي، وفي أهلي.. في الشابة الحلوة التي سأتزوج منها.. على أن التأمل الذي طغى كل ذلك كان ذلك الإله الذي أبحث عنه!!

كانت عيناي مغلقتين تقريباً، ولكن ذهني كان يجول في ذلك الظلام، وكان رغماً من الظلام يبصبر أشياء كثيرة.. وفيما أنا تائه في بيداء الفكر اهتز المقود في يدي اهتزازاً خفيفاً. بدا كأن الجمل يتعثر في شيء. قبضت على المقود بقوة ولكنه انفلت مني بشدة. كانت الأرض تهتز. كان اهتزازها في أول الأمر خفيفاً، ولكنه جعل يشتد بعنف.. وزاد العنف حتى أحسست أن الأرض تكاد تنقلب. تحولت الأرض الصلبة إلى ما يشبه بحراً ثائراً عاصفاً متلاحق الثوران. سقط الجمل بعنف إلى الأرض، كانت سقطته على حجر حاد الأطراف فقُتل في الحال. وسمعت صرخات عالية من رفاق السفر، حدث بعدها صمت عميق.

أما أنا فسقطت في حفرة. غريبة هذا الحفرة! كانت تشبه - أو هذا ما خيل إلي، أنها تشبه حجرة تدور على مركزها. جعلت أتدحرج وأدور من جانب إلى جانب مع دوران الحفرة، والحجرة تتسع لي وأنا أهبط، يلطمني هذا الجدار ويدفعني الجدار المقابل. كنت أحاول أن أجد شيئاً أمسك به لكي لا أهبط أكثر، فلم أ جد. كانت الجدران ملساء، ولو أن احجاراً صغيرة جديدة كانت تبرز منها تشبه السكاكين - ظللت كذلك أدور وأدور، وأنا أهبط وأهبط، إلى أن غبت عن وعيي. كم بقيت فاقد الوعي؟ لا أستطيع أن أقول لك: ساعة، يوماً، أسبوعاً، شهراً، سنة.. لا أعلم. إني أحس أن أجيالاً مرت بي..!!

والآن ها انا أمامك، وأنا أسألك أن تخبرني الحقيقة. هل أنا حقيقة أم أنا لا شيء؟ هل أنا مستيقظ أم أنا نائم؟ هل حدث ما قلته لك أم أنا أحلم؟ هل كنت أحلم؟ وهل لا زلت. هل جئت من بيت في الوادي أم أنها أوهام؟ هل أنا «أنا»، أم أنا بلا كيان، ولكن سواء كنت أنا هو من أقول إنه «أنا» أن كنت حالماً مجرد حالم، فإني أعتقد أن سؤالي جدّي. لقد خرجت أبحث عن الله، عن الحق الأزلي، نعم أيها ال... هل تسمح لي أن أقول: «أيها الصديق؟» نعم أيها الصديق، أنا أبحث عن الله إذا كان الله موجوداً حقاً. وأنا أسأل أين هو، وأسأل هل يمكن أن أراه؟ إن أمنية حياتي، إذا كنت حياً حقيقة، أو كنت حالماً، إن أمنيتي في كل حالة أن أرى الله!!

نعم فقد خرجت أطلب الله.

الباب الأول: في مصر

الفصل الأول: الكاهن المصري

كان الرجل كاهناً بسيطاً في هيكل «الإله أوزيريس»، أحد آلهة مصر كما أخبرني. وقد علمت أنه كان قبل زواجه يخدم في هياكل مصر. وقد أُتيحت له الفرصة أن يفتقد العدد الكبير من هذه الهياكل. وهي هياكل كثيرة منتشرة في كل أنحاء البلاد.. وكانت الكلمات «آلهة» و «هياكل» و «كاهن» غريبة على أذني. لم أفهم المقصود منها، ولكني لم أسأل عما يقصده، منتظراً إتمام حديثه!!

على أنه انتقل كما خُيل لي إلى موضوع آخر. قال بعد أن ابتسم ابتسامة عريضة: «شكراً «لأوزيريس» أنك جئت في الوقت المناسب. إنك لست أول من جاء إلى هذا المكان؟ لقد سبقك آخرون، ولكنهم كانوا يبحثون عن أشياء أخرى توجد على مبعدة قريبة من هذا المكان إذا صح التعبير: مناجم للذهب وللفضة؟ وقد علمت مؤخراً أنهم اكتشفوا مناجم لمعادن أخرى. ومنذ أعلنت تلك الاكتشافات جاء كثيرون ينشدون المعدن النفيس. وقد عثرت في البقعة التي وجدتك فيها على جثث عديدة. ربما يجدر أن أقول على بقايا جثث. هلك البعض جوعاً وعطشاً. افترست الوحوش البعض. وبعضهم قتلهم اللصوص المنتشرون في المكان. أقول شكراً «لأوزيريس» أني وجدتك. أعتقد أن الآلهة حرستك لأنك خرجت تبحث عن الله لا عن المادة!!»

وأنا كما قلت لك كاهن بسيط في هيكل «الإله أوزيريس». وقد اعتدت أن أترك بيتي مرة كل ثلاثة أسابيع لأقضي في الكهف القريب ثلاثة أيام أتأمل في الروحيات، لا أتناول إلا أقل القليل من الخبز الجاف وأقل القليل من الماء الذي علمّني رجال الصحراء كيف أحصل عليه. ووجدتك مطروحاً على الأرض لا أثر للحياة فيك إلا بعض التنفس الضعيف. ويسرني أني استطعت أن أعيدك إلى الحياة. ويسرني أن أكون ذا نفع لك. نعم فقد وصلت إلى نهاية رحلتك. سآخذ بيدك إلى «الله» الذي تبحث عنه!!

الله.. الله الواحد.

وتكلم الكاهن طويلاً. ومع أني فهمت مفردات كلماته إلا أني لم أستطع أن أفهم معنى هذه الكلمات، فقد شرح كلمة «الله» وكلمة «هيكل» وكلمة «كاهن». شرحه بما هو مفهوم عنده. علمت فيما بعد أن للديانة فلسفة عميقة. لكني استطعت أن أفهم أن الإله كائن عظيم وُجد من أقدم الأيام. قال إنه «إله سرمدي أو أزلي.. وأبدي». وقد حاول أن يفهمني معنى هذه الكلمات. وأنا اكتفيت بأن أفهم إنه إله ظهر في أيام قديمة، أقدم من أيام أبي وجدي، وأنه سيظل عائشاً إلى ما بعد أن انتهي أنا وأولادي وأحفادي.

وقال لي أن هذا الإله في مكان، لا نستطيع أن نصل إليه. بل إننا إذا فرضنا المستحيل ووصلنا إليه، فإننا لا نستطيع أن نراه بعيوننا....

لم أستطع أن أحتفظ بفمي مغلقاً بعد أن حفظته طويلاً. قلت: «لئن كان ذلك الكائن العظيم القديم الأيام الذي لم يره آباؤك وأجدادك - وأنت بالطبع لم تره - فكيف عرفت أنت بوجوده وهو يقيم على بُعدٍ خيالي؟ ومن أنت حتى تعرف هذه الحقائق عنه؟ لقد خرجت من بلادي أبحث عن هذا الإله، وقلت لك إني أريد أن أراه وأعرف شخصيته وماذا يستطيع أن يعطيني وماذا يطلب مني أن أقدمه له. وأنت تقول لي كلمات غريبة «سرمدي» «أزلي» «أبدي» يقيم في أماكن بعيدة لا يمكنك الوصول إليها - بل يفرض وصولك إليها فإنك لا تستطيع أن تراه. أوه ... الحق يا سيدي أنك زدت بلبلتي بلبلة» وقد أحسست أني لم أكن مهذباً مع الرجل، وهو كان كريماً معي!!

على أن الرجل لم يغضب بل تبسم. ,إذ رآني أهم أن أعتذر، أشار عليّ أن لا أفعل ذلك. قال: «لا عليك. لقد جزت أنا في نفس طريقك، وسألت نفسي أسئلتك. هناك أشياء كثيرة لا زلت أجهلها. أنا .. نسيت أن أقول لك إن الكاهن وهو خادم من خدام ذلك الإله. إنه يتلقى أوامر ويحملها للناس، ويحمل مطالب الناس ويرفعها إليه. ويوجد كهنة كبار يدخلون غلى المداخل الداخلية لهياكل الله، البيوت التي يحل فيها. هؤلاء يعرفون أكثر مما نعرف نحن وعندهم الكتب المقدسة. وهم لا يخبروننا كل شيء عن الله. على أني مستعد أن أخبرك أنت كل ما أعرف. وأعتقد أنك بعد أن تسمع مني كل شيء ستكتفي.. أؤكد لك أنك ستكتفي. سترى الله وإن تكن رؤية بالقلب لا بالعين. بالروح لا بالجسد..»

الله موجود:

أما أن الله موجود فأمر لا يحتاج إلى برهان حسي أو عقلي. فأنت تراه بعينك وبأذنك ويقدمك وبيدك، وتراه بفكرك وعقلك. تراه في الحجر والمدر، تراه في السهل والتل والجبل. تراه في النهر والبحر، تراه في الزهرة والشجرة، تراه في الحشرة الصغيرة وفي الحشرة الكبيرة، في الدودة والخنفساء والعنكبوت. في الطير الضعيف وفي النسر وفي الصقر. أنت تراه، الله فيك أنت، لقد ترك الله بصمته على كل هذه الأشياء. إنك إذا رأيت آثار قدم على التراب خارج بيتك عرفت أن إنساناً ما مرّ بالمكان. وكذلك مع الله لا تحتاج إلى أن يخبرك أحد أن الله موجود. أو اغمض عينيك وانظر بذهنك إلى داخلك وإذ ذاك تبصر الله يملأ الأكوان كلها.

وأنا لم أتعلم هذا الدرس من أحد، لقد تعلمته من نفسي. أما ما علّمه لي الكهنة الكبار الذين يقيمون في هياكل الله فهو أن الله واحد وأنه نور لا يُدنى منه. علموني هذا في كتبهم. قال لي الكاهن الكبير إن الله نور لا تستطيع العين أن تقابله... وعندما أراد أن يعلن نفسه للبشر تجلى لهم في صورة محسوسة، ترى نوره في الشمس والقمر والنجوم ترى عظمته في الجبال والبحار والصحارى. ترى بركاته وخيراته في الأنهار والأشجار. وهكذا.. على أن الناس أخطأوا فأخذوا التجلّيات كأنها الأصل.. ولما كانوا ضعيفي الإحساس فقد عبدوا المحسوس. وهكذا عبدوا بدلاً من الله الواحد، آلهة كثيرين وبدلاً من أن يكون لهم هيكل لإله واحد بنوا هياكل متعددة لآلهة كثيرين. ولما طال الزمن علينا ونحن نفكر هذا التفكير نسينا أن لنا إلهاً واحداً. وعبدنا آلهة متعددة. على أني أعتقد أن الله الواحد يتجاوز عن هذا الخطأ، لأننا ونحن نعبد هذه الآلهة إنما نعبده هو، فإنه قد تجلى فيها وهو الذي ولدها.

كان كلام الكاهن يحوي شيئاً مما تستريح إليه النفس وشيئاً مما تمجُّه. لا أعلم لماذا نفرت من تعدد الآلهة.. نعم نفرت!!

تعدد الآلهة:

قلت للكاهن: «لقد خرجت من بيتي أبحث عن الله وأطلب أن أراه. وقد أطمأنت نفسي وأنت تحدثني عن حقيقة وجود الله، وأملت أني سأراه عن قريب. ولكن قولك الأخير يزعجني. إلى أي إله أتوجه وأنت تحدثني عن آلهة كثيرين، آلهة تمتد هياكلهم من شمال الوادي إلى جنوبه؟». قال: «لا عليك، إننا نكرم كل آلهة مصر.. بل يجب أن نكرم كل آلهة البلاد الأخرى، ولكننا لسنا مدينين بالتعبد إلى إله واحد منهم»...

زيارة الهياكل:

وبعد أن صمتَ قليلاً قال: «لماذا لا نبدأ رحلة نزور فيها هياكل الآلهة المختلفة. ثم نختم زيارتنا بزيارة هيكل «أوزيريس»، إلهي الخاص؟ ويمكننا أن نقدم قرابيننا لتلك الآلهة حتى ترضى علينا. ثم.. ثم نختص «الإله أوزيريس» بعبادتنا الكاملة» !!

وسألته: «فهل سنجد الله في الهياكل التي سنزورها؟» أجاب: «لقد سبق أن قلت لك إننا سنجد الله في كل مكان. ولكننا سنجد الله أكمل إله في هيكل أوزيريس. على أن من الحكمة أن نرضي كل الآلهة. إن كل إله جزء من الله».

قلت: «هلا أوضحت لي أكثر عن الله، وهلا شرحت لي شيئاً عن تجلياته أو أولاده كما تقول؟» أجاب: «إن الله كما سبقت وقلت كل، بعيد جداً وقريب جداً. لا يمكنك أن تراه، وفي نفس الوقت تراه، كبير جداً وصغير جداً». قلت: «إنك تبلبل ذهني، إنك تنطق بكلمات أعلى من مستوى ذهني».. فقال موضحاً: «سأقول لك ما قاله لي الكاهن الكبير يوم ذهبت لأكون تلميذاً صغيراً لأحد الكهان، أو على الأصح يوم دخلت الهيكل لأتدرب على خدمة الهيكل. قال: تخيلوا بحيرة من النار، كبيرة أكبر من مدينة تانيس أو تحفنيس العامرة وأعلى من المسافة بين الأرض والشمس الغامرة، وتصوروا أن شرارة واحدة منها طارت لتصل إلينا ومرت على ألف بحر نظير أكبر بحر عرفناه، فجففت كل هذه البحار.. وتصورا أن هذه الشرارة صارت بعد ذلك الشعلة التي نوقد بها نار المذبح.. فهل يمكنكم أن تحيطوا بمعرفة هذه النار العظيمة؟ هلى تستطيعون أن تفتحوا عيونكم لتبصروا؟ وهل تستطيعون أن تقتربوا منها؟ ألا فاعلموا أن هذه النار هي الله. نور أعظم من أن نراه، وأعظم من أن نقترب إليه، وأعظم من أن نفهمه!!»

ولكن هذا الإله العظيم أراد أن يكشف نفسه لنا، فوضع بصمته على أشياء على الأرض. ورأته بعض بلادنا في الحياة الحيوانية، لأنه حياة. فهذه «تنيس وأبيدوس» رأياه في «ابن آوى». وهذه «الفيوم» رأته في «التمساح». و «طيبة» رأته في «الكبش» الذي دعته «أمون». وهذه «منف» وهي تعبد «اللبؤة» و «العجل أبيس». و «دندرة» تعبد الإلهة «هاتور البقرة». و «ادفو» تعبد «الصقر».. وجهات أخرى عبدت القرد أو فرس البحر أو الحية أو القط أو الضفدعة.

قلت: «ولكن ألا ترى معي أنه أمر لا يتفق مع العقل أن الإنسان الكائن الكريم سيد المخلوقات يصير عبداً للحيوان أو للحشرة؟»

أجاب: «إنه لا يتعبد لنفس الحيوان أو لنفس الحشرة.. مع أنه يلزم أن أقول إن القوم عبدوا فعلاً الحيوان والحشرة وغيرهما. لكن الحقيقة الأصلية التي نسيها الناس هي أن الآلهة كانت تتقمص أجسام الحيوانات المختلفة وتجوّل بين الناس وترصد حركاتهم وأعمالهم. ذلك أن في هذه الحيوانات بعض الخواص التي تتفق مع خواص الآلهة. وفي التواريخ القديمة جداً قرأنا أن ملاكاً كبيراً فقد رئاسته، فحل في الحية التي كانت أحيل جميع حيوانات البرية»!!

ثم قال لي: «إن الله» فقاطعته وقلت: «هل هو الله أو الآلهة؟ لقد اختلط الأمر علي من جراء كلامك». أجاب: «إن الأعداد لا تتصل بالله. إنه واحد، لكنه في نفس الوقت أكثر من واحد. إنه ألوف وملايين. حيثما حل كان هو الله. هو إله واحد وفي نفس الوقت آلهة كثيرون.. وأنت قد رأيته في الحيوانات، وستراه في حيوانات لها رؤوس بشرية، لأن في الإنسان أيضاً خواصاً تتفق مع خواص الآلهة. فهذا الإله «أنوبيس» حارس المدافن والمقابر ودليل الموتى هو إنسان له رأس ابن آوى. «توت» إله العلم إنسان له رأس عجل» .

قلت: «في الحق أنا لا أعرف ماذا أُقول لك. أنا خرجت أبحث عن إله، عن كائن عظيم كبير. عن شخص ألوذ به وأطلب حمايته، وأنت تقدم لي حيوانات تحتاج إلى حمايتي حتى لأحس أنني أنا إلهها وليست هي إلهي».قال: «إنك لتشتط في كلامك وتأتي الخطأ كله. لقد ذكرت لك أن الآلهة رأت في سامي حكمتها أن تحل في الكائنات التي قلت لك عنها، وهي كائنات تتميز بخاصيات تتفق مع ما أرادت الآلهة أن تبرزها لبني البشر. والآن هلم بنا نزور بعض هياكل هذه الآلهة، ونقدم القرابين اللازمة، علها ترضى علينا وتمهد سبيلنا وتكشف الطريق أمامنا». ولم ينتظر جواباً، بل مد يده وجذبني وسار بي!!

وظللنا نسير و نسير أياماً وليالي، ووقفنا أمام هيكل قرأت النقوش المرسومة على واجهته، وهي نشيد حمد للإله «رع» إله الشمس.. الشمس مصدر النور وواهب الدفء، وأقام الناس هياكل عدة لـ «رع» بل أن أتباع «أمون» جمعوا ما بينه وبين «رع» فعبدوا «أمون رع». على أن إلهاً آخر كان ذا سطوة هو «حورس» ابن «أوزيريس» و «إيزيس» نازع رع إله الشمس.. وكان رع يطل على مصر من المشرق ويظل يسير مراقباً وفاحصاً ومحارباً قوات الظلام!!

ونظر إليّ الكاهن وقال: «ألست ترى مدة قوة هذه الإله العظيم؟» قلت: «ولكني رأيت هذا الإله في القرية في الوادي حيث كنت أقيم».. وأجاب: «نعم، ولكنه خصّنا نحن بالجانب الأكبر من نوره».

وسألته: «لقد ذكرت «أمون» فأي إله هو هذا؟» فأجاب: «إنه إله عظيم، ولكنه غامض وقد رأيناه في طيبة، ولكنه كان إلهاً مسالماً، فقد اختلف كما سبق أن قلت لك مع الإله «رع» وعبدنا «أمون رع»

وتركنا هيكل «رع» ووصلنا إلى هيكل الإله «تحوت» إله الحكمة وحارس القانون، وعند قدميه عرفنا الحروف وتعلمنا القراءة والكتابة.. يجدر بنا أن نقدم له ولاءً كاملاً، لأن كل حكمة المصريين كانت من فيض عطاياه. وقد برز أعظم الحكماء في مصر وتحدث الناس عن حكمتنا التي فاقت حكمة أعظم الحكماء..

هياكل صغيرة:

أما هذه الهياكل المبعثرة هنا وهناك فلا بأس أن تمر بها مروراً سريعاً.. فهذا هيكل الإله «بتاح» معبود «ممفيس» هو الإله الخالق وقد خلق العالم من الطين. ونحن لا نعرف له بداية. لا أقول ذلك لأننا نعرف بداية الآلهة الأخرى، ولكننا نعرف بداية إعلانها لنا. أما «بتاح» فلا يذكر أحد متى عرف الناس بدايته. وهذه «إلهة الحق» الإلاهة «مات» التي تقف عند باب قاعة الدينونة حينما يوزن قلب الإنسان.

وهذا هيكل الإله «هو» إله الذوق. وهيكل «أنوبيس» حارس المقابر..

الفصل الثاني: آلهة مستوردة

قلت: «لقد ذكرت لي أنك كاهن أوزيريس، فما شأنك وهذه الآلهة؟».أجابني: «إنها آلهة تستحق التكريم وتقديم القرابين. ونحن نحتاج إليها خصوصاً إذا كنا نعيش في منتطقتها. ولكني قادم للإله «أوزيريس» الولاء الأكثر لأني أعيش في طيبة» . وسألت: «وهل يختلف «أوزيريس» عن غيره من الآلهة؟ هلا أخبرتني عنه؟ لقد قلت لي إن آلهة مصر لم تكفكم فاستوردتم آلهة من البلدان الأخرى.. هل يولي المصريون الولاء لهه الآلهة كما يولون آلهتهم؟» قال: «إننا بالطبع نولي آلهتنا التفضيل. وإن كنا نقدم بعض القرابين لهذه الآلهة، فذلك لأننا نخشى أنها تغضب علينا، فنتقي شرها بالعطايا ونسترضيها.»

من فلسطين جاءنا «بعل» و «ملكوم» وهي آلهة مخيفة لا تقبل منا إلا الذبائح البشرية. وكذلك جاءتنا من بلاد فارس «الإلاهة عشتار». وبالرغم من أنها إلاهة جميلة إلا أنها لا تقبل إلا أن نجيز أولادنا وبناتنا في النار. ثم قال بارتعاب: «وقد جاءتنا من الهند «الإلاهة كالي» وهي لا ترضى إلا ببحور الدماء. شكراً للآلهة! إن آلهننا في مصر لا تطلب منا ذبائح دموية. إنها تطلب منا تقدمات وبخوراً وإلهالنيسل يطلب منا أن يتزوج من بناتنا عروساً جميلة مجهزة بالحلي والجواهر، فيفيض علينا بكل الخير» !!

قلت: «فهل هناك آلهة أخرى؟» فأجاب: «نعم. هنا آلهة اليونان وآلهة الرومان. كلها لها مكانها من التقدير. على أن آلهتنا أرأف علينا من آية آلهة أخرى.. وهل أجسر أن أقول إنها أكثر قداسة وطهارة.. إن آلهتنا ليس فيها من عدو للناس إلا ست. وسأحدثك عنه في حديثي عن «أوزيريس». أما الآلهة الأخرى في اليونان مثلاً ويتزعمها «زفس» إله الألهة والناس، فإنه متزوج. نعم فإن الآلهة يتزوجون ويحبون ويلدون. وزوجة زفس «هيرا». ومع ما لزفس من عظمة فقد امتلأ قلبي بالاحتقار له. بالطبع لم استطع أن أعلن رأيي للكاهن، بل حاولت أن أخفي رأيي عن نفسي. كان «زفس» متزوجاً «هيرا» ولكنه تزوج أو أحب نساء أخريات، أو كما يقولون إلاهات أخريات. زوجته «هيرا» وقد ولد منها «أثنيا» إلهة الحكمة وابنه «أبولو»الذي يحسن ويسيء وإله النار الأعرج الذي تزوج من أخته «أفروديت» وقد ولّدها «زفس» من زوجته «ديون» - ومن أ بناء زفس أيضاً «أرطاميس» إلهة أفسس و «أريس» المحارب الصنديد - ولزفس ابن آخر هو «ديونيسيوس» من زوجته «سميل»، و «هريس» وقد ولدته عشيقته «ماية» - ولزفس أخوان «بوسيدون» - إله البحر - و «هريس - إله العالم السفلي. قلت في نفسي: هل هذه آلهة؟ وكيف تستطيع أن تحاسب الناس وهي منغمسة في أحد الرذائل؟!!»

لكن!!!

لكن لماذا لا نتركها ونعيش في بلادنا الجزء الجنوبي بعيدين عنها، طالما أن سلطانها لا يمتد إلا إلى الأماكن التي توجد فيها. وقلت للكاهن: «هلم بنا إلى الجنوب لنحيا بالقرب من طيبة لنسمع منك عن أعمال الآلهة وعن انتظاراتها، ولنسمع أخبار هذه العائلة المقدسة عائلة «أوزيريس»

الفصل الثالث: قوة الآلهة

صمتُّ قليلاً ثم قلت: «أقول لك الحق، إن أخبار الآلهة أفزعتني. آلهة تتزوج وتهجر وتخون، وتلد أولاداً يتنافسون ويتحاربون. ما الفرق بينهم وبين البشر؟».

قال: «إنهم أقوياء يتسلطون على الأرض والبحر والهواء.. يستطيعون أن يأتوا بالزلازل والبراكين والسيول، وعندهم مقدرة ذهنية وأسلحة رهيبة. إذا ساعدوا، فإن من يساعدونه يتغلب على كل أعدائه. نعم إننا في حاجة إليهم ولذلك فنحن نعمل على إرضائهم بكل ما نملك!!».

قلت: «فما مدة سلطانهم؟» أجاب: «إن سلطانهم محدود بما يملكون وحيث يكونون، ولذلك فنحن في طيبة مطمئنون، لا يستطيع أذاهم أن يصل إلينا. بل إن إلهنا «أوزيريس» يبسط حمايته علينا» .

قلت: «هلم بنا إلى طيبة». وسرنا أياماً وليالي وصلنا بعد أسابيع عدة إلى طيبة.. عاد الكاهن إلى بيته، واستقبلته، والأصح أن أقول استقبلتنا زوجته بترحاب، واسترحنا ثلاثة أيام. وزرنا الهيكل المقدس هيكل «أوزيريس» وقدمنا القرابين.

وفي المساء جلسنا في ساحة البيت، وبدأ الكاهن يتحدث قال:

«لقد زرنا هياكل الآلهة وقدمنا القرابين... ويسرني أنك زرت الأهرام الثلاثة وأبو الهول. كما زرنا هرم أوناس والأهرام الصغيرة المجاورة. وقد سألتني عن بُناة الأهرام وأجبتك أنهم آلهة مقدسة، والفراعنة آلهة لأنهم «أبناء رع» «خوفو» و «خفرع» و «منقرع» وحديث الأهرام يتصل بالحياة الأخرى وسنتكلم عنها» .

قلت: «هلا نظمنا حديثنا حتى أستطيع أن أستوعبه بالكفاية.. أنا أسأل ماذا تعطينا الآلهة. هل نحتاج إليهم أم يمكننا أن نستغني عنهم؟ ثم ما هو موقفها منا بعد انتهاء هذه الحياة؟ هل هناك حياة أخرى؟» وأجاب الكاهن: «إنك تتعدى حدودك. إن الآلهة آلهة. أنها تأخذ وينبغي أن تأخذ. إنها السيدة. نحن عبيدها. وقد تعطي. ولا شك أن عطاءها كرم منها. إنها تستطيع أن تؤذينا، ولكنها لا تفعل ذلك طالما نحن نحتفظ بولائنا لنا. وهي تطلب منا أن نسلك سلوكاً مرضياً مع بني جنسنا. علينا نحن أن نجاهد في سبيل ذلك. أما الحياة الأخرى فلا بد منها. ولقد رأيت أنت علامات ذلك...»

«ألم تر في خدمات يوم صرف الروح عندما وقف الكاهن ورش الماء المقدس في اليوم الثالث، وألقى الابن الأكبر الكلمات السبع لتنصرف الروح إلى القبر؟ ألم تر عملية التحنيط لإبقاء الجسد كما هو حتى تعثر الروح عليه فلا تضل عنه بعد الأربعين وبعد السنة؟ ألم تر تلك القبور الشامخة في الأهرامات الكبيرة للفراعنة أبناء رع؟ نعم هناك حياة أخرى يحياها الصالحون.. يعيشون كما كانوا يعيشون فقط بمشقة أقل.. ولم يخبرنا الكهنة الكبار عن مدى هذه الحياة. لكني أعتقد أنها طويلة، وإن كنت لا أدري متى تنتهي»!!

ارتباك:

مرة أخرى أحسست أن الحياة بدون آلهة أقل ارتباكاً.. أي إله من هذه الآلهة أتخذه إلهي؟ وإذا اتخدث هذا الإله، ألا يغضب الإله الآخر؟ ولقد حدثني أحد كهنة زفس عن عولس الذي ضلت به سفينة، وكان في حاجة إلى «بوسيدون» إله البحر، ولكنه كان في حصومة معه، فقابل من المشقات ما قابل مدة عشرين سنة. ولم يتسطع أن يعود إلى وطنه إلا بعد أن توسط بعض الآلهة بينه وبين «بوسيدون» إله البحر خصمه. إن أمر هذه الآلهة عجيب - إنهم يحتلون مكان السيادة ولكنهم يسلكون سلوك الصغار. ألا يكون من الأصلح أن أعود إلى وطني وأعيش هناك مع حقولي وأغنامي بعيداً عن الآلهة ومتاعب الآلهة؟

كنت أتحدث بهذه الكلمات عندما دعاني صديقي كاهن أوزيريس لننطلق إلى طيبة حيث هيكل الإله أوزيريس.

الإله أوزيريس:

ووصلنا إلى طيبة.. وقدمنا القرابين للإله العظيم.. وفي المساء جلس الكاهن يحدثني عن «أوزيريس».

«لايعرف الكاهن متى ابتدأ أوزيريس. إنه ليس الإله الأصلي كما سبق أن ذكرت لك. إن الإله الأصلي غير منظور. لذلك عندما أقول لكا إن إلهاً بدأ، عرفنا ببدايته، أقصد بداية تجليه أو تجسده. فقد يتجلى في الحجر أو في الشجر أو في النهر أو في الحيوان أو في الحشرة أو في النجم أو في الكواكب.. وبالطبع إذ يحل في هذه شيء من الله، نرى الله فيها فنعبدها. والذين يعرفون الحقيقة منا قليلون. أما الأكثرية فيعبدون نفس الأشياء. فنحن نعبد آلهة كثيرة بحسب الظاهر كما سبق أن قلت لك، ولكننا في الحق نعبد ذلك الإله غير المنظور»!!

الفصل الرابع: أوزيريس

وكان «أوزيريس» أسمى التجليات للإله الروح غير المنظور. فقد تجلى إنساناً، يرجع أصله إلى ما قبل التاريخ كما يقول الكاهن. وقد رآه البعض قادماً من ليبيا، وإن كان البعض يقول إنه وفد من سوريا.. وقد جاءنا إلى طيبة!!

قال الكاهن: «كنت جالساً عند باب بيتي المتواضع. لم تكن طيبة مدينة كبيرة. لم تكن فيها شوارع جميلة مقسمة ولا معابد كثيرة ولا تماثيل ضخمة منقنة الصنع ولا قصور أنيقة البناء، بل أن بيوتها الحق لم تكن بيوتاً. كانت أكواخاً من الخشب أو البوص المكلس بالطين. كانت بعض بيوت العظماء كما كان بيت الملك من الأحجار، ولو أنها لم تكن في الفخامة التي تراها الآن».

«وقبل مغيب الشمس أقبل إليّ رجل مهيب الطلعة جميل السمت، ترافقه امرأه حلوة. أقبلا من خارج المدينة، وقد التفّ الناس حولهما يتطلعون بكثير من الفضول إليهما إذ لم يسبق لهم أن شاهدوا كائناً بشرياً في مثل هذه المهابة والقوة والجلال، ولا امرأة في مثل هذا الطهر والوداعة والجمال.. أقبل الرجل والمرأة إليّ وطلبا أن ينزلا ضيفين في منزلي المتواضع، فرحبت بهما كل الترحيب كعادة سكان القرى. ومنذ حلاّ عندي تحوّل بيتي إلى فردوس، امتلأ بالخير والبركات.. أحسسنا أن السماء انتقلت إلى الأرض. وقد علمنا أن الرجل والمرأة ليسا من البشر وإنما هما كائنان إلهيان».

«وعلمت فيما بعد أن الرجل هو «الإله أوزيريس»، الإله الذي كان يهتم بالزرع والحصاد، وأن المرأة هي زوجته الإلهة إيزيس - وفي نفس الوقت كانتا يعملان على صنع الخير والإحسان وتقديم العزاء والتشجيع - وقد علّما المزارعين صنع المحراث وشق الأرض واستعمال آلات الري» !

«وكان «أوزيريس» أيضاً جميل الصوت، ماهراً في اللعب على الرباب، فكان يرسل موسيقاه في الليالي القمرية أنغاماً حولّت تلك الليالي إلى جزء من النعيم - وقد رفض أن يترك بيتي، مع أن الملك والعظماء دعوه إلى بيوتهم» !

«ولم يكتف أوزيريس بخدماته للزراعة ولكنه حاول أن يرفع المستوى الأخلاقي والروحي، فدّرب الناس على تقديم العبادة لله، وعلّمهم أن الأصنام الحجرية ليست آلهة، وأن الله كائن حي يسمعهم ويستطيع حمايتهم ويقدم لهم أعوازهم. إنه هو الذي يرسل لهم شمسهم ونيلهم وكل خير يأتيهم - وأخبرهم أن من عاش نزيهاً مستقيماً غير محب لذاته استطاع، رغم كونه إنساناً أن يدرك الملكوت الذي يحتله ذلك الإله ويستمتع ببهائه وسناه. وقد عظم الناس «أوزيريس» واعتقدوا أنه هو ذلك الإله الذي يبشر به فعبدوه هو» .

وحاولت أن أسأل الكاهن عن أمور تتصل «بهذا الإله» فأشار عليّ أن أنتظر، ومضى يقول: «أما «إيزيس» فهي زوجة «أوزيريس» وأخته في نفس الوقت.. وقد علمت أن «ست» إله الشر وهو في نفس الوقت أخو «أوزيريس» قتل أخاه بالسم، ولكن إيزيس استطاعت أن تعيده إلى الحياة، وقد ولدت منه «حورس» الذي خلف أباه... ومع أن أوزيريس عاد إلى الحياة إلا أنه لم يبق في الأرض، بل انطلق إلى العالم السفلي ليكون ديّاناً للموتى» .

فكرت أن أتكلم مع الكاهن، ولكني فضلت أن أتحدث مع نفسي..

هوذا «أوزيريس» يعلّم الناس أن الأصنام التي يعبدونها ليست هي الله، والنيل والشمس وكل معبود آخر هم عطايا ذلك لإله. و «أوزيريس» نفسه ليس إلهاً ولكنه يبشر بذلك الإله.. إن الكاهن يقول إن في مصر آلهة، وأوزيريس يقول إن الله هو كائن حي، فأين هو؟.. لقد خرجت أبحث عنه وأخبرني الكاهن أن مصر ملآنة بالآلهة.. الكهنة العظام يقولون أن الله كائن روحي... إن ما يعبدونه ليس هو الله.. فهل لهذا الإله وجود؟ وإن كان موجوداً فهل يمكن أن أراه. وأين أ جده؟

لا أستطيع أن أتكلم بمثل هذا للكاهن. ترى ماذا استطيع أن أعمل؟ لقد زاد ارتباكي. كنت مستريحاً بغير إله. ها هي كلمات أبي: ما لنا وللآلهة؟ يكفي ما قاله الأقدمون عما لاقوه من معاناة من هؤلاء الآلهة. لقد طلّق أجداد أجدادنا هؤلاء الآلهة إذ لم يجدوا منهم إلا كل شر!!

على أني عدت لأقول لنفسي: ألا يدل ما أراه في مصر من مسعى القوم لما يدعونه آلهة أن هناك حاجة أساسية إلى وجود الله.. إلى جوع روحي. لا بد لأن هناك إلهاً.

لكن هل يمكن أن يكون الحجر إلهاً؟

هل يمكن أن يكون الجماد إلهاً؟

هل يمكن أن يكون الإنسان الذي يموت إلهاً؟

هل يمكن أن يكون إلهاً ذاك الذي يتزوج ويفجُر ويخون زوجته، أو يقتل أخاه، أو يطلب ذبائح بشرية. أوه.. لا يمكن أن أصدق أن واحداً من تلك الكائنات الكثيرة يكون إلهاً! لا يمكن أن أطمئن إلى آلهة كهذه. إن الحياة بغير إله أفضل ألف مرة من التعبد لمثل هذه الآلهة!!

لكن الأمر الذي يدهشني أن أرى الكاهن الطيب بحس بالرضا والاطمئنان وهو يتعبد لها. لا بد أن فيها سراً، سراً لا أراه أنا. سأظل أسير معه لأعرف الأعماق التي لم أعرفها.

الفصل الخامس: الحياة الأخرى

كان الكاهن يتطلع إلى وجهي طول الوقت، كأنه يعلم أن هناك صراعاً داخلياً في نفسي، ولم يشأ أن يقطع عليّ تفكيري. فلما انتبهت لنفسي ونظرت إلى وجهه ولاحظت نظرة الفضول التي تجلت في عينيه أحسست أنه كان يتابعني في أفكاري، فخجلت وسألته: «ألم تعدني أن تخبرني الكثير عن الحياة الأخرى ويوم الدينونة الذي سيجلس فيه «أوزيريس» على كرسي الحكم؟» فأجاب: «سأحكلي لك كل ما أعرفه في هذا الموضوع».

«اعلم يا صديقي أن الموت يعني انطلاق أرواحنا خارج أجسامنا. على أن الروح تظل مرتبطة بالمكان الذي يوجد فيه الجسد. لم يخبرنا الكهنة الكبار عن خروج الروح في حالة الغرق أو الحريق أو ما شابه ذلك. إنهم يعرفون ولا شك، ولكني أنا لا أعرف. ولذلك أتحدث إليك عن الأحوال العادية»!!

«تخرج الروح من الجسد، ولكنها تظل في المكان يومين، وكان يمكن أن تظل أكثر من ذلك. وفي اليوم الثالث تُقام خدمة صرف الروح، وهي خدمة هامة تُقدم فيها صلوات وتقدم قرابين. ثم يتقدم الابن الأكبر، فإذا لم يكن ابن يتقدم كبير من أفراد العائلة ويلقي الكلمات السبع المقدسة. وتنصرف الروح، ولكنها لا تبعد كثيراً. فإنها تعود إلى البيت مرة أخرى إلى مدة أربعين يوماً، وتكون عملية تحنيط الجسد إذ ذاك قد تمت، فتُلقى صلاة الأربعين، وهي الصلاة التي تصرف الروح نهائياً عن البيت، ولكنها لا تنطلق إلى مسكن الأرواح نهائياً بل تعود بين حين وآخر إلى القبر. وهي تعرف جسدها، فتعود إلى القبر الذي دُفنت فيه. وفي نهاية السنة تُقام الصلاة التي تصرف الروح نهائياً إلى مساكن الأرواح حيث تستقر إلى أن يأتي يوم القيامة، فتعود إلى الجسد في ذلك اليوم - وقد نجحوا في تحنيط الأجساد لتظل حافظة لصورتها حتى لا تضل الروح عنها. ومن باب الاحتياط تُرسم صورة الميت على القبر، والروح ترى الصورة فتعود إلى الجسد كيفما كان»!

«ومكان الروح ومساكن القيامة من الأمور التي قال الكهنة فيها أقوالاً مختلفة. على أنهم اتفقوا أن الأجساد ستعود إلى الأرض.. والدار الأخرى ليست مدينة سوقها من ذهب وأسوارها من حجارة كريمة وأبوابها من لآلئ كبيرة، فإن الدنيا الأخرى كأرضنا، تقع في وادٍ خصب تتخلله نهيرات صغيرة تستمد ماءها من النهر السماوي الكبير، وتنمو على جانبيه كل أشجار الحنطة والبقول والفواكه. وعلى سكان الدنيا الأخرى أن يعملوا كما كانوا يعملون في دنياهم، غير أن عملهم يخلو من متاعب عمل الأرض ومن القلق، من ضعف المحصول أو قلة ماء الري ووجود الآفات الزراعية.. وهكذا»!!

ثم حعل الكاهن يحدثني عن يوم الدينونة الرهيب أمام الكرسي الذهبي الذي يجلس عليه الديّان الأكبر أوزيريس، كما حدثني عن مملكة الظلام والنهر الأسود ومياهه العكرة الداكنة التي تنبعث منها الأبخرة الخانقة، والمناظر المروعة التي على جانبي النهر التي يرتعش أمامها أشجع الشجعان، وذكر لي قصة الوحش الدميم الذي يقوم على حراسة مدخل قاعة المحكمة، والثعابين القاتلة التي تطل من جحورها، وقد أرسلت عيونها لهيباً نارياً معزعاً.. كما ذكر عن الأفاعي التي تنتظر من يُطرحون في نهر الدينونة، إذ يحكم «أوزيريس» عليهم بالهلاك الأبدي.. ولم أستطع أن أصغي إلى كل الحديث لأنه كان مليئاً بالرعب، بل إني رجوته أن يكف عن الحديث.

وقد ذهبت إلى فراشي وأنا أرجف.. لا أعلم إن كنت قد نعست أم لم أنعس. لكني رأيتني وقد قبض عليّ الإله «أنوبيس» وازن القلوب وقد أنحني إلى جانبه الإله «تحوت» حارس القانون ومسجل الأحكام، ومن ورائه هوة سحيقة حفرها زبانية الجحيم، وأبصرت فيها التنين اللعين يكشف عن أنيابه منتظراً أن يبتلعني، وقد تجلت على وجهه ابتسامة ساخرة، ورأيت إني أقف أمام أوزيريس المهيب وقد جلس على كرسيه الذهبي واحتاط به القضاة الاثنان والأربعون. ورأيتني أقف مرتعشاً مضطرباً، والقاضي الأعظم يسألني والقضاة يضيقون عليّ وهم يحاسبونني على كل كبيرة وصغيرة. ليس فقط عما عملت بل عما فكرت وعما بدأت أفكر فيه. ورأيت إلهاً يخلع قلبي ويضعه في ميزان القلوب، وكفة السيئات تتأرجح وكأنها تتجه إلى أسفل، وها أنا ألاحظ شفتي أوزيريس تنفرجان، وقبل أن يقول «إلى الجحيم» أحسست كأن حجراً ثقيلاً جداً يجثم على صدري وأنا أحاول أصرخ: «لا. لا. لست أريد آلهة. لن أبحث بعد عن إله. أخطأت أخطأت. سامحني يا أبي». واستيقظت وجسمي غريق في بحر من العرق وأنا أقول: «لا. لا.». إلى أن سقطت على الأرض، ولكني لم أكف عن الحركة. هوذا جسدي يتحرك والأرض تتحرك، وكل ما تحتي يتحرك. هل قضيت يوماً أو بعض يوم أو أياماً؟ لا أعلم. وغبت عن الوعي وأنا لا أكف عن الحركة ولا أكف عن الكلام مع أني لا أسمع صوتاً.. يخيّل لي أن جيلاً مضى بل أجيالاً..

فتحت عينيّ فإذا شمس النهار ترسل أشعتها النارية، وإذا أنا أتحرك وشفتاي تتحركان: «لا. لا. لست أريد إلهاً. لست أريد أوزيريس أو غير أوزيريس. سامحني يا أبي. لقد كنت مستريحاً وأنا بعيد عن الآلهة. ليتني أصغيت إليك.. لا . لا. لا».

ثم جلست على الأرض فأبصرت رجلاً يتطلع إليّ بفضول...

الباب الثاني: مع الفلاسفة

الفصل الأول: الأبيقوريون

كان الرجل يتطلع إليّ بفضول، ولكني أغمضت عيني مرة أخرى، وإذا بي أهيم في الصحراء المظلمة، وإذا بالآلهة تطاردني وقد قبضت على عنقي تحاول أن تفتك بي، وأنا أيضاً أحاول أن أتخلص منها، وقد خرجت كلماتي محشرجة. لقد جنيت على نفسي. ما لي والآلهة! كنت في بيتي هانئاً بدونها. منذ أن طلبتها عرفت صدق ما حذرني منه أبي، عندما طلب مني أن أبعد عن الآلهة، ولكني لم أستمع له. هكذا كنت أحدث نفسي.. وقد خُيل إليّ أن الرجل الذي رأيته أو ظننت أني رأيته، يقول لآخر لم أره: «هوذا رجل آخر من المخرفين الذين يعملون على تنكيد أنفسهم. لعمري. متى يتعلمون أن يستمتعوا بالحياة».

فتحت عيني مرة أخرى، وقبل أن أساله من هو، سألني: «من أين أقبلت؟» أجبت: «إن قصتي طويلة، يمكنني أن ألخصها لك. سمعت أنه يوجد إله فخرجت أبحث عنه. وقد وجدت في مصر أكثر من إله. وبالأمس وقفت أمام محكمة أوزيريس، وكاد الحكم يصدر بطرحي في النهر حيث الأفعى المخيفة.. وقد هربت بجلدي. جعلت أركض طول الليل أو طول الليالي.. إلى أن وجدت نفسي هنا». وقال الرجل: «هل أنت بتمام عقلك؟ تقول أنك كنت بالأمس في طيبة أمام محكمة أوزيريس، وأنك جعلت تركض إلى أن وصلت هنا إلى مدينة الشمس. إما إنك تكذب أو تحلم أو أنت مجنون. ثم تلك الخزعبلات التي تتحدث عنها، إله أو آلهة وأوزيريس ومحكمة أوزيريس، أنت مخبول يا صديقي. وإن كان قد بقي فيك شيء من العقل فالواجب أن تغيّر طريقك. لقد ضللوك، وهم يحاولون أن يضيّعوك. مالك أنت والآلهة. مالك أنت والأبدية. إن حياتك منحة من الآلهة إن كان هناك آلهة. والواجب أن تهتم بهذه الحياة».

فسألته: «فماذا تراني أعمل، وإلى أي طريق أسلك؟» أجاب: «أخشى ان من الصعب أن تغيّر طريقك، ولكني سأحاول أن أرشدك الطريق. انفض عنك غبار الماضي وهلم ورائي». فقلت: «فهل ترشدني إلى إله حقيقي؟» فابتسم قائلاً: «نعم، ولكنه إله من صنف جديد».

سرت خلف الرجل بخطوات متباطئة لأني كنت لا أزال أحس بالأفعى تقبض على عنقي، وبغتة سمعت صوت غناء وطرب.. وهوذا أمامي بستان فسيح جلس بداخله قوم من علية القوم يبدو أنهم من مهاجري الشمال، كانوا يجلسون على أرائك عليها وسائد ومساند، وأمامهم موائد صُفت عليها القناني. وفي وسط المكان قامت شابة حسناء ترقص رقصاً متزناً يتبع موسيقى هادئة، ما فتئت أن ارتفعت وزادت حركات الراقصة وارتفع صوت المغنين. وقام الجالسون يرقصون رقصات عنيفة ولكنها لم تخرج عن حدود الاتزان. وقفت على مبعدة أتطلع بشيء من الفضول إلى هذا الحفل، الذي لم أكن قد شاهدت نظيره من قبل. وأبصرني «صديقي» واقفاً فأمسك بيدي وأجلسني على مقعد في الصفوف الأولى، وقدمني للجالسين. إني غريب عن المكان وهو أحد الفلاسفة الذين ينشدون أفضل سبيل للحياة. وابتسم وهو يقول: «لقد حاول أن يجد هذا السبيل في إضاعة الحياة. وقد جئب به إلى هذا المكان أحاول أن أهديه إلى سبيلنا الصحيح في هذا الأمر الخطير». قال إن اسمه «سوفوكليس» وإنه يوناني الجنسية ولكنه يقيم في مصر من مدة طويلة هو وجالية كبيرة من اليونانيين. وقال إن بلاده بلاد حضارة قديمة وإن علماء وفلاسفة اشتهروا فيها!!

قلت: «لقد أخبرني كاهن أوزيريس عن آلهة اليونان». فابتسم وقال: «دعك من حديث الآلهة الآن». قلت: «لقد خرجت من بلادي لأبحث عن الله. وها قد مرت عليّ مدة طويلة جداً وأنا أبحث عن الإله الحقيقي الذي يستطيع أن يملأ قلبي ويشبع نفسي ولم أجده إلى الأن». قال: «وستظل تبحث عنه ما امتدت بك الأيام ولن تجده. كلا. لن تجده لأنه لا وجود له».

ولما رأى في وجهي نظرة التساؤل والدهشة قال: «إن فكرة الآلهة يا صديقي فكرة فلسفية. إننا نجد أنفسنا في الحياة. نعم نحن نعيش.. نحيا ونتحرك ونوجد، وإذ ذاك نسأل عن سر الحياة وهدف الحياة وكيفية الوصول إلى هذا الهدف ومستقبل الحياة. إنني أشبه رجلاً جائعاً يا صديقي وقد عثر على رغيف من الخبز. فجعل يفكر في عناصر هذا الرغيف ومصدره وتأثيره.. وهكذا لا يستفيد من الخبز. هذا ما يفعله الكثيرون. إنهم ينسون أنهم أحياء وينسون أن الحياة قصيرة وينسون كيف يفيدون منها. وقد حدث أن البعض وقد تعبوا في البحث عن الأسلئلة التي ذكرتها، خلقوا لأنفسهم ما يدعونه إلهاً أو آلهة، ورتبوا لها النظم والقوانين. والحكام منهم يحكمون على الشعب باسمهم. هكذا حكم ملوك مصر. اتفقوا مع الكهنة على تسخير الشعب المسكين باسم هؤلاء الآلهة. أما الحكماء فيعرفون الحقيقة ويعرفها الكثيرون، إلا أنهم لا يجسرون أن يعلنوها. إن الشعب الجاهل مستريح إلى وجود الآلهة. إنها ملاذهم وفيها رجاؤهم، وهم يطلبون ما يحتاجونه منها. وبعضهم ينال مطالبه بالصدفة. والغالبية لا تنال ولكنها تنتظر بالرجاء. وإذا تجاسر إنسان أن ينكر وجود الآلهة فمصيره القتل. ألم تسمع قصة الكاهن الذي جاء إلى بلادنا وعاد يناوئ الكهنة. قال إن إيزيس التي يلتمس المحتاجون عونها ويبصرونها تحني رأسها، هي لعبة الكهنة. ودعاه رئيس الكهنة واعترف له أن ما يقوله صحيح. إن هناك حبالاً مستورة تتصل برأس الإلهة هو الذي يجذبه الكاهن. وقال رئيس الكهنة: « وأنا سأضعك بجانب هذا الحبل السري، فإذا استطعت أمام طلبات الطالبين أن تمتنع عن جذب الحبال فافعل». وجاء اليوم وأبصر الكاهن ألوفاً من البؤساء وسمع ألوفاً من الالتماسات. يا إيزيس ارفعي عني ثقل صدري. يا إيزيس.. يا إيزييس.. يا إيزيس. ولم يستطع الكاهن أمام بؤس أولئك التعساء أن يفقدهم بعض الرجاء الكاذب. فجذب الحبال. ولا شك أنك سمعت أن الكهنة كانوا قد وضعوا كاهناً آخر في موضع سري كانت مهمته أن يقتل الكاهن المتروك لجذب الحبال إذا لم يشد الحبال. هذه هي الآلهة يا صديقي» .

ودارت مناقشة طويلة تكلم فيها كل واحد من الجالسين. قلبوا الموضوع عن جميع نواحيه!!

كنت أسمع وأنا صامت إلى أن أكملوا أحاديثهم فتكلمت. قلت: «أنا أفهم أنكم لا تنكرون الحياة. إنها لم توجد نفسها. ولنقل إنه لا داعي لأن نشغل أنفسنا بمصدرها، ألا ترون أنه من الواجب أن نهتم بضوابط هذه الحياة وسلامة سيرها وضمان سلوكها والهدف منها.. ثم مصيرها؟».

وقال الرجل الذي دعاني للجلوس معه: «إن لك كل الحق أن تسأل هذه الأسئلة. وهي أسئلة اهتم كبار الفلاسفة بدراستها. وقد درسها زعيمنا الكبير أبيقور ووضع قواعد فلسفة الحياة. قال إن ما يهمنا من فلسفة الحياة هو كيف نحياها، كثيرون ممن يتحركون على سطح الأرض ويظنون أنهم أحياء ويظن الناس انهم أحياء، هم في الحيقية موتى لا يختلفون عن غيرهم من الموتى إلا في الأكفان والقبور. إنهم يعيشون في ظلام الخوف والقلق. من الواجب أن ننفض عن أنفسنا هذا الظلام لنعيش. إن غاية الإنسان الوحيدة هي اللذة. إننا نقضي أياماً معدودة على الأرض. لذلك يجدر بنا أن نمنع عنا الألم الجسماني، وننزع القلق العقلي والروحي فينا». قلت: «أخشى أنها فلسفة عاجزة، وفي نفس الوقت خطيرة. لئن جعلنا اللذة هدفنا، ألا يجرنا هذا إلى طلب الشهوات الجسمانية والانغماس في أوحال الدنس؟» قال: «إن السلوك على مقتضى ما تقول يجلب التعب والألم لا اللذة. إن اللذة الحقيقية تتطلب الامتناع عن الشهوات الجسمية وتتطلب حياة الطهر. ولقد عاش زعيمنا العظيم أبيقور حياة طاهرة كل أيام حياته، حتى ظن الكثيرون إنه فاقد للغرائز الجنسية!».

قلت: «ولكنك لا تنكر، أقصد لا يمكن أن تنكر، أن كثيرين أخذوا هذه الفلسفة من ناحية أخرى، فقالوا لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!» قال: «إني لا أنكر هذا، بل أخشى أن الغالبية العظمى سلكت هذا السبيل. إن الحياة قصيرة والشباب أقصر. لذلك يحاولون أن يستمتعوا باللذة المنحطة. لكنهم سرعان ما يكتشفون أنهم انحدروا إلى جحيم من الآلام!».

قلت: «ولكن اكتشافهم هذا يجيء متأخراً جداً. وإذ ذاك لن يفيدوا من هذا الاكتشاف، ولن يجنوا إلا الحسرة والندامة.. ثم اسمح لي أن أسألك: كيف يستطيع الإنسان أن يخلّص نفسه من الألم الجمساني والقلق العقلي؟».

أجاب: «إن تفكير الإنسان في الغد المجهول يبعث فيه كثيراً من القلق. وبدلاً من أن يتمتع بما يستطيعه من خير في الحاضر، يضيع ما في الحاضر من خير بسبب خوفه من المستقبل. كالبخيل يعيش خوفاً من الفقر في فقر. لذلك يحسن به أن يعمل جاهداً في استخلاص كل خير حاضر بالبعد عن أسباب الخوف والقلق»!!

قلت: «ولكنك لم تنكر أن الكثيرين أساءوا فهم اللذة، فانغمسوا في أوحال الشهوات، وإذ ذاك فقدوا السلام والاطمئنان، وعاشوا في قلق. على أني أريتك هذا الأمر وأسأل: كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من أسباب القلق؟ كيف يمكنه أن يعيش طاهراً، والإنسان بطبيعته وغرائزه ميّال إلى الخضوع للجسد والأهواء الجسدية. أين هي القوة التي تمسك بيده وترفعه؟ لقد ذكرت فيما ذكرت أن الآلهة شيء غير حقيقي. لا يوجد شيء اسمه إله، وذكرت أننا إذا فرضنا أن للآلهة وجوداً فإنهم يعيشون على مبعدة منا لا يرتبطون بنا بأي رباط من ودّ، ولا علاقة لهم نبا. لقد قلت أنت ذلك. وقد خيّل إليّ أني سمعتك تقول أن الآلهة تبغض الناس ولا تتمنى لهم إلا المصائب والنوازل، فأين هي اليد التي تمسك بالإنسان و ترفعه من الطين وتخلصه من الأقذار؟..»

صديقي، أخشى أن الأبيقورية.. أوه.. إنها لا تستطيع أن تملأ الفراغ الكبير الذي أحس به في صدري. إني في حاجة إلى إله لا إلى فيلسوف. إن في صدري احتياجاً ينادي: «أين أنت يا الله. أين أنت؟».

وأنا قد تركت بيتي وأهلي لأبحث عن هذا الإله.. نعم إني أبحث عن إله.

الفصل الثاني: الرواقيون

:أ. زينو

تركت النادي الموسيقي حزيناً. لم تستطع الأغاني بما صاحبها من آلات طرب ورقص أن تزيح الغم عن صدري. سرت في طريقي تقودني قدماي، وإذ بي أبصر مبنى شامخاً أمامي. أبصرت من نافذة مفتوحة فيه رواقاً تزّين جدرانه صور جميلة. رأيت عدداً من الشبان والشيوخ يجلسون على أرائك مذهبة، كما رأيت عدداً آخر من مختلف الأعمار يسيرون في الطريق متجهين إلى باب المبنى. سألت أحد هؤلاء عن المكان وعن الموجودين فيه والقاصدين إليه، فأجابني: «يبدو أنك غريب». قلت: «نعم نعم». قال: «فاعلم أن هذا المبنى قديم، أسسه في الأزمنة الغابرة فيلسوف عظيم اسمه زينو. في الحق أنا لست متيقناً ما إذا كان زينو هو الذي أسسه، أو أن أحد تلاميذه قام بذلك. ومع أن زينو وُلد من زمن بعيد ولكنه لا يزال يعيش في فلسفته العظيمة»!!

قلت: «ترى هل تتفق فسلفته مع فلسفة أبيقور التي عرفتها منذ زمن قريب جداً؟». فظهر الامتعاض على وجهه وقال: «إني لست فيلسوفاً، ولا أصلح للمقارنة بين فلسفة وفلسفة. لكن لماذا لا تأتي وتحكم بنفسك. إنني أدعوك للدخول والجلوس معناً والاشتراك في ندوة الليلة. الندوة في هذا المساء مفتوحة. ويمكن أن تجلس معنا، بل يمكنك أن تشترك في المناقشة إذا شئت. إننا جماعة وفدت من الشمال، أكثرنا من مدينة أثينا، ولكننا لسنا بعد أثينويين. إن مصر أصبحت وطننا». وقد قدم نفسه باسمه «هرمز». قلت: «إني في الحقيقة لا أعرف اسمي، ولكنهم أطلقوا عليّ اسم نوستراداميس». فهتفت: «آه.. أنت إذن نوستراداميس الحكيم المعروف». قلت: «لا يغرنك الاسم، فأنا بالتأكيد لست الحكيم المعروف. ولكن أول من لاقاني في هذه البلاد أطلق عليّ هذا الاسم». وابتسم الرجل وقال: «هذا عهدنا مع العلماء. إنهم متواضعون».. ولم أجد فائدة في الكلام فسكتّ. دخلت معه وقدمني للموجودين باسم الحكيم نوستراداميس وقدم إليّ بعض القريبين مني، فهذا الإسكندر وإلى جانبه أراستس، استفاناس، أكلميندس، يوستس، أوريانوس، نمفاس، ديماس.

ثم قدم سيدتين «جوليا، برسيس» وغيرهما. لكني بعد أن دوّنت الأسماء في مفكرتي نسيت كل شيء.

جلسنا في دائرة حول عدد من المناضد. وبدأ شخص، قال لي صديقي إن اسمه فيلولوغس، وهو زعيم الجماعة، قال: «إنني أرى بيننا الضيف المصري. هو أخونا، لأن مصر صارت وطننا، وإن كنا لا نزال نرتبط ببلادنا اليونان. وقد فهمت أنه غريب عن المكان، ولا يعرف شيئاً عن جماعتنا، جماعة الرواقيين، الجماعة التي نفخر أن مؤسسها وزعيمها هو الفيلسوف الكبير زينو. الفيلسوف الذي لم ينكر وجود الآلهة. وكيف ينكر والكون كله هو الله والله هو الكون؟».

ب. فلسفة زينو:

«والإنسان ينبغي أن يتجه نحو الخير، وأسمى خير هو الفضيلة. والفضيلة هي الحياة بحسب الفطرة والتشبه بالطبيعة، وموافقة السلوك الإنساني لقوانين الكون!»

وصم قليلاً ثم قال: «وأعظم الفضائل هي الحكمة العملية بالنسبة لما هو خير أو شر، والشجاعة والفطنة وضبط النفس والعدل».

لم أفهم تماماً كل ما قاله، ولكني خشيت أن أسأل لئلا أُتّهم بالجهل، فسكتُ. وقد عرفت في ما بعد أن غالبية الحاضرين كانوا نظيري لم يفهموا كل ما قاله القائد... وبعد شيء من السكوت تكلم القائد فقال: «وقد أوصى فيلسوفنا الكبير أن نضبط مشاعرنا ضبطاً محكماً، لا السرور يستحقنا ولا الألم يهزنا، بل نحيا مستقلين بقدر المستطاع تمام الاستقال عن كل المؤثرات وخصوصاً المؤثرات المقلقة مهما كان نوعها، وبرغم كل ما يحدث مهما كان!!».

«إن نفخر أن فيلسوفنا العظيم لا يزال يحتل مكانته العالية، ومبادئه القيادية لا تزال تعلو على كل المبادئ! كذلك لنا أن الفخر بأساتذة الرواقية الخالدين أبيكتيتوس وسينيكا والأمبراطور مرقس أوريليوس».

وهنا تحركت كما لو كنت أهم أن أقاطع المتكلم، فنظر ناحيتي وقال: «يبدو أن ضيفنا يرغب أن يقول شيئاً»!؟!

قلت: «إني غريب كما لاحظتم، وإن لكل غريب دهشة، لذلك ألتمس أن يتسع صدركم لما عسى أن يخرج مني مما لا يتفق مع القواقد الأساسية أو المبادئ المعروفة.. وإنما رجوت أن أقول إني كنت في بلدي أعيش كما يعيش قومي. آكل وأشرب لأني غداً أموت. كنت أعيش نظير أتباع أبيقور دون أن أدري. لكنني لم أجد شبع نفسي. إن في صدري كائناً حبيساً يريد أن يتنفس. إنه يصرخ طالباً أن ينطلق إلى الكائن الأسمى الذي.. نعم الكائن الذي أخبرني «أبيقور» أن لا وجود له! فإذا وُجد هذا الكائن فإنه يعيش بعيداً عن الناس. لا يهتم بهم ولا يشغل بأمرهم، بل لعله يقف موقف العداء منهم. وساقني حظي الحسن أن ألتقي بالرجل الكريم الذي أتي بي إلى هذا المكان، وأنا ألتمس أن أجد عندكم ما يملأ فراغ قلبي - أرغب إلهاً أستند على ذراعه القوية، وأطمئن إلى عونه، وأناديه في ظلماتي فأجد منه إصغاء. بل أكثر من ذلك أضع رأسي على صدره وأستريح» .

وقال الرجل: «إن هذا الإله موجود، وأنت تراه في الكون، تراه في الطبيعة، تراه في الشمس والهواء، في الزهرة والشجرة، في النهر والبحر.. تراه في العالم المحيط. بل أنت جزء من هذا الإله. وعندما تنتهي أيامك على الأرض تندمج فيه وتصبح جزءاً منه.. بل قد كنت جزءاً منه». قلت: «ولكني أعلم أن للطبيعة نواميسها العادلة بل الدقيقة بل الصارمة. إذا لطمتها مرة ردت اللطمة لطمات، إن نواميسها دقيقة وقاسية، وهي تتطلب مني أن أسير وفقاً لقواعدها دون أن تقدم لي عوناً، بل إنه كثيراً ما تقف في سبيلي موقف العداء. إني أعجب بالصراع الذي تتطلبه خصوصاً في إخضاع المؤثرات العاطفية. حسن ألا أخضع للألم. وربما أحسن منه ألا يستخفني الفرح. لكن الأمر الصعب أنه يكاد يكون من المستحيل أن أصل إلى ما تتطلبه الرواقية. ترى هل نجح أحدكم في الوصول؟ أخشى أننا ننافق أنفسنا».

قال الرجل: «إن في الإنسان من العناصر العقلية الشيء الكثير، وهذه تحتاج إلى تدريب. دعني أقول تدريب شاق».

قلت: «إن أي تدريب لعناصر غير روحية لا ينتهي إلى تغيير. إن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يرتفع فوق ما هو بالطبيعة. قد يتدرب على حركات وإشارات، ولكننا نطلب أكثر من ذلك».

قال: «ألم أقل لك إنه يوجد إله؟».

قلت: «نعم، ولكنك قلت إن هذا الإله هو الكون المادي. إن هذا الكون يا سيدي لا يملأ قلبي. قد يملأ معدتي وقد يملأ عقلي. ولكنه لا يمكن أن يملأ قلبي».

وصمت الرجل.. ثم قال: «فهمت الآن أنك من الجماعة المعارضة الضعيفة. إنك لا ترغب في السمو. إنك لا تستطيع أن تتغلب على المشاعر العاطفية. إنك تخضع للألم. اخرج من هذا المكان. لقد عاشت الرواقية سنين طويلة في نمو مضطرد. لقد التحق بها رجال عظماء، وظلت كذلك إلى أن ظهر أمثالك من الضعفاء. أخرجوا هذا الميكروب. أخرجوه. أخرجوه».

وهكذا خرجت مخذولاً، وسرت إلى الخلف إلى كاهن أوزيريس. إن له إلهاً على الأقل. سأعود إليه وأستزيد تعرفاً إلى إلهه، لعله يكون هو الإله الذي أنشده. نعم ينبغي أن أرجع.

الباب الثالث: اليهودية

الفصل الأول: اكتشاف جديد على حدود اليهودية

يا للعجب! ما هي قصة الأبيقوريين والرواقيين هذه. وماذا عن الفترة التي قضيتها في نادي الأولين وندوة الآخرين. اتضح لي أن هذا كله كان وأنا مضطجع على رمال الصحراء. كان «صديقي» كاهن أوزيريس قد ذكر ضمن ما ذكر عن الآلهة المستوردة، فلسفة أبيقور وزينون. وقد ذكرها على أنها عبادات القوم. لا أذكر بالتمام كل ما قاله. على أنه يبدو أن حديثه ترك أثره في نفسي. وتجسم هذا الأمر خيالاً رأيته وأنا مضطجع على رمال الصحراء.

ومن العجب أني لم أذكر هذا إلا بعد أسابيع كثيرة من يقظتي...

فتحت عيني فبهرني النور ولذلك أغمضتهما. وذكرت الأمس الذي سحبوني فيه لأقف أمام كرسي الدينونة. ذكرت القاعة المستديرة الكبيرة، والآلهة الأربعة والعشرين. وذكرت أوزيريس يحدق في وجهي بعينه الفاحصتين. ذكرت «مات» و «حوتيب». ذكرت «النهر الأسود» و «التنين» الهائل وقد فغر فمه الواسع. ورأيت اسنانه وقد برزت كالحراب لاقتناصي وتمزيق جسدي. وذكرت ذلك الرعب الذي انتابني. وذكرت تلك القوة التي ولّدها الرعب فيّ، والقوة التي مكنتني من تخليص نفسي من الحراس ودفعي إياهم إلى النهر المخيف. وذلك السرداب الطويل المظلم الذي انطلقت أقطعه ركضاً.. نعم ذكرت كل ذلك. أما بعد ذلك فلا أذكر شيئاً!

ها أنا أفتح عيني للمرة الثانية وأرى النور للمرة الثانية. إنه نور شمس وهاجة ترسل أشعتها الحارة تلسعني. أغمض عيني ثم أفتحهما. تحركني لسعات الحرارة فأقوم. أتلفت يميناً ويساراً. أجدني في صحراء ممتدة أمامي. لا يوجد إنسان أو حيوان رأيت كما لو كنت أنا المخلوق الحي الوحيد في ذلك الكون الفسيح!!

القيت نظري إلى كل جانب، فرأيت على مبعدة مني جبلاً يمتد إلى جانب البحر.. ورأيت في سفحه في بقعة مستوية خيمة منصوبة وقد جلس أمامها إنسان. ركضت نحوه على قدر ما أسعفتني قوتي الخائرة. كان الرجل يرسم على لوحة من الخشب خطوطاً وهو يتمتم بين حين وآخر بكلمات لم أسمعها. فلما اقتربت منه أكثر، سمعته يقول وهو يرفع وجهه باسماً: «نعم هذا هو الطريق. لعله أول الطريق». كان الرجل مستغرقاً في تأمله، وبدا كأنه بُغت برؤيتي، فصاح بفزع: «من.. من أنت؟». قلت أهدئه: «لا تخشى شيئاً. أنا إنسان. إنسان نظيرك». وقال وهو لا يزال في شيء من الخوف: «تقول إنسان؟ وكيف جئت إلى هذا المكان؟ ومن أين جئت، وماذا تبغي من مجيئك؟». قلت: «لقد جئت من مصر، من بلدة تُدعى طيبة. كنت هناك بالأمس».

نظر إليّ الرجل نظرة مكذبة، وقال: «تقول إنك جئت من طيبة بالأمس. لا شك أنك طئت طائراً، أم أن عفريتاً من الجنة حملك فأتيت. ثم ماذا كنت تعمل هناك؟ ولماذا جئت إلى هذا المكان؟». قلت: «لقد كنت في طيبة بالأمس، وقد جئت هارباً من دينونة أوزيريس». قال: «وما الذي دفعك إلى الذهاب إلى مصر. وكيف ذهبت إلى هناك؟». قلت: «لقد خرجت من بيتي في الجبال وذهبت إلى مصر. أما كيف ذهبت فأنا لا أعرف. لقد حدثت الزلزلة وسقطت من جملي، وكان سقوطي في هوة جعلت تقذف بي من الأعلى إلى الأسفل إلى أن وصلت إلى مصر». كان الرجل ينظر إليّ أحسست أنها نظرته إلى مجنون. كان يبتسم ابتسامة باهته تنبئ عن ذلك، واستمر يتكلم قال: «ولماذا خرجت من بيتك في الجبال؟». قلت: «خرجت أبحث عن إله. لقد حدثني «الفينيقي» المرافق للتاجر الكنعاني أن هناك إلهاً لهذا الكون. ونحن كنا نعيش، أنا وأبي وجدي وقومي بدون إله، فخرجت أبحث عن ذلك الإله» . نظر إليّ الرجل بانذهال وقال: «تبحث عن الله؟ عهدي بمن قابلتهم من الناس أنهم خرجوا يبحثون عن أشياء أخرى. وقد قابلت هناك كثيرين من هؤلاء، خرج بعضهم يبحث عن الذهب والفضة، وبعضهم خرج يبحث عن الحقول والآبار. وغيرهم جاء يبحث عن الجواهر الثمينة كما يقولون. أنت أول من قال إنه يبحث عن الله. لقد عثرت في هذا المكان على جثث عدد كبير من هؤلاء الباحثين. تُرى هل أنت تتمتع بكامل عقلك؟». قلت: «يا سيدي لقد تركت الذهب والجواهر والحقول والآبار.. تركتها خلفي. تركت كل شيء في بيتي، الذهب وغير الذهب. كان عندي الكثير من هذه الأشياء. ولكن كنت ولا أزال أحس أن هناك فراغاً كبيراً، لا في معدتي ولا في جسدي، بل في داخلي. كنت أبحث عمن يملأ ذلك الفراع - وكان صديقي الفينيقي الذي هلك عندما سقطنا من جمالنا بسبب الزلزلة كان قد قال لي إنني في حاجة إلى الله. من أجل هذا خرجت من بيتي وتركت أهلي، وكلي شوق أن أجد ذلك الكائن العظيم الذي سيملأ فراغ قلبي، الكائن الذي يدعونه الله».

وقال الرجل باسماً بسخرية واضحة: «وقد وجدت في مصر أكثر من إله، فلماذا هربت؟».

قلت: «يا سيدي، نعم لقد رأيت ما قالوا لي إنهم آلهة، ولكني بعد أن عرفتها قلت: إن كانت هذه هي الله فإن فراغ قلبي أفضل بغيرها من ملئه بها. إنها آلهة حقيرة دنيئة فاسقة وحشية تأتي المعاصي والدنايا. ترتكب أحطّ ما يرتكبه أحط الناس، هذا فضلاً عن أنها تبغض الإنسان وتتآمر عليه. ونفس أوزيريس الذي قالوا لي إنه أفضل الآلهة. قالوا لي إن أخاه الإله «ست» قد قتله. قالوا لي إن العجل والجعران والحية والخنافس والضفادع، تلك «المخلوقات» الحقيرة آلهة، بل قالوا إنهم «استوردوا» آلهة من فلسطين: بعل ومولك وملكوم، ومن فارس عشتروت، ومن الهند كالي، ومن بلاد اليونان زفس وزوجته هيرا اللذين كان كل منهما يخون الآخر، وأن لزفس عدداً من الزوجات والعشيقات. أوه خُيل إليّ «أولئك» بل ينبغي أن أقول «تلك» الآلهة عصابة حقيرة فاجرة دنسة كلا. يا سيدي لم أجد الله في طيبة، فهربت» .

وابتسم الرجل وقال: «لقد فعلت حسناً. إنها ليست آلهة. آلهة الأمم أصنام. لا يوجد إلا إله حقيقي واحد، خالق الأكوان، والسموات والأرض، خالق الكائنات كلها من جماد وحيوان وإنسان. الله يهوه الكائن الذي كان والكائن والذي يكون. الإله الواحد الطاهر القدوس الأزلي الأبدي. آلهة الأمم صنعة أيدي الناس، أما هو فهو صانع كل الأشياء بكلمة قدرته. نعم يا صديقي!! لا يوجد إلا إله واحد. إله إٍسرائيل»!!

الفصل الثاني: الإله يهوه إله إسرائيل

قلت للرجل: «هلاّ حدثتني عن هذا الإله. لقد شوقتني إليه.. حدثني ألتمس منك.. نعم حدثني عنه». قال: «سأحدثك بالقليل الذي أستطيعه، ولكني أحاول أن أقودك إلى حيث تعرف الكثير عنه. إنك لن تراه بالمعنى الحسي ولكنك ستراه». ثم أخذ بيدي وأشار إلى اللوحة التي أمامه، وأراني الخطوط التي كان يرسمها وحاول أن يفهمني عن المكان. فلما عجز قال: «على كل حال، هناك حيث تتفرع الطرق سر في الطريق التي أمامك.. سر مستقيماً وستصل ببركة الله». قلت: «كم أرغب ان تحدثني عنه كما وعدت». قال: «لقد ترك لنا القليل عن شخصه العظيم، فهو الخالق، وفي البدء خلق الله السموات والأرض. نعم في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر».

قلت: «ولكني أرغب أن أعرف عن شخصه. من هو؟ كيف يظهر للناس؟» قال: «اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24) «وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (2كورنثوس 3: 17) وهو نور فارب يكون لك نوراً أبدياً، «كُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ» (يعقوب 1: 17) بل أكثر من ذلك فهو «نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتة» (1يوحنا 1: 5). هو إله قدير وقد أعلن هو نفسه عن نفسه بذلك - تعلّم واسمع معي ما كتبه أحد أصفيائه.

«أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. فَقُلْتُ: «إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي». فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ٱلظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هٰكَذَا ٱلنُّورُ»(مزمور 139: 7-12)

ما أعظمك يا إلهي « عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا»(مزمور 139: 14-16)

فقلت: «بربك لا تسكت». قال: «لا تقل هذا القسم مرة ثانية. إن اسم إلهنا عظيم، لا تنطق باسمه باطلاً».قلت: «ألتمس غفرانه. لم أكن أعرف. فقط تكلم، تكلم. تكلم عن هذا الإله العظيم.. لم أكن أعلم أنه عظيم بهذه الدرجة». قال: «إن الرب عظيم.. يفهم جميع القلوب، ويفهم كل تصورات الإنسان، وهو فاحص القلوب والكي، الله البار. هو يعرف خفيات القلب!!»

«هو الإله في كل مكان، الإله غير المتغير. أمثل في محضره وأقول بكل خشوع: كل شيء يبلى، أما أنت «هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَد»(عبرانيين 13: 8). «لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يعقوب 1: 17). الله الحكيم وحده له المجد إلى الابد. «عَظِيمٌ هُوَ الرَّبُّ وَحَمِيدٌ جِدًّا، وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ اسْتِقْصَاءٌ دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ. بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ... أُحَدِّثُ» (مزمور 145: 3 - 6)

وقد أساء القوم فظنوا أنه إله نظير أصنامهم، فوبخهم توبيخاً صارماً. أجثُ على قدميك واسمع كلماته: «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللّٰهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟ اَلصَّنَمُ يَسْبِكُهُ ٱلصَّانِعُ، وَٱلصَّائِغُ يُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ وَيَصُوغُ سَلاَسِلَ فِضَّةٍ. ٱلْفَقِيرُ عَنِ ٱلتَّقْدِمَةِ يَنْتَخِبُ خَشَباً لاَ يُسَوِّسُ، يَطْلُبُ لَهُ صَانِعاً مَاهِراً لِيَنْصُبَ صَنَماً لاَ يَتَزَعْزَعُ! أَلاَ تَعْلَمُونَ؟ أَلاَ تَسْمَعُونَ؟ أَلَمْ تُخْبَرُوا مِنَ ٱلْبَدَاءَةِ؟ أَلَمْ تَفْهَمُوا مِنْ أَسَاسَاتِ ٱلأَرْضِ؟ ٱلْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ ٱلأَرْضِ وَسُكَّانُهَا كَٱلْجُنْدُبِ. ٱلَّذِي يَنْشُرُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ، وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ. ٱلَّذِي يَجْعَلُ ٱلْعُظَمَاءَ لاَ شَيْئاً، وَيُصَيِّرُ قُضَاةَ ٱلأَرْضِ كَٱلْبَاطِلِ. لَمْ يُغْرَسُوا بَلْ لَمْ يُزْرَعُوا وَلَمْ يَتَأَصَّلْ فِي ٱلأَرْضِ سَاقُهُمْ. فَنَفَخَ أَيْضاً عَلَيْهِمْ فَجَفُّوا، وَٱلْعَاصِفُ كَٱلْعَصْفِ يَحْمِلُهُمْ. فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ ٱلْقُدُّوسُ. ٱرْفَعُوا إِلَى ٱلْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَٱنْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هٰذِهِ؟ مَنِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا، يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ ٱلْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ ٱلْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ» (إشعياء 40: 18 - 26).

كنت أسمع هذه الكلمات وقلبي يرقص بعنف: با له من إله! يا له من إله! وأخذ الرجل ينشد بعد ذلك:

Table 1. 

لله نفسي انتظريمن عنده رجائي    
هو خلاصي معقليوصخرتي ملجأي    
لذا خلاصي بالعليللدهر والأبد    

وأغمض الرجل عينيه ثم أنشد:

Table 2. 

استمع لي راحماً يا أبا الرحمةواستجب لي منقذاً ربُّ بالنعمة    
إنني مسكين، بك أستعينفأعنيّي راحماً أيها المعين    
الساكن في ستر ربي القديريبيت بظل الرحوم    
أقول لربي أنت النصيرعليك اتكالي يدوم    
فلا تخش من خوف ليل رهيبولا من سهام النهار    
ولا من ليالي وباء يُصيبويوم الفنا والدمار    

سكت الرجل وقال: «لن أؤخرك.. قم وابدأ سياحتك. خذ هذه الخريطة معك. سر في طريق الشريعة. لا تحد يميناً أو شمالاً. وستصل إلى هدفك. سر على بركة الله».

تركت المكان وسرت في الطريق السلطاني، وظللت أسير.. ظللت عدة أيام. لم يكن الطريق سهلاً. كان خشناً وعراً، ولكني وصلت فوجدت عند باب المدينة قوماً تبدو المذلة على وجوههم. كانوا يشبهون العبيد الذين خدموا تحت أيدي سادة قساة، وسألنهم عن الله فقالوا: «نعم لقد سمعنا عن ذلك الإله وسمعنا أنه ظهر لجدنا، وسمعنا أيضاً أنه ظهر لأبينا، وأنه هو الذي أرسله إلى هذا المكان. ويا ليتنا ما جئنا. فقد أهلكتنا المذلة. ها نحن العبيد». قلت: «سمعتم، فماذا عملتم؟». قالوا: «حقاً سمعنا. كان جدنا أو لعلنا نقول أجدادنا لا يعرفون الله ولكنهم كانوا يعبدون الأصنام.سمعنا أنهم كانوا يعبدون النار، وقال غيرهم أنهم كانوا يعبدون التماثيل. ولكن الله الحقيقي الكائن الروحي الأسمى ظهر لأحد الأجداد، وظهر لابنه ولحفيده. وقد جاء الحفيد إلى هذه البلاد وكان يؤمن بالله. وتوالت الاجيال وتركنا الله. لا نقول إننا عبدنا الله لكننا نسيناه. لقد انشغلنا بظروفنا السيئة». فسألتهم: «أما كان الأجدر أن تقودكم ظروفكم هذه إلى العودة إليه والاستغاثة به، لعله ينظر إليكم ويمد يده ليخلصكم». قالوا: «ربما كان في ما تقوله شيء من الصواب. على كل حال نحن لم نفكر كما تقول. سر إلى الأمام فربما كان لك ما تبحث عنه».

تركت القوم متألماً وسرت، وظللت سائراً إلى أن وصلت إلى تلة مرتفعة قليلاً، ووجدت قوماً مثل القوم الذين تركتهم، وسألتهم عن الله، وأخبرتهم بما حدث بيني وبين من تركتهم خلفي فقالوا: «نعم، لقد سمعنا عن الله، وسمعنا عن علاقته بأجدادنا. بل قد جاءنا واحداً منا وأخبرنا أنه تلاقي به في البرية الشرقية، وأخبرنا بهذا اللقاء العجيب. لم نصدقه في أول الأمر». قلت: «ألم تسألوه: أين قابله. وما هي صورته وبماذا تحدث وأين يمكن أن نجده؟» قالوا: «لقد أخبرنا الكثير. قال إنه كان يرعى أغنام حميه في برية، وإن حملاً صغيراً انفلت من بين الغنم وجعل يركض في الاتجاه المغاير لطريق القطيع، فأخذ يركض خلفه. واستمرت الملاحقة مدة إلى أن وقف الحمل عند نبع ماء وجعل يشرب بكثير من النهم. ووقف رجلنا أمام الحمل. كان في أول الأمر مغتاظاً لما حمله الحمل من تعب، ولكنه إذ رأى عطشه تحنن عليه، وتركه يشرب حتى ارتوى، ثم حمله بعطف على كتفه وبدأ يتجه نحو القطيع. على أنه قبل أن يسير طويلاً أبصر ناراً غريبة كانت تشتعل في وسط أشجار العليق، ولكن الأشجار لم تحترق. واندهش للأمر غاية الاندهاش. عهده بالنار في البرية تمتد إلى كل النواحي لا تُبقي ولا تذر، لكن هذه النار الشديدة قائمة في مكانها. قال: «أميل وأرى هذا المنظر الغريب». وما أن خطا عدة خطوات حتى سمع صوتاً رهيباً: قف في مكانك. اخلع حذاءك من رجليك.. أنا الله. إله آبائك.. أنا رأيت مذلة شعبي. أنا ذكرت عهدي مع آبائك. أنا نزلت لأنقذكم. أنا الله. وقد أخبره عن اسمه وزوده بمعجزات من عنده. أخبره أن اسمه «أهيه الذي أهيه». وقال لنا ذلك الواحد إنه لم ير صورة، ولكنه صمع صوتاً.. نعم صوتاً من النار» .

«وجاءنا ذلك الواحد وحدثنا بهذا الحديث، واستطاع أن يُقنعنا بصدق روايته.. ويمكنك أن تشاهد بعض القوات التي زوّده الله بها. لقد جاز في معارك عظيمة مع المصريين. في الموقعة الأولى ضرب النهر فصار دماً. نعم النهر الذي عبدته مصر. وفي الموقعة الثانية ملأت الضفادع كل مكان، وفي الموقعة الثالثة انتشر البعوض المخيف، وبالأمس تمت الموقعة الرابعة، فقد ملأ الذباب كل مكان. وكانت المواقع تهزّ فرعون فيُظهر الخضوع ثم يتراجع. ومع أن فرعون لم يخضع بعد إلا أننا واثقون أنه سيخضع وهو راغم».

ثم جثا القوم على الأرض وقالوا: «ربنا إننا نؤمن أنك أنت الله الوحيد، إله الآلهة أنت».

لم أستطع أن أنتظر، بل أسرعت أسأل: «أين هو؟ أخبروني أين أجده. لقد خرجت من أهلي ومن عشيرتي أبحث عنه. وها أنا أقطع القفار أسأل: أين أجده؟». وكان جوابهم: «إننا لم نجده بعد. سر إلى الأمام فلعلك تجده.. بل أنك حتماً ستجده».

ركضت قطعت الأبعاد. مررت بأودية وأنهار وتلال وجبال. عبرت البحر الكبير وسرت في برية كبيرة، وقابلت هناك قوماً يرتلون أناشيد، وسمعت اسم الله يتعالى سمعتهم يقولون:

«أُرَنِّمُ لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. ٱلْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي ٱلْبَحْرِ. ٱلرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي، وَقَدْ صَارَ خَلاَصِي. هٰذَا إِلٰهِي فَأُمَجِّدُهُ، إِلٰهُ أَبِي فَأُرَفِّعُهُ. ٱلرَّبُّ رَجُلُ ٱلْحَرْبِ. ٱلرَّبُّ ٱسْمُهُ. مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ وَجَيْشَهُ أَلْقَاهُمَا فِي ٱلْبَحْرِ، فَغَرِقَ أَفْضَلُ جُنُودِهِ ٱلْمَرْكَبِيَّةِ فِي بَحْرِ سُوفَ، تُغَطِّيهِمُ ٱللُّجَجُ. قَدْ هَبَطُوا فِي ٱلأَعْمَاقِ كَحَجَرٍ. يَمِينُكَ يَا رَبُّ مُعْتَزَّةٌ بِٱلْقُدْرَةِ. يَمِينُكَ يَا رَبُّ تُحَطِّمُ ٱلْعَدُوَّ. وَبِكَثْرَةِ عَظَمَتِكَ تَهْدِمُ مُقَاوِمِيكَ. تُرْسِلُ سَخَطَكَ فَيَأْكُلُهُمْ كَٱلْقَشِّ، وَبِرِيحِ أَنْفِكَ تَرَاكَمَتِ ٱلْمِيَاهُ. ٱنْتَصَبَتِ ٱلْمِيَاهُ ٱلْجَارِيَةُ كَرَابِيَةٍ. تَجَمَّدَتِ ٱللُّجَجُ فِي قَلْبِ ٱلْبَحْرِ. قَالَ ٱلْعَدُوُّ: أَتْبَعُ، أُدْرِكُ، أُقَسِّمُ غَنِيمَةً! تَمْتَلِئُ مِنْهُمْ نَفْسِي. أُجَرِّدُ سَيْفِي. تُفْنِيهِمْ يَدِي! نَفَخْتَ بِرِيحِكَ فَغَطَّاهُمُ ٱلْبَحْرُ. غَاصُوا كَٱلرَّصَاصِ فِي مِيَاهٍ غَامِرَةٍ. مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ ٱلآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزّاً فِي ٱلْقَدَاسَةِ، مَخُوفاً بِٱلتَّسَابِيحِ، صَانِعاً عَجَائِبَ؟ تَمُدُّ يَمِينَكَ فَتَبْتَلِعُهُمُ ٱلأَرْضُ. تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ. يَسْمَعُ ٱلشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ ٱلرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ ٱلرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. تَقَعُ عَلَيْهِمِ ٱلْهَيْبَةُ وَٱلرُّعْبُ. بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَٱلْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ. حَتَّى يَعْبُرَ ٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي ٱقْتَنَيْتَهُ. تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ. ٱلْمَقْدِسِ ٱلَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ. ٱلرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ» (خروج 15: 1 - 18).

تقدمت إلى قائد المنشدين، بعد أن طرح عوده جانباً وسألته، فأخبرني: «لقد سمعت ولا شك». قلت: «لقد سمعت فعلاً عن قوة إلهكم، وخرجت أطلب أن أراه. سمعت أنه ضرب أرض مصر ضربات أربع».. قال: «لقد أكمل الضربات إلى عشر. لقد ضرب حيوانهم بالطواعين ورجالهم بالدمامل. أرسل البَرَد والجراد والظلام. أتلف حقولهم وهدم بيوتهم وقتل ماشيتهم.. ثم ضرب شمسهم فأظلمت ديارهم.. وأخيراً قتل أبكارهم». قال هذه الكلمات ثم رفع رأسه وقال: «يا رب، من مثلك معتزاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب». وصمت قليلاً ثم قال: «خرجنا نبغي الوصول إلى المسكن الذي أعدّه الله لنا.. خرجنا فإذا بالبحر أمامنا والعدو ورائنا. صرخنا.. قلنا: هلكنا. ضعنا. ولكن الله شق البحر أمامنا فمررنا سالمين وأطبق على أعدائنا، فغرقوا وصاروا من الهالكين».

قلت: «شق البحر أمامكم؟».

أجاب: «نعم. صار الماء سوراً من هنا وسوراً من هناك. سرنا على اليبس».

قلت: «يا له من إله قوي! استطاع أن ينقذكم من خطر داهم». وصمت قليلا، فقلت: «أما كان يمكن أن يقف الأمر عندهذا الحد؟ أما كان يمكن ترك المصريين وشأنهم؟». قال: «لا. لا. إن إلهنا إله حق وعدل... وانتقام. لقد كانوا مفترين.. وقد نالوا جزاءهم». صمتّ.. ولكني لم أشعر بارتياح. لقد خشعت أمام الله إله الحق والعدل.. ولكن كنت أرغب أن يضم إلى هذه الكلمات الرحمة.. لكن لعله رأى في حكمته غير ذلك!

إله الشريعة:

لا يزال إله إسرائيل يملأ ذهني. إنه إله عظيم، إله قوي جبار. يليق أن أنحني أمامه متعبداً. في كل يوم أكتشف له أمجاداً. أخرج للعشب ماء من الصخر، وشهداً من حجر الصوان. ولما جاءوا أنزل لهم طعام الملائكة: المن من السماء. بل أطعمهم لحماً.. ذلك الجيش الكبير شتهى لحماً فجاءهم باللحم. لم تقف أمامهم عقبة. على أن مكانه سما في عينيّ وهو يتحدث إليهم من فوق الجبل، فيقدم لهم أقدس شريعة عرفها العالم. لم أسمعها أنا، لكنهم ذكروها لي. قالوا أن إلههم نزل فوق جبل سيناء فاهتزّ الجبل ودخّن، ومن سط النار سمعوا الله يتكلم. لم يروا صورة ولكنهم سمعوا صوتاً يقول:

«أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي ٱلْمَاءِ مِنْ تَحْتِ ٱلأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ ٱلآبَاءِ فِي ٱلأَبْنَاءِ فِي ٱلْجِيلِ ٱلثَّالِثِ وَٱلرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ وَأَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لاَ تَنْطِقْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ ٱلرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِٱسْمِهِ بَاطِلاً. اُذْكُرْ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا ٱلْيَوْمُ ٱلسَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَٱبْنُكَ وَٱبْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ ٱلَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ لأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَٱسْتَرَاحَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ. لِذٰلِكَ بَارَكَ ٱلرَّبُّ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَدَّسَهُ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ ٱمْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلاَ عَبْدَهُ وَلاَ أَمَتَهُ وَلاَ ثَوْرَهُ وَلاَ حِمَارَهُ وَلاَ شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِك» (خروج 20: 2 - 17).

سمعت هذه الكلمات السامية بكل خشوع. كلمات رائعة، ولا عجب فهي كلمات إله لا يهتم بنفسه فقط، ولكنه يهتم بالمجتمع الإنساني كله.. إله يهتم بالفرد والمجتمع الإنساني والعلاقة بالله.

نعم هذا هو الإله الذي أبحث عنه.. الإله الواحد الطاهر الصالح القوي المحسن.. هل أقول له: يا إلهي..

جلست طويلاً في سفح جبل الشريعة. إنه فعلاً إله طاهر قدوس. شتان بينه وبين زيوس. شتان بينه وبين تلك الطغمة الفاسقة على جبل أولمب. أحس أن العفونة تملأ الجو على جبل أولمب. عفونة لم تستطع الأجيال إن تخفف قليلاً من قذارتها ودنسها.. أوحال! أوحال!

لكني أحسست أن قداسة جبل سيناء جافة ناشفة. إنه إله لقوم محدودين إنه إله لليهود وحدهم. إن أرض مصر لا تستطيع أن يكون لها أدنى صلة به. إنها أرض العبودية. إن أول ما قام به ذلك الإله أنه أنقذ شعبه من مصر، من أرض العبودية التي صارت رمزاً للإثم..

لقد أعجبت بذلك الإله في أول الأمر، لكني تقهقرت. إنه لا يمكن أن يكون إلهي. أخشى أن يقف مني موقف العدو. لا استطيع أن أجد له مكاناً بجواره.

بل أن إحساساً آخر غمر ورحي. إني أرى الرباط الذي يجمع بين ذلك الإله وشعبه هو رباط السيادة. السيادة المطلقة «أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خروج 20: 2).

لا أعلم لماذا أحسست أني أرغب أن يربطني بإلهي رباط أقوى من رباط السيادة. هل أتجاسر أن أقول: رباط الحب. رباط لا أجد فيه أوامر ونواهٍ. وقد علمت أن خلف هذه الأوامر والنواهي القليلة توجد المئات والألوف من التفصيلات. افعل. افعل. افعل. لا تفعل. لا تفعل. لا تفعل. عشرات وعشرات بل مئات. سأظل كل حياتي أحاسب نفسي. كلا، إنه إله لا يجذبني. إنه إله يخيفني.

وإذا أساء القوم إليه عليهم ضربات مخيفة. أتلف حياتهم، وأخرب بيوتهم، وهدم مزارعهم، وقتل رجالهم، وضيّع نساءهم، وقتل أطفالهم، أحرق مدنهم. إنه إله شديد البطش. إذا غضب بطش!

ونغمة التهديد حتى لأتباعه.. «لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ ٱلآبَاءِ فِي ٱلأَبْنَاءِ فِي ٱلْجِيلِ ٱلثَّالِثِ وَٱلرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ» (خروج 20: 5). إنها نغمة مخيفة. إله لا يرتبط بشعبه بالقلب بل بالشريعة. إنه يمسك العصا ليعاقب كل من يعصى، فلا ينجو لا هو ولا أبناؤه إلى الجيل الثالث والرابع.

نعم، هو فعلاً إله. إله قدوس طاهر. ولكني إنسان ضعيف. لا أستطيع أن أستجيب لمطالب ذلك الإله. أحس أني مرتبط بيديه وبعينه لا بقلبه. كلا، ليس هذا هو الإله الذي أطلبه. إني أطلب إلهاً تكون شريعته داخل قلبي، لا على ألواح حجرية.. خارج قلبي. لأبحث إذن عن إله آخر..!!

ملاحظة:

أكتب هذه الملحوظة هنا بعد سنين طويلة. أدركت أن الخطأ بالنسبة لموقفي بإزاء الله سببه عجز فهمي وفهم اليهود. إننا لم نستطع أن نراه على حقيقته. لم نكن مستعدين للنظر والفهم والقبول.

الفصل الثالث: إله اليهود - إله العجائب

أعجبت بإله القوات وإله الشريعة. لكني منعت من أن أدعوه «إلهي». قالوا لي إنه ليس إلهك أنت. إنه «إلهنا نحن».. وسألت باندهاش: ولماذا لا يكون إلهي أيضاً؟

ومع ذلك سرت خلف دليلي الذي ارتضى أن يقودني إلى مدينة العجائب. انحنيت بل انكفأت على الأرض مذهولاً. حقاً إنه عظيم، إله عجائب. مكثت في المدينة مدة طويلة. قلت في نفسي: هذا إله يستحق العبادة حقاً. كم مكثت في هذه المدينة من الزمن؟ لا أعلم. ولكني كنت كل يوم أرى عجيبة.

أ. أقوى من النار:

رأيت شباناً ثلاثة يتعبدون لذلك الإله. ورأيت ملكاً طغاية يقيم تمثالاً عظيماً من ذهب ويقول هذا إلهي الكبير. هذا أعظم الآلهة! ونادى ورجاله: «هلموا يا قوم اسجدوا له، فويل لمن لا يسجد». وسجد الناس كلهم. ولكن أولئك الثلاثة لم يسجدوا. وجاء خصوم لهم وشكوهم للملك، فأحضرهم الجنود. وكنت أظن أنهم يأتون منكسي الرؤوس، ولكن للعجب! لقد جاءوا مرفوعي الرؤوس، ووقفوا أمام الملك وقفة التحدي.

وصاح الملك فيهم: «ألم تسمعوا أمري؟ ألم تعرفوا أن قصاص المخالف عذاب أليم: أن يُطرح في بحيرة النار؟» وصمت الملك قليلاً ثم قال: «ولكني أشفق عليكم. أشفق على شبابكم. سأمنحكم فرصة لتعودوا إلى رشدكم وتسجدوا لإلهي. وإلا فبحق الآلهة سأذيقنكم الويل والثبور وعظائم الأمور. ومن هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟».

وأجاب الشبان الثلاثة بلسان أحدهم: «يا نبوخذ نصر الملك، أيها الإنسان الضعيف، إنك إنسان ونحن نتحدى الإنسان. إن لنا إلهاً قوياً. إلهاً أقوى. لا. لا. لا نقول إله الآلهة ورب الأرباب. إلهاً يقدر أن ينجينا منك ومن بحيرة النار التي أشعلتها. على أنه إذا شاءت إرادته الحكيمة العالية ألا ينجينا منك ومن بحيرة النار التي أشعلتها، فإن ولاءنا له لا يتغير. لن نسجد لتمثال الذهب الذي أقمته.. كلا. لن نسجد».

وغضب الملك غضباً عظيماً وأمر أن تُحمّى البحيرة أضعافاً مضاعفة, وأن يُطرح الشبان فيها كما هم.. بثيابهم.

وتقدم الحراس منهم وقيّدوهم بالحبال بكل عنف، ورفعهم عدد من الأشداء وقذفوا بهم واحداً واحداً. كان لهيب النار عالياً حتى أنه أحرق الرجال الذين قاموا بقذفهم. أما الشبان الثلاثة فسقطوا كما هم في وسط النار.

كان الملك ينظر إلى بحيرة النار وبيده منظار كبير، كان يرصد به الأفلاك، شأنه شأن قومه الكلدانيين.. كان يتمتم: «لا شك أنهم انتهوا قبل أن يصلوا إلى قاع البحيرة. لا شك أنهم انتهوا في لحظة».. على أنه قبل أن يفرغ من تمتمته صاح بعظيم انذهال: «ما هذا؟ هلموا أيها الحراس، هلموا وانظروا. هل تخدعني عيناي، أم يخدعني هذا المنظار؟ ألم نطرح شدرخ ومشيخ وعبدنغو في النار. ألم نطرح ثلاثة؟ هلموا انظروا، أنظروا أربعة يتمشون.. يتمشون في النار. هل صارت النار حديقة.. والرابع، إن جسمه أشد لمعاناً من النار. إنه إله! هو إله حقاً!!».

ونظر رجال الملك ما رآه الملك.. وصاح الملك بصوت مرتفع: «يا شدرخ ومشيخ وعبدنغو، يا عبيد الله العلي يا عبيد يهوه، يا عبيد إله اليهود،اخرجوا وتعالوا».

وخرج الشبان و وقفوا أمام الملك. واجتمع حولهم رجال الملك. وأحاطت الجماهير الغفيرة بهم، ووقفت أنا خلف الأجيال أنظر إليهم.

لم تستطع النار أن تترك أي أثر فيهم.. أم لعلي أن أقول إنها تركت، فقد احترقت الحبال التي كانوا مقيّدين بها. لكنها لم تحرق شعرة واحدة من شعورهم!

وبينما نحن في أشد انذهال، وقد ران علينا صمت رهيب. قام الملك من عرشه العالي وانبطح على الأرض، قم وقف ورفع وجهه نحو السماء وقال: «تَبَارَكَ إِلٰهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو ٱلَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبِيدَهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ ٱلْمَلِكِ وَأَسْلَمُوا أَجْسَادَهُمْ لِكَيْ لاَ يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإِلٰهٍ غَيْرِ إِلٰهِهِمْ». ثم رفع صوته وقال: «فَمِنِّي قَدْ صَدَرَ أَمْرٌ بِأَنَّ كُلَّ شَعْبٍ وَأُمَّةٍ وَلِسَانٍ يَتَكَلَّمُونَ بِٱلسُّوءِ عَلَى إِلٰهِ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو فَإِنَّهُمْ يُصَيَّرُونَ إِرْباً إِرْباً، وَتُجْعَلُ بُيُوتُهُمْ مَزْبَلَةً، إِذْ لَيْسَ إِلٰهٌ آخَرُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَ هٰكَذَا!!» (دانيال 3: 28 و29).

يا له من إله. إله عظائم هو، هل يوجد نظيره؟

مكثت طويلاً في هذا الشارع أتأمل في هذاالإله الذي يُجري آيات مدهشات. أُعجبت به، ولكني لم أستطع.. ربي، ماذا أقول؟ إني بالطبع لا يمكن أن أتكلم بالسوء عليه. إنه إله عظيم مقتدر جبار. ولكنه إله شدرخ وميشخ وعبدنغو. إن اسمه ليس إلهي. إنه ينبغي أن ينال الاحترام. لا يجوز لأحد أن يتكلم عليه بالسوء. ومن يتكلم بالسوء عليه يصيّر إرباً إرباً. ولكن الإله الذي أبحث عنه إله أرغب أن يملأ قلبي. لا أمتنع فقط عن الكلام بالسوء عليه، بل إله أتغنى بحبه. يحبني وأحبه.

لم أعجب أن القوم لم يتركوا آلهتهم ويعبدوه. إنهم لم يعودوا يتكلمون بالسوء عليه، ولكنهم لم يحبوه. إنه إله اليهود وليس إلههم.

وأنا.. لم أنس ذلك الإله. أحسست أنه يملأ جانباً كبيراً من فكري. احتل جانباً من قلبي. ولكنه لم يملأه. كنت في حاجة إلى إله أعظم من إله المعجزات.

ب. أقوى من الوحوش:

على أني لم أترك هذا الشارع. انتظرت فيه.. وقد رأيت .. رأيت آيات أخرى.. هوذا أحد أتباع ذلك الإله، وكان يتميز بالحكمة والأمانة، وقد قلده الملك منصباً رفيعاً، بل فكر أن يقلده أرفع منصب في الدولة يلي منصب الملك مباشرة، مما أثار عليه غيرة الآخرين. فخططوا لمؤامرة خبيثة تودي به.. مؤامرة محكمة تعاون فيها شرهم مع غباوة ملكهم - أقنعوه أن يجعلوا منه الإله الأوحد لمدة شهر كامل يتعبد له الجميع، وحده دون سائر الآلهة، فلا يطلبون مدة الشهر أي شيء إلا منه هو. كانوا يلعمون سخافة هذا التدبير، وأنه لا يتفق مع عقل أو منطق. وكانوا يعلمون أنه لا يمكن أن ينقذه إنسان. ولكنهم قصدوا به تحدي الوزير المقصود. فهو لن يمتنع عن رفع صلواته لإلهه. وكان هذا هو كل ما يهمهم في الأمر. واقتنع الملك الأحمق أن في ما اقترحوه تكريماً له، واقتنع أن يجلعه مرسوماً ملكياً لا يستطيع أحد أن ينسخه، ولا يستطيع الملك نفسه أن ينقضه.

وتمّ لهم ما أرادوا. فإن دانيال الوزير أبى أن يستمع لصوت نصيحة أو عقل، فيمتنع عن رفع صلاته لإلهه. إن ولاءه لله لا يقف في سبيله قوة.. نفس الحياة أضعف من أن تتحداه!

وطُرح دانيال في جب الأسود. وتحدث أعداؤه ساخرين عن إلهه. دعنا ننتظر هل يستطيع إلهه أن ينجيه؟ لقد مضت مدة طويلة مذ رأى الناس إله إسرائيل ينجي أتباعه من النار. مات الملك نبوخذ نصر وملك بعده نابونيدس وبيلشاصر. وجاءت دولة فارس وهذا درايسو ربما كانوا قد سمعوا أن إله دانيال كانت له مآثر في القديم، لكن لا بد أن شاخ وفقد قوته. على أن ذلك الإله برهن لى أنه هو هو أمساً واليوم، فقد أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود، وخرج دانيال سليماً. وطُرح المشتكون عليه في جب الأسود، فمزقتهم الأسود شرّ تمزيق.

نعم فإن الملك وقد كان يحب دانيال، حاول أن يجد منفذاً ينقذ به الوزير الأمين فلم يجد، واضطر أن يخضع للمرسوم. وطرحوا دانيال في الجب، والملك يقول في كثير من الشك «إلهك الذي تعبده دائماً، ينجيك».

وذهب الملك في الصباح ينادي دانيال. بالطبع ما كان يخطر بباله أن دانيال سيجيب النداء «يَا دَانِيآلُ عَبْدَ اللهِ الْحَيِّ، هَلْ إِلهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِمًا قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ الأُسُودِ؟» (دانيال 6: 20) نطق الملك بهذه الكمات وهو يتحسر في قلبه على الرجل الأمين. لقد كان موقناً ان دانيال انتهى. لقد صار أثراً بعد عين. ستنتهي منه الأسود في لحظة.

ولكن صوتاً صدر من الجب جعله يثب وثبة قوية. هوذا دانيال يتكمل: «يا أيها الملك عش إلى الأبد. إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود».

نسي الملك وقاره فقفز قفزات طفل وصاح: «دانيال حي، دانيال حي! إله دانيال إله قوي. إله جبار! هلموا أيها الحراس، دلوا الحبال واصعدوه من الجب».

وأصعدوا دانيال وتقدم ليجثو أمام الملك احتراماً. فمد الملك يده وأقامه.. بل حاول أن يجثو هو أمامه وهو يمر بيديه على جزء من جسمه، غير مصدق أن هذا دانيال!

وأصدر الملك أمره أن يُحضروا الرجال الذين اشتكوا عليه، فأحضروهم وطرحوم في الجب، هم وأولادهم ونساءهم. ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت كل عظامهم.

وأصدر الملك أمراً مليكاً إلى كل شعوب المملكة العظيمة هذا نصه: «مِنْ قِبَلِي صَدَرَ أَمْرٌ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ سُلْطَانِ مَمْلَكَتِي يَرْتَعِدُونَ وَيَخَافُونَ قُدَّامَ إِلٰهِ دَانِيآلَ، لأَنَّهُ هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَمَلَكُوتُهُ لَنْ يَزُولَ وَسُلْطَانُهُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى. هُوَ يُنَجِّي وَيُنْقِذُ وَيَعْمَلُ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ. هُوَ ٱلَّذِي نَجَّى دَانِيآلَ مِنْ يَدِ ٱلأُسُود» (دانيال 6: 26 و27).

وهنا أيضاً وقفت بخشوع وارتعاد وخوف أمام ذلك الإله صانع الآيات. وقفت بكثير من الرهبة وترددت في التقدم إليه. إنني أخافه وأخشاه. إنني أكرمه وأعظمه. إنني أقدم له التعبد الخالص.. ولكني أتباعد عنه. إنني أخشى أن نوره يعمي عيني وناره تحرقني وقوته تسحقني!

قلت وأنا أبصر هذه العجائب: نعم هذا هو الإله الواحد الحقيقي، ولكني أحسست أنه ليس الإله الذي أبحث عنه. كلا ليس هو الإله الذي أبحث عنه. لم أعرف بعد طبيعة ذلك الإله الذي أبحث عنه، ولكني أثق أني سأعرفه عندما أراه. إني أبحث عن إله لا يقول لي: اعبدني أنا ولا تعبد سواي. إلى إله يهددني بشر القصاص إذا عبدت غيره. إني أبحث عن إله يجتذبني بقلبه الكبير فأعبده حباً وأحس أني ضائع إذا لم أعبده. حياتي في حبه. أراه يتألم ويحزن إذا تركته. يتألم من أجلي ويحزن على مصيري. يمد يداً باكية ويقول: «تعال. لماذا تضيع نفسك؟» هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إله رأسه كبير. يده جبارة. لكن أولاً قلبه كبير. إنني أبحث عن كلمة أدعوه بها. إنني لا أجدها الآن ولكني سأجدها. نعم سأجدها يوماً ما!!

تُرى من يفتح عينيّ فأرى... وأفرح وأشكر.. من؟؟

ج. أقوى من الموت:

سرت في مدينة العجائب. إنها ليست شارعاً واحداً ولا مدينة واحدة. إنها عالم كبير. رأيت رجلاً يقف وحده مع الله. كان هناك آخرون ولكنهم لم يجسروا أن يعلنوا ولاءهم لله. كان الملك يخضع لزوجته عابدة الوثن. ولم يبق إلا القليل من أنبياء الله، فإن الملك أو على الأصح الملكة، قتلوا غالبيتهم فهرب الباقون. وعاشت البلاد بعيدة عن الله. سادت المفاسد وعاش الناس حياة هي الموت. اشتهى الملك كرماً لرجل اسمه نابوت. ورتبت زوجته أن يُقتل صاحب الكرم فيؤول الكرم للمك. واتفقوا مع شيوخ المدينة ووجدوا شهود الزور، وسُفك دم صاحب الكرم ظلماً وعدواناً. فوقف نبي من رجال الله اسمه إيليا يهاجم شرّ الملك وظلم زوجته!!

وطلبت لملكة قتل إيلياً، فخبّأه الله عند امرأة غير يهودية.. وأجرى الله معجزته. كان عند المرأة قليل من الزيت، وبارك الله ذلك الدقيق وذلك الزيت، فظلت العائلة تأكل منه. كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص!

لا أعلم هل سلّمت المرأة حياتها لإله ذلك النبي.. ربما. مات ابنها. وصلى إيليا وعاش الولد. وتحدث الناس عن إله إسرائيل الذي أشفق على امرأة غير يهودية. بل قد سمعتُ أن القوم ذكروا ذلك بشيء من الدهشة، وشيء من الضيق. كيف يصنع إله إسرائيل معجزة لمن لا يتربط بالشعب الإسرائيلي؟

أما أنا فسُررت لأن الله هدم جدار العنصرية!!

بل سمعت أيضاً عن شفاء أبرص من غير الشعب المختار. وقلت: «هذا خبر طيب». ولكني لم أعد أسمع شيئاً من هذا القبيل!!

الفصل الرابع: مدينة التقاليد

وفيما أنا مشغول بالتأمل في شوق قلبي إله إله يجمع بين فكري وقلبي، انحدرت في طريق جانبي. لم أدرك أني خرجت عن الطريق المرسوم إلا بعد أن توغلت فيه.

كنت أعتقد أن الطريق جزء أصيل من المدينة. بل أن الكثيرين قالوا لي إن هذا الطريق هو الجزء الأصلي من المدينة!!

علمت أن الطريق اسمه «شارع التقاليد». ابتدأ في أول الأمر ملاصقاً تقريباً تماماً للشارع الذي أرشدني الملاك إليه. ولكنه دون أن أدري جعل ينحرف وينحرف حتى اتسعت المسافة بينهما. أحسست أني أدخل مدينة أخرى لا علاقة لها بمدينة إله العجائب. في هذا الشارع ظل القوم يدعون نفس الإله. لم ينكروا الإله الواحد القدوس. صحيح أن كثيرين من سكان المدينة انزلقوا إلى القرية المجاورة وعبدوا آلهة أخرى. حدث هذا كثيراً. عبدوا آلهة مصر وآلهة فلسطين وآلهة اليونان. لقد كان في آلهة الأمم ما يتفق مع الطبيعة الجسدية المنحدرة. والانحدار سهل بخلاف التسلق فوق الجبال. حاول الكثيرون أن يقودوني إلى تلك الآلهة، ورفضت بشدة. لقد كنت أحمل في جسدي جروح آلهة مصر. وقد ارتحت كثيراً إلى إله إسرائيل، الإله الواحد القدوس الطاهر. ارتحت وأنا أشاهد آياته وعجائبه - إن الذي هزم كل قوات العالم. على أني وأنا أغبّط نفسي إني ظللت متمسكاً بهذا الإله الواحد، اكشتفت انحداري البعيد عن الطريق الأصلي!!

من الغريب أن سكان هذا الشارع يدعون أنهم يؤمنون بما سبق أن تلقوه. «اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد»هو رب واحد ولكنه لا يخص من البشر غيرنا نحن.. إنه إلهنا وليس إله غيرنا من الناس. عرفت ذلك بكل أسف من أشخاص كنت أوليهم كل إكرام!!

رأيت في طريقي رجلاً وقوراً يركض في هلع نحو الغرب، وهو يتلّفت حوله بين حين وآخر. اقتربت منه وأنا متردد وسألته ما به، فقال: «إني نبي لله. أنا يونان. الله سيدي وإلهي. لقد عشت أميناً له كل يام حياتي. ما كنت أظن أن أيامي تنتهي بكارثة كالتي أجوزها اليوم». وقال وهو يخرج كلماته بصعوبة: «لقد صدر إليّ الأمر أن أذهب إلى نينوى المدينة الملعونة، التي لا صلة لها بإلهنا، المدينة الشريرة.. صدر إليّ الأمر أن أذهب إليها، أدوس أرضها النجسة. وأنذرها أنه قد صدر الأمر بهلاكها. ستحترق كما احترقت مدينة سدوم قديماً. طُلب مني أن أنادي: بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى». قلت: « لتُبلغها شامتاً «هذا الخبر السار». وما الذي يضيرك في هذا الأمر؟ أحرى بك أن تركض لتُبلغها شامتاً «هذا الخبر السار» لماذا لا تركض، وبعد ان تنذرها بهذا الإنذار الخطير يمكنك أن تجد ركناً قصّياً تجلس فيه لتشاهد انقلاب المدينة؟» - ولكنه أشار بيده كأنه يطرد شراً مستطيراً وقال: «أذهب إلى نينوى؟؟ أدوس بقدمي أرضها النجسة!! كلا، كلا، إني اعلم أنه سيصفح عن المدينة إذا ما تواضعت أمامه وتابت عن شرها. إنها كارثة! كارثة كارثة أن تكون لي يدٌ في نجاتها. كلا. كلا. أنا يونان النبي - نبي الله - الله، إله إسرائيل. هل أقدم لتلك المدينة الملعونة فرصة للتوبة؟! لا، ليت أمي لم تلدني إذا كان مصيري هذه النهاية المروعة!!».

وقد علمت في ما بعد أن الله تعقّب النبي وألزمه أن يقوم بالمهمة التي أوكلها إليه، وأن المدينة تذللت أمام الله بالتوبة الصادقة، وأنه عفى عنها - ورأى النبي هذه النتيجة فانطرح على الأرض صارخاً، «ربي خذ نفسي. موتي خير من حياتي».

قلت لأحد أبناء المدينة: «لا يمكن أن يكون إلهكم هذا هو الله الذي ظهر لموسى، الإله الذي خلق آدم والذي جبل الناس أسرة واحدة». قال: «بل هو الله الذي أخبرنا به موسى، ولكنه ليس إله كل الناس. إنه إلهنا نحن فقط. إننا نحن شعبه، وبقية العالم أمم، كلاب، خنازير، أعداء. سندوس نحن على رقابهم. هكذا علمنا أباؤنا».

ربي... هل أتجاس وأقول «ربي». إن هذا الإله الذي يحدثونني عنه ليس هو الإله الذي أحببته. إنني أكاد أقول: «إني أبغضه. سامحني إن كنت أنت هو. لكن لا يمكن أن تكون أنت هو. لا يمكن أن يكون إله هذه المدينة هو الإله الحقيقي. الإله الحقيقي لا يمكن أن يكون إلهاً محدوداً ضيّقاً، له خاصة وله أعداء، يحب أقلية ويلعن باقي العالم!!».

وعلى مبعدة من المكان أبصرت مشهداً كبيراً. مظاهرة ممن يدعون أنفسهم شعب الله يقولون: «اقتلوه. مزقوه. خذ هذا من الأرض. لا يجوز أن يعيش. إنه يريد أن يجمع بيننا وبين الكلاب. يريد أن يقول إن إلهنا هو إلههم أيضاً».

وقد أدعى أولئك الآباء أنهم يقولون ما يقولون مستندين على أقوال الله وما جاء في الشروح والتقاليد!! بل قد وصل بهم الأمر أنهم طرحوا كتاب الله جانباً ونادوا بالتقاليد.

لا زلت أسير في شارع التقاليد. إنه شارع كبير جداً. إنه أكبر من مدينة. رأيت أناساً يقفون رافعين أيديهم نحو السماء يصلّون. لم يكونوا بالحقيقة يصلّون. كانوا يدّعون أنهم يصلّون. رأيت أيديهم مرفوعة في صورة تعبُّد عميق. ولما تأملت الأيدي وجدتها ملوثة بالدم. القتل والسرقة والظلم. يقولون إن الله يطلب أن يصوموا ويحاسبهم إذا أفطروا. ويطلب منهم أن يصلّوا عدداً من الصلوات ويحاسبهم إذا قصّروا. يلزم أن يقدموا عدداً من الذبائح، وينتقم منهم إذا لم يفعلوا. إن إلههم يطلب منهم أن يقوموا بالفرائض. لا يهمه إلا أن يقوموا بها. يقدمون صورة مشوهة لله.

تعبت من السير في شارع التقاليد!

رأيت «حارة العشور و «وحارة حفظ السبت»:

ما أكثر الحواري التي رأيت فيها أشياء ملأت قلبي ألماً وحزناً. كرهت الدين والصلاة. كرهت المتدينين والمتعبّدين لله. بل كرهت إلههم.

قلت لهم: «إذا كان هذا إلهكم حقاً فإني لن أتعبد له. إن إلهكم محدود، ضيق، قاس، سطحي. ما هو الفرق بينكم وبين غيركم من الشعوب؟ ما الفرق بين إلهكم وآلهتهم؟ إن إلهكم فاق في بغضه للناس. فهو لا يحبكم ولا يهتم بم إلا إذا رشوتموه بالعطايا والتقدمات والذبائح. أما أولئك فمعذورون لأنهم كانوا يعيشون في الظلام وكانوا عمياناً، أما أنتم فتقولون إنكم تبصرون، وإن إلهكم هو الإله الحقيقي، وأن لكم ناموساً وأن لكم هيكلاً ولكم عبادات ولكم ولكم... ومع ذلك فما هو الفرق بين إلهكم وآلهة الأمم؟ كلا إني لا يمكن أن أٌقبل ذلك الإله!».

وعاش اليهود كل حياتهم في مدينة التقاليد! لقد أكرمهم الله وجعل الطريق السوي يمر بهم، ولكنهم ظنوا أنه انتهى بهم. ظنوا أن اليهودية هي نهاية الإعلان، وأن لا سبيل إلى الله إلا عن طريقهم!

لم أسترح إلى اليهودية لأنها لم تقدم لي الله الذي يشبع قلبي. قدمت لي إلهاً ضيقاً محدوداً، قاسياً يبغض كل الناس. حتى الذين اختارهم عندما كانوا ينزلقون بعيداً عنه. قال مرة: «كل شرهم في الجلجال. إني هناك أبغضهم».

لم استرح إلى اليهودية لأني رأيت فيها الكبرياء والتعاظم واحتقار الآخرين وبغض الأمم وطلب سحقهم وتدميرهم. وهم ينتظرون مسيحهم الذي سيملك في عاصمتهم، ويعطيهم الحق أن يضعوا أقدامهم على أعناق باقي الناس. وسيُقيم مائدة يجلسون هم عليها وتخدمهم الملائكة. ولا يسمح لأي إنسان من غير اليهود أن يجلس عليها!! لكني لم أعلم إلى أين أذهب..

لقد قالوا لي أن الطريق الوحيد للوصول إلى الله هو الطريق الذي أسير فيه، وأنا مضطر أن أسير فيه!!

الفصل الخامس: مدينة النبي داود

وفي الطرق تقابلت مع داود. لقد سبق أن حدثوني عنه. ذكروا لي أوصافه فعرفته لما رأيته. تقدمت منه مندفعاً، قلت: «أسعفني يا داود. هلا كشفت لي بعض ما أغلق عليّ في هذا الطريق. إن السير معك يملأ النفس بالاطمئنان. إن كلامك عن الله كلام شخص سار مع الله. في بعض ما كتبت - أظن أن الأجدر أن أقول - في الكثير مما كتبت أنحني ساجداً. قرأت المزمور الأول والثالث والرابع والكثير من المزامير الباقية.. قرأت مزاميرك التي تتغنى فيها بالشركة مع الله. قرأت المزمور الثالث والعشرين: «الرَّبُّ رَاعِيَّ» (مزمور 23: 1). «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي» (مزمور 27: 1). «اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ» (مزمور 9: 13) . مزمور «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ... نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ... أَشْهَى مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ ٱلْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ وَقَطْرِ ٱلشِّهَاد» (مزمور 19: 1-10) «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ... مِنْ أَفْوَاهِ ٱلأَطْفَالِ وَٱلرُّضَّعِ أَسَّسْتَ حَمْداً» (مزمور 8: 1 و2) «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ» (مزمور 27: 4). «بِمَ يُزَكِّي ٱلشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزمور 119: 9 و11). وكثيراً من مثل هذا، مما قدم لي إلهاً عظيماً يستحق أن أركض لكي أصل إليه. بل إنك في مزاميرك فتحت أمامي باب الأمل أن أنظره «لأَنَّ الرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ الْعَدْلَ. الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ» (مزمور 11: 7). وأنت قد علمت أني خرجت من دياري أبحث عن الله. ترى أين أجده قالوا لي إنك خير من يدلني على الطريق. وقد سمعت الكثير من كلامك وابتهجت. لكني ما أن توغلت فيه حتى عدت أدراجي خائباً. كيف تفسر لي ما ذكرته في بعض مزاميرك؟! مثلاً: «لِذلِكَ لا تَقُومُ الأَشْرَارُ فِي الدِّينِ، وَلاَ الْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ الأَبْرَارِ» (مزمور 1: 5) - «لأَنَّكَ ضَرَبْتَ كُلَّ أَعْدَائِي عَلَى الْفَكِّ. هَشَّمْتَ أَسْنَانَ الأَشْرَارِ» (مزمور 3: 7) - «قُمْ يَا رَبُّ بِغَضَبِكَ» (مزمور 7: 6) - «يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخًا، نَارًا وَكِبْرِيتًا، وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ» (مزمور 11: 6) - «خَاصِمْ يَا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَاتِلْ مُقَاتِلِيَّ» (مزمور 35: 1). «لِيَكُنْ طَرِيقُهُمْ ظَلاَمًا وَزَلَقًا، وَمَلاَكُ الرَّبِّ طَارِدُهُمْ» (مزمور 35: 6) وماذا تقول في طلبتك: «اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، ٱلْقَائِلِينَ: هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا. يَا بِنْتَ بَابِلَ ٱلْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ ٱلَّذِي جَازَيْتِنَا! طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ ٱلصَّخْرَةَ» (مزمور 137:7-9).»

هل يمكن يا داود العظيم أن توضح لي كيف يكون طريق إلى الله بهذه الصورة؟ لقد سرني أن أرى الله الراعي والنور والخلاص والقداسة والفرح، الله الذي يرعى ويهدي ويعطي وينقذ. ولكنك عدت وقدمت لي الله الذي له أعداء، والذي يبغض أعداءه ويسحقهم ويلاشيهم ويضرب أطفالهم بالصخرة. لا تنظر إلي شذراَ يا داود. إني أبحث عن إله يختلف عن الإله الذي قدمته لي في بعض الأوقات. إنك قدمت لي إلهاً متناقضاً. قدمت لي إلهاً لليهود يختلف كل الاختلاف عن إله الأجانب. ترى هل هما إلهان؟ إله لليهود وإله لغير اليهود؟ لقد سمعت أنه إله واحد، ولذلك بحثت عن هذا الإله الواحد فلم أجده. أم هو إله واحد له وجهان؟ فكيف يكون مضيئاً في هذه الناحية، ومظلماً في الناحية الأخرى؟ اليوم فقط قرأت لك ما يقوله هذا الإله «اَللّٰهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ. أَقْسِمُ شَكِيمَ وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ. لِي جِلْعَادُ وَلِي مَنَسَّى، وَأَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي. يَهُوذَا صَوْلَجَانِي. مُوآبُ مِرْحَضَتِي. عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي» (مزمور 6: 6 - 8). وقرأت لك يا داود عن أعدائك أنهم يدخلون في أسافل الأرض؟ يُدفعون إلى يدي السيف، يكونون نصيباً لبنات آوى «فَيَرْمِيهِمِ اللهُ بِسَهْمٍ. بَغْتَةً» (مزمور 64: 7) لقد اندهشت أن هذا الإله له أعداء، وهو يحاربهم ويضربهم بكل ما يملك من قوة، بل يتحداهم ويقف أمامهم منافساً، كأنه يضع نفسه معهم على نفس المستوى، وإن كان يفوقهم قوة!!

لقد رأيت آلهة تحب الحبيب وتبغض العدو، فلم أقبلها. لم أستطع أن أرى فيها ما يرفعها إلى مقام الآلهة، فخرجت أبحث عن إله، لا يعرف البغض ولا القسوة ولا الانتقام!!؟ فلما رأيت إلهكم أيها اليهود أعجبت به في أول الأمر، لوحدانيته، ونقاوته، وقداسته وقدرته وسموه.. لكن واأسفاه، لقد خاب ظني في الإله الذي قدمتموه، فقد قدمتموه في صورة إله ضيق محدود قاس، سطحي لا يهتم إلا بعبادة الشفتين.

ثم ما هذه التي تسمونها الخطية؟ وما هي نظرة هذا الإله بالنسبة لها.. كيف عالجها؟ ما هي التعقيدات التي لم أستطع فهمها؟ ذبيحة خطية، ذبيحة محرقة، ذبيحة كفارة، مذبح نحاس، مذبح ذهب، تابوت عهد. ذبائح يومية، ذبائح أسبوعية، ذبائح سنوية. أما مِن آخرٍ لهذه الذبائح؟ أما من علاج للخطية؟ بل رأيت إلهاً منتقماً يحرق البلاد التي لا تقدم الذبائح، ويقلبها رأساً على عقب. لا يعالج الخطية لكن يقتل الخاطئ.. كلا. كلا. ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. لقد كنت أظن إني وجدته في اليهودية، لكن واأسفاه! واأسفاه! خاب أملي وضاع رجائي!!

كان داود يستمع لي وقد تجلت ابتسامته باهتة على وجهه. كنت أتحدث لاهثاً وقد امتلأ جسدي كله بالعرق. فلما فرغت امتلأ وجهي بالدموع، وصرخت: «حقاً إني يائس. لقد ظننت أني وجدت الله عندكم.. أين أجدك يا من تركت كل شيء في سبيلك؟».

التفت إليّ داود مواسياً وقال: «لا بأس عليك يا صديقي، أخشى أنك أخذت الأمور من غير الناحية الصحيحة. إن الإله الذي حدثك اليهود عنه هو الإله الحقيقي الإله القدوس. ولكننا كبشر لم تسطع عيوننا الكليلة أن تراه كما هو. ولم تستطع أفهامنا المحدودة أن تعرفه. لقد تحدث إلينا كما يتحدث الأب الكبير إلى ابنه الصغير الطفل. وكان من رأفته أن تحدث باللغة التي يمكن أن نفهمها. وقد تلاحظ أحياناً أن بعضنا قد يرى أكثير من غيره، وأن الناظر مناً قد يرى اليوم أكثر مما رأى بالأمس. قد رأيت ذلك ولا شك في المزامير التي وضعها الله على فمي. فقد رأيت في أحد الأيام مقام الذبيحة ومكانها، وفي يوم سمعتني أقول: «لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. ذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ» (مزمور 51: 16 و17). والمزامير صورة حقيقية للإنسان في ضعفه وفي قوته. تراه اليوم يرتفع إلى قوة السمو، وتراه في الغد ينخفض إلى وادي الاتضاع. تراه يوماً يضربه قلبه وهو يمزق جزءاً من جبة شاول، وتراه يوماً آخر يسلب قريبه حياته ويتزوج من أرمتله، وينام ضميره سنة أو نحو سنة - والله يا صديقي أرأف بنا من أنفسنا ومن الناس. هذا هو الإله الذي تبحث عنه يا صديقي.. إنه ليس آلهة. إنه إله، واختلاف الصورة سببه في الإنسان لا في الله. إن عيوننا لا ترى إلا شعاعة ضئيلة من نوره. وأفهامنا لا تستطيع أن تصل إلى أعماقه» .

قلت: «ولكن شعبك لا يقول بذلك. إنه يقدم لي هذا الإله، لا على أنه أعظم من الصورة التي يرونها، ولا على أن عيونهم وأفهامهم تقصر عن أن تصل إليه. إنهم يقدمونه بصفته الإله الذي يحب ويبغض ويكافئ وينتقم. له أحباء وله أعداء. ولئن كنتم وقد سرتم معه طويلاً وسمعتم صوته كما قال لي بعضكم وبنبتم له مكاناً مقدساً وقدمتم له قرابين وذبائح، لئن كنتم أنتم تقولون: «إله إسرائيل: يهوذا صولجانه وموآب مرحضته وعلى أدوم يطرح نعله» (مزمور 60: 7 و8).لئن كنتم أنتم تقولون ذلك، فكيف أستطيع أنا أن أراه غير ذلك؟ ما هو الفرق بينه وبين أوزيريس وست، أو بينه وبين زفس وهرمز؟ ما هو الفرق بين إلهكم وآلهة مصر وآلهة اليونان وآلهة فارس عشتار. وآلهة الهند التي سمعت عنها كالي وزوجها؟»

حقاً أنا تعيس!

عندما وصلت إلى حدود بلادكم ظننت أني وصلت إلى نهاية رحلتي. قلت أقيم هنا .. وأتزوج هنا وأبني بيتي هنا وأعمل.. إلى أن تنتهي الأيام وأذهب إلى...

بل يبدو أني نسيت شيئاً. ما هي النهاية؟

لقد تحدثتم معي عن اليهود وحياة اليهود وبركات اليهود، أولاد اليهود.. أحفاد اليهود، غلال اليهود، كروم اليهود، لكنكم لم تتحدثوا إليّ عن آخرة اليهود.. ماذا بعد الموت؟

ولئن لم تكن لكم أيها اليهود آخرة، فماذا يكون لموآب وماذا يكون لأدوم؟

فقال حاول داود أن يقاطعني لكني كنت مندفعاً كالسيل. على أنه استطاع أن يتكلم أخيراً. انتهز فرصة صمتي لحظة لألتقط أنفاسي: «اسمعني يا صديقي. إن رحلتك لم تنته بعد. هذا صحيح من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى قد انتهت. أقصد أنك قد وصلت إلى الطريق، فقد وصلت إلى حدود مملكة الإله الواحد الحقيقي القدوس الطاهر. ولو فتحت عينيك، أو على الأصح لو أنك تترك عينيك فلا تضع يدك عليهما، لرأيت الإله الحقيقي. وأنت تراه هنا في اليهودية بصورة أكثر وضوحاً مما تراه في أي مكان آخر رأيته فيه».

قاطعته قائلاً: «هل تعني أن الإله الحقيقي سبق لي أن وصلت إليه؟». وأجاب: «نعم. نعم. إنه الكائن الأزلي. لقد كان. وهو كائن. فقد تجلى في السموات والأرض. السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. الطبيعة تعلنه، ولكن عيون البشر كانت عاجزة فلم تره هو. ظنت أنه هو الطبيعة. ظنت أنه الشمس، فعبدت الشمس، أو أنه القمر فعبدت القمر. عبدت الزهر والشجر، والنهر والبحر والجبل، والحيوان والنبات، مع أن هذه كلها من خلق ذلك الإله غير المنظور، وهي تتحدث عنه. واليهود رأوا من الله أكثر مما رآه غيرهم، على أنهم فعلاً لم يروه، لأن الإنسان يراه ولا يراه. يراه لا بعينه لكن بكل ما فيه من حياة. وكان خطأهم أنهم ظنوا أنهم وصلوا. عبدوا الخيمة والهيكل والمذبح والناموس والتقاليد، وإذ ذاك قدموا للعالم صورة زائفة لله، فلم تره على حقيقته. قالوا إن كل آلهة الأمم باطلة. إلههم هو الإله الحقيقي الوحيد. وكان كلامهم صحيحاً، ولكنهم أساءوا تقديمه. قدموا للعالم إلهاً محدوداً جداً ليس له إلا حفنة من الناس الموالين له، إلهاً قاسياً جداً يبغض غير اليهود بغضاً قاتلاً. ويطلب أن يُقتل غير اليهود ويُسحقوا ويلاشوا. لم يستطيعوا أن يدركوا أن اختيار الله لهم كان ترتيباً سامياً لقصد أزلي هو بَسط مظلة الله على كل العالم. ظنوا أن الله لهم وحدهم، يحبهم هم ويكره غيرهم - وأنت قد رأيت ذلك يا صديقي حتى في أنبيائهم. ألم تروِ لي أن أحد أنبيائهم غضب غضباً عظيماً عندما أشفق «إلههم» على شعب آخر.. بل طلب لنفسه الموت؟» .

هنا قلت لداود: «إنك تنسب الخطأ إلى النبي ولكن النتيجة واحدة. بل أكثر من ذلك فإن نبياً آخر ذكر ذلك الشعب بكل سوء وأنبأه بسوء المصير. لا يا سيدي. ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إنني أبحث عن إله آخر، أستطيع أن أقول له أنا الأممي، أنا الغريب، أنا الجاهل، أنا الخاطئ، نعم أنا من أنا، أستطيع أن أقول له : «يا إلهي». ويستطيع أخي أن يقوله له: «يا إلهي» ويستطيع كل مخلوق أن يقول له: «يا إلهي». فهل عندك هذا الإله؟ ها قد مرت عليّ سنوات هذا عددها وأنا أبحث عنه. أريد أن أستقر يا سيدي. أريد أن أستريح. أريد أن أتزوج وألد بنين أقدم لهم الإله الذي أبحث عنه» .

وانحنيت إلى الأرض. وبكيت ما شاء لي البكاء. غرقت في دموعي. غرقت ثيابي وابتل التراب الذي انكفأت بوجهي عليه، وارتفعت شهقاتي وصرخت من أعمال قلبي: «أيها الإله، إن قلبي يحدثني أنك موجود. لا بد أن تكون موجوداً، لكن أين، لقد تعبت وأنا أبحث. كلت قدماي. كاد شبابي يولّي، أين أنت؟ لقد أخبروني أنك قلت: «الذين يبكرون إليّ يجدونني».. أنا ألتمس منك - إن كان لك وجود - أن تدلني أين أنت؟» .

وفيما أنا جاثٍ سمعت صوتاً هامساً يقول: «سر في طريقك فإنك ستصل إليه. إنك تراه اليوم في الرموز. تراه كما في مرآة. ولكنك ستصل يوماً إلى رؤيته. ولو أني أشك أنك ستصل إلى رؤئته الكاملة. لقد أخطأت يا صديقي إذ ظننت أن مدينة اليهودية هي المدينة النهائية. إنها هي إحدى المدن التي تمر بها في الطريق. لست وحدك الذي أخطأت. أنا أخطأت والشعب أخطأ. إن المدينة التي تقصدها لا تزال أمامك. بينك وبينها مسافة. صحيح أن الطريق يمر باليهودية ولكنها لا ينتهي بها. لقد سلك البعض عن غير طريقها، لكن كان ذلك قبل أن يرسم الله هذا الطريق. وضع الله اليهودية ظلاً للحقيقة ورمزاً لمرموز.. وفيها نبصر الله الذي أحب الإنسان الخاطئ ورسم له طريق الفداء. على أن اليهود لم يستطيعوا أن يفهموا أن مدينتهم ليست المدينة النهائية. إنها ظل للأمور العتيدة ورمز لأمور آتية. لذلك سر يا بني إلى الأمام. سر فستصل حتماً إلى هدفك المنشود».

لقد مررت ولا شك بمدينة الوعد الأول، وبمدينة ذبيحة هابيل، وحمل إسحاق والنظام الموسوي. كل هذه منازل في الطريق إلى مدينة الملكوت.. إذا انتهت أيامك قبل أن تصل فلا تأسَ لأنك ستراه من بعيد. ولكني أصلي أن يبقيك الله حتى تصل إلى المدينة التي ترى فيها السيد في كمال مجده. لقد رأيته أنا عن بُعد نعم عن بُعد، وكان ابتهاجي بذلك لا حدّ له!!

كلا، إنك لم تصل بعد. لا تخطئ كما أخطأنا نحن، فتظن أن مدينة اليهودية هي نهاية المطاف

تركت المكان وسرت.. ينبغي أن أعترف لنفسي هنا أولاً، ولمن يقرأون مذكراتي - إذا وجد من يقرأها - ينبغي أن أعترف أن الأمور اختلطت أمامي. في الطريق لقيت داود وإشعياء وملاخي وغيرهم، فهل لقيتهم مرة واحدة؟ وهل تكلمت معهم مرة واحدة؟ وهل صدرت شكواي مرة واحدة، أم حدث ذلك عدة مرات؟ إن رأسي تدور كعجلة، وأنا أرى داود يتكلم معي، ثم يتركني وأتكلم مع إشعياء.. ثم أجدني أتكلم مع داود وأسأل نفسي: «هل هذا تكرار حقيقي، أم دوران في رأسي؟». وقد جلست بكل إخلاص أراجع نفسي ولم أصل إلى نتيجة. لمتُ نفسي في أول الأمر ثم عدت فسامحتها، فأنا أسير مسافات طويلة، وأبصر أشياء كثيرة، وأشخاصاً مختلفين.. وعليه فسأترك مذكراتي كما وجدتها مختلطة. أنا لا أفهمها تماماً.. ولعل قارئيها يكون حظهم أفضل من حظي!!

الفصل السادس: مدينة النبي إشعياء

استراح قلبي عندما سمعت أن اليهودية ليست نهاية المطاف. إنها محطة في الطريق. وبالرغم من أنها محطة رئيسية لكنها مجرد محطة. إننا نرى الله فيها، لكننا نراه من خلال الظلال والرموز. استراح قلبي وأشرق وجهي وسرت في طريقي وأنا أبتهل إلى الله أن أراه. كنت أصلي أن أعيش حتى أراه، أراه هو!!

استرحت نوعاً وقمت على قدميّ الكليلتين. سرت متوكئاً على عصا الإيمان. مررت بمدائن كثيرة. رأيت أسواقاً عامرة بالبضائع، ولكني ظللت أسير وأسير ليلاً ونهاراً. لم تكن المدن التي أمر بها تكشف حقيقة ما بداخلها، لأن الظلام كان يخيم عليها، ولأن الضوء القليل الذي يتخلل طرقاتها كان أشبه بنور الشفق. كنت أخشى أن أضل، لولا أني وضعت نصب عيني ذلك النور العظيم خلف الجبال البعيدة، النور الذي أشار إليه الملاك.

ونمت في إحدى الأمسيات مجهداً. فلما استيقظت أبصرت أمامي مدينة كبيرة، كان النور يبدو فيها أكثر لمعاناً، ولو لم يكن نور الشمس. ولما سألت عن اسم المدينة قالوا إن لها عدة أسماء. البعض يطلق عليها «خلاص الله» وآخرون «الحمل المذبوح». وقد فكرت أن أقيم فيها فترة ريثما أستريح!

مررت في الشارع الكبير.. على اليمين «شارع ابن يسى». ثم «شارع من صدّق خبرنا »ثم «شارع الحمل الصامت» و «شارع الجلدات الشافية» - وبينما أنا أجتاز طرقات هذه المدينة العجيبة قابلني شيخ وقور، رأيت دماء تسيل من جنبيه، علمت أنها آثار مناشير حادة مرت بقسوة على جنبيه. وقد دعاني إلى بيته لأغسل رجليّ وأتناول شيئاً من الطعام! ودخلت بيت الرجل الكريم الذي علمت أن المدينة دُعيت على اسمه «خلاص يهوه» أو «خلاص الله».

كان الرجل متزوجاً من امرأة فاضلة وقد رأيت من بنيه اثنين. ولعل من اللائق أن أسجل بشيء من التدقيق أحداث هذه الليلة العجيبة.

دخلت البيت متردداً. وهو نفسه بدا عليه الارتباك. ترى هل يستقبلني أنا المصري في بيته؟ وهل يجلس معي على مائدة واحدة؟ هل يأكل من الطبق الواحد؟ على أن ارتباكه لم يطل. بيدو أنه تلقى أوامر عليا ألا يخاف. علمت ذلك ونحن جلوس على المائدة.

تقدم بعض العبيد ليغسلوا قدميّ.. لكن زوجته «النبية» أشارت أن يتركوها هي تقوم بهذه الخدمة. حاولت أن أردها لكنها أصرت. ولما جلسنا إلى المائدة قال النبي إشعياء إنهم تلقوا أوامر من الجهات العليا أن يستقبلوني كملاك من السماء. كان خجلي بالغاً ولكني خضعت.

قُدمت في أول الأمر أطباق أطعمة خفيفة سهلة الهضم، هضمناها بسهولة. منها طبق الخَلق، وطبق عظمة الله وسمّوه وفضله على العالم كله «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1).

وبعد ذلك قُدّمت أطباق من أصناف شديدة الدسم تتطلب قوة خاصة لهضمها. فهذا طبق قداسة الله، وهذا طبق خطية الإنسان، وهذا طبق الناموس والذبائح، وهذا طبق طريق الغفران.

ومن أدسم الأطباق طبق «تجسد الكلمة» و «العبد المتألم» و «الذبيحة المقبولة».

ومع أن صورة تلك الليلة ظلت محفورة في قلبي، إلا أنه من الصعب أن أرسمها لأحتفظ بها. على أني سأحاول أن أصورها بقدر جهدي.

جلست مغمض العينين مفتوح القلب، وإذ بي أرى «خلاص يهوه» أو لنطلق عليه اسمه اليهودي «إشعياء» يجلس على رأس المائدة, وعلى المقعد المقابل جلست زوجته «النبية» وإلى اليمين جلس ابنه الكبير «شآريشوب» وإلى جانبه «حاش بز». وفي الصف المقابل جلس اثنان من تلاميذ النبي، وجلست أنا في الطرف المقابل لرأس المائدة.

اختفى هذا المنظر وإذا بي أرى الهيكل العظيم هيكل سليمان. نحن في غرفة، لا أعلم كيف أصفها. لا أقول إنها كانت مضيئة لأنها كانت شعلة من الضوء. لم أر شمساً ولا قمراً ولا مصباحاً، ولكنها كانت شمساً.. بل كانت ألف شمس في كتلة واحدة. أغمضت عينيّ بشدة، ولكني ظللت أبصر. كنت أبصر بكل جارحة فيّ. هذا كرسي هو وقطعة من النور، جلس عليه كائن نوراني بهيج، تُعتبر الشمس ظلاماً بالنسبة له. كيف كنت أرى؟ لا أعرف، ولكني رأيت. علمت أنه السيد نفسه وقد جلس على الكرسي العالي واذياله تملأ الهيكل.

أين كنت أنا؟ لا أعلم! ولكني أبصرت النبي يدخل كان يضع برقعاً على وجهه. لكني أحسست أنه يرى. هناك ملائكة تملأ المكان. لكل ملاك ستة أجنحة، أربعة لتغطي وجهه وقدميه، واثنان للخدمة. والملائكة ترنم، وتتجاوب. في الناحية الواحدة ملائكة تقول: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ» وفي الناحية الأخرى ملائكة تجيب. «رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إشعياء 6: 3).

ظللت أسمع الترنيم والجواب.. كنت أراها رهيبة مروعة حلوة.. ماذا أقول؟ أحببتها!؟ اضطربت منها!؟ جذبتني.. ودفعتني؟؟

امتلأ المكان بالمجد والسحاب الكثيف. ومع أني لم أكن في داخل المكان لكني أحسست بالخوف يحختويني. أبصرت إشعياء يسقط على الأرض وهو يصرخ بصوت مبحوح: ««وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْن» (إشعياء 6: 5). ورأيت وحداً من الملائكة يأخذ جمرة من نار المذبح ويلمس بها شفتي النبي وهو يقول: «إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (إشعياء 6: 7).

وسمعت كما سمع إشعياء صوتاً يقول: «مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» وإذا بإشعياء يهتف وهو بعد ساقط على الأرض: «هأَنَذَا أَرْسِلْنِي».

وأحسست أن الأرض تهتز تحت قدمي والغرفة تدور، وأفتح عينيّ فلا أرى شيئاً من المنظر الرهيب. ها نحن جالسون على المائدة وإشعياء يتحرك ببطء وقد تجلت الرهبة في وجهه، ويتمتم بصوت خافت: «ما أرهب هذا المكان! حقاً إن الله في هذا المكان».. ثم قال بصوت مسموع: «رأيت الله». نعم رأيت الله المهوب المخوف، الله الذي ظهر ونقّاني وأرسلني. الله الذي لم أره بعيني، لكني رأته بروحي والذي لا أعرف صورته. الله الذي هو نور من نور. الله القدوس، الذي مجده ملء كل الأرض!

وتحدث إشعياء عن هذه الرؤيا بما رأيته أنا. وهنا سألت نفسي: «هل كنت أرى؟ هل كنت أحلم؟ هل هو الله الذي رأيته؟» لا أعلم!

جلسنا فترة طويلة نتحادث.. أحسست مرة أخرى أن الدنيا تدور بي. أغمضت عينيّ وذهبت في غيبة. على أني أثناء ذلك رأيت طريقاً دائرياً.

ينبغي أن أعترف أني ارتكبت أخطاء كثيرة في سياحتي. كنت أميل غير عامد بالطبع عن الطريق، وأقابل أشخاصاً لهم مكانهم وأتحدث معهم، لكني واأسفاه كنت أنسى كل شيء. وعندما عدت إلى مذكراتي اكتشفت أني قابلت موسى وداود وإشعياء أكثر من مرة، وكتبت عن لقائي مع هؤلاء أكثر من مرة، وكنت أكرر نفس الكلمات. ومن عجب أن هؤلاء العظماء لم يردوني، ولم يقولوا لي إنهم سمعوا مني كلامي الفارغ أكثر من مرة. لقد احتملوني، والله احتملني لأنه يعلم إخلاص قلبي. لقد علمت أنه سمع من غيري وعفا، لأنه الله. علمت أن داود قال له مرة لماذا: «تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ؟» (مزمور 13: 1). وقال له مرة: «اِسْتَيْقِظْ! لِمَاذَا تَتَغَافَى» (مزمور 44: 23). لذلك أثق أنه سيصفح عني في ما تجرأت فيه ونطقت. سأقول له إني أرفض وأندم في التراب، وإني نطقت بما لم أفهم. ها أنا حقير، فماذا أقول؟ وضعت يدي على فمي.. وأنا واثق أنه سيسامحني. هو يعلم أني أبحث عنه. وأن ما تكلمت به عن الله لم يكن بالتأكيد عنه هو. إنه أعظم مما قدمه لي موسى أو داود أو حتى إشعياء. وأنا قد تكلمت عن الإله الذي قدموه..

وها أنا أضع مذكراتي التي عثرت عليها قبل مذكراتي عن لقاء إشعياء.

الفصل السابع: جلسات مع الأنبياء

أخذني رفيقي إلى قاعة كبيرة جداً، قال لي إن اسمها «قاعة التاريخ» رأيت فيها ملايين الملايين. ورأيت مقعداً خالياً فجلست عليه، كان الجالسون حولي من عظماء العظماء. عرفت منهم موسى وداود وإشعياء وأيوب وإرميا وحبقوق. وبدأ رفيقي الحديث!

«أقدم لكم صديقي السيد باحث مخلص، ويدعونه «الباحث عن الحق» وفي لغتنا نحن نسميه الباحث عن الله. خرج من قومه يافعاً وأنتم ترونه الآن شيخاً قارب أن يصل إلى سن الهرم. وقد مر بأقاليم أوزيريس وإيزيس، وعاش عدة سنوات في كنف آلهة مصر. وهناك سمع عن بعل ومولك وملكوم. في مصر قابل ملكة السموات إيزيس وسمع عن إخوتها وعشتاروت وعشتار وفينيس وأختها من أبيها أرطاميس. بالطبع حدثوه عن «الوالد» زيوس وهرمز وكيوبيد ومارس وأثينا. ,قد احتقر هذه الآلهة وأبغضها وخرج من إقليمها ساخطاً. وأرشدته العناية إلى إقليمنا المبارك، إقليم يهوه العظيم. الحقيقة أني عثرت عليه مطروحاً في الصحراء البعيدة. هو لا يعرف متى كان بين قومه، ماذا حدث له في الطريق، متى وجد نفسه في مصر ومتى هرب. إنه كثيراً ما يفرك عينيه ويسأل: «هل أنا أحلم؟». بل إني سمعته كثيراً يقول: «من أنا؟ من هم قومي؟ هل كنت أعيش هناك في الواحة الكبيرة قي قلب الصحراء؟ هل كنت أقيم في منطقة الخيام؟ هل كانت لنا ثروة؟ هل كنا نعيش كالبهائم؟ هل جاءنا حقاً التاجر الكنعاني والفينيقي؟ هل حدثنا الفينيقي عن ضيفهم الغريب الذي أخبرهم عن وجود إله؟ هل سافرت معه حقاً، أم كنت أحلم؟ هل حدثت زلزلة؟ هل سقطت في حفرة؟ هل كانت حفرة بلا آخر؟ هل استيقظت حقاً؟ هل كنت في مصر؟..»

«كان يفعل ذلك كلما كان وحده، وكان يحدّث نفسه.. ثم يختم حديثه بالقول: «إني أكاد أجن».

«وفي إقليمنا المبارك كان سروره عظيماً وهو يسمع عن يهوه العظيم، ويقول إنه حقاً «الله الذي ظللت أبحث عنه». على أنه بعد أن سار في الإقليم فترة بدأ يحس بشيء من الضيق. كنت أسمعه يتمتم: ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إني أبحث عن إله أحس وأنا بين يديه أنه يملأ قلبي، كل قلبي.. قلبي لا جسدي.. كل قلبي» .

«وها أنا قد جئت به إليكم يا أعمدة هيكل يهوه، إليك أيها النبي الكبير موسى، وأنت أيها المرنم العظيم داود، أنت يا إشعياء نبي العبد المتألم، يا إرميا يا حبقوق يا ملاخي، أنتم يا إخوان الإيمان، هل ستسمحون له أن يبسط قلبه، كل قلبه أمامكم؟». قال هذه الكلمات وجلس.

وساد على المكان صمت رهيب. اختفى المكان أمامي. لم أعد أرى أحداً. بل شككت في نفسي، هل أنا موجود. حاولت ان أتأكد أني أعيش، أني مستيقظ، أني لا أحلم. أنا في صحراء وظللت كذلك إلى أن أيقظني صوت مرتفع كالرعد، ولو أنه كان يحمل في طياته نغمة رقيقة حليمة، ماذا تبغي أيها الباحث عن الحق؟

التفتُّ ناحية الصوت، وعرفت أن المتكلم هو موسى. كيف عرفت أنه موسى؟ لا جواب. بل أني لم أعد أرى أحداً، لا داود، ولا إشعياء، ولا الألوف أو الملايين التي سبق أن رأيتها - كنت أحس بوجودها، بل كنت أحس أن الجو نفسه مملوء بكائنات رهيبة.

وقفت مكاني وقلت: «سيدي موسى، كان قومي يعيشون كالبهائم، يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون.. ويموتون.. ليقوم بعدهم جيل آخر يسلك كما سلكوا، إلى أن جاء الكنعاني وجاء معه الفينيقي الذي أيقظني. إني لست طائراً ولا حيواناً.. أنا.. أنا رجل.. أمي امرأة. نحن نسود على الطيور والحيوانات، ولكننا نعيش نظيرها. أقلقتني هذه اليقظة. وعندما تحدثت بما جال في صدري إلى أبي، ثار فيّ وقال: «لا تبلبل فكرك وأفكارنا. كف عن هذا التفكير الأحمق». ولكني لم أستطع أن أكف. كان هناك جوع في قلبي!» .

«خرجت وحُملت إلى مصر مجبراً. ورأيت آلهة مصر وسمعت عن يهوه العظيم. عرفت أنه هو الإله الذي أبحث عنه. إنه إله واحد. الله الروح. إنه إله قدوس. إنه إله الخير. ولكن هذا الإله يا سيدي - دعني اقول هو إله موسى. هل تسمح لي أن آتي شططاً وأقول إنه ليس الإله الذي أبحث عنه. أنا أطعن في الله، حاشاي! أنا أخشع أمامه. ولكن الذي تقدمونه لا يمكن أن يكون الله، كل الله.. لا. يا سيدي موسى، ليس هو الله الذي أبحث عنه».

كان موسى يتململ في مكانه، وقد أحسست أنه يحتمل مني ما يفوق احتماله. وانطلق يتحدث إليّ بنغمة هادئة ولو أنها كانت تحمل في طياتها غضباً مرعباً. قال: «تقول إن إلهنا ليس هو الله، الإله الحقيقي الذي تبحث عنه، الذي يملأ فراغ قلبك. هل تقول ذلك؟ إنك إذن أحمق أعمى القلب والبصيرة. إن إلهنا هو الله، الإله الحقيقي ولس سواه». قال موسى هذه الكلمات بهودء. ولكنها كانت في قوتها كالرعد.. فقلت: «عفواً يا سيدي موسى، أنا لم أقل ذلك. لكني أرجوا أن تسمعني بحلمك. لماذا لا تسمع كلامي وأنا لم أبتعد بعيداً؟ أنا سأعيد على مسمعك الكلمات التي دونتها أنت عن إلهك. كما أني أرجو أن لا تتخلى عن حلمك المعروف وأنت تسمعني. دعني أضع نفس الكلمات التي كتبتها في أسفارك المقدسة. إنها لا تحتاج إلى توضيح: هذا إبراهيم يقول لسارة امرأته: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ ٱمْرَأَةٌ حَسَنَةُ ٱلْمَنْظَرِ. فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ ٱلْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هٰذِهِ ٱمْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ» (تكوين 12: 11-13) وتم تدبير إبراهيم وأخذ فرعون سارة «وَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْراً بِسَبَبِهَا.. فَضَرَبَ ٱلرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ» (تكوين 12: 16 و17). قل لي يا موسى، ماذا تقول في إله يترك المذنب ويعاقب البريء؟»

«ثم اسمع أيضاً. هذا إله عظيم خلق الأكوان.. إنه إله أخشع أمامه. إله أرهبه. إله اضطرب في حضرته. لكني خرجت أبحث عن إله أحبه.. إله يحبني. هوذا أراه يرسل رسله إلى سدوم. أهلها أشرار جداً. هذا صحيح. ولكنهم صنعة يديه. وأنت تكتب عنه «فَأَمْطَرَ ٱلرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتاً وَنَاراً مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. وَقَلَبَ تِلْكَ ٱلْمُدُنَ، وَكُلَّ ٱلدَّائِرَةِ، وَجَمِيعَ سُكَّانِ ٱلْمُدُنِ، وَنَبَاتِ ٱلأَرْضِ. وَنَظَرَتِ ٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ» (تكوين 19: 24-26). قل لي يا سيدي موسى، كيف استطاع ذلك الإله أن يستريح وهو يرى الأهوال تصيب أولئك التعساء، وكيف احتمل أن يرى الأطفال الصغار يصرخون من أهوال العذاب وهم يتقلبون في النار؟ ترى هل كانت النار عقاباً. ألم يكن في إمكانه أن يلاشيهم بدون نار؟ والأطفال ما ذنبهم؟» .

«هل تذكر يا سيدي موسى ما كتبته عن طلب الله من إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه. لا تقل لي إنه كان مجرد امتحان. إني أفزع من مجرد الطلب. إنه لا يصدر عن إله أبحث عنه يحب الناس حتى الأردياء، ويعمل على هدايتهم؟».

«لقد تتبعت طريق إلهكم يا سيدي موسى. نعم أنا عظمته وأكرمته وخشعت أمامه وارتعبت وارتعدت في حضرته. لكن ليسامحني هذا الإله العظيم المخوف، عندما أقول إن هذا ليس هو الإله الذي خرجت أبحث عنه!»

«إنني أرجو أن تسمعني بحلمك المعروف، واطلب من إلهك أن يعفو عن جسارتي و «عدم أدبي» وخروجي عن حدودي، بل لعلي أقول عن خطيتي إذ أتحدث عنه «بقلة أدب». مرة أخرى أقول لك إني أعرف قوته وأعرف أنه يستطيع أن يلاشيني بنفخة. ولكني كأحد خلائقه أحس أن لي الحق أن أتجاسر عليه. لقد سمعت أن إبراهيم قال له يوماً: «أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين 18: 25) مع أنه كان يعرف أنه يكلم الله. وداود كما سبق أن ذكرت تجاسر أكثر من ذلك! أنا واثق أنه يعفو عني لأنه يعلم أني مخلص في حديثي... قل لي يا سيدي موسى، ما قولك في إله عظيم يقف خصماً لإنسان؟ ليكن ذلك الإنسان من يكون. ليكن ملكاً بل ليكن أعظم الملوك.. بل يدّع أنه إله، فهل يجوز أن يقف الله منافساً لذلك الإنسان؟ منافساً لفرعون ولآلهة فرعون.. وقد صورت لنا إلهك يحارب فرعون.. صحيح أنه انتصر عليه. ترى هل نقبل أن إلهاً عظيماً عملاقاً، إلهاً حقيقياً يقف نداً «لإله» آخر؟»

«نعم قد قدمت لنا ذلك الإله يجري آيات، ولكنها قدمت على سبيل المنافسة بين اثنين قويين، أحدهما أقوى من الآخر».

وإذ أحسست أن موسى يهم بالكلام بادرت أقول: «وقضية أخرى يا موسى، يا سيدي موسى، قضية الآيات العشر، أو الضربات العشر، كما تدعوها. إنك تظن أنك تكرم إلهك أنه ضرب المصريين بأن أذاقهم مرارة شرورهم، فأتلف زروعهم وأباد مصادر أرزاقهم، أجاعهم وجفف حقولهم وقتل أبكارهم، وأخيراً بعد أن فلق البحر وأجازك على اليبس أغرق فرسانهم. ورفعت صوتك أنت وأختك بالهتاف: «الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ» (تكوين 15: 1) وقد ذكرت ذلك زعماً منك أنك تكرم الله وتعظمه. أما أنا، فسامحني يا يا سيدي وليسامحني الله، فإني أرى أنكم لا تكرمونه بل تسيئون إلى اسمه. هل يليق أن أنسب إلى الله هذه الأشاء التي توحي بالقسوة؟... نعم قد أسأت إلى إلهك يا موسى لأنك أوقفته عدواً لبعض خلقه!!» .

«لقد أعجبت به في أول الأمر. إنه إله واحد، قدوس طاهر، سيد الأكوان مهوب معظم. ولكنك أظهرت في ما كتبته عنه أنه إله لا قلب له، أو أن قلبه متجه نحو جانب من البشر، جانب صغير محدود المساحة. أما بقية العالم فإن إلهك يا موسى يقف منهم موقف الخصومة والعداء. ومع أنك تقول إنه سيد الشمس والقمر والسحاب والمطر، لكنك تكاد تعلن أنه إذا لزم يحرم العالم من خيرها، وإنما يرسلها لأجل شعبه!!».

«على أن أمراً آخر يحيرني. ها هو «الشعب المختار» يسير إلى كنعان ليمتلك أرضاً تخص شعوباً فيها غير الرجال نساء وأطفال. وهو يأمر «الشعب المختار» أن يدخل تلك البلاد ويقتل الرجال والنساء والأطفال.. أو يستبقي العذارى والأطفال ويجعل منهم عبيداً وإماء. قد تقول إن تلك الشعوب كانت تضم جماعات من الأشرار الذين كان ينبغي أن يتلاشوا من الأرض، فهل كان قومك خيراً منهم؟ بل لنقل إنكم كنتم جماعة صالحة، أما كان يمكن لله - وهو الإله القادر على كل شيء - أن يعمل على إعادة خلقهم؟ لا أقول إنه يمر بهم مر الكرام دون ما إصلاح. ألم يخلقهم هو؟ أليسوا جميعهم أولاده؟ أليس هو والد الكل؟ كيف يهون على ذلك الأب الكبير أن يبغض أولاده ويلاشيهم من أجل «شعبه المختار» الذي لم يكن بالفعل خيراً من بقية الناس؟»

«ترى هل عندك كلام يا سيدي موسى، أم ترى من اللازم أن أستكمل حديثي؟ أظن أني لا ينبغي أن أطيل المناقشة معك. وأظن أن الأفضل أن أتقدم إليك يا سيدي داود. أنت الرجل الذي قال الله عنك إن قلبك حسب قلبه. هل ترى أن أخبرك أني.. أني ماذا... إني لم أرك تقدم إلهك بالصورة التي خرجت أبحث عنها...»

ألم تقل: «تحطم الأشرار بقضيب من حديد، وقد سبق أن هشمت أسنان الأشرار». ألم تقل عنه إنه «إله يسخط كل يوم».وإنه «يمطر على الأشرار فخاخاً وناراً». ألم تطلب منه أن يقوم ويصرع عدوك، وإنك تشكره لأنه علّمك القتال ودرب يديك على سحق المقاومين؟ ألم تقل له: خاصم يا رب مخاصميّ، وإنه عندما يقوم يتبدد أعداؤه الذين تطلب لهم قائلاً: «لتصر مائدتهم فخاً» والذي تقول له «يا إله النقمات». لا يا داود يا سيدي داود. أنا متألم. كم أردت أن أقبل إلهك إله اليهود. إني أقف أمامه في رهبة.. أخشاه ولكني أرغب أن يكون لي إله أحبه.

وإذ ألتفت لأتحدث مع الباقين أشار إليّ موسى أن أصمت، وقال: «كفاك الآن ما قلت. لك أن تتكلم مع الباقين فيما بعد». وجّه إليّ كلامه بدون غضب. وذُهلت لأني لم أكن أنتظر منه إلا الانتهار القاسي. وقد ذكرت أنه يوماً غضب على المصري وقتله. لكن وجهه كان يعبّر عن الرقة. نعم كان موسى حليماً!!

قال: «اسمح لي يا بنيّ أن أقول لك إنك غبي وأحمق.. نعم أحمق جداً. ولقد ظهر لي أنك انذهلت لعدم غضبي. أنا انذهلت أكثر من طول أناة الله عليك. لقد تكلمت بعدم معرفة وبجهالة، وأعتقد أنك عرفت الله أكثر الآن. لقد تكلمت أنت الدودة الحقيرة على الله. من أنت يا بني حتى تتطاول على الله في حكمته وتدابيره؟ من أنت؟ انظر إلى نفسك. أنت لست شيئاً. هل يتجاسر اللاشيء أن يتحدث عن حكمة الله؟ أنت مسكين. أنا عطفت عليك. نعم أشفقت عليك. صعب عليك أن ترفس مناخس... وأنا لا أستطيع أن أكشف لك كل الأسرار. أطلب من الله أن يكشفها لك. حينئذ ستقول مع أيوب: «لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ» (أيوب 42: 6) كل ما أقول لك: سر في الطريق فلعل الله يسمح لداود ولإشعياء ولملاخي أن يكشفوا لك بعض أسرار ملكوت الله... هلم وسر على بركة الله» .

الفصل الثامن: مع المنتظرين

وأنا بين اليقظة والمنام سمعت صوتاً مألوفاً... لم أسمع الكلام من أوله. رنّت في أذنيّ الكلمات: «هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (متّى 1: 23). نعم سينزل الله من سمائه ويصير إنساناً. سيولد كما يولد سائر الناس، ولو أنه سيولد من عذراء.

وقفت من غيبتي وأنا أقول كما لو كنت أسأل شخصاً أمامي، أو كما لو كنت أتكلم متعجباً: «سيأتي من عذراء بدون زرع بشر.!!».

فتحت عينيّ فإذا انا جالس في المكان الذي جلست فيه مع إشعياء، وهوذا إشعياء يردد الكلمات «َحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا».

كانت حيرتي شديدة. كيف يمكن أن يكون هذا؟ الله يصير إنساناً، بل يبدأ إنسانيته من أول السلم!!

أغمضت عينيّ مرة أخرى، وإذا أنا أرى بالطبع لم أكن أرى بعيني. كنت أرى بمجموع شخصي، كل جزء مني كان يرى ويسمع. هأنذا أجد نفسي في اليهودية، في المدينة المقدسة. ها هو الملك آحاز يسير مضطرباً. إن الممالك المحيطة تتألب عليه. حتى المملكةالشقيقة تتفق مع العدو ضده. لكن السماء عطفت عليه برغم عدم استحقاقه... وإذ أنا أتأمل وجه ذلك الملك دارت الأيام أمامي كما لو كانت شريطاً متحركاً، وإذا أنا في مدينة بيت لحم. هوذا عذراء نعم لم تعرف رجلاً. لكني أسمع الصوت يقول: «لماذا تضطرب يا آحاز؟ إن الله سيأتي لإنقاذك. سيأتي هو بنفسه. هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً هو «الله معنا». إن الله سيأتي بنفسه، وسيرأف بالبشرية. سيأتي من السماء ولكنه سيأتي عن طريق الأرض. سنراه، سنلمسه، سنسمعه يتكلم معنا!» .

وانحنى إشعياء طويلاً ثم رفع رأسه وقدأغمض عينيه وجعل يقول: «وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ ظَلاَمٌ لِلَّتِي عَلَيْهَا ضِيقٌ. كَمَا أَهَانَ ٱلزَّمَانُ ٱلأَوَّلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي، يُكْرِمُ ٱلأَخِيرُ طَرِيقَ ٱلْبَحْرِ عَبْرَ ٱلأُرْدُنِّ جَلِيلَ ٱلأُمَمِ. اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إشعياء 9: 1 و2). وجعل إشعياء يتمتم بصوت مرتفع فسمعته يقول: «لأَنَّ كُلَّ سِلاَحِ ٱلْمُتَسَلِّحِ فِي ٱلْوَغَى، وَكُلَّ رِدَاءٍ مُدَحْرَجٍ فِي ٱلدِّمَاءِ، يَكُونُ لِلْحَرِيقِ مَأْكَلاً لِلنَّارِ. لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلٰهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِٱلْحَقِّ وَٱلْبِرِّ، مِنَ ٱلآنَ إِلَى ٱلأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ ٱلْجُنُودِ تَصْنَعُ هٰذَا» (إشعياء 9: 5 - 7).

رفع إشعياء وجهه كمن استفاق من حلم. وجعل ينظر إلينا بعينين زائغتين وهو يهمس لنفسه: «أين أنا؟». والتفت إليّ وقال: «معذرة يا صديقي. إني لم أرحب بك كما يليق بضيف عزيز».

قلت: «لا عليك، لكني سمعت منك كلاماً غريباً. سمعتك تتكلم عن عذراء تلد ابناً هو «الله معنا» وبعد ذلك سمعتك تقول عن الابن المولود من نسل داود الذي يدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً... إلهاً؟ ترى هل تستطيع أن تخبرني عن هذا «الله معنا» عن ال «إلهاً قديراً». تقول الله يولد طفلاً؟ الله إنسان؟ يولد من عذراء؟ إنها ألغاز سمعتها منك يا صديقي. هل يمكن أن تلقى على كلماتك شيئاً من الضوء؟» .

وتململ إشعياء في مكانه وقال: «كلا، لا. لا استطيع. لقد نطقت بما نطقت من قوة خارجة عني. قلتها وأنا لا أفهمها. سأحاول أن أفهمها في نور النبوات. سأنقب في النبوات. تُرى هل «الله معنا» هو تعبيرنا عن الملاك؟ أنت تعلم أننا نؤمن أن الإنسان لا يرى الله ويعيش. لعل الله هو الملاك الذي كان مع موسى في البرية. على أني أحس أن ذلك «الله معنا» شيء أعظم جداً مما اعتدنا أن نسمع عن الملاك. كل ما أشير به أننا ننتظر حتى تتم النبوة. إن اليهودية يا صديقي ليست النهاية. ولكنها على كل حال الطريق الذي ينبغي أن نسير فيه. أقول «نسير» لا نقف. لا نقيم. إنها ظل الحقيقة وإنها رمز الحقائق أعظم؟ قلت: «ولكنكم - أقصد اليهود - لم تقدموا الله. أحشى أنكم حجبتموه خلف خيالكم وأبوابكم الجميلة ومذابحكم وذبائحكم وقرابينكم وبخوركم وطقوسكم وفرائضكم. نعم أخشى أن الله «اختفى»! غفرانك ربي، تحت أكوام تقاليدكم»

وقاطعني إشعياء وقال في شبه همس: «قد تكون محقاً يا صديقي. لست أنت وحدك الذي اشتكى هذه الشكوى. فقد أعلن الله ذلك على فمي، إذ قال: « يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى 15: 8 و9). ولكن هذا لا يمنع أن مدينة اليهودية هي الطريق الوحيد. فقد وصل آخرون هم فعلاً قلائل. وصلوا عن طريق آخر بعيد عن طريق مدينتنا. لكن مدينتنا هي الطريق الأكيد. لم أسمع إلا عن أفراد قلائل وصلوا إلى الله عن طريق أخرى: ملكي صادق، يثرون، أيوب، أليفاز.. وآخرون. لكن هؤلاء قلة. بالطبع أنا لا أتكلم عن الآباء الأولين، وهم لهم مكانهم الذي لا نبحث فيه. إني أتكلم عنك وعن أمثالك. بل إن الآباء ليسوا غرباء عن مدينة اليهودية. إنم مرتبطون بها. لذلك أطلب منك ألا ترفض هذا الطريق. أنا لا أقول لك: امكث في هذه المدينة. لا، لا. إن هذه المدينة مجرد طريق تخترقه في سبيلك إلى مدينة الله إنك في مدينة الله ستراه. لكنك لن تراه في الوضوح الذي تتخيلّه. لكنك ستراه» .

كان إشعياء يتكلم بمجموع قونه. كان كأنه يتسلق جبلاً عالياً وهو يلهث من صعوبة الارتفاع. وما أن فرغ من حديثه حتى انطرح على الوسادة القريبة وتنهد من شدة التعب.. وبعد أن التقط أنفاسه تكلم بالكلمات الغريبة الآتية: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، رُوحُ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْفَهْمِ، رُوحُ ٱلْمَشُورَةِ وَٱلْقُوَّةِ، رُوحُ ٱلْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ ٱلرَّبِّ. وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ ٱلرَّبِّ، فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، بَلْ يَقْضِي بِٱلْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِٱلإِنْصَافِ لِبَائِسِي ٱلأَرْضِ، وَيَضْرِبُ ٱلأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ ٱلْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. وَيَكُونُ ٱلْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ، وَٱلأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقَوَيْهِ. فَيَسْكُنُ ٱلذِّئْبُ مَعَ ٱلْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ ٱلنَّمِرُ مَعَ ٱلْجَدْيِ، وَٱلْعِجْلُ وَٱلشِّبْلُ وَٱلْمُسَمَّنُ مَعاً، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَٱلْبَقَرَةُ وَٱلدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعاً، وَٱلأَسَدُ كَٱلْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْناً. وَيَلْعَبُ ٱلرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ ٱلصِّلِّ، وَيَمُدُّ ٱلْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ ٱلأُفْعُوانِ. لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (إشعياء 11: 1 - 9).

العبد المتألم:

وسألت: تقول «في آخر الأيام». متى يا ترى تكون آخر الأيام هذه؟ متى.. وكيف نعرف؟

وانتفض إشعياء. أـحسست أن كل عضلة ف يجشده تهتز، وقال بصوت متحشرج وهومغمش العينيهن: «ها أنا أراه.. نعم أراه. هو. هو. لكن لا يمكن أن يكون هو. لا يمكن أن يكون هو. إنه شخص يختلف عما أتنتظر وعما ينتظر الشعب»: «مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ ٱسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ ٱلرَّبِّ؟ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذٰلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِين» (إشعياء 53: 1 - 12).

نطق إشعياء بهذه الكلمات الغريبة وسقط على الأرض إعياء، بل في الحق سقط في شبه غيبوبة. تركته حتى استفاق، وتقدمت أسأله أن يلقي شيئاً من النور على كلماته الغريبة. وقبل أن أكمل كلامي قال: «كلا يا صديقي أنا لا أعرف. سيأتي إلهاً، لكنه في نفس الوقت عبد. سيأتي أبرع جمالاً من بني البشر، ولكنه سيكون في منظر الأبرص، ولا صورة له ولا جمال. من أجله يسد ملوك أفواههم، ولكنه سيأتي محتقراً ومخذولاً من الناس. سيأتي ليزيل أحزاننا، لكنه سيحملها هو. سيأتي القاضي العادل الذي يقضي بالعدل للمساكين، ولكه سيظلم ويتذلل. سيأتي رب الحياة، ولكن حياته تُنتزع من الأرض. سيأتي ابن الله حبيباً لله، ولكن الرب يُسر أن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم. سيأتي عظيماً رب الحياة، يقسم الله بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، ولكنه يسكب للموت نفسه».

قلت: «لقد بلبلت ذهني يا إشعياء. فهل يستطيع ربك هذا أن يقف بين أرباب العالم؟ هل يستطيع أن يقف أمام أوزيريس وإيزيس وست وبعل وزيو وهرمز وبوسيدون؟ هل يستطيع أن يقف حتى مع أنصاف الآلهة أمثال هرقل وزملاء هرقل؟ لقد اختلطت عليّ الأمور. لا أستطيع أن أسايرك يا سيدي».

ورفعت عينيّ إلى السماء وقلت: «بعد طول السفر، بعد كل المشقات أصل إلى طريق مسدود. هل أرجع؟.. هل أعيش كما كنت أعيش بلا إله، وبلا رجاء وبلا غفران، وبلا أبدية؟ أعيش كالحيوان وأموت كالحيوان؟».

كان إشعياء منحنياً، وقد بان تأثر عميق على وجهه. كان كأنه يرفع صلاته للمجهول وظل يستمع إليّ في نفس الوقت. فلما فرغت من الكلام التفت نحوي وتكلم بصوت عميق، قال: «ألم تخرج لتبحث عن إله قوي، على أن يكون في نفس الوقت.. هل أقول بلغة الناس إلهاً ضعيفاً، مع أن الأمر ليس كذلك؟ ألم تطلب إلهاً محباً يُشبع قلبك؟ ألم تهرب من آلهة مصر الجبارة العنيفة التي تبغض البشر وتعمل على تحطيمهم؟ ألم تهرب من بعل ومولك وملكوم وكالي وعشتار. لم تملأ الأصنام قلبك لأنك رأيت فيها كائنات سفلية. أحسست أنك أنت أسمى منها. ألم تهرب من آلهة اليونان والرومان والكائنات النجسة القذرة التي رأيتها تتمرغ في أوحال الدنس؟ ألم تحتقر زفس وهيرا وفينيس وأرطاميس وعشنروت؟ ألم تطلب إلهاً قوياً محباً طاهراً نقياً مثالاً للفضيلة؟ ألم تطلب إلهاً يجمع بين القوة والنقاوة والحب؟ لقد كنت أظن أن هذا الإله تطلبه لا وجود له، إلهاً يجمع بين السيادة والعبودية، بين الجبروت والحب، بين الذراع القوية والذراع الحاضنة.. كنت أظن أنه لا يمكن أن يوجد إله بجمع بين هذه الكمالات. ولكني أنا أتأمل في النبوة في الآتي رأيته يجمع كل هذه الكمالات، فهو السيد وهو في نفس الوقت العبد. هو أبرع جمالاً من بني البشر، وهو في نفس الوقت لا صورة له ولا جمال. هو القدوس الطاهر، وهو في نفس الوقت الخطية بكل ما فيها من بشاعة. هو الديّان القاضي، وهو في نفس الوقت المحتقر والمخذول الذي وقف خاضغاً أمام مضطهديه. هو الساكن في الأعالي، ولكنه في نفس الوقت الذي نزل إلى الأرض. هو رب المجد، وفي نفس الوقت المهان. هو رب الحياة، ولكنه في نفس الوقت الذي سيذوق مرارة الموت!! ألست ترى أن هذا هو الإله الذي تطلبه؟».

فصرخت في وجهه «ما هذه الألغاز التي تنطق بها؟ كيف يجمع كائن واحد بين هذه المتناقضات التي تزعم أنها كمالات؟ قل كيف. وأين هو هذا الكائن العجيب؟ أين هو؟».

وقال إشعياء: «أما كيف فأنا لا أعرف. لكن ليس معنى هذا أنه لا وجود له. ألم تقل أنت: أين هو هذا الكائن العجيب؟ ألم تقل النبوة يدعى اسمه عجيباً لأنه وهو القدوس سيصير خطية من أجلنا. عجيباً لأنه والملائكة تحيط به يعاشر الخطاة.. عجيباً بل العجب نفسه!! أما أين هو.. فقد آن وقت مجيئه. هل سأراه أنا؟ لقد رأيته في الظلال. ولكني سأراه. وأنت أيها الباحث سر في طريقك. سر فقد اقترب وقت مجيئه. ستراه. ستتمتع بكل ما يقدمه للعالم من بر. نعم ستراه».

رفعت عيني إلى السماء وقلت: «أيها الآتي.. أيها الآتي، لقد طال شوقي للقياك. سأستمر في طريقي. سأستمر حتى ألقاك. كل ما أطلبه أن تحفظني وتحفظ إيماني حتى أراك!! سأنظر مع المنتظرين»!!

الفصل التاسع: نهاية الطريق

سألت ملاخي عما بقي عليّ من مسافة ينبغي ان أقطعها لأنتهي من منطقة الرموز: «لقد خرجت أبحث عن الحقيقة، وظننت أني وصلت إليها عند جبل سيناء. لم يخبرني القوم أنها منطقة الرموز. لم يخبروني أن الحقيقة الكاملة تتطلب العيون المفتوحة بالروح القدس. كما أنا آسف أن شفتيّ نطقتا بكلمات غير لائقة. لقد تكلمت عن إله اليهود. كان ينبغي أن يعرفوني أنه لا يوجد إلا إله واحد. وأن إله اليهود هو الله... دعني أفكر قبل أن تنطق شفتاي كفراً. لقد بدا لي أن الله كما صوروه لا يمكن أن يكون هو الله الذي أنشده». وقال ملاخي: «إنهم كانوا معذورين إلى حد يا صديقي. لم تكن لهم العين المستنيرة. بل إلى اليوم نحن لا نبصر الله على حقيقته. لا عجب إن ظننا أنه إله محدود، دائرته محدودة وشعب محدود. كان هذا كل ما يستطيعون أن يبصروه. لم يكن في إمكانهم أن يروا أكثر من ذلك، ولم يكن في استطاعتهم أن يفهموا. وإلى المنتهى لا يستطيع الناس أن يعرفوا الحقيقة الكاملة، ولكنك ستعرف أكثر... نعم أكثر جداً».

ها نا أبصر الظلام وقد اشتد منذراً بقرب بزوغ الشمس. سيأتي.. «هو». كيف لا أعلم. نعم سيأتي وستراه. سر في طريقك. اتبع النور. ستجد آخرين يسيرون في طريقك. إن أكثرهم لا يعرف حقيقة «الآتي». عدد منهم لا يعرفونه. وعندما يأتي سيرفضه البعض، لكني أثق أنك ستقبله. لقد قال هو: «الَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي» (أمثال 8: 17).

حاولت أن أقبّل يد ملاخي فسحبها بلطف، وطوّق رأسي بيده وقبلني، ودعا لي بالتوفيق. سرت في طريقي مستبشراً. كان كثيرون يسيرون أمامي، وكثيرون يسيروت إلى جانبي. كانت الغالبية تسير وقد علا الحزن وجوههم. بعضهم كان يبكي وبعضهم يتأوه. سمعت أحدهم يقول: «إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ؟ إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟» (مزمور 13: 1) وسمعت آخر يقول: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي» (مزمور 22: 1) وهوذا آخر ينادي «اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَ» (مزمور 25: 16) وسمعت آخر يقول: «لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ. يَا إِلهِي، لاَ تَبْعُدْ عَنِّي» (مزمور 38: 21).

لم تكن الشمس قد أشرقت بعد. كان النور الشفق يرسل شيئاً من الضوء، كنا نبصر لكن ليس بالوضوح الكامل. كان الطريق ظاهراً إلى حد، وقد رأيت السائرين وإذا هم جمهور. علمت أن جميعهم سياح. وعلمت أن جانباً كبيراً منهم ينتمون إلى فريق خاص يُدعى فريق المنتظرين. وسألت فقيل لي إنهم سمعوا داود وإشعياء وإرميا وزكريا وغيرهم يقولون أن الله سيرسل ملاك يهوه يحمل رسالة السيد. ومع أنهم لم يعرفوا الكثير عن هذا الذي ينتظرونه والذي كانوا يدعونه «الآتي» فإنهم انتظروه بلهفة المريض وهو ينتظر الطبيب، والمثقل وهو ينتظر حامل الأثقال، والمضطهَد الذي ينتظر المنقذ، والفقير الذي ينتظر المُغني.. والعدد الأكبر كان ينتظر الملك الذي سيجلس على العرش ويحكم بالحق والعدل.. أما أنا فكنت أنتظر المرسل من السماء الذي سيحدثني عن الله. لم أكن أطلب شيئاً، ولكني كنت أطلب شخصاً. كنت أطلبه هو. وهكذا سرت وكلي شوق أن أراه هو، أن يضع يده على رأسي وأناديه: «ربي وإلهي»..

كان الطريق طويلاً. مرّت أيام ومرّت ليالي. بعضها مرّ سريعاً وبعضها طال. وكنا نرى بعض العلامات التي تنبئ باقتراب الوقت.

كانت آخر كلمات سمعتها كلمات ملاخي. قال الله: «هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي» (ملاخي 3: 1).

سيأتي إذن سفير السيد. السيد نفسه سيأتي بغتة. سيأتي إلى هيكله ها أنا أتطلع منتظراً ذلك السفير. متى يا سيدي تأتي؟ متى؟

الباب الرابع: على حدود المسيحية

الفصل الأول: المنطقة الوسطى

انتهت رحلتي - شكراً لله. ودّعت ملاخي الذي دعا لي بالتوفيق. قال إنه يرى نور المملكة يبزغ خلف الجبال التي أمامك. وقال سترى سفير الملك. وسترى الملك بعده حالاً في بهائه. قال إنه لا يستطيع أن يقدم لي الكثير من التفاصيل عن الملك، فإن الإعلانات فيها الكثير من الغموض، وهي ليست واضحة بالكفاية.. بينما نراه أعظم الملوك يسود كل العالم.. إذ بنا (في هذه الإعلانات) تراه عبداً يخضع كأذل العبيد. نراه من الجهة الواحدة يمسك سيفه ويقضي على جميع أعدائه ويضعهم تحت قدميه، ونراه من الجهة الأخرى محكوماً عليه يدوسه أحقر الناس. في الحق أن الإعلانات غامضة. سيأتي مخلصاً من ماذا.. لا تبيّن الإعلانات بالوضوح الكافي نوع الخلاص. كانت كلمات ملاخي لي تحمل هذه البلبلة. عندما سألته: «من أي شيء يخلصنا هذا المخلص المنتظر؟». أجاب: «لا أعلم بالتمام، هل يخلصنا من أعدائنا، أم يخلصنا من الفقر والجوع، أم يخلصنا من المظالم، أم يخصلنا من أشياء لا أعرف بعد ماذا أدعوها. عل كل حال أؤكد لك أنك عندما تراه ستعرف. أرجو أنك تعرف أكثر مما عرفنا نحن. سر على بركة الله. سر فإن الوقت قريب».

وسرت وظللت أسير. لكني على قدر ما سرت اكتشفت أن المسافة مترامية. ووصلت أخيراً إلى باب المدينة. كنت قد بلغت منتهى التعب فسقطت عند عتبة الباب وأنا أقول: «شكراً لله فقد وصلت أخيراً».

دخلت المدينة، ولكنني أحسست أنها لا تبدو في صورة المدينة التي أنتظر أن أراها. النور خافت، والطرقات غير ممهّدة تماماً. صحيح أني رأيت عمالاً يعملون في تمهيد الطرق، لكن أكثر الطرقات كانت غير ممهّدة. كان التراب يملأ المكان. سألت فعرفت أنها ليست المدينة.. إنها تدعى المدينة الوسطى. وبعضهم يدعوها «بين العهدين».علمت أن هذا الاسم أُطلق عليها فيما بعد. لكن عدداً كبيراً من سكان اليهودية حلوا فيها ودعوها «مدينة المنتظرين». وكان هؤلاء المنتظرين يصعدون إلى قمة الجبل. ومع أن العدد الأكبر منهم كان من كبار السن، إلا أن ذلك لم يمنعهم من تسلق الجبل وقضاء الأيام والليالي يتطلعون إلى الأعلى. نعم إن بعضهم كان يتطلع إلى ناحية المدينة المقدسة، والبعض كان يتطلع على الخصوص نحو الباب الجميل. لكن عدداً يُذكر كان يوجه نظره إلى فوق.

وقد رأيت عدداً يُذكر من هؤلاء، وسررت من رؤيتهم، وفكرت أن أجلس إلى أحدهم. ليتني أتمكن من الجلوس إللى كبيرهم.

وفيما أنا سائر في بكور أحد الأيام التقيت بشيخ يتوكأ على عصا. وكانت لحيته البيضاء تكاد تصل إلى منتصف جسمه. كان يتمتم بكلمات، علمت فيها بعد أنها صلاة يلتمس فيها من السماء أن ترسل الآتي. فقد طال زمن الانتظار! بدأته بالسلام فرد رداً مليحاً. وسألني من أين المجيء، فأخبرته بقصتي. أخبرته أني لم أجد الله في مصر بين آلهة مصر. وبالطبع لم أجده بين آلهة فلسطين وأشور وبابل وفارس واليونان. قلت له إني خرجت أطلب إلهاً حقيقياً طاهراً قدوساً. وكان الرجل يهز رأسه هزات متتابعة موافقاً وهو يقول: «طبعًا طبعاً، إن آلهة الأمم أصنام». ثم قال: «ولكنك رأيته بدون شك في اليهودية التي مررت بها في طريقك إلى هنا؟».

قلت: «كلا يا سيدي، لم أجده هناك»!

ولم ينتظر الرجل حتى أكمل كلامي، بل نظر إليّ نظرة زاجرة وقال: «ماذا تقول؟ لم تره هناك؟». قلت: «كلا. لم أجده هناك، ولكنهم طلبوا مني أن أسير فسأجده في نهاية الطريق». قال الرجل: «شدّ ما أخطأت. وهم كذلك أخطأوا. لا شك أنك رأيت الله في اليهودية!».

قلت: «أخشى يا سيدي أنك تسيء إلى الله بقولك هذا. هو إله ضيق، إله محدود، إله قاس، إله سطحي. لقد سألت الصفح ممن كلموني عنه، وسألت من هذا الإله أن يصفح عني إذا كنت قد أخطأت!».

وقال هليل. وكان هذا اسم الرجل: «طبعاً أخطأت. إن الله واحد هو الإله الحقيقي، الإله الذي ظهر لأبينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب. هو الإله الذي تكلم على جبل سيناء، وهو الذي سار مع الشعب في البرية، هو الإله الذي تكلم عنه الأنبياء»..

قلت: «ولكنهم أخبروني إنه إله إسرائيل فقط. كلهم يقولون إله إسراييل، إله إسرائيل».

قال هليل: «نعم هو إله إسرائيل، ولكنه هو إله كل العالم، إن اليهود.. دعني أقول إننا لم نكن مستعدين لقبول الحقائق الكاملة. وها هو إشعياء يحدثنا عنه، فهل فهمناه على حقيقته؟ كان الأمر يتطلب إعداداً ولذلك اختار الله شعب إسرائيل ليعده حتى يجيء ملء الزمان. إنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا الأرضيات التي أعلنها، فهل كان من الممكن أن يقبلوا السماويات؟ لقد ابتدأ الله يعلن ذاته منذ كان الإنسان الأول في جنة عدن. ثم اختار الشعب الذي سيأتي منه. وفي ملء الزمان سيتم الإعلان الكامل. أنا لا أندهش كثيراً أنك لم تر الله في اليهودية، مع أني اندهشت بعض الشيء. لا أندهش أنك لم تره، لا لأنه هو الله، لكن لأنك أنت هنا لم تكن تستطيع أن تراه!! على أن ملء الزمان قد اقترب، وسنراه نحن وستراه أنت. بقيت مسافة عليك أن تقطعها. سر إلى الأمام. سر ترافقك بركة الله».

سرت مسافة قصيرة، ومسافة قصيرة أخرى. ومسافة ثالثة. كلهم يقول لي: مسافة قصيرة. أقبل الليل. لم تغمض لي عين. إني أسمع كلمات مطمئنة بين حين وآخر. ولكنها لا تتحقق. كلها تقول مسافة قصيرة. القصيرة لا تنتهي. بدأت أحس بيأس قاتل. ها أنا أبحث عن الله هذه السنين الطويلة دون جدوى. كنت أظن في أوقات أني أقترب منه. لكني ما أن أمد يدي لأمسك به حتى أعود ويداي فارغتان!!

مضت الليلة طويلة مظلمة حزينة. بل قد ساورني الفكر أن ذلك الشيطان الذي وقعت في أسره ونجوت بمعجزة... ساورني الفكر أن ما وسوس به صحيح! لا يوجد إله. فإذا كان هناك إله، فإنه إله مات.. انتهى. لا يوجد إله. لكن هل يمكن أن يكون هذا الكون دون أن تكون هناك القوة الخالقة؟

أم لعل ذلك الإله - إن كان لا يزال على قيد الحياة - يعيش بعيداً عن الخليقة، لا يرتبط بها بسبب. كل ما يربطه بها تلك النواميس التي وضعها لهم، والتي يحتم أن يسيروا في فلكها. لكن، لا، هل كذب أولئك العظماء عليّ. هل كذب إبراهيم وموسى وصموئيل وداود؟ هل كذب إشعياء وملاخي.. إن الله الذي أطلبه موجود ولا بد!!

كنت أكلم نفسي همساً. ثم ارتفع صوتي. رأيتني وإذ بي أخاطب نفسي كما لو كنت أخاطب جمهورا غفيراً من الناس.. لا بد أن يكون هناك إله. لا بد أن يوجد. هو موجود موجود. لكن أين هو؟

وفيما أنا اتكلم اقترب مني شخص ظهر كما لو كان قد خرج من الضباب، وهتف: «ماذا تطلب أيها الغريب؟» قلت: «إني أبحث عن كائن». وقال الشيخ: «عن أي كائن تبحث؟». قلت: «إني أبحث عن الله». فقال: «أنت تبحث عن الله! أنت؟ لا بد أن تكون أعمى! إنه أمامك., هو يبحث عنك. هو يحيط بك. اطلب منه أن يفتح عينيك حتى تراه!». قلت: «إن عينيّ حادتا البصر. إني أبصر إلى أميال بعيدة. أين هو؟ قل لي أين هو. من يعطيني أن أجده حتى آتي إلى كرسيه. هأنذا أذهب شرقاً فليس هو هناك، وغرباً فلا أشعر به. شمالاً حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه»...

انطرحت على الأرض باكياً. يبدو أني أعمى حقاً. يقولون إنه أمامي وخلفي. عن يميني وعن يساري. لقد سمعت من زمن بعيد وأنا في مدينة اليهود، سمعت داود ينشد:

Table 3. 

أين من روحك أمضيأين لي منك الهروب؟    
أنت في كل مكانحاضر أيا مهوب    
إن صعدت للأعاليأو فرشت في القبور    
أو أخذت لي جناحاًأو سكنت في البحور    
فيداك تمسكانيحيثما أنا أسير    

وظننت أنه قريب مني جداً. وقد أخبرني ملاخي إنه قريب. وجماعة المنتظرين حدثوني عن قرب مجيئه. لكن أين هو. أين هو؟

ظللت أبكي. كنت أبكي صامتاً. كانت أنفاسي تخرج متلاحقة. أحسست بدوار. رأسي تكاد تنفجر. وظللت مدة طويلة في شيء من غيبوبة، أو لعلها غيبوبة كاملة... لكن استيقظت. هل استيقظت حقاً؟

إني أرى المكان غريباً عليّ. إني في مدينة أورشليم. مدينة إله اليهود. سرت أتسكع فيها. سرت بلا هدف. إني لا أعرف أحداً في المدينة. ماذا عساني أجد فيها؟ لكني أذكر أني مررت بهذه المدينة. ترى هل رأيت هيكلها المشهور؟ لقد نسيت كل شيء. لقد أعجبت في أول الأمر بإله اليهود. ولكني أكتشفت أنه لا يمكن أن يكون هو الله الذي أبحث عنه. لا يمكن أن يكون إلهي!

وفيما أنا أسير رأيت على مسافة قصيرة مني شيخاً بلغ على ما ظهر لي من مشيته ما ينوف عن القرن من الزمان - علمت فيما بعد أنه بلغ المائة والعشرين. كان يسير متوكئاً على عصاه. وكانت تسير إلى جانبه امرأة لا تقل عنه في العمر إلا قليلا. ولكنها كانت برغم شيخوختها تحمل آثار جمال. عرفت فيما بعد أنها أرملة من زمن بعيد. وأنها تنحدر من سبط أشير بعذاراه الحسان اللواتي كن مطلب الملوك، يختارون زوجاتهم منهن.. واسم الأرملة حنة!

لا أعلم إن كانت تأوهاتي قد وصلت إليها وإلى زميلها، لكن ما حدث كان ترتيباً إلهياً عجيباً...

التفت الرجل إليّ وحدق النظر في وجهي، ثم قال: «سلام أيها الغريب». فقلت: «سلام» قال: «كأنك تبحث عن شيء». قلت: «إني أبحث عن الله»؟

نظر إليّ ليتحقق إن كنت في كمال عقلي، أو أنني أسخر في كلامي. ولكنه لاحظ اتزاني ولاحظ الجدية في حديثي، قال: «هل أنت من عباد الاصنام؟» قلت: «كنت!». قال: «هل سمعت عن إلهنا يهوه؟». قلت: «سمعت، ولكنه برغم ما تميّز به من كمالات.. نعم.. فهو إله واحد طاهر قدوس صالح، ولكنه لم يستطع أن يشبع قلبي. قال لي عباده إنه إله كامل القداسة، بحيث لا يطيق أقل نجاسة.. وهو إله وقف موقف العداوة لغير اليهود. اليهود شعبه والباقون أمم ملعونون. اليهود مختاروه والآخرون مرفوضوه. اليهود يعيشون والأمم ينبغي أن يموتوا ويُقتلوا ويُحرقوا. يأمر شعبه أن يهجموا على المدن ويهدموا البيوت ويتلفوا الحقول ويقتلوا الرجال ويسبوا النساء والأطفال. هل يمكن أن يكون إله اليهود هو الله؟ الإله المتحيز القاسي الصارم الذي يطلب العبادات في أوقاتها، وإلا انتقم من نفس عباده.. كلا، لا تحدثني عن إله اليهود. أوه.. يبدو أن الشيخوخة قد أضاعت ذاكرتي. لقد قلت بمثل ما أقول الآن لغيرك، وسمعت تبريرات كثيرة، ولكن لم أستطع أن أستبقيها لأكثر من لحظات، فأعود وأكرر ما سبق أن قلته. ليس من باب العناد لكني إذ لا أحس بعمق كفاية التبرير أنساه أمام أول صدمة خفيفة، وأنا أشكر جميع الذين احتملوني. إنني أتكلم بإخلاص. أنا أبحث عن إله كبير، له بالطبع رأس كبير، لكن ما يهمني فيه أن يكون له قلب كبير، كبير جداً يتفق مع مركزه كإله»!!

أصغى إليّ الشيخ بطول أناة - وقد عرفت أن اسمه سمعان - ثم قال لي: «هلم معي إلى مجمع جماعة المنتظرين، وهناك سأسمعك إعلانات عجيبة تهديك»!!

وسرت معهما مسافة طويلة. خرجنا من باب الخليل وسرنا ناحية بيت لحم، إلى أن وصلنا إلى بقعة خارج المدنية حيث كانت بعض المباني البسيطة، وعلى مبعدة منها بعض زرابي الرعاة المتبديّن الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم!

كان الجو لطيفاً وكان المكان متسعاً. وقد جلس عدد من الرجال والنساء عددهم مائة أو يزيدون. كانوا يرنمون بعض ترانيم المصاعد، ويتمتم بعضهم بصلوات من المزامير. ولما سكتوا وقف سمعان. كان القوم يعرفونه جيداً. كانوا يعرفون أنه رجل تقي مملوء بالروح القدس. وقد ظهر أنه كبير هذه الجماعة التي سبق لي أن سمعت عنها «جماعة المنتظرين».

قدمني سمعان للحاضرين. قال: «إن أخانا غريب، وهو من جماعة الأمم، ولكنه كبعض الأمم الذين فتح الله قلوبهم، فقد خرج من مكانه يبحث عن الله». قلت: «حدث أني في أول معرفتي طلبت أن أدخل في زمرتكم، ودخلت فعلاً، ولكني لم أجد راحتي. لم أجد الله الذي أبحث عنه... وأنا .. نعم أنا أبحث عن الله، فهل يمكنكم أن تدلوني عليه؟».

ملحوظة من ناقل المذكرات:

هنا مذكرات أتلفها المطر تماماً. الكلام مقطوع. حاولت أن أجمعه فجاء الكلام مبتسراً فمعذرة للقارئ إن كان هناك قارئ!!

فقال سمعان الشيخ: «استيقظت متعباً في هذا الصباح، ولكن صوتاً داخلياً حفزني على المجيء، لكن أوه جئت خلف شوق قلبي أن أرى الآتي.. وأعتقد أني سأراه، نعم سأرى «الآتي » الآتي الذي ندعوه نحن اليهود «المسيا» والذي سيكون مخلص اليهود ومخلص العالم. وسرنا نحو الهيكل. لم يكن في الهيكل إلا عدد قليل من الفقراء، وأبصرت أمام الكاهن شابة في ثباب بسيطة جداً، ،لكنها كانت جميلة كالقمر، وهي تحمل صبياً جاءت لتقدم عنه الفداء عن كل ذكر. وإذا بصوت في داخلي يزلزل كياني. إنه هو. تقدمت إليه وتناولته فابتسم في وجهي. غاب المكان عن نظري. أبصرت وإذا أنا في حضرة الله والملائكة تحيط به. رفعت وجهي إلى عينيه وقلت، وعيناي غارقتان في الدموع: «شكراً شكراً يا رب. كفى كفى. لست أطلب شيئاً آخر. الآن تطلق عبدك يا سيد حسب وقولك بسلام» .

ولم أستطع أنا (نوسترداميس) أن أحتفظ باتزاني، فصرخت: « إذن جاء! جاء وقد رأيته. قل لي أين هو لأذهب وأراه». فأشار القوم إليّ أن أسكت وأصغي.. واستمر سمعان يقول: «..لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأمم.. نعم للأمم، ولكنه أيضاً مجد لشعبك. فالتفت إليهما وباركتهما، وقلت: نعم إنه ملك اليهود، ولكنه في نفس الوقت ملك كل العالم. لقد جاء إلى خاصته ولكن خاصته سترفضه.. ووجهت كلامي بالأكثر إلى أم الصبي وقلت: ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين. ملوك سيهبطون إلى الهاوية، وعامة سيصعدون إلى الذروة. الأعزاء سيتجهون إلى التراب والمتضعون سيرتفعون إلى العرش. قياصرة سينساهم التاريخ وصيادون سيخلد اسمهم. رؤساء عظماء سيُمحى ذكرهم وعشارون سيلمعون. هذا الطفل رب وسيد، ولكنه سيواجه أياماً صعبة. سيكون علامة تصوب إليه السهام. ستخترق السهام جسده وسيحز ذلك في نفسه، ولكنه سيخرج غالباً ولكي يغلب».

وأنت يا مريم سيكون لك مجد. ستطوبين في كل مكان، والأجيال ستتحدث عنك، ولكنك ستدفعين ثمناً غالياً لهذا المجد. سيجوز في نفسك سيف. سيخترق السيف قلبك. ستجوزين في العار والنار والألم والموت. ولكنك ستخرجين جوهرة لامعة في جبين الأبدية.

وناديت حنة بنت أشير، ورنمنا معاً ونحدثنا معاً:

Table 4. 

تجلى الإله القديم الأحدلهذا الورى في رداء الجسد    
أنار البرايا فهذا الولدعجيب كما قال وحي الصمد    
بديع المزايا على منكبهرئاسة كل الذي كان به    
به كان كل الورى فانتبه،فليس لسطان ذا الطفل حدّ    

حاولت أن أقف، وإذا بسمعان يشير إلى الراعي ميخائيل المعروف باسم بنيامين أن يتكلم، فروى أعجب قصة في التاريخ:

وقف ميخائيل وقال: «لا شك أنكم تحبون أن تسمعوا قصتنا: كنا نحرس أغنامنا في المراعي القريبة من مدينة داود، وفي مساء الليلة العجيبة جلسنا بعد أن تناولنا عشاءنا، وأخذنا نتحدث معاً أحاديث شتى مما يتناوله عادة الرعاة أمثالنا. وانتقلنا من حيث إلى حديث حتى وصلنا إلى حديث النبوات. وكنا قد تعرفنا على بعض «المنتظرين» وقال أحدنا: «ألستم ترون أن مجيء «الآتي» قد تأخر كثيراً، وأن الحالة تزداد سوءاً؟ وقد ذكر بعضنا ما جاء في النبوات. وكانت آمالنا تتجه إلى سرعة مجيئه لينقذ الشعب مما يرزح تحته من عبودية وجهالة وفقر. وبعد أن رفعنا صلاتنا المسائية المعتادة نمت وبقة الرفاق، وبقي سمعان مستيقظاً. وقبل نصف الليل بساعة أيقظني لينام هو، إذ كنا قد اتفقنا أن ينام كلٌ منا ثلاث ساعات. كنت في غاية التعب وكنت أشتهي أن يتركني أنام قليلاً، ولكنه لم يتركني، فاستيقظت مرغماً.. استيقظت، ورأيت أن أسلي نفسي بتلاوة المزامير، ووصلنا في تلاوتي إلى المزمور الذي يقول: «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي...» (مزمور 110: 1) وهنا سرح خيالي إلى ذلك الرب الآتي، وانطلقت في تأملاتي أتخيل الملك الآتي وسلطانه وقواته. واندمجت في التأمل فلم أنتبه إلى النور الذي غمر المكان إلا بعد مدة، ورفعت عينيّ إلى السماء فإذا نور وهاج يقبل كشعلة كبيرة من النار. كلا. بل شعلة كانت عبارة عن كتلة شموس مجتمعة وهي تتجه إلى ناحيتنا. تحولت المراعي كلها إلى نور بهي أشد لمعاناً من نور النهار، فانكفأت على وجهي وصرخت: «رحمة يا إله المراحم». ثم لكزت بيدي رفاقي فاستيقظ أحدهم، وهذا أيقظ الباقين، وجلسنا مرتعبين نسأل أنفسنا: «تُرى ما عسى أن يكون هذا النور البهي؟». ولما اقتربت شعلة النور إلينا، انفصلت عنها كتلة صغيرة، وإذا هي كائن بهي في صورة ملاك. هذا جعل يقترب منا، فسقطت قلوبنا، وقال الواحد منا للآخر، هلكنا هلكنا. ولكن صوتاً كشدو البلابل اخترق السحاب ووصل إلينا، فأشاع الطمأنينة إلى نفوسنا. نعم، فقد هتف الملاك بنا بصوت جاءنا رفيقاً عطوفاً: «لا تخافوا». التقطنا أنفاسنا وإذا بالملاك يقول: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ». وقال الملاك: «وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ» (لوقا 2: 10 - 12).

لم أستطع أنا (نوسترداميس) أن أحتفظ بهدوئي، فقلت: «أين أين؟ خبروني أين؟».. لكن الراعي تجاهل السؤال وقال: «واجتمعت الشموس، وإذا هي مجموعات من الملائكة ألوف منها وجعلت تنشد أروع نشيد سمعته الأرض»:

Table 5. 

لله مجد في العلاكل الملا تحية    
في الأرض قد ساد السلاملما أتى فاديّ    

وهنا صرخت بأعلى صوت: «لماذا لا تجيبني أيها الراعي؟ أين هو؟ أين هو؟». وقال الراعي: «صبراً يا سيدي. لقد كنا في حالة لا استطيع أن أصفها. على أنه بعد أن انصرفت الملائكة عاد إلينا الهدوء شيئاً فشيئاً. وقال أحدنا: «إنه لخير عظيم بل أعظم خير. هل رأينا ما رأينا حقيقة، أم أننا كنا نحلم؟هل رأينا ملائكة؟ هل سمعنا بشارة المسيا؟ هل آن أوان مجيئه؟». وقال الراعي ميخائيل: «هلموا بنا إلى بيت لحم لنرى». قال ميخائيل إنهم قاموا كلهم وساروا في الليل البهيم في رمال الصحراء ووصلوا إلى بيت لحم مدينة داود. كانت المدينة كلها غارقة في النوم. وأنهم ساروا في طرقاتها لا يسمعون إلا صوت أقدامهم على الأرض الحجرية.. ساروا إلى أن وصلوا إلى الخان، ولم يجدوا أحداً عند الباب الكبير، فداروا إلى الباب الخلفي، وهناك سمعوا أصواتاً فدخلوا وساروا في الطريق الضيق إلى أن وصلوا إلى الحوش الكبير، وأبصروا النور ورأوا العائلة المقدسة، وأبصروا الطفل. وحالما أبصروه رأوا فيه لا طفلاً عادياً بل كائناً إلهياً، فانبطحوا على وجوههم وقدموا السجود للرب المخلص...

لم يكن حديث الرعاة غريباً على الوالدين، لقد كانت الأم تعرف شيئاً. وقد قص زوجها قصة ظهور الملك لها والبشارة العليا. وقد ذكرت أعجب خبر أنها لم تكن زوجة حقيقية ليوسف. إنها لا تزال عذراء.. وهتف سمعان: «نعم نعم، ألم يتنبأ إشعياء عن ذلك: هوذا السيد نفسه يعطيكم آية: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (متّى 1: 23).

هتفت: «إذن تحققت النبوة، فأين أجد هذا الآتي؟».

قال الراعي: «لقد رأيناه في بيت لحم».

وقال سمعان: «أما أنا فرأيته في المدنية المقدسة، في الهيكل في أورشليم» - وقال ثالث: «لقد علمت أنهم جاءوا من الناصرة». قلت: «لقد حيرتموني - إلى أين أذهب؟ إلى أين؟».

الفصل الثاني:خلوة مع سمعان

كانت الكلمات التي سمعتها في مسائي هذا تكراراً لأحاديثي مع موسى وداود وإشعياء وملاخي، ولكنها كانت تختلف بالنسبة لوقتها، فقد سمعتها بالأمس نبوات ستتم، أما اليوم فإنها «واقع» تم. وهذا بلبل أفكاري أكثر مما بلبلها بالأمس. لقد جاء الآتي. ولكنه جاء طفلاً. سألت نفسي: «هل هو الآتي فعلاً؟ من هو؟ إنهم يقولون: مخلص هو المسيح الرب». إن سمعان يحمله على ذراعيه ويقول: «الآن تطلق عبدك يا سيد». من هو.. هل هو.. اوه. لا أعلم ماذا أقول؟ كيف يكون الطفل الذي رآه الرعاة إلهاً؟ كيف يكون الصبي الذي حمله سمعان على يديه إلهاً؟ كيف يكون الإنسان المولود.. نعم ولادته تختلف من بعض الوجوه عن ولادة غيره من الناس، ولكنه وُلد كما يولد أي طفل آخر. بدأت الحياة الإنسانية من أولى درجاتها. كيف يكون الإنسان إلهاً. لقد خرجت أبحث عن إله..وها هم يقولون إن هذا الصبي هو الإله الذي تبحث عنه. هل يمكن أن يكون هذا الكلام معقولاً؟

انبطحت على وجهي وبكيت....

كان سمعان قد تركني لأنام قليلاً. على أنه عاد إليّ فلم يجدني على الفراش، بل رآني منكفئاً على الأرض. ولما شعرت بصوت أقدامه اعتدلت ورفعت وجهي نحوه، فقال: أنا أعلم.. نعم أعلم سر اضطرابك: إنه لغز يا صديقي، إنه لغز، لا يستطيع العقل البشري أن يفهمه. إنه فوق أذهان البشر. هل يمكنك أن تدرك الكيان الإلهي؟ كيف تفهم حضور الله في كل مكان؟ هل تفهم معنى أزلية الله؟ هل تدرك معنى أن الله أبدي؟ هل تفهم كيف أن الله كليّ القدرة وأننا نحن بشر محدودون؟ إننا لا نستطيع أن نفهم. أنا ما كنت أستطيع أن أفهم. إنه الله يا ابني. إنه الله الذي بروحه يفتح قلوبنا فنؤمن، ومع ذلك دعني أتحدث إليك...

خلق الله الإنسان باراً نقياً طاهراً، ولكن الإنسان عصى الله وفسد. والله قدوس وبار وعادل. لقد شاهدت أنت كيف حاول الإنسان أن يتبرر أمام الله. لقد رأيت الذبائح والكفارة. لقد سمعت الرسائل عن الرجوع إلى الله بالندامة والتوبة. واكتشفت أن الأمر كان يتطلب علاجاً أعمق من العلاج السطحي الذي عولجت به الخطية. كانت الخطية تعالج بغسلها من الخارج، بينما كانت متغلغلة في الدم. كان الأمر يتطلب إعادة خلق. كان ينبغي أن يموت الإنسان، بعد أن فقد كل ما يجعله محبوباً، وصار ملوثاً، لا يقدر أن يتطهر من لوثاته. الذبائح علاج لأن الخطية في داخل الإنسان، والمعصية كامنة فيه. ينبغي أن يموت. لكن محبة الله أنقذته من الموت. إن عدالة الله تتطلب أن يموت، فكيف تستطيع المحبة أن تنقذه؟ ها الحق والحرمة. الحق يطلب أن يموت. والرحمة تطلب أن يعيش. كيف يمكن أن يجتمع هذان النقيضان؟ كيف يمكن أن نقتل الخطية دون أن نقتل الخاطئ؟ ينبغي أن يوجد بديل عن آدم. وفتش الله عن البديل. فلم يجد إلا نفسه، ولذلك قدم نفسه. قدم ابنه، وصار الإله إنساناً. كان قد رتب هذا الأمر منذ الازل. وما رأيته في سياحاتك كلها كان محاولات من الناس لقتل الخطية، إلى أن جئت إلى اليهودية فرأيت الترتيب الإلهي.. الإله يصير إنساناً. وبيدأ الإله من الدرجة الأولى للإنسانية.

هنا بدء الكفارة. هل تستطيع أن تدرك عظم محبة الله؟ أنظر إلى الإله الذي صار إنسانًا وبدأ إنسانيته من أولى درجاتها، واصغ إلى كلمات الأنبياء عن الذبيحة.. أنا إلى الآن لا أفهم تماماً كيف ستتم، لكني رأيت في ذلك الصبي الذي حملته على يديّ «الله ظهر في الجسد». ولذلك خشعت أمامه، وطلبت منه أن يطلقني، فقد رأيت خلاصه. الحقيقة أني رأيت بدء ذلك الخلاص. نعم سجدت للإله الذي كان طفلاً، كنت أقرأ النبوات وأراجع التاريخ، فوقعت في بلبلة. ما معنى كلمات إشعياء عن ذلك الذي وصفه بالكلمات: «لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِين» (مزمور 53: 4 - 12). ألا يعني ذلك أن الحاجة هي إلى مخلص ينقذ البشرية من الفساد الروحي، والسقوط. مخلص يعيد الخليقة إلى البر الذي فقدناه بالعصيان؟ كنت أجلس متأملاً وقد رأيت العالم منذ سقط أبوانا. رأيت الحروب والدموع والدماء والجروح والقروح، رأيت الجوع والعري والأوبئة والأمراض، رأيت النيران و السيول والطوفانات، وقلت: من يخلصنا من هذه؟ لكني أحسست أن الحاجة إلى خلاص أعمق، فقد رأيت خلف كل ما رأيت التنين المخيف الذي ينفث سمومه فيلوّث العالم كله. نعم رأيت الخطية، وعلمت أننا في حاجة إلى مخلص ينقذنا لا من الخطايا بل من الخطية، لا من الشرور بل من الشرير.

ثم سألت نفسي وأين نجد هذا المخلص؟ هل يمكن أن يكون المخلص واحداً. من البشر؟ كلا؟ لا يمكن،لأنهم جميعاً تلوثوا بالإثم، كلهم. نعم كلهم. موسى، داود، سليمان، حزقيا، نحميا، ملاخي... «الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3: 23).

انحنت رأسي إلى الأرض. لا يمكن أن نجد بين الناس هذا المخلص.

إذن أين نجده؟ هل يتطلب الأمر أن يأتي ملاك من السماء؟

نعم إن الملاك بار، ولكنه لا يمكن أن يقوم بالمهمة. إنه لا يحس بما يحس به الإنسان. نعم، فإن المخلص ينبغي أن يشارك الإنسان في متاعبه وفي آلامه. ينبغي أن يكون إنساناً، يتعب كما يتعب الإنسان ويتألم كما يتألم الإنسان. يجوع كما يجوع الإنسان ويحتاج إلى الراحة كما يحتاج الإنسان، ويقاسي من المعاناة ما يقاسيه الإنسان - على أن يكون باراً وقدوساً وطاهراً ونقياً.

فأين نجد هذا الإنسان؟

رأيتني مستنداً على ساق شجرة في البرية أثناء سيري في الطريق إلى أول دروب مدينة الإيمان التي أرشدوني إليها. أين ميخائيل وزكريات وسمعان؟ أين حنة؟ ترى هل هي أحلام أم رؤى؟... بل أن الله كشف لي أن «الملخص الآتي» قد جاء؟ جاء إنساناً بل جاء إلهاً.. كلا - جاء إلهاً، بل لا. لقد جاء إنساناً.

ربي افتح عيني وذهني وقلبي. لي اشتياق أن أراك يا رب!

الفصل الثالث: عودة إلى مصر

خرجت من بيت سمعان، وسرت في طرقات المدينة الكبيرة أبحث عن الطفل الملك. ذهبت إلى الهيكل وسألت عن ملك اليهود، وفيما أن أسال اقترب مني جندي وسألني بخشونة عما أطلب. فقلت إني سمعت أن ملك اليهود قد وُلد في بيت لحم، وأنهم قدموه له في الهيكل. فقبض عليّ بعنف وجرني إلى المخفر، وجعل رجال الأمن يحققون معي. اتهموني بالجاسوسية وبالخيانة، وقد نلت كفايتي من الضرب والإهانة. ولما كنت أتكلم عن النبوات، ورأوا ما أنا عليه من سذاجة اطلقوا سراحي قائلين إني مجنون. وزودوني بكثير من الضرب واللكم والركل، وحذروني من الكلام عن ملك، فإن الملك هيرودس العظي موجود.

خرجت من مخفر االشرطة وقد ترك رجالها آثاراً عميقة على جسدي، كما تركوا في ذهني مخاوف، على أن ذلك لم يمنعني من التجوال. وبالرغم من أنني لاحظت أنني متبوع من رجال لا يحملون سمة مطمئنة، إلا أني سرت أسأل عن ملك اليهود. وتأكد رجال الحكومة أني مجنون فتركوني وشأني.

تعبت من البحث في أورشليم، فتركتها إلى بيت لحم. وذهبت إلى الخان وسألت هناك. علمت أن صاحب الخان كان قد باعه إلى آخر. على أن المالك الجديد قال إن المالك الأول كان قد ذكر في ما ذكر عن ولادة طفل كانت له قصة عجيبة، وذكر شيئاً عن رعاة وملائكة، لكنه قال إن العائلة كانت قد تركت الخان ونزلت عند عائلة قريبة. وذهبت أسأل من بيت إلى بيت. وعثرت على البيت الذي كانوا قد نزلوا فيه. ولكن أصحاب البيت حاولوا أن يتملصوا مني. أنكروا في أول الأمر. ظنوا إني جاسوس أتبع بيت هيرودس. فلما اطمأنوا إليّ، قصوا لي قصة في غاية الغرابة، قالوا: «ألست ترى علامات الحداد في كل بيت طرقته؟ لقد حدثت مذبحة منذ ستة شهور. جاء جنود هيرودس وقتلوا جميع الأطفال من اين سنتين فما دون». كان اضطرابي عظيماً، سألت: «فهل قُتل الصبي الوليد؟» قالوا: «لا». وبالرغم من أنهم اطمأنوا كل الاطمئنان إلا أنهم ترددوا أكثر من مرة...

كانت قصتهم أعجب من قصة الراعي ميخائيل قالوا: في أحد الأيام أقبلت قافلة فيها جمال وخيول، عليها رجال يحملون سمة الملوك، عرفنا أسماء ثلاثة منهم كاسبار ملك كالديا، وملكيور ملك بمفيلية، وبلتازار ملك أثيوبيا - ومعهم آخرون لم نعرف أسماءهم. دخلوا هذا البيت حيث كانت تقيم عائلة الصبي: الرجل وزوجته وابنهما. وهمس الرجل: «هم أقارب لنا من بعيد. شكراً لله أن ليس لنا أطفال». ودخل الملوك وانبطحوا على الأرض وقدموا سجوداً أكثر من سجود الاحترام، سجود عبادة وقدموا هدايا لا تُقدم إلا للآلهة: ذهباً ولباناً ومراً.. لم يتحدث الملوك كثيراً.

قالوا: سيكون لهذا الصبي شأن سيهز اليهودية بل سيهز كل العالم. انطلق الملوك. وانطلقت العائلة بعد ثلاثة أيام.. بعد خمسة عشر يوماً من انطلاق العائلة جاء جنود هيرودس يسألون عن الصبي، ثم قاموا بمذبحة فظيعة. ذُبح أزيد من مائة طفل. لكن الصبي المقصود نجا... وأنت تلاحظ أن بيت لحم تلبس إلى الآن ملابس الحداد.

قلت في نفسي: ها قد تمت نبوة سمعان... سيكون هدفاً تُصوب نحوه السهام «لعلامة تُقاوم».

وسألت أصحاب البيت: «ألا تعلمون أين ذهبت العائلة؟» أجابوا: «نظن.. نظن أن العائلة اتجهت إلى مصر».

هل أذهب إلى مصر؟.. وأين في مصر؟.. إن مصر عالم كبير..

لكن صاحب البيت همس في أذني إن مصر ليست كبيرة كما تظن. إن المهاجر اليهودي يعرف أين يذهب. ابحث عن العائلة الهاربة في حواري اليهود. اذهب إلى تل بسطة ومدينة الشمس ومصر القديمة.

وذهبت... لم تكن مصر هي البلد التي سبق أن تجولت فيها مع صديقي كاهن أوزيريس. لقد تغيرت كثيراً. كنت أظن أني لا أجد أحداً. لكني وجدت كثيرين. وقد أخبرني البعض انهم عرفوا العائلة. بل حدثني البعص عن الصبي. على أني لم أستطع أن أصل إليه. ظللت أتجول من مكان إلى مكان. لم يكن تسخير كالذي سبق أن رأيته. لكني لاحظت ن الشعب يبغض اليهود، ولا يتكلم عنهم حسناً. ولكنه لم يضطهدهم اضطهاداً ظاهراً. وكانوا يعملون في المال ويكسبون كثيراً، ولكنهم لم يكونوا سعداء، لأنهم كانوا يحسون بكراهة الشعب لهم، وبأنهم لو تمكنوا منهم لأفنوهم.

وقد لاحظت أنهم كانوا ينتظرون الملك الآتي المخلص. لما قلت لهم إنه جاء سخروا مني. سألوا: «أين هو؟ أين جيشه؟ أين أسلحته؟ أين مواكبه؟». ولما قلت لهم إنه وُلد في مذود البقر، وإن أهله فقراء، ضحكوا طويلاً وقالوا لي: «يا له من مخلص!! إننا ننتظر مخلصاً يخلصنا من طغيان الدولة المحتلة. يخلصنا من الفقر ومن الجوع ومن الظلم. يجلس ملكاً ونحن نجلس بجانبه ملوكاً. فهل يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك؟».

قضيت في مصر ثلاثين سن. ذهبت إلى كل ركن من أركانها وبحثت في كل مكان. كنت أسمع أخباراً يتضح لي أنها مجرد خيالات. قالوا لي أنهم رأوا العائلة التي كانت تقيم في طابق سفلي في مبنى مظلم، هروباً من يد ملك اليهودية. وقالوا إنهم رأوا نفس العائلة تسافر إلى أقصى صعيد مصر. كنت أقطع المسافات هنا وهناك دون جدوى، لم تكن مصر التي أراها هي مصر أوزيريس، فقد تغيرت معالمها، ولكنها ظلت بلاداً بغير إله حقيقي. لم تسمع عن الله الذي سمعت عنه من سمعان ومن الراعي ميخائيل أنه ظهر في الجسد!!

حتى اليهود الذين جاء المولود منهم لم يسمعوا عنه، بالرغم من النبوات التي يزعمون أنهم يعرفونها وينتظرون إتمامها، ومع أن الوليد المقدس جاء إلى بلادهم.. بل أكثر من ذلك فقد جاء في نبواتهم أن الله دعا ابنه من مصر. مع كل ذلك لم يسمع غالبيتهم شيئاً عنه. والذين سمعوا لم يهتموا...

ظللت أجوب البلاد إلى أن انهدّ حيلي وضعفت قواي.. وفي إحدى الليالي جاءني رجل شيخ وقال إنه سمع أني أبحث عن عائلة جاءت من بلاد اليهودية هاربة من ملك طاغية.. وقال إنه عرف تلك العائلة، وإنها نزلت في بيته من ثلاثين سنة أو أنه نحو ذلك قال: «كانت الأم شابة جميلة.. فلقة من النور. أما الطفل فبالرغم من أنه كان يبدو لأول وهلة طفلاً عادياً، إلا أنه كان يشرق بنور سماوي. كنا إذ نتأمل في وجهه نحس كأن السماء تتكلم معنا». قلت: «ترى هل تكلم فعلاً؟» أجاب: «لا. لقد كان طفلاً عادياً في كل شيء، إلا أنه كان يشعرنا أن في داخله.. أوه. لا أعرف ماذا أقول. كانت الأم تجلس معنا كل الوقت الذي تفرغ فيه من أعمالها كزوجة وأم. في الحق أنها لم تكن تجلس معنا. كانت تعيش في الأعالي، وعلاقتها بابنها لم تكن علاقة أم بابن بل علاقة «أَمة» بسيد، بل علاقة أمة برب معبود. أما زوجها فلم يكن زوجاً. كان ملاكاً يقوم على حراسة كنز ثمين..»

«وبعد أن أقامت العائلة مدة ليست طويلة، الحقيقة أني نسيت المدة. خيل إليّ أنها لا تزيد عن يوم.. جاء الزوج، وكنا نجلس مع الزوجة، وقال: «أيتها السيدة الكريمة».(كان لا يناديها إلا بكلمات يا سيدة ويا ست) لقد صدر إليّ الأمر بالعودة. قومي الآن، أعدي نفسك للسفر في بكور الغد.. وفي الصباح انطلقوا ولم أعد أسمع عنهم شيئاً..»

«وقد أحسست أننا فقدنا كل شيء. أصبح بيتنا بعد أن كان قطعة من النور شبه قبر مظلم. وقد تركنا البيت وانتقلنا من مدينة إلى قرية إلى مدينة أخرى.. ولم نعد من رحلتنا إلا أول أمس، عندما أخبرنا جيراننا عن شخص جاء يسأل عن العائلة الهاربة.. شكراً لله أنني لم أتعب كثيراً في الوصول إليك».

سمعت كلام الرجل، وعلى قدر ما تأسفت أنني ظللت في مصر هذه السنين الطويلة، سررت أني التقطت طرف الخيط. سأعود إلى اليهودية وسأعرف مكان الوليد العظيم. إنها لا بد وأن يكون الآن قد تسلم ملكه وجلس على عرشه وأنقذ شعبه بل أنقذ العالم المحيط به، أو على الأقل بدأ الإنقاذ!!

كنت متأكداً أن يد الغدر لا يمكن أن تصل إليه، لأني رأيت العناية التي رافقته، فهو كائن عجيب حقاً. الملائكة هتفت لمقدمه وقامت على حراسته حتى جاء مصر، والملائكة هي التي نفذت الأوامر العليا بعودته إلى اليهودية، ولا بد أن تكون قد رافقته في عودته. أليس هو سيدها وربها؟

سأعود إذن إلى اليهودية. ليتني أستطيع أن أطير طيراناً حتى أصل إليه وأطلب منه أن يحدثني عن نفسه، ويؤكد لي ما سمعته عنه من سمعان وحنة وميخائيل.. وما سمعته عن زيارة الملوك.. سأطلب منه أن يخبرني بالتفصيل شيئاً عن طبيعته ورسالته وانتظاره مني. سأخبره أني مستعد أن أجلس عند قدميه وأسمعه. وسأقول إني مستعد أن أنفذ أوامره وأذهب إلى آخر الأرض أحمل رسالته.. أوه. ليتني أطير طيراناً. في قلبي لهيب. أسعفيني أيتها السماء. احفظي حياتي إلى أن أراه.. فقط. لا أطلب أكثر من هذا.!!

الفصل الرابع: عودة إلى اليهودية

وصلت إلى أورشليم. لم يكن السفر سهلاً. هجم على القافلة التي كنت أحد المرافقين لها لصوص قيّدوا الحراس وسلبوا المسافرين. علمت أن هذه العصابة جزء من عصابة كبيرة زعيمها القاتل المشهور باراباس، وكان كبير هذه الفرقة اللص دوماس يرافقه لص آخر مشهور ولصوص آخرون قد نهبوا كل ما مع المسافرين، وقتلوا جميع الرجال. وأشرع أحدهم سيكنته ليطعنني، ورفعت عيني أستنجد بذلك الوليد، إذا بالسكينة تسقط من يد الرجل، فيقف مبهوتاً ويقول لي بخشونة: «من أين أنت؟ ولماذا أنت هنا؟». ثم خفض رأسه وقال، وقد لان وجهه: «هلا قلت لي من أنت؟» أجبت: «أنا رجل غريب، لي حكاية طويلة، لكني أوجز لك الجزء الأخير منها.لقد جئت من اليهودية أبحث عن وليد عظيم جاء والداه معه هاربين إلى مصر. يؤسفني أني لم أجد العائلة. ولما رفعت أنت السكين لتطعني رفعت رأسي أستنجد بذلك الوليد». فقال اللص: «الآن علمت لماذا سقطت السكين. لقد نظرت وإذا بالوليد الطاهر... دعني أخبرك أني تبعت العائلة الهاربة من أزيد من ثلاثين سنة أنا ورجال عصابتي. نحن جزء من العصابة الكبيرة عصابة باراباس. لقد تبعت العائلة الهاربة لكي أسلب الذهب الذي أخذوه من الملوك. ولكني إذ أبصرت وجه الطفل سقطت على وجهي. كان الوجه نوراً وناراً.. وقد منعت رجالي من الإساءة ليس فقط إلى العائلة بل إلى كل القافلة إكراماً لذلك الصبي. ولما رفعت يدي لأطعنك رأيت الصبي أمامي ينظر إليّ عاتباً».. ثم التفت إلى رفاقه وقال: «حلوا قيود الحراس واطلقوا سراح القافلة. لا تسلبوا درهماً واحداً منها. والآن أيها الصديق عد إلى اليهودية بسلام. سأوصي بعض رجالي أن يرافقوكم لحراستكم. أرجو أن تعثر على هذا الوليد العظيم.. أرجو وأرجو، لا أعلم ماذا أقول لك.. لقد سمعت الكثير عنه.. لكن اذهب اذهب». ثم دفعني عنه وقال: «اذهب».

ووصلت إلى حدود اليهودية. وتوجهت مباشرة إلى أورشليم، ووقفت حائراً. لقد مات كما عرفت، الشيخ سمعان والنبية حنة والراعي ميخائيل، وتفرق شمل بقية الرعاة. ووجدت في مكان الخان منبىً كبيراً لم يعرف أحد من سكانه عن الخان شيئاً.. حاولت أن أذهب إلى البيت الذي تقابل فيه الوليد من الملوك فوجدت أن التغيير شمل البقعة كلها. رفعت عينيّ إلى السماء وقلت: «رباه، أرشدني إلى أين أذهب»!!

مع رئيس الكهنة:

سرت في شوراع المدينة أسأل عن المسيح الملك، فكان الناس يهزون رؤوسهم وقد ظهرت السخرية على وجوه البعض والخوف على وجوه آخرين. ووقف بعضهم يتكلم في همس، وأخذني بعضهم إلى أشخاص علمت أن لهم شأناً في الدوائر العليا الدينية والسياسية. وأخذني هؤلاء إلى رجل ظهر أن له المقام الأعلى في الدوائر الدينية. لأني رأيت الناس يقتربون منه وينحنون أمامه إلى الأرض. وتكلم معي هذا الرجل بكل تعالٍ وبشيء من الغطرسة والشك. كان يظن أني جاسوس أو متآمر. لكن لما سمع حكايتي وعرف بساطتي ونيتي الطيبة، نظر إليّ بشيء من العطف مشوب بشيء من الاحتقار وقال: «علمت. سأقول لك إننا ننتظر المسيح الملك. لقد تنبأ عنه الأنبياء. نعم نحن ننتظره. ولكنه لم يأت بعد. وقد ظهر مسحاء كذبة كثيرون. من هؤلاء ثوداس الذي ادعى أنه المسيح الملك، وقد تبعه جمهور غفير، أربعمائة أو أكثر، وقد قُتل، وجميع الذي انقادوا إليه تشتتوا. وبعده قام يهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً. هذا أيضاً هلك، وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا - وفي هذه الأيام قام نجار ناصري مختل جمع وراءه عدداً من الغوغاء والعاطلين، وأقام نفسه عليهم قائداً وزعيماً. هذا ادعى أنه معلم.. وقد سمعنا إنه يهمس لأتباعه أنه ابن الله. وقد أشاعوا أنه يجري آيات وعجائب. وقد اتضح أنها كلها إشاعات لا أساس لها من الصحة. أما المعجزات التي قالوا إنها حدثت فإنها ولا شك من تحالفه مع الشيطان، هذا إن كانت قد حدثت فعلاً، إذ لا يمكن أن يكون هذا المعلم من الله لأنه يعلّم ضد الناموس. ومثل هذا يستحق القتل، وسيكون هذا مصيره إذا استمر في غيّه».

قلت: «إن كلام سيدي الكاهني الرئيس كله حكمة. لكني أستأذن سيدي فأسأل عما قاله لي الشيخ سمعان والنبية حنة والراعي مخيائيل».

فتبسم الشيخ الكبير وقال: «قد سمعت شيئاً مثل هذا». ثم تأوه وقال: «مسكين سمعان.. ومسكينة حنة. سمعان حفيد هليل الصغير، امتدت به الأيام حتى صار نظير طفل في تفكيره. وقد حدث اختلال عضوي في رأسه فأصبح يتخيل الكثير ما لا وجود له.. فقد صدرت منه أقوال وأفعال جعلت الكثيرين من أصدقاء العائلة الكبيرة يتأثرون، بل بعضهم بكى. كيف ينحدر ذلك الرجل العظيم إلى درجة كبيرة من الاختلال؟ وكذلك الأمر مع الأرملة العجوز حنة. شكراً ليهوه أن الاثنين ماتا قبل أن يصل الاختلال إلى ارتكاب المآسي».قلت: «فماذا يرى سيدي في رواية الراعي ميخائيل؟». فضخك وقال: «يكفي أن تسمع الرواية فتدرك كذبها وبطلانها.. والآن أنا أنصحك يا ولدي أن تكف عن السؤال هنا أو هناك. لقد أدركت بساطتك بل سذاجتك وأنا أعطف عليك. أشكر الله أنهم أتوا بك إليّ ولم يذهبوا بك إلى معسكر الوالي، أو إلى قصر الملك، حيث لا يعرف أحد منهم شيئاً عما تسأل عنه. أنصحك أن تعود إلى بلدك وتقيم بين أهلك، ولا تتعب نفسك في البحث عن إله لا يخصك، فإنه لم يأت بعد، وإذا جاء فسيكون إلهاً لشعب إسرائيل، وليس لك أو لأمثالك من الأمم!!».

الفصل الخامس: مع رئيس المجمع

لم أشأ أن أطيل جلستي مع رئيس الكهنة. علمت في ما بعد أن معامتله لي قوبلت بالدهشة. إنه لا يتكلم مع أحد إلا من كرسيه العالي. خرجت وقد بان الأسى على وجهي. لم يزعزع كلام رئيس الكهنة يقيني في الشيخ سمعان والنبية حنة. ولقد كان الاتزان بارزاً كل البروز في الشيخ. والذين تحدثوا معه كانوا يجلونه كل الإجلال. وماذا أقول في كلام الراعي ميخائيل، وماذ أقول في الأغنية السماوية، وماذا أقول في قصة المذود، وماذا أقول في قصة الملوك الذين جاءوا من المشرق وسجدوا للوليد العظيم؟ لن أذكر قصة اللص دوماس. الحق أن كلام رئيس الكهنة كان يحمل على الأقل، بطلانه!!

سرت في الطريق أحدث نفسي، وظللت أسير وأسير دون أية وجهة. لم أقف إلا عندما أحسست بأني لا أستطيع أن أسير. كنت في أشد التعب. وعندما وقفت رأيت إلى جانب الباب «مصطبة» مفروشة بالسجاد، وعليها وسائد، فجلست عليها.. الأصح أن أقول «سقطت» عليها من شدة التعب، ومال رأسي على صدري وذهبت في إغفاءة!

لا أعلم كم دقيقة أغفيت، ولكني استيقظت لأرى أمامي رجلاً وقوراً في لباس محتشم يكشف شيئاً عن مركزه الاجتماعي العالي، وقد تدلت لحيته على صدره وقد غلب بياضها على السواد.

نظر الرجل إليّ بقليل من الفضول، وقد أجبت على السؤال الذي لم تنطق به شفتاه: «نعم أنا غريب، على أنها ليست المرة الأولى التي أدوس التراب الغالي لأرضكم المقدسة».

ابتسم الرجل ابتسامة الرضا وقال: «لعلك تصل إلى ما تريد في أرضنا». قلت: «أخشى أني لن أصل على هدفي، أو لعل الأفضل ان أقول إني لن أصل إلا بعد اقتحام الصعاب، فقد صدمت بشدة في خطواتي الأولى»!

نظر إليّ الرجل باهتمام وقال: «ألعلي أتعدى حدودي إذ سألتك أن تشرح لي قصتك، فربما استطعت أن امد لك يد المعونة؟ تُرى من أين وأين أصابتك اللطمة الأولى؟». ثم ابتسم وقال: «هلا يكون من المناسب أن ندخل إلى صحن الدار لنتحدث في خلوة لا يقاطعنا فيها أحد». قلت: «ترى هل يأذن لي سيدي أن أسأل عن الشخصية الكريمة التي توليني شرف الحديث معها؟». ثم استدركت قائلاً: «لقد خرجت من بيئة بدائية لا تحسن أسلوب الحديث مع الطبقات العالية، ولم نتعود على لياقة الدخول في بواطن الأمور». وابتسم الرجل مرة ثالثة وقال: «أرى أنك تختلف كل الاختلاف عما تقول، فإن أسلوب كلامك ينبئ عن شخصية جالت في جوانب الأرض وتحدثت إلى كثير من البشر.. لكن دعنا من هذا - ويسرني أن أجاوب سؤالك، فأنا نيقوديموس، المعلم نيقوديموس، وأدعى في بلدانا الربي نيقوديموس، وأنا رئيس المجمع الشرقي الكبير في المدينة. وأعتقد أنك تعرف شيئاً عن المجامع الهودية». قلت: «نعم، فقد سبق أن جئت هذه الديار، وعرفت الكثير عن الديانة اليهودية والهيكل والمجامع، وكان لي شرف التحدث مع المعلم العظيم الشيح سمعان بن هليل الصغير». قال: «أرأيت الشيخ سمعان؟ إنك إذن لمغبوط.. لكن لندع هذا ولنعد إلى قصتك».

قلت: «إني ألخصها لك في كلمات.. كنت أعيش مع قومي حياة البهائم، لا نعرف شيئاً إلا العيشة الحيوانية، نأكل ونشرب ونزرع ونتزوج ونلد البنين والبنات وتموت.. وهكذا بدون إله وبدون عبادة... وظللت كذلك إلى أن حمل إليّ الفينيقي الذي رافق التاجر الكنعاني - الذي كان الصلة الوحيدة بيننا وبين العالم الخارجي - أن هناك إلهاً. فخرجت أبحث عنه - لست أرى داعياً لأن أقص لك قصة سياحتي.. ولكن انتهيت منذ أكثر من ثلاثين سنة إلى هذه المدينة، وحيث قابلت الشيخ سمعان وحنة النبية والراعي ميخائيل. وحدثني هؤلاء عن مجيء «الآتي» الذي قال البعض إنه نبي، وقال آخرون إنه المسيح، وقال غيرهم إنه المسيا. وقال الملاك إنه الرب جاء في الجسد.. وعلمت أن ذلك الآتي وُلد في بيت لحم، وأن ميخائيل سمع عن مولده ورآه، وأن سمعان الشيخ حمله على ذراعيه.. وأن ملوكاً جاءوا من المشرق وسجدوا له وقدموا له هدايا.. وذهبت إلى بيت لحم لأراه، فعلمت أن العائلة هربت إلى مصر لأن هيرودس قصد أن يقتل الصبي. وذهبت إلى مصر ومكثت أزيد من ثلاثين سنة أجول في نواحيها أبحث عنه بدون جدوى، لأنه كان قد عاد منذ زمن طويل. ولكني لم أعلم بذلك إلا أخيراً. وجئت إلى اليهودية وسألت عن المولود الملك. ولكني وجت ممن سألتهم صدوداً. هزأ بي البعض، وهرب مني البعض، وقبض أحدهم عليّ وسلمني إلى رجل ظهر أن له كثيراً منالسلطان، وهذا ذهب بي إلى شخص آخر. وأخيراً حملوني إلى رجل يبدو أنه أعلى الكل.. وهذا بعد أن سمع قصتي لأن وجهه العبوس، وابتسم في وجهي وقال إنه يرى أني بريء وساذج، وقال لعل ذلك الوليد المزعوم هو ذلك النجار المخبول، بل المضل يسوع الناصري. وقال إن سمعان الشيخ قد أصيب بالخبل في أخريات أيامه، وإن قصة الرعاة والملائكة والمذود وما رواه سمعان كله خيال مريض، وإن الناصري إما أن يكون مجنوناً أو حليفاً للشيطان، وقال إن مسيا لم يأت بعد. ومع ذلك فإنه أذا أتى فسيكون مسيا اليهود لا مسيا غيرهم. ونصحني أن أعود إلى قريبتي وأتزوج من الفتاة التي خطبوها لي وأترك موضوع الله هنا نهائياً» .

«لقد خرجت من بيتي من سنين طولية ولاقيت ما لاقيت من متاعب ومشقات. لم أذكر لأحدٍ ما قاسيت من جوع وعطش وحر وبرد وأسفار وأهوال. وأخيراً يقول لي زعيم ديني كبير إن بحثي عن الله عبث.. ويقول لي إن سمعان مخبول وإن حنة مخرفة وإن ميخائيل خصيب الخيال، وإن النجار الناصري مختل ومضلل وسامري وبه شيطان، بل إنه متحالف مع بعلزبول رئيس الشياطين؟».

وظهر التأثر على وجه المعلم وقال إن رئيس الكهنة ورؤساء المجامع وقادة الهيكل وجماعة القادة السياسيين معذورون في وقوفهم ضد المعلم الناصري. لقد استطاع الناصري أن يجتذب الجماهير إليه بتعاليمه البسيطة العميقة، وقد جرّأ عامة الشعب على الرؤساء بحيث أصبحوا يعلنون علناً أنه هو الملك الآتي - كما أن الرومان الذين يسيطرون على البلاد سيزيحون الرؤساء من كراسيهم إذا حدثت بلبلة عن ملك.. لا أعلم لماذا أتحدث معك بهذا الوضوح. على أن الأمر الذي أودُ أن تعرفه أن النجار الناصري هو فعلاً معلم جاء من الله، لأن ليس أحد يعمل الآيات التي عملها إن لم يكن الله معه.

ثم همس نيقوديموس في أذني: «لقد زرته وجلست معه وتكلمت معه وتكلم إليّ.. كان ذلك من أسابيع قليلة. كنت قد سمعت أنه شفى عبد قائد المئة الروماني بكلمة، وأنه زار بيت حنان صديقنا يوم عرس ابنه وأن عصير العنب «شربات» الفرح لم يكف الضيوف، فلم يكن صاحب الفرح يظن أن كل الأحباء سيأتون. كان سيتعرض لفضيحة. لم يكن وقت لشراء عصير من الخارج، ولكن الناصري حول الماء إلى عصير جيد. وجاءني زكريا الأبرص. كان من ذوي قرباي، وقد أُصيب بالبرص، ولمسه المعلم الناصري وقال: «أريد فابرأ» وفي الحال برئ من البرص. بعض حوادث الشفاء رأيتها وبعضها سمعت عنها» .

أما تعاليمه.. ماذا أقول لك فيها؟ لم يسمع العالم نظيرها. كانت تختلف كل الاختلاف عن تعاليمنا. كنا نتحدث للاهوتيين الباحثين في الفقه والتشريع، أما هو فكان يتحدث للشعب!!

لم ير العالم له نظيراً. اسمع بعض ما قال: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ. طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ. طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَم. طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ» (متّى 5: 3 - 10). «كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ» (متّى 5: 22). «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (متّى 5: 44) «...ألله أبوكم فلا تعولوا الهم... إنه يهتم بالطيور وبالعشب. لا شك أننا أولى باهتمامه».

لقد جاءني صديق وألقى عليّ كلمات المعلم الناصري. إني أتلوها كل يوم. لقد كتبتها على أبواب بيتي. إنها جواهر. كلا ليست جواهر. إن الجواهر شيء تافه بالنسبة لها...

وبعد أن سمعت كل ذلك فكرت أن أتلاقى مع هذا الناصري. لم يكن من السهل عليّ أن أقابله. إني أحد الرؤساء، والرؤساء يحتقرونه وبيغضونه ويلصقون به كل تهمة شنعاء. أعترف لك أني كنت جباناً، ولذلك ترددت كثيراً. إن في قلبي ناراً. أنا أحس أن عند الناصري علاجاً لنفسي المضطربة. ولكني أخاف من الناس. أخاف من أعضاء المجلس الأعلى - لذلك رتبت أن أقابله ليلاً. لا حاجة لأن أخبرك كيف تم ذلك!

ذهبت إلى البيت البسيط الذي يقيم فيه، ورأيته. كان رجلاً عادياً، لكن ما أن اقتربت منه حتى وجدتني أجثو أمامه وأقبّل قدميه. أنا الرئيس الذي قبل الناس طرف ثيابي في كل مكان، ويحسون أنهم نالوا بركات إذا قبلوا يدي.. نعم أنا نيقوديموس!

في الحق أني عندما اقتربت منه لم أر مجرد إنسان بل رأيت إلهاً.. وبعد أن التقطت انفاسي قلت: «يا معلم - لم أر نجاراً بل معلماً - «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا 3: 2). وكان في نيتي أن أخبره عن النار التي تلتهب في قلبي. كنت أنوي أن أقول إني لم جد اكتفائي في شريعة موسى التي أعتبرها أنا وزملائي والشعب اليهودي وسيلة التبرير أمام الله، وإني لا أزال أحس ان هناك شيئاً آخر ينبغي أن يتم في حياتي. كنت أنوي أن أقول له إن كل ما في اليهودية من تشريع ونظام وعبادة لم يشبع قلبي. نعم كنت أنوي أن أقول له إن كل ما في اليهودية من تشريع ونظام وعبادة لم يشبع قلبي. نعم كنت أنوي أن أقول كل ذلك. ولكن يبدو أنه قرأ خواطري فأجاب على سؤالي الذي لم تنطق به شفتاي: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ» (يوحنا 3: 5 - 7). كان هذا الكلام غريباً عليّ لكن الحقيقة أني كان يلزم أن أقبله. لقد كنا نقبل دخلاء في اليهودية بأن نغسلهم ونعمّدهم ونطلب منهم أن يأتوا أشياء من صلوات وتقدمات، ثم نقبلهم يهوداً دخلاء. لكن المعلم الناصري يعلن أن الولادة الحقيقية لملكوت الله تقتضي عمل روح الله، الماء والروح. ولقد علمت فيما بعد أن الماء يشير إلى كلمة الله «والريح» - التي نقلناها إلى كلمة «روح» - والريح تشير إلى روح الله - إن الولادة الجديدة هي الطريق الوحيد للدخول إلى ملكوت الله، وتتم بعمل روح الله وكلمته الإلهية في الإنسان..»

كان ينبغي أن أفهم المعلم، ولكني لم أفهم تماماً. على أني أحسست أنها شيء جليل عظيم يدخل قلبي..

ثم تكلم الناصري كلاماً آخر، أعجب من كل كلام سمعته في حياتي.. «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيد» (يوحنا 3: 14 - 18). ثم مضى نيقوديموس يقول: «سمعت هذه الكلمات العجيبة. أعجب ما سمعته: الله يحب العالم، الله يبذل ابنه أجل العالم، الله يسمح أن ابنه يُعلق كما عُلقت الحية النحاسية.. الله يسمح أن ابنه يُصلب لكي يشفي العالم، كيف يمكن أن يكون هذا؟ كيف يمكن أن يكون؟»

صمت قليلاً: إني أذكر أن إشعياء قال لي يشيئاً عن ذلك «الآتي». أذكر أن كلماته كانت تشبه إلى حد كبير ما قتوله. قال لي إشعياء عنه: « وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذٰلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 5 - 12).

كنت ألاحظ أن المعلم اليهودي يهم بين حين وآخر أن يقاطعني، ولكنه ظل محتفظاً بوقاره إلى أن فرغت من كلامي، فقال: «ويحي أنا الجاهل. كان ينبغي أن أفهم. لقد قال الناصري لي: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا الحق؟! « اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟» (يوحنا 3:11 و12).

وصمت المعلم الكبير، ثم قال: لقد سمعت أيضاً إعلاناً عجيباً. قال «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13).

قال نيقودويموس هذه الكلمات ووقف قوال: «كنت أود أن تنزل في ضيافتي ولكني لا أستطيع (على الأقل جهاراً) أن آكل معك خبزاً.. ولكني مستعد أن أعطيك ما نشاء من المال. بل سأعطيك تفويضاً لتسحب ما تشاء من الصيارف» قلت: «أشكرك. إن معي الكثير، ولي الكثير في المصارف. إني محتاج إليه هو.. هو.. وحده».

قال نيقوديموس: «إني سأعود إلى النبوات، وأدرس كلمات الناصري لي في نورها، وأرجو أن أصل. أما أنت أيها الغريب فسر على بركة الله، وإذا قبلت مشورتي فاذهب إلى نبي عظيم اسمه المعمدان ويسميه بعضهم الغاطس. إنه الآن في السجن ويمكنك أن تقابله... خذ هذه البطاقة تساعدك»!!

الفصل السادس: مع المعمدان

بعد متاعب كثيرة وصلت إلى قلعة ماركيوس. وقد سمحوا لي بزيارة المعمدان بعد أن فتشوا حقيبتي وثيابي خوفاً من وجود الممنوعات. كنت قد حملت بعض الفاكهة لأني علمت أن السجين الكبير يرفض أن يتناول لحوماً مطبوخة أو مشوية. كان يتناول عسل النحل والفاكهة فقط في السجن. كان قبل ذلك يتناول لحم الجراد المشوي.

وقد رحب المعمدان بزيارتي بوجه بشوش، على عكس ما كنت أتوقع. فقد أخبروني أنه متجهم الوجه، خشن الكلام، صارم التعبير. وقد استمع لي بصدر متسع. سمع قصة حياتي من أولها إلى آخرها.. وقد أصغى بصفة خاصة إلى حديث الكاهن الرئيس والرئيس نيقوديموس. تنهد بارتياح وهو يسمع حديث المعلم نيقوديموس وقال: «شكراً لله».

ثم نظر إليّ وقال: «إن الله طيّب يا بني. لقد وصلت. فقد قال: «الَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي» (أمثال 8: 17). «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر» (يوحنا 1: 18). «الله سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (1تيموثاوس 6. 16). دبر أن يعيد للإنسان برّه. قلبه الذي تلوث ينبغي أن يُخلق جديداً. كانت الذبائح ترمز إلى الذبيحة العظمى، وقد جاء هو في ابنه ليقدم نفسه ذبيحة الكفارة. نعم جاء حمل الله الذي يرفع خطية العالم.. جاء ليقدم نفسه ويُعيد خلق الإنسان. «أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا» (إشعياء 53: 4). أما هكذا قال النبي إشعياء وداود، والأنبياء؟ أما أنا فلم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني قال لي إنه هو الذي ترى الروح نازلاً عليه. وفيما أنا أعمده انفتحت السماء ونزل روح الله شبه حمامة وحلّ عليه. وجاء صوت من السماء: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى 3: 17). نعم أنا رأيت وآمنت...»

على أن الشك راود بعض تلاميذي إذ أنهم رأوا فيه ما لا يتفق مع الصورة التي تخيلوها للآتي. كانوا ينتظرون ابن الله ملكاً في موكب رائع وجند وأسلحة وعظمة أرضية. كانوا ينتظرونه يكتسح في طريقه جحافل روما، ويزيح الكهنة العابثين بالمقدسات، ويشيع العدالة والقداسة على الأرض، ولكنهم رأو إنساناً فقيراً وديعاً متواضعاً.. لا جند ولا أسلحة ولا مواكب ولا مُلك، فخامرهم الشك.. ولماذا لا تقول إن الشك، قليلاً من الشك راودني إذ قد تركني في السجن، أو لعلي لم أشك بل عاتبت. على كل حال أرسلت إليه اثنين من تلاميذي أسأله: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (متّى 11: 3).

من الغريب أنه لم يغضب. لم يوبخ شكي. لم يذكرني بما قصته عليّ أمي، ولم يذكرني بما رأيته بعيني يوم أن عمدته بالماء. ولم يذكرني بشهادتي عنه بعد عودته من البرية، إذ أشرت إليه «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَم» (يوحنا 1: 29). بل طلب من التلميذين أن يخبراني بما ينظران ويسمعان. وقد رأيا وسمعا تحقيق النوبة القديمة في إشعياء إذ قال: «رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ، لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» (إشعياء 61: 1 و2). وهذه نفس الكلمات التي وصلتني «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ» (لوقا 7: 22). وختم رسالته بالكلمات «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيّ»‍!! (لوقا 7: 23).

والتفت يوحتا إليّ وقال: «لم أر السيد بعد ذلك، ولكن آمنت به. آمن يا ابني، أمن به.. وبما أنك غير مسجون فإني أشير عليك أن تذهب إليه وتشكره وتعترف بإيمانك به. لقد وصلت يا بني. لقد وصلت. لقد وجدت الله القدوس الطاهر الصالح الحنون، الذي سيقدم نفسه ذبيحة عنك وعن العالم.. نعم الله الذي كله قلب!».

الفصل السابع: المرأة السامرية

خرجت من السجن وأنا أفكر «أين أجد السيد؟» سألت واحداً واثنين وأكثر وكان الناس لا يلتفتون إليّ، لكن أحدهم نظر إليّ نظرة خاصة. حدق في وجهي وقال: «لا أرى في وجهك ما ينم عن شر. أنت لا تريد بالناصري شراً». قلت: «كلا كلا». قال: «إذن فاعلم أنه موجود على الأغلب في إقليم السامرة، بالقرب من مدينة سوخار»!!

وذهبت إلى السامرة في طريق لا يحبه اليهود، وإذا ساروا فيه يسيرون كارهين... ووصلت إلى المدينة ووجدت البئر التي يستقي منها السكان. رأيت بعض النساء فسألتهم عن يسوع الناصري، فأجبن كلهن: «أنت تقصد المسيا. لقد كان عندنا منذ أربعة أيام، وتركنا لا نعلم إلى أين؟». ثم نظرن إليّ وقلن: «إنك في غاية التعب. هلم معنا واسترح هذه الليلة وغداً نطلقك». وجاء معهن بعض الرجال، وأخذوني وأضافوني وقصوا عليّ أنه التقى بامرأة من عندهم، لما التقيت بها وجدتها تحمل سمات الوقار. وقالوا: «بما أنك ترغب أن تسمع عن المعلم المبارك فإن هذه المرأة يمكنها أن تخبرك بما يشبع قلبك».

جلست مع المرأة إلى جانب الغرفة، وجعل الآخرون يتسامرون كل واحد مع آخرين. وكان معظم حديثهم عن النبي الجديد.

نظرت إلى المرأة بشيء من الفضول. كانت بالرغم من أنها بلغت الأربعين، ربما فوق الأربعين، كانت تحمل شيئاً غير قليل من الجمال. كانت تلبس ملابس محتشمة وكان القوم يولونها احتراماً كبيراً.

السيدة الأولى في المكان:

وسألت: هل هي الحاكمة أو زوجة الحاكم أو - فقاطعتني قائلة: «أنا؟.. دعني أقول لك، أنا أحقر امرأة في هذه المدينة. وسأروي لك قصتي الأولى ورأسي في التراب...»

لقد نشأت في بيت متوسط الحال. كنت وحيدة والديّ، وكنت أحمل شيئاً مما يدعونه الجمال، أقصد جمال الجسد. وكان الشباب يغازلونني وأنا بعد صبية، وكنت أسر لذلك. كان البعض يعطونني ما في جيوبهم من الحلوى، وبعضهم كان يهديني شياً من الطيب، وبعضهم قدم لي دراهم. كانوا في أول أمرهم يغازلونني بالكلام، وتجاسر بعضهم فغازلني باليد.. وبعضهم قبّلني. واستعذبت ذلك، وسقطت وأنا بعد دون البلوغ. وتزوجني أحد أقربائي ستراً للعار. ولكني ظللت أسلك كما كنت مع الشاب، فطلقني. وتزوج مني آخر وآخر. تزوجت خمسة أزواج. ولم يرض رجل محترم أن يتزوج مني بعد ذلك، فعشت عيشة الفجور مع من لا استطيع أن أدعوه زوجي... واحد عاش معي.

ومع أن المدينة ليست سامية الخلق، إلا أنها رأت فيّ صورة لأشنع انحطاط، فازدرتني واحتقرتني واعتبرتني لوثة. مات أبي وأمي حزينين كل الحزن، ورفضني جميع أهلي، وامتنع الجيران والمعارف عن أي اتصال بي.. صرت مصابة بداء القروح الخبيثة. كانت النساء يخرجن ليملأن جرارهن جماعات جماعات بعد الفجر بقليل، أو قبل الغروب بقليل، أما أنا فقد نُبذت. كنت أحمل جرتي في الظهر وحدي. كان كل سكان المدينة يتغامزون عليّ!!

كنت أتأثر في أول الأمر من هذا التصرف. كنت أعود إلى بيتي وأبكي وأبكي. لم أكن أستطيع أن أعود إلى الحياة النظيفة. كان الرجال الأوغاد يحيطون بي.. وأنا، وأنا كنت مربوطة بقيود أقسى من الحديد. فكرت أكثر من مرة أن أنتحر، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت إحساساتي تتبلد. أخذت على الأوحال التي أعيش فيها. بدهشك أن تعلم أني ظللت أمارس الفرائض الدينية على الطقس السامري.

ظللت أعيش هذه الحياة إذا اعتبرت أني أعيش.. إلى ذلك اليوم.

جئت في الظهر وحدي، وعندما وصلت قرب البئر أبصرت رجلاً جالساً على الحجر، فقمت حسب عادتي - بحركاتي الماجنة كلما رأيت رجلاً. ولكن الرجل نظر إليّ نظرة نفذت كخنجر في قلبي، فلملمت أطراف ثيابي على صدري، وسمعته يقول: «أعطني لأشرب».. إنني لا أزال أذكر كل كلمة نطق بها الرجل.. كان رجلاً غريباً يجمع بين القوة والرقة، العنف واللطف. يجرح ويعصب، يُسيل الدموع ويمسحها. لقد كشفني لنفسي. رأيت عاري ولكني رأيت أيضاً عين المحبة الطاهرة. رأيت دموعه الشافية. عرفت أن المسيح ابن الله قد أتى إلى العالم وهو يتحدث إليّ ويعلن لي أنه هو المسيح.

فتركت جرتي وخرجت راكضة وناديت الناس. من الغريب أنهم سمعوا ندائي وجاءوا. من الغريب أنهم أصغوا لكلامي. قلت لهم: «تعالوا وانظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟».

من الغريب أنهم لم ينظروا عاري ولكنهم نظروا إلى توبتي رأوا نتيجة تأثير «الإنسان» العجيب عليّ. رأوا فيّ إنسانة أخرى، فأتوا إلى «الإنسان» ودعوه فمكث معنا وتحدث إلينا. رأيناه السيد الذي أتى من السماء. رأيناه ابن الله. وقالوا لي: «إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحفيقة المسيح مخلص العالم». وقد تغيرت المدينة تغييراً مدهشاً. لم تصبح سوخار القديمة. أصبحت جنة، مدينة القديسين، وأنا، أنا المرأة النجسة الملوثة، المرأة التي عاشت حياة الخنازير، المرأة التي كان الناس يسدون أنوفهم إذا اقتربوا من بيتي ورأوني من بعيد لأن رائحتي كريهة.. أنا أشكر ذلك الإنسان العجيب. لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً. لا يمكن لإنسان أن يجري المعجزة التي أجراها في سوخار. وبالأكثر المعجزة التي أجراها فيّ.

لقد أحسست وهو ينظر إليّ أن عينه ترسل لهيباً من محبة عجيبة قوية، أحرقت كل جراثيم الإثم، وصهرت القلب القاسي وخلقت لي قلباً جديداً. أشكر الله. أنا إنسانة جديدة.. جديدة جداً. وهكذا نظر إليّ الناس وأكرموني ورأوا فيّ لا السامرية القديمة الملوثة بل السامرية الجديدة النظيفة النقية. هل أجسر أن أقول: القديسة؟ أنا أؤمن أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، الله الذي جاءني إنساناً. شكراً شكراً شكراً...

وقضيت في سوخار عدة أيام نتحدث في عجائب البار في مدينة سوخار. لقد حدثوني عن معجزات للكثيرين والكثيرات في تلك المدينة، وكانت شهادتهم قوية ومستمرة.

الفصل الثامن: المولود أعمى

خرجت من مدينة سوخار واتجهت إلى اليهودية، وسألت عن المعلم الناصري، فعلمت أنه لم يأت إليها، ولكنه ذهب من السامرة إلى الجليل. ماذا أقول في حظي السيء. أسمع أنه في مكان فأذهب لأجد أنه ذهب إلى مكان آخر...

وفي ما أنا سائر في طريقي أحدث نفسي، إذا بي أتحدث بصوت مرتفع: «أين أنت أيها الناصري؟» وبيدو أن البعض سمعني لأن شخصاً تقدم مني وقال: «ماذا تطلب أيها الرجل؟».

وكان السؤال مفاجئاً فتلعثمت وقلت: «إنني» - ونظر إليّ الرجل بعطف وقال: «لا عليك، أنا صديق، وقد سمعتك تحدث نفسك بصوت مرتفع فاقتربت منك لأسألك: ماذا تطلب من الناصري؟ هل سبق لك أن رأيته؟ هل تعرفه؟».

قلت: «إني لم أره بعد. لقد سمعت عنه.. لقد آمنت به وأنا مشتاق أن أراه وأعترف له بإيماني، وأسلم له حياتي. على أني أسألك إن كنت تستطيع أن تهديني إلى حيث يقيم، لأني حيثما ذهبت أطلبه، أجده قد ترك المكان قبل وصولي. تُرى هل رأيته أنت؟». فأجابني: «يبهجني أن أجد شخصاً يخرج طالباً أن يجد ابن الله. ألا فاعلم أنك جد مخطئ. إنه هو الذي وجدني. ولست أنا الذي وجدته. هو الذي يبحث عنك لا أنت الذي تبحث عنه. وسيجدك ولا بد». قلت للرجل: «إنه قد وجدني، وأنا سلّمت له حياتي، ولكني أريد أن أرى شخصه كما رآه غيري، وكما رأيته أنت - على ما فهمته منك. تُرى هل تتفضل وتروي لي قصة عثوره عليك؟».

قال الرجل: «لقد رويت القصة للكثيرين، بل رويتها لبعض أعداء الناصري، لكني أشكر الله أن أحباءه يطلبون أن يسمعوها!!»

«أنا زكريا بن يوئيل، أمي طافة ابنة حزقيا البيتلحمي، وقد ولدت فاقد البصر، فكنت مصدر حزن لهما. أدركت سن الصبوة. كنت أسمع صوت بكائهما. ما أكثر ما سمعت: «يا رب ماذا ارتكبنا من المعاصي حتى وُلد ابننا أعمى؟» ولسبب فقدان بصري لم أتعلم حرفة أتعيش منها. كان العمل الوحيد الذي يقوم به أمثالي أن أستعطي. وفي أحد الأيام سمعت من يقول: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يوحنا 9: 2). كان السؤال يحمل نغمة الكبرياء. وقد قلت في نفسي: «متى يا رب ارتكبت معصية، فقد وُلدت أعمى؟ هل كانت لي حياة قبل أن وُلدت؟ وهل معنى ذلك أن المبصرين لم يخطئوا؟». ومع أني لم أكن أعرف ما هو البصر، إلا أني فهمت أن المبصرين يرون الأشياء بخلاف اللمس. لا يحتاجون إلى العصا ولا إلى اليد التي تمسك بهم. وكنت أنادي أمي أحياناً وأقول لها: «يا أماه، ما هذه التي تُدعى الشموس وما القمر؟» - وعندما كانوا يقولون إن هذا لونه أحمر أو أصفر أو أسود كنت أتساءل: ما معنى هذا؟ وقد جعلني هذا أعتقد أن البصر شيء عظيم ومنحة إلهية ممتازة. فلما سمعت من يسأل: من أخطأ؟ أحسست بخنجر يخترق أحشائي. ولكن السيد الذي سُئل أجاب جواباً أشاع البهجة في نفسي. سمعته يقول للسائل: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيه» (يوحنا 9: 3). قلت في نفسي: «إن هذا إنسان عجيب لم أقابل مثله كل أيام حياتي. لم اسمع طيلة أيامي من يُلقي مثل هذا الإعلان الصالح». ثم سمعته يقول: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ»» (يوحنا 9: 4 و5) يا لو من إنسان عظيم، كما أنه إنسان نبيل. إنه يملك كفايات لا يملكها غيره. إنه لا يدين الآخرين ولا يعيرهم ولكنه يفكر في تقديم يد المعونة لهم. إنه مرسل من كائن عظيم ليقوم بأعمال عظيمة.. ومع أني لم أفهم معنى قوله «أَنَا نُورُ الْعَالَمِ». لكني أدركت أنه لا يساويه شيء!!» .

وما أدري إلا أنه أمسك بيدي، ووضع طيناً في مكان عيني، وأمرني أن أذهب أغتسل في بركة سلوام. لاحظ أيها الغريب أني لم أكن أعرفه، ولكن إجابته لمن سألوا عن سبب ولادتي أعمى، وإعلانه إنني لم أخطئ ولا أخطأ أبواي جعلني أؤمن به، فذهبت إلى البركة. بالطبع طلبت من أمسك بيدي وقادني إلى المكان، ونزل بي إلى حافة البركة. وأستطعت أن أغترف بعض الماء وغسلت الطين. وهنا حدثت أعظم معجزة في حياتي. لا يمكنك أنت يا من ولدت أن تدرك عظمتها. عندما اغتسلت أبصرت. إن كلمة «أبصرت» عندك لا تساوي جزءاً من ألف.. بل جزءاً من مليون مما هي لي. هل أستطيع أن أصف لك معنى كلمة «أبصرت»؟ هل أستطيع أن أقول لك معنى أني أسير بدون عكاز، وإني أرى جمال النور والشمس والقمر والنجوم والماء والشجر والزهر؟ رفعت صوتي وصرخت: «هللويا هللويا هللويا». واجتمع حولي جمهور من الناس وسألوا: «من هذا؟ أليس هو الذي كان أعمى؟» وسمعت البعض يقول إنه هو، وآخرين يقولون إنه يشبهه، فصرخت فيهم: «بل أنا هو. أنا زكريا بن حزقيا البيتلحمي، وُلدت أعمى والآن أبصر، وها أنا أبحث عن ذلك الإنسان.. بل ذلك النبي.. بل لا أعرف ماذا أقول، بل ذلك الإله الذي أجرى معي هذه المعجزة.. آه إني في كل يوم أرى عظمتها، وإذ ذاك أرى عظمته. من هو؟ لا يمكن، كلا. لا يمكن أن يكون مجرد إنسان.. بل ولا مجرد نبي...».

لكن ما لهؤلاء القوم المحيطين بي، إنهم يتهامسون بشيء من الحماسة وبكثير من الحدة. ينبغي أن نأخذه إلى الرؤساء. ينبغي أن يقول الرؤساء رأيهم. إن اليوم هو السبت المقدس، وشفاء الرجل غير جائز في هذا اليوم. كيف لا يكون جائزاً وهو عمل خير؟ واشتدت المناقشة واحتدت، وإذا بهم يجرونني جراً، وإذا بي أقف أمام الرؤساء، فسألوني عما حدث لي، فقلت: صنع طيناً وطلى عينيّ، واغتلت فأبصرت. وإذ ذاك قالوا: «اسمع يا فتى، هذا الإنسان خاطئ لأنه كسر السبت». اهتز قلبي. هل يمكن أن يكون الخالق؟ نعم، فقد خلق عينيّ، هل يمكن أن يكون الخالق خاطئاً؟ ولكني أجبت إجابة فيها كثير من السياسة وكثير من السخرية: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِر» (يوحنا 9: 25). ترى ماذا يستطيعون أن يقولوا أمام العين التي تبصر؟ وهنا قال أحدهم: هل نحن متأكدون أن الشاب كان أعمى حقاً؟ ألا يمكن أن تكون القضية كلها دجلاً واستغفالاً؟ من الذي قال إن هذا الشاب كان أعمى؟ اختلف القوم فاستدعوا أبويّ فاعترفا أني وُلدت أعمى. أما كيف أبصرت أو من فتح عينيّ فهما لا يعلمان شيئاً عن ذلك. كانا يخافان سلطان الفريسيين الذين يبغضون يسوع. الحقيقة أن الأمر اختلط عليّ. لا استطيع أن أذكر بالضبط ترتيب الحوادث. سألوني أولاً عن رأيي في من فتح عينيّ، فقلت: إني أرى أنه نبي.. ولما قالوا لي إنه خاطئ، أجبتهم ذلك الجواب الذي سبق أن ذكرته: «أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا». وسألوا مرة ثالثة: «كيف أبصرت؟» فأجبتهم: «لقد سبق مني الإجابة، أم لعلكم تريدون أن تكونوا تلايمذ له؟» فشتموني وقالوا: «أنت تلميذ ذاك؟ نحن تلاميذ موسى. نحن نعلم أن موسى كلمة الله، وأما هذا فلا نعلم من أين هو؟ لا يمكن أن يكون من الله». فصرخت في وجوههم: «إن في ذلك عجباً. إنكم لستم تعلمون من هو. وقد فتح عينيّ. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة. ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل هذا».

لا أعلم كيف تجاسرت أن أنطق بهذه الكلمات أمام الرؤساء الذين يهابهم كل الشعب، فصرخوا فيّ منتهرين: «من أنت أيها الحقير حتى تتكلم بهذا الكلام الكبير؟ اخرج. اخرج من منطقة إسرائيل. اذهب ملعوناً من الله، ملعوناً من فم الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب. اخرج ملعوناً من الناموس وموسى».طردوني من مجلس القديسين، صرت ملعوناً محروماً، لا يجوز أن يتكلم معي إسرائيلي أو يتعامل معي. ولولا أن البلاد كانت تضم بعض المسافرين وبعض الأمم لمُتّ جوعاً.

على أني لم أعبأ بما عملوه معي، بل كنت مستعداً أن أموت جوعاً من أجل ذلك الذي فتح عينيّ. ليتني أجده. إني لم أقم له بأي واجب، وقد أجرى معي هذه المعجزة العجيبة.

وفيما أنا في حيرة تقدم لي شخص مهيب، كان النور يشع من عينيه. لم أعرفه في أول الأمر، ولكن قلبي على ما يبدو عرفه سألني: «هل طردوك؟»قلت: «نعم يا سيدي، ولكني لم أهتم بذلك. إن من أنقذني أعظم من الناموس، وأعظم منهم، وأعظم من موسى. ليتني أجده». وقال الرجل: «قد وجدته، بل قد وجدك. أتؤمن بابن الله؟». قلت: «نعم نعم فأين أجده؟». وقلت في نفسي: «ليته يكون المتكلم معي». وصدق حدسي إذ قال لي يسوع: «قد رأيته سبق أن رأيته وأنت مغلق عيني الجسد، وها أنت تراه بعينيك المتفوحتين. والذي تسمعه هو هو». وفي الحال وثبت من مكاني وجثوت عند قدميه وقلت: «أؤمن يا سيد. أؤمن يا سيد». وسجدت لابن الله، الله الذي ظهر في الجسد.

وألقى السيد إعلاناً عجيباً وقال: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ» (يوحنا 9: 39). قلت: «دعك مما قاله. أنا أريد أن أذهب إليه أين هو؟». أجاب: «لقد مكث مدة طويلة يحاور اليهود ويحاورونه، ولكنه تركهم وذهب إلى مكان آخر لا أعرفه.. عليك أن تبحث».

تركت المكان مسروراً وحزيناً كعادتي. مسروراً لأني وجدت إلهي، وحزيناً لأني لم أجده.. لم أجده بعين الجسد!!

الفصل التاسع: مجنون كورة الجدريين

سرت في طريقي بدون هدف، وظللت سائراً إلى أن أمسى المساء. وجدت خاناً متواضعاً على جانب الطريق قضيت الليل فيه. وقد تحدث صاحب الخان عن مجنون كان يقيم في الجبال، وأن المعلم الناصري أنقذه فعاد إلى كمال عقله. وقال صاحب الخان أن المجنون الذي شفي - وهو يملك شيئاً من المال - كرّ س حياته للحديث عن الناصري، فهو يجول من أول المنطقة إلىآخرها منادياً المرضى والمساكين أن يذهبوا إلى ذلك الطبيب العظيم.

وسألت صاحب الخان عن هذه المنطقة، فقال إنها منطقة العشر مدن، وهي تقع بالقرب من كورة الجدريين، ويدعوها البعض كورة الجدريين. وقال لي صاحب الخان: «إنك قد تجد الرجل على مقربة من هذا المكان»...

قلت: «ولكن أين ذهب الناصري؟» فأجاب: «من الأسف أن رؤساء البلد طلبوا منه أن يترك كورتهم. فتركها ولا أعلم إلى أين ذهب. وقد علمت أن المجنون أو الأصح أن أقول الذي كان مجنوناً، طلب منه أن يتبعه، ولكن الناصري رفض طلبه وأشار أن يعود إلى أهله ويخبر بما صنع معه الله من الرحمة، فعاد وهو يجول في المنطقة كلها يتحدث بما كان وما صار».

تركت الخان وسرت في الطريق التي أشار عليّ صاحب الخان أن أسلكها. لم أبتعد إلا قليلاً عندما سمعت صوتاً عالياً يقول لجماعة محيطة به: «لا بد أنه المسيح!» فاقتربت منه وتقدمت إليه وقلت: «ترى هل أنت.. هل أنت؟». قال: «نعم أنا مجنون جدرة». قلت: «أرجو...»قال: «لا داعٍ للاعتذار. أنا مجنون جدرة. كنت مجنوناً وكانت الشياطين ساكنة فيّ، وجاء السيد وأخرجها. شكراً لله». قلت: «تُرى هل يمكنك التحدث إليّ بشيء من التفصيل». فأجاب: «إن ذلك يسرني كل السرور. لماذا لا تأتي معي إلى بيتي وهو قريب من هذا المكان؟».

وسرت معه.. كان البيت يحمل طابع الميسرة ولو أنه لم يكن قصراً...

دخلت فاستقبلتني سيدة شابة جميلة، وإلى جانبها فتاة تبدو في العاشرة، وفتى يبلغ الثامنة. كان أثاث البيت ثميناً أنيقاً نظيفاً. جسلنا في صحن البيت، وقدمت الزوجة شيئاً من عصير البرتقال، وقالت: «سيكون طعام الغداء جاهزاً بعد قليل».

وقلت للشاب: «أرجو ألا أكون متطفلاً عليك في طلبي أن تعيد قصة مراحم الله معك». فأجاب: «بل أن ما تطلبه هو المهمة التي كرست حياتي لها».. ثم صمت قليلاً ثم قال

«لقد نشأت في عائلة تعمل في التجارة. أبي كان تاجراً، وجدّي ووالد جدي، وهكذا... فأنا أستلسل من عائلة عملت في التجارة. وقد اقتنينا الكثير من التجارة في الداخل وفي الخارج. كانت تجارتنا تحملها القوافل البرية والسفن. امتدت معاملاتنا إلى سوريا ولبنان... بل امتدت تجارتنا إلى فارس واليونان ومصر.. وأنت تعلم ان شريعتنا لا تُبيح أكل لحم الخنزير، ولكن الأمم يأكلونه. لذلك فكرت أن أضم إلى تجارتي تربية الخنازير والتجارة فيها، فأقمت زرائبها خارج المدينة بالقرب من الجبل عبر بحيرة جنيسارت. وعادت هذه التجارة عليّ بأرباح خيالية.. وعاشرت أصدقاء السوء فشربت الخمر.. وانحدرت. كم جلست زوجتي عند قدمي وبكت وصلت ونصحت، ولكني لم أستمع لها بل أسأت معاملتها.. أسأت إليها بلساني وبيدي. وولداي، ما أكثر ما لقيا مني. ودخل شيطان صغير في قلبي في أول الأمر. كان شيطاناً صغيراً لطيفاً دخل مع الكأس الأولى. كنت أجلس مع الشباب وأشرب قليلاً.. قليلاً جداً.. ودخل شيطان صغير آخر يرافق الشيطان الأول كانوا يدعونه الفكاهات... وجعلت شياطين أخرى تفد تباعاً: الطمع الجشع السكر الظلم.. وظلت الشياطين الشريرة تفد حتى امتلأت بها. إن اسمي ميخا بن حننيا، لكني نسيت الاسم. كان البعض يدعونني سكيراً، وآخرون طماعاً وآخرون خنزيراً. وأنا فعلاً نسيت اسم ميخا. نسيته تماماً. كنت وحشاً طالما أمسكت العصا ونزلت بها على زوجتي وولديّ. وامتد الأمر إلى جيراني وعملائي، بل إلى كل المنطقة. جعلت أمزق ثيابي وأشد شعري وأجرح جسدي. تركت البيت وسكنت في الجبال عارياً أصرخ ليلاً ونهاراً. يدهشك أن تعلم أني كنت أدري بما أفعل، لكني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي عن الأذى لنفسي وللآخرين. وقد حاول أهلي ذوو قرباي في أول الأمر أن يعالجوني ولكنهم فشلوا. استعملوا العقاقير والعلاج النفسي، ومعه الصلوات بل استعملوا الأحجبة وفشلوا. وازداد عدد شياطيني وازدادت إساءاتهم. فعمد أهلي إلى اتقاء شري بأن ربطوني بالحبال، ولكني قطعت الحبال. قيّدوني بالحديد فكسرت الحديد. كنت ليلاً نهاراً أصرخ وأمزق جسدي وأقذف المارين بالأحجار ويا ويل لمن يقع بين يدي، فقد كنت أمزق جسمه شر ممزق. كان العدد العديد من الجبابرة يحاولون أن يخلصوا الضحية من بين يدي، فكنت أقذف بهذا العدد بعيداً. كانت قوتي مروعة. قطعت الطريق أصبحت رعب المنطقة».

وجاءت زوجته في ذلك الوقت لتناول الطعام. ولما جلسنا رفع الرجل صلاة عميقة مؤثرة، وبدأنا نتناول الطعام!!

وقالت الزوجة: «ما أكثر ما بكينا أنا وولداي.. منذ سنتين.. لا، لا.. منذ أربع سنوات. ما أكثر ما بيكنا وما أكثر ما صلينا. وأخيراً سلمنا.. لا فائدة. ومنذ شهور قليلة كنا نطل من النافذة على الطريق المنحدر من الجبل، فأبصرناه قادماً، كان رعبنا عظيماً. سيقتلنا. في المرة الأخيرة أمسك بالسكين وتقدم منا ليذبحنا. لكننا لاحظنا شيئاً أشاع الاطمئنان في قلوبنا.. إنه يسير سيراً متزناً، ويلبس ملابس نظيفة، ويتجه مباشرة إلى باب البيت. وصل إلى الباب ونادى بصوت فرحان: «ماريان. جنفياف. يوئيل، لا تخافوا. هلموا إليّ. لقد خرجت مني كل الشياطين. أخرجها الناصري». تقدمنا منه فوقع على أعناقنا وأخذ يقبلنا ويقبلنا» .

«كنا نتهيأ لتناول طعام العشاء، في الحقيقة لم يأكل، بل أخذ يحدثنا بما حدث معه. ونظن أنك يا ضيفنا العزيز تريد أن تسمع القصة منه.. تكلم يا ميخا.. تكلم» قالت الكلمات الأخيرة وقد امتلأ وجهها بالدموع.

وتكلم ميخا: «رأيت سفينة ترسو في الميناء الصغير، وتهيأت لأقذف من فيها بالأحجار، لكن ما هذا؟ حالما رأيت كبيرهم أحسست أني أمام ملاك سماوي، كلا. بل الله نفسه. عرفت الشياطين الساكنة فيّ شخصية ذلك الإنسان، فصرخت بفمي، وركضت وانطرحت عند قدميه. وقالت الشياطين بفمي: «ما لنا ولك يا يسوع ابن الله. هل جئت قبل الوقت لتلقينا في الهاوية الأبدية؟ أنا أعرف من أنت.. أنت قدوس الله.. أنت ابن الله». ونظر القدوس إليّ بعطف وقال: «ما اسمك؟». وقالت الشيطين بفمي: «اسمي لجئون. إننا فرقة شياطين كبيرة». وقال القدوس: «كلا. ليس اسمك لجئون. اسمك ميخا. أيتها الشياطين اخرجي منه. أنا آمرك أن تخرجي». وإذ ذاك توسلت الشياطين: «لا ترسلنا إلى الهاوية. اسمح لنا أن نحل في الخنازير». وقال السيد: «اخرجي منه واذهبي إلى حيث شئت، بعيداً عنه.. بل إلى الخنازير التي كانت سبب دخولك فيه». وخرجت الشياطين مني ودخلت الخنازير، وإذا بالقطيع كله يندفع إلى الماء ويغرق. وسقطت أنا على الأرض شبه ميت، وقام يسوع وأمسكني بعطف، وخلع جزءاً من ثيابه وألبسني.

جثوت عند قدميه وقلت: «سيدي وإلهي. أنت ربي وأنا عبدك. أشكرك أنك خلصتني من الشياطين القوية الفتاكة التي كانت تعذبني ليلاً ونهاراً».

وهرب الرعاة وأخبروا في المدينة، فجاء أصحاب الخنازير وأبصروني عاقلاً ولابساً وجالساً عند قدمي يسوع، فخافوا. ولم يُسروا لنجاتي مع أن الطريق أصبح آمناً، ولكنهم لم يهتموا بي. اهتموا بالخنازير التي ضاعت. الخنازير النجسة التي كانت سبب تعاستي وتعاسة الكثيرين. طلبوا من السيد أن يترك تخومهم. كنت أنتظر أنهم يطلبون منه أن يبقى لينقذ مئات البائسين أمثالي. ولكنهم حسبوا الخنازير أثمن من الناس. وأخبرني السيد أنه جاء لكي يخلصني ويخلص أمثالي. «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيد» (يوحنا 3: 16) فداء عني وعن الخطاة أمثالي.

سجدت مرة أخرى عند قدميه وقلت: «ربي وإلهي. دعني أتبعك أينما تمضي» فنظر إليّ بعطف وقال: «بل ارجع إلى أهلك.. إلى زوجتك وولديك وحدثهما وحدث كل من لك وكل من تستطيع الوصول إليه بمحبة الله الفائقة المعرفة».

سمعت قصة «اللجئون» فقمت من مكاني وسجدت طويلاً لابن الله.

الفصل العاشر: رئيس يسجد للناصري

أريدأن أراه. إن ما سمعته عنه ملأ قلبي بالإيمان به. لكن أريد أن أراه. حيثما ذهبت يقولون لي: «كان هنا ومضى إلى مكان آخر». وأسمع عن آياته ومعجزاته. جاء رؤساء اليهود إليه يتوسطون لقائد المئة الروماني، لأن وكيل أعماله مريض مرضاً خطيراً، وهو عزيز عنده. وقد بذل كل وسيلة ليقيمه، ولكن مرضه ازداد استفحالاً. وكان قد سمع عن يسوع وآمن أنه هو هو الرب، وهو يطلب من اليهود أن يتوسطوا له. إن يسوع من اليهود، واليهود أقرب إليه منه ويقول اليهود إن الرجل بالرغم من أنه أممي، إلا أنه يستحق المعاونة «لأنه يحب أمتنا وقد بنى لنا المجمع». ويسوع يقول أنا آتي وأشفيه. ويسمع القائد فيرسل ليسوع: «كلا، لا. لا تأت. أنا لست مستحقاً أن تدخل تحت سقفي. أنا أعرف أنك صاحب السلطان الأعلى. كل شيء بأمرك يكون. إني أفهم ذلك لأن لي جنوداً تحت يدي، أصدر أوامري فتُنفذ. لذلك ألتمس أنك تقول كلمة. قل كلمة فيُشفى عبدي».. وقال المسيح الكلمة وشُفي العبد. «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ» (يوحنا 1: 3).

وحدّثوني عن المفلوج الذي حمله أربعة، وإذ لم يستطيعوا أن يصلوا إلى المسيح بسبب الزحام حول الباب صعدوا إلى السقف من السلم الخلفي، ونقبوا السقف ودلوا سرير المريض بحبال. ورأى المسيح إيمانهم فشفى المريض.

وحدثوني عن رئيس المجمع الطيب يايرس، وعن ذهاب يسوع إلى بيته. على أنهم قبلما توغلوا في الحديث أبصروا يايرس سائراً بالقرب منهم فقالوا: «هوذا يايرس نفسه». فركضت نحوه لأشبع فضولي، ورجوته أن يحدثني عن قصته مع الناصري.

واستنار وجه الرجل وقال: «حباً وكرامة. لكن ألا تظن أن الحديث في الطريق غير لائق؟»

قلت: «إني غريب أقيم في الخان، وليس من اللائق أن أدعوك في خان». فقال: «ولماذا تدعوني؟ لماذا لا تأتي معي إلى بيتي؟ إنني أقيم مع زوجتي وابنتي الوحيدة. نعم إن عندنا عدداً كبيراً من العبيد، لكنهم يقيمون في الغرف الملحقة بالمنزل. هلم نكسر الخبز معاً». وذهبت واستقبلتني الزوجة وقد تخطت سن الشباب ولكنها كانت تحتفظ بجمال وقور. وبعد أن رحبت بي نادت ابنتها لتحضر، ثم قالت: «سأقدم لكم شيئاً من العصير، إذ أن وقت تناول الطعام لم يحن بعد»...

وجلسنا أربعتنا. وقال يايرس: «لقد سمعت عنك من كثيرين. عرفت أنك تركت بلادك تبحث عن الله. وأنك جبت بلدان العالم تبحث عنه.. وأنك وجدته في يسوع الناصري ابن الله، وأنك تجول في اليهودية والسامرة والجليل تحاول أن تراه. على أنك أعلنت أنك قد أمنت به. طوبى لم آمنوا ولم يروا...».

«وأنت ترغب أن تسمع قصتي معه.. إنني أرويها لك. في كل كلمة منها تجد شكري وإيماني.. إنني يهودي أؤمن بالله غير المنظور، ومع أني أرى يسوع إنساناً إلا أني إذ أشاهد قواته أؤمن أنه أكثر من مجرد إنسان. إن الله حل فيه. الله لم يره أحد قط ولا يمكن أن يراه، ولكن من الذي خاطبه أبونا إبراهيم بالقول: «أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين 18. 25).ومن هو الملاك الذي كان مع موسى في البرية؟ ومن هو رئيس جند الرب الذي يظهر ليشوع؟»

«عندما رأيت يسوع أولاً رأيت إنساناً، لكن عندما سمعت عن آياته بدأت أفكر... فلما دخل بيتي لم أر إنساناً ولم أر ملاكاً بل رأيت سيداً ورباً»

«أنا يا صديقي يهودي كما قلت لك، على شيء من الثراء ومن الثقافة.. وأنا أهتم بشؤون الدين. وقد اختاروني رئيساً لمجمع أورشليم الشرقية. دعني أقول لك بغير تواضع مفتعل إني كنت على شيء من النفوذ، وإني احتل مقاماً مرموقاً في الأوساط الدينية والسياسية. وقد تأخرت في الزواج، ولم تنجب زوجتي إلا مؤخراً. كانت زوجتي شابة جميلة من أسرة كبيرة. مات بعض أطفالنا بعد أيام من ولادتهم، ثم جاءت ساراي.. ولم يأت بعدها أطفال، كانت ساراي بهجة البيت. كانت حالما تستيقظ ترسل أناشيدها في الجو، ثم تقفز من فراشها وتسرع إلى غرفتي وتحيط وجهي بذراعيها الصغيرتين وتغمرني بعشرات القبلات، ثم تتركني وتذهب لأمها وهي تملأ الجو بصيحات المرح. كانت حياتنا بها جزءاً من النعيم. وفي أحد الأيام استيقظت مبكراً وأصغيت أسمع في غرفة مكتبي صيحات المرح، منتظراً القبلات الحلوة.. ولكن انتظاري طال. ولم تأت زوجتي لتدعوني إلى مائدة الإفطار. فقمت واتجهت إلى غرفة ساراي فوجدتها في فراشها، وأمها إلى جانبها تتحسس وجهها ورأسها. حاولت المسكينة أن تبتسم فجاءت ابتسامتها زفرة، وطفرت الدموع من عينيها. ملت على وجهها لأقبلها فأحسست أن وجهها جمر نار. قالت زوجتي إنها لم تشأ ان تزعجني فلم تخبرني. بدأت الأبنة تشكو من الصباح باكراً.. ولم تتناول في العشاء إلا القليل. قلت: «كان يجب أن أعرف لأرسل إلى الطبيب». فقالت: لقد أرسلت إلى طبيبنا الخاص، وأعتقد أنه سيكون هنا بعد لحظات» .

وجاء الطبيب وجاء بعده طبيب آخر.. وآخر.. وأخر. دعونا الطبيت الخاص برئيس الكهنة، بل دعونا طبيب الوالي الروماني، وحاولوا جهدهم أن يخفضوا درجة الحرارة ولكنهم فشلوا. هذا والطفلة تئن أنيناً مؤلماً، ووجهها تكسوه حمرة، كان أشبه بجمر نار.

وقفت أشبه بمجنون.. ماذا أعمل؟ دعوت الكهنة.. بل دعوت الدجالين. ابنتي.. ابنتي الحيدة تموت. إني أضع كل أموالي فداء عنها. لم يفلح الأطباء اليهود واليونانيون والفارسيون والرومان. كلهم وقفوا عاجزين.

وتقدم مني أحد العبيد وقال متردداً: «أرجو ألا يغضب سيدي مني. لماذا لا تتصل بيسوع الناصري؟ أنا أعرفه، فقد شفى ابن عمي المفلوج. شفاه بكلمة».

كنت قد سمعت عن الناصري وعما قام به من آيات، وكنت أعتقد أنه صالح. لم أكن أتفق في الرأي مع الرؤساء، ولكني لم أجسر أن أجاهر برأيي أمامهم. أما والأمر يختص بابنتي الوحيدة، فإني طرحت كل جبن وقمت راكضاً إلى الخارج. وكان العبد الذي تكلم معي يعرف بعض تلاميذ المعلم، فسرنا إليه وهذا سار معنا إلى حيث كان المعلم جالساً يعلم الجمهور عن الآب السماوي...

ورأيته للمرة الأولى، كانت الصورة التي قدمها الرؤساء لي تختلف كل الاختلاف عن صورته الحقيقية. قلت لك إني رأيت لا مجرد إنسان، لا أميراً ولا ملكاً، بل ملاكاً لا. لا. رأيت سيداً ورباً.

اقتربت منه و إذا بي، بدون وعي مني، سجدت عند قدميه. ولم يمنعني من السجود. كان السجود له عبادة مقبولة.. قلت: «يا سيدي، ابنتي تلفظ أنفاسها الأخيرة.. بل لعلها ماتت الآن. هلا جئت لتضع يدك عليها.. فتحيا». ونظر الرئيس إليّ وقال: «أنت ترى إني كنت أعتقد أن ابنتي ماتت، وأني طلبت من الناصري أن يأتي لا ليشفيها بل ليقيمها من الموت». ثم مضى الرئيس يقول: «وقام السيد معي، وقام بطرس الذي كان يقف بجانبي، وقام الجمهور كله، سرنا. بالطبع كنا نسير بمنتهى البطئ. فحاولت أن أدفع بطرس ليقنع الناصري أن يسير بسرعة.. لكن ذلك كان مستحيلاً، لأن الجمهور كان يتزايد في كل خطوة يخطوها.»

ولك أن تتصور حالتي وأنا أسير بسرعة إلى جانبه. كانت نار تشتعل في قلبي. إن ابنتي ماتت. إن ابنتي تلفظ آخر أنفساها. ماتت. لا تزال حية. ولكنها على حافة الموت. هكذا كنت أحدث نفسي. وبغتة وجدت الجمهور يقف لأن المعلم الناصري وقف. وقف يسأل: «من لمسني؟» كان بطرس إلى جانبي، وكان يلاحظ تعبيرات وجهي، فقال للسيد: «يا معلم ما هذا الذي تقوله؟ إن عشرات الأيدي تلمسك بل تدفعك وبعد ذلك تسأل: من لمسني؟» وإذا بالمعلم يقول: «إنا لمسة خاصة، فإن قوة خرجت مني».

وعندها أدركت أن المعجزات التي كان الناصري يجريها كانت تكلفه كثيراً. إنها ليست رخيصة كما كنت أظن. والتفت حوله يبحث عمن لمسه، وإذا امرأة تتقدم إليه وتقول: «غفرانك يا سيدي. أنا المرأة النجسة، وقد لمست ثوبك الطاهر - أما لماذا فعلت هذا فسببه أنني منذ اثنتي عشرة سنة أُصبت بنزيف حاد، ربما كان بسبب أورام خبيثة. وذهبت إلى أطباء كثيرين وأنفقت أموالاً طائلة. تقريباً أفلست. أخذت عقاقير حامضة ومرة ولا طعم لها. وأُجريت لي عمليات بعد عمليات. أخذ الأطباء كل مالي. أفلست تقريباً، ولم أستفد شيئاً، بل صرت إلى حال أردأ. وسمعت عنك يا سيدي أنك أتيت من عند الله لتشفي المرضى وتخرج الشياطين وتقيم الموتى لأنك لست نبياً فقط. إنك ابن الله. أنت الله الذي ظهر في الجسد. لكن كيف آتي إليك، وطقوس شريعة موسى تحكم إني امرأة نجسة لأني نازفة الدم، ونجاستي مستمرة؟ فإذا استطعت أن أخبئ نجاستي تحت ثيابي فإن قوتي لا تسعفني لشق الطريق إليك. رباه، قلت في نفسي: رباه إني تعيسة وشقية. سأحاول أن ألمس طرف ثوب يسوع، لأني إذا لمست طرف ثيابك شفيت. وهذا ما حدث يا سيدي لقد شفيت. توقف النزيف. ولكني أخطأت يا سيدي. كنت نجسة يا سيدي ولمست ثيابك الطاهرة». ونظر السيد إليها بعطف وقال: «اطمئني. إيمانك شفاك اذهبي بسلام وكوني صحيحة من دائك». سمعت هذه الكلمات يا صديقي نوستراداميس فهتفت بسرور: «اثنتا عشرة سنة وهي تنزف. عمر ابنتي.. إذن يمكن أن يشفي ابنتي».

قلت هذه الكلمات على أني قبل أن أنتهي من حديثي لنفسي اقترب مني بعض أهلي ومعهم بعض العبيد، وقد تجلى الحزن على وجوههم، فقلت: هل؟ ولم أجسر أن أقول «ماتت». ولكنهم هزوا رؤوسهم وقالوا: «لا تتعب المعلم».

كدت أسقط على الأرض لولا أن يد السيد امتدت إليّ، وقال بصوت عميق: «لا تخف. آمن فقط فهي تُشفى». ويدهشك أن تعلم أني هدأت ووثقت.

ووصلنا إلى البيت، ورأيت النساء يلطمن وامرأتي تكاد تقتل نفسها حزناً. وحالما رأتني أمسكت بي وقالت: «ماتت ماتت». رأيت النائحات يرسلن «أغانيهن» المحزنة فتشعل لهيب الحزن في أقسى القلوب. نظر السيد إليهن وهو يعلم أنهن أجيرات يعملن على إشعال نار الحزن في الأم المسكينة، فقال لهن: «اصمتن.. اسكتن.. لم تمت الصبية ولكنها نائمة». فانقلبت النسوة ساخرات. ألا نعرف نحن الفرق بين الموت والنوم؟ لقد أغمضن عينيها ووضعن اللثام على فمها. لقد ماتت وشبعت موتاً. ولكن السيد أمر بطردهن من المكان، وبقيت أنا وزوجتي والسيد وحدنا. وتقدم السيد إليها ورفع عينيه إلى فوق وتكلم. ورأيت أنا ابنتي وقد تصلب عودها. يبدو أنا ماتت من عدة ساعات.. ونظر السيد إليّ بعطف وقال: «آمن فقط». ثم تقدم من الجثة وأمسك بيد الابنة الحبيبة وقال: «يا صبية قومي». وإذا بالصبية تفتح عينيها وتزيح اللثام عن فمها وتبدأ تتثاءب وتتحرك، ثم تقوم. ويدهشك أنها لم تقترب مني أو من أمها، بل وثبت نحو السيد وأمسكت بيديه وجعلت تقبلهما، وهي تقول: «لقد رأيتك يا سيدي في نومي، يا سيدي يا إلهي».

والتفت إلينا وقبلتنا وقالت: «اسجدوا له. اسجدوا لإلهي وربي». وسجدنا وبكينا وضحكنا...

وإذا بالسيد ينفلت من أيدنا ويخرج من دارنا.. ولا نعلم أين ذهب.

والآن أيها الصديق نخبرك أننا عرفناه. عرفنا أنه يسوع المسيح ابن الله مخلص العالم. ومن ذلك اليوم جعلت أنادي أن المعلم الناصري هو المسيح الذي كتبت عنه النبوات. هو المسيح ابن الله، حمل الله الذي يرفع خيطة العالم.

لا أفهم بعد كيف ذلك، ولكن أؤمن.

وقمت من مكاني أنا نوستراداميس وأنا أحس بمزيج من الفرح والألم. إني مسرور أني وجدت الله، ولكني حزين لأني أصل على الدوام متأخراً. لو أنني جئت قبل اليوم لرأيت، ولكني سأبحث عنه، وسأراه. نعم سأراه بعينيّ كما رأيته بقلبي.

الفصل الحادي عشر: مع كبير العشارين

قابلت في اليهودية طوائف عدة. كانت كل طائفة تعيش في شبه عزلة عن الطوائف الأخرى. كان رئيس الكهنة وعدد من ذوي الشأن ينتسبون إلى طائفة تُدعى «الصدوقيين» قيل إنهم أتباع زعيم كبير يُدعى صادوق، وكانت طائفة مثقفة متحررة تنتسب للدين ولكنها لا تتمسك بالكثير مما يعتبره غيرهم أساساً في الدين. كانوا يتمسكون بكتب موسى ولكنهم ينكرون الجانب الأكبر من باقي الكتب. لا يؤمنون بالبعث أو الحياة الأخرى أو الملائكة. إن الحياة لهم هي الأيام التي يعيشونها، والخلود يقوم ببقاء الاسم في أبنائهم وأحفادهم وهكذا.

أما الطائفة الكبرى الثانية فهي الفريسية، وهي الطائفة المحافظة المتمسكة بكل الكتب المقدسة وكتب التقاليد. وكانت تحتقر الشعب الجاهل، وتقاوم الاستعمار في كل صورة. وقد برز منهم رجال عظماء كان لهم اسم في تاريخ الأمة!

والطائفتان كانتا تتناوئان يسوع الناصري لأنه كان يهتم بالشعب ويقدم التعاليم السامية، وقد كشف نفاق ورياء الطائفتين كما وبخ كبرياءهما.

والطائفة الثالثة العشارون، وهم بقية منبوذة تعاونت مع الأجنبي وانحدرت في أخلاقياتها حتى لم تجد من يقبل التعاون معها إلا أحط طبقات الشعب. وقد سمعت أن المعلم الناصري اهتم بهذه الطبقة اهتماماً خاصاً، وأعلن أن الله يهتم بهؤلاء، وأن الآب السماوي لم يرسله للأبرار بل للخطاة ليخلصهم ويأتي بهم إلى التوبة. لذلك كان المعلم الناصري يجلس مع هؤلاء العشارين الخطاة الذين نبذهم المجتمع، وكان يرفع من معنوياتهم ويؤكد لهم أن الله أبوهم السماوي وهو يحبهم. ربما كان يحبهم أكثر من غيرهم، فهم الخروف الضال الذي يترك الراعي التسعة والتسعين في البرية ليفتش عنه. وهم الدرهم المفقود الذي تقلب المرأة كل البيت من أجله. وهم الابن الراجع الذي يفرح أبوه بعودته أكثر من أي شخص آخر.

لم يكن من الصعب عليّ أن أصل إلى أفراد من هذه الطبقة. كان بعضهم من كبار الأغنياء لكنهم برغم ثرائهم لم يقابلوا حتى من عامة الشعب إلا بالاحتقار. وقد انتهز الرومان هذه الفرصة فشغلوا هؤلاء العشارين في جباية الجزية، إذ لم يقبل أحد المواطنين الأحرار أن يفعل ذلك!

وقد قابلت من هذه الطائفة رجلاً يُدعى لاوي بن حلفي. كان جابياً ولكن المعلم الناصري دعاه فترك الجباية وتبعه، وصار أحد تلاميذه الخصوصيين.

كان للناصري تلاميذ كثيرون لكن سبعين منهم كانوا من خاصة التلاميذ، واثنا عشر كانوا من خاصة الخاصة، وكان لاوي أحد هؤلاء الاثني عشر. وقد أردت أن أتحدث إليه، لكنه أخبرني أنه مكلف بمهمة عاجلة، وقال لي: «سأرسلك إلى صديق حبيب كان زميلاً لي في العمل. اذهب إلى مدينة أريحا واسأل هناك عن رئيس العشارين زكا». وذهبت للتو إلى أريحا وقد عجبت أن كل السكان يعرفونه. بل لاحظت أنهم لا يتكلمون عنه باحتقار أو بكراهة كما تعودت أن ألاحظ ذلك من الناس وهم يتكلمون عن العشارين!

وصلت إلى بيت زكا وطرقت الباب، ففتحت شابة صغيرة اسمها حنة، قالت إن أمها راحيل في البيت، أما أبوها فسيأتي بعد قليل. نادت أمها فجاءت امرأة حلوة لا تزال تحمل جانباً من الشباب، وقالت إن زوجها لن يتأخر. فإذا قبل ضيفنا أن يستريح قليلاً لأقدم له شيئاً من شراب الليمون ينيلنا بركة إلهنا. وقد علّمنا سيدنا أن من يقدم كأس ماء بارد لعطشان لن يضيع أجره!

قلت إني أشكر للسيدة تفضلها، وأخبترها أني أتيت لأسمع شيئاً أكثر عن هذا السيد، بعد أن قضيت سنين طويلة أبحث عنه!

قالت: «كنت أود أنك جئت من عشرة أيام، فقد كان هنا في أريحا، وقضى ليلة كاملة في بيتنا المتواضع هذا». وثبت في مكاني وقلت: «قضى ليلة كاملة هنا؟ ماذا أقول في حظي التعس؟ أصل متأخراً عدة أيام. على أنه يعزيني أن أسمع قصته من زوجك الفاضل زكا»!

وقبل أن أكمل حديثي دخل رجل قصير القامة لكنه مهيب الطلعة، وقال: «مرحباً بالضيف الكريم. أية ريح طيبة جاءت بك إلى بيت العشار المسكين؟» قلت: «شكراً لله وللسيد لاوي بن حلفي، فقد أرسلني للسيد زكا كبير الجباة في أريحا لأسمع منه عن المعجزة التي اجراها الناصري فيه. بل قال لي ليته يتحدث عن حياته السابقة..» وقال زكا: «لماذا لا تكمل فتقول كعشار؟» ثم مضى يقول: «لكن الحديث سيطول يا صديقي، فإذا قبلت أن تبيت الليلة في بيت العشار فسأخبرك بالمعجزة التي لا يمكن أن يجريها إلا الله نفسه. نعم لقد آمنت أن الناصري هو الله الذي ظهر في الجسد».

جلسنا إلى مائدة قدموا لنا فيها أفخر الطعام وأطيب الشراب.. أكلنا وشربنا وشكرنا الله...

وجلسنا - جلس زكا على مقعده الذي اعتاد أن يجلس عليه، وجسلت مقابله وجلست راحيل الزوجة وحنة الابنة الوحيدة إلى يمين زكا. وبدأ حديثه فقال:

«أنا زكا بن عميهود، وقد كان أبي من كبار رجال الحاشية في قصر كبير الأحبار. كنت شاباً مدللاً. وقد صادقت عدداا من الشبات العابث، فلهونا وعبثنا وأتينا المنكرات. ولا داعي أن أذكر لك ما جعلني أترك بيت أبي.. إنها تذكارات مؤلمة.. وأنا أذكر تلك الليلة المروعةفي شهر كانون الثاني عندما تركت بيت أبي. لم يكن معي درهم واحد. بتّ الليلة في العراء. طلبت كسرة خبز فكشروا في وجهي. طرحوا الخبز للكلاب ولم يعطوني. تركوني أبيت في الطل. لا أزال أذكر تلك لليلة التي تقابلت فيها مع ياشيب وألناثان ومتوشالح في ركن الأقذار. كان كلٌ منا يبحث عن شيء يمكن أن يؤكل. يومها لم نجد إلا جثة حمار، فنهشناها. قصدنا بيت الله نرجو أن نجد عوناً عند بعض أبناء الله الذين يقولون إنه أبو الرحمة، ولكنهم طردونا كما لو كنا وحوشاً. يومها وقفنا وعاهدنا السماء - كلا. فإننا يومها لم نكن نؤمن بالسماء، تعاهدنا على أن ننتقم ممن يُدعون بشراً شر انتقام - وقد انتقمنا. ما أكثر البيوت العالية العمد التي دككناها، وما أكثر الأغنياء المترفين الذين «لحّسناهم» التراب. ما أكثر الأبناء المنعمين الذين جعلناهم يطوفون الشوارع كالكلاب الضالة. ما أكثر الأنوف التي كانت شامخة فجعلناها تنخفض إلى الوحل. أيها الصديق لم أشبع من الانتقام. ظلت نفسي عطشى. كنت أتمنى أن أعطي السلطان أن أقبض على رؤوس سكان أريحا كلهم، وخصوصاً أولئك الفريسيين المنتفخين، وأضعها في الطين، وأضع قدمي على أعناقهم. أو كم كنت أبغضهم. كانت رؤية آلام الناس أقصى رغائبي، كان قلبي يمتلئ غبطة وأنا أرى الجوع والعري والضرب والزج في السجون والقتل نصيب تلك المخلوقات الكريهة التي تُدعى الناس. لم أكن أقبل بين من يعملون تحت إدراتي إلا ذوي القلوب الحجرية. وعندما كنت أسمع أن أحد العاملين معي قد شرد العائلات ومزقهم شر ممزق، أهنئه وأزيد له دائرة عمله...»

«كم حاولت زوجتي أن تلين من قلبي هي وابنتي حنة. حاولت الاثنتان أن توجهاني إلى الله وإلى الدين. كنت أحب زوجتي وابنتي كل الحب. كانتا كل حياتي ولذلك كنت أطيل أناتي عليهما وهما تنتقدان تصرفاتي. قلت لزوجتي: لا تذكري الله ولا تذكري الدين - أما الإنسانية فأنا أجحدها. هل توجد إنسانية؟ لقد وقفت أنا وأصدقائي أمام زعماء الإنسانية وأمام رجال الله، وقفنا نطلب كسرة خبز نتبلّغ بها وخرقة تستر عورتنا فطردونا طرد الكلاب... لا. فقد عاملوا الكلاب بالرحمة. قدموا لها ما لم يقدموه لنا. قلت لها إنهم هكذا إلى اليوم، أي بعد أن اصبحنا في غنى عن مساعدتهم التي يقدمونها. فقالت لي: ماذا يقول الناس عنا؟ أجبتها إنهم إلى اليوم عندما يرون زوجك يبصقون على الأرض، ويلتفتون إلى جهة أخرى ويتحدثون بعضهم مع بعض عن «العشار» الملعون. ولوا أنهم في حاجة إلينا لما سمحوا لنا أن نبقى في المكان. إنهم يستكثرون علينا استنشاق الهواء الذي يملأ الأرض - وفي الهيكل حيث يقولون إنهم يعبدون الله هل يسمحون لنا أن نعبد معهم إذا ما أُصبنا بالغباء وعبدنا. نحن كلاب بالنسبة لهم. هل تسمعين يا ناصرة الإنسانية، يا أم حنة؟ هل تسمعين؟» .

وقد حاولت راحيل معي أن تفتح عيني إلى قوة أقوى من الانتقام. حاولت أن تفتح قلبي للحب.. حاولت أن تكشف لي قوة الحب.. علِمت فيما بعد أنها سمعت بعض تعاليم الناصري، وقد ذكرت لي أن المعلم الناصري، يكرز برسالة الحب. هو نفسه أحب العشارين والمنبوذين وقال إن الناموس يُلخص في كلمتين: تحب الرب وتحب الإنسان. رددت لي كلمات، قالت إن المعلم الجديد ألقاها لتلاميذه وآخرين وهو جالس على قمة من قمم جبل الشيخ، فنهرتها بشدة ودفعتها بعيداً عني بعنف. لا شك أن المعلم الناصري لا يمكن أن يصبح زعيماً مصلحاً. ستفشل رسالته. لن يصلح العالم إلا القوة، فالدنيا للأقوياء، والنجاح للأقويا، ولا مكان لضعيف.

هذا ما كنت يا صديقي قبل أن أرى النصاري - وهذا ما ختمت به سهرتي بعد حديث زوجتي.

ذهبت إلى فراشي وجاء الصباح يا صديقي، وكان صباحاً مكفهراً بدت آثاره على وجهي. كان صدري طول الليل مسرحاً لصراع جبار بين كلمات زوجتي وعهدي، بين المحبة والبغضة، بين الصفح والانتقام. كنت قد لطمت امرأتي بالأمس ولطمت معها المحبة الضعيفة، ولكني لم أستطع أن أتخلص من آثارها، فقد غرست جذورها في قلبي وعمقتها حاولت بعزيمة جبارة أن أمزق صدري لأقتتطع هذه الجذور اللعينة. سال دمي من صدري ومن وجهي في هذا الصراع المرير. ولقد غضبت على نفسي حتى تمنيت لها الموت. كنت عنيفاً في صراعي. ناديت: «أيها الناصري، هلم إليّ وأنا أريك القوة الساحقة». قلت ذلك وهززت يدي مهدداً.

يا للسخرية! جاء يسوع إلى أريحا. رأيت الجماهير تركض لتلاقيه في الطريق. كنت أظن أني لا أهتم به. بل كنت أظن أني سألاقيه كما يلاقي الخصم الكريه.. ولكني لا أعلم ماذا أقول لك يا صديقي. أحسست أن قلبي يضطرب كجبل يهتز من زلزال. أين هو ذلك الذي قلبت تعاليمه جبال التقاليد؟ ورأيتني يا صديقي أدفع نفسي وسط الجمهور وأقف على أطراف أصابعي لعلي أراه. ولكني لم أبصر شيئاً. فلما أعيتني الحِيل أبصرت على مبعدة إلى جانب الطريق الذي سيمر منه شجرة جميز مرتفعة، ولكني أحسست أني لن أصل إليها إلا بعد أن يكون الموكب قد مرّ. فركضت.. ولما أبصرني الجمهور أركض سخروا مني سخرية لا حد لها. انهالت التلعيقات اللاذعة وسمعت بين ما سمعت: «انظروا العشار الملعون. لقد أُصيب بلوثة حادة.. هذا هو الجنون بعنيه. يا ضيعة وقار العمامة! ليس للعشار إلا هذا المصير!».

ولكني لم أهتم لذلك يا صديقي، بل أن بعض الاولاد جعلوا يرشقون الحجارة نحوي وهم يصرخون: العشار.. العشار.

ووصلت إلى الجميزة مقطوع الأنفاس وصعدت عليها. وبعد قليل أقبل الموكب ورفع الجمهور وجهه نحوي. فأبصرت عيوناً محمرة تمثلت فيها الكراهية وتجسم فيها الحقد. ابتسم البعض باحتقار. ,خرجت شتائم من البعض الآخر، وبصق بعضهم على الأرض. على أن عينيّ لم تتجه إلى الجمهور، ولم يشغل بالي شيء سوى النظر إلى ذلك الرجل الذي زلزل وجوده مدنية أريحا. فماذا رأيت؟ رأيت رجلاً مهيب الطلعة جميل التقاطيع دقيق الأنف مطبق الشفتين، وقد امتد شعره الجميل خلف رأسه. وكانت لحيته الشقراء تزيده بهاء. على أني رأيته محني الرأس، وقد نزلت قطرات من الدموع على وجهه. وأحسست أني أرى شخصاً يحمل آلام الكون على عاتقه، فأشفقت عليه. ونبض قلبي نبضات العطف التي لم يسبق أن اختبرت شيئاً منها!

ووصل يسوع إلى شجرة الجميز. ورفع وجهه نحوي فأبصرت في عينيه عالماً من الحب لم أدرك حدوده وبحراً من الحنان لم أصل إلى عمق أغواره. أبصرت في عينيه نيراناً أرسلت لهيبها إلى قلبي. ومع أنها كانت نيراناً قاسية إلا أني استشعرت لها لذة وحلاوة لم أذق نظيرها في كل حياتي!

وحدثت المعجزة. أذابت تلك النار كل كراهية وحقد في نفسي، بل أذابت كل ما استقر في نفسي من شر. فلم أعد أرى أمامي أعداء أبغضهم، أو أتمنى لهم الشر، وإنما أبصرت إخوة مساكين أحببتهم وأشفقت عليهم. أما هو فلم أستطع إلا أن أعبده. وبينما أنا في عالمي العلوي هذا سمعته يقول: «يا زكا». يا للآية! هل يدعوني أحد باسمي؟ لقد فقدت ذلك الاسم منذ أزيد من ثلاثين عاماً - حتى أهلي توقفوا عن أن يدعوني به.. ما عدت أنادى إلا بالعشار الخاطئ الملعون. ولكن هوذا يناديني يا زكا. وقد كرر النداء: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لوقا 19: 5).

وثبت من الشجرة إلى الأرض وأنا أهتف: «لقد آمنت بالحب». كنت أظن أني أصرخ، ولكن صوت يلم يخرج إلا همساً. وركضت إلى البيت ودفعت الباب بعنف وصرخت في زوجتي: «اسرعي اسرعي، إن يسوع قادم إلى هذا المكان». وارتاعت امرأتي وظنت أني سأقتل الرجل. فقلت لها: «أسرعي وأعدي طعاماً لأكبر عدد. اسرعي». وأسرعت زوجتي وأمرت الخدم بإعداد طعام كافٍ. وفيما هم يجهزون الموائد دخل المعلم الناصري بيتي. ,قد تذمر «الأبرار» وقالوا: كيف يدخل المعلم ليأكل عند رجل خاطئ؟ ولكني لم أسمع شيئاً. كنت أتطلع إليه. وكان كلما نظر إليّ خرجت مني الشياطين التي طالما عششت في صدري. خرج البغض والحقد والطمع ومحبة الذات والخبث ومحبة المال. وحل محل الشياطين ملائكة الحب والصفح وإنكار الذات والقناعة ومحبة الله والإخلاص. بل حل نفس السيد في قلبي. تلاشى العالم كله من أمامي، وأصبحت لا أبصر شيئاً إلا هو. كان هو لي كل شيء. ونظرت حولي إلى الفقراء والمساكين فذاب قلبي لبؤسهم، وقلت: «أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ» (لوقا 19: 8). وتأملت في حياتي الآثمة، وأبصرت المظالم التي أتيتها، قلت: «وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ» (لوقا 19: 8)

نظر إليّ البعض غير مصدقين. ظنوا أنها فورة عاطفة مؤقتة، ولكني أعطيت الوثائق اللازمة وأصدرت الأمر ممهوراً بخاتمي لوكيل أعمالي، وحينئذ زاد انذهال القوم حتى بلغ أقصاه. ولكن السيد التفت إلى القوم وقال: ما بالكم مندهشين؟ ليس هذا زكا القديم محب المال القاسي، بل هذا زكا آخر الذي خلص من خطاياه، فصار زكان الجديد، زكا المنكر للذات محب الله الرقيق القلب نعم «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا 19: 9).

كنت قد نلت الخلاص يا صديقي قبل أن أنطق بكلامي، ولكن إعلان السيد ثبّت إيماني وملأني بفرح لا يُنطق به ومجيد. نعم إني فقدت الجانب الأكبر من أموالي. لكن ما هي الأموال، بل ما هي الحياة بإزاء اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن التي نلتها. أنا الىوم يا صديقي أسعد إنسان في الوجود أحببت كل شخص وكل شيء. ورأيت أني أعيش في نعيم لا يفوقه نعيم. ونسيت الإساءات التي أصابتني، ولم أرها إلا أوسمة. لقد وجدت الله.. بل وجدني الله. شكراً له، نعم شكراً لله.

ونظر زكا إليّ وقال: «هذه هي قصتي يا صديقي.. كان السيد طول الوقت يبحث عني ويناديني، ولكني كنت لا أسمع. كان قلبي منغلقاً.. والآن.. والآن أنا سعيد، فقد وجدت الله الذي كله قلب».

ونظرت إلى زكا، وأبصرت السعادة تتجلى بوضوح في وجهه فهنأته وقلت له: «أما أنا يا صديقي فقد كنت أظن أني خرجت أبحث عن الله، ولكني علمت أنه كان طول الوقت يبحث عني وقد وجدني، وآمنت به، ولكني مشتاق كل الشوق أن أراه بعيني كما قد رأيته بقلبي. أرجو أن تصلي معي أني أصل إليه قبل أن تنتهي حياتي على الأرض!».

الفصل الثاني عشر: أصدقاء وخصوم

قضيت الليل في بيت زكا. نمت على سرير مريح في غرفة الضيوف، وأصر زكان أن ينام على سرير مقابلي. تمددنا على الفراش ولكننا لم نستغرق في النعاس إلا قرب الفجر. كان يحدثني عن الناصري وعن آياته وتعاليمه. كان يؤكد لي أنه هو هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء. وهو الذي كان يشتهي القديسون أن يروه. هو انتظار الشعب ورجاؤهم. قلت: «لكني لاحظت أن كثيرين يقاومونه». أجاب: «أنا أعلم ذلك. إنهم لم يعرفوه.. كنا ننتظر مسيحاً ملكاً له جند وأسلحة يأتي فيجلس على عرشه ويسحق قوات العدو، ولكنه جاء وديعاً ومتواضعاً. على أن الذين راقبوه جيداً أدركوا أنه السيد حقاً، وأنه يملك أعظم قوة في الأكوان. لقد هزمتني محبته وسحقتني سحقاً. ومع أني لا أفهم بعد كل شيء فإني أتأمل في إعلانه أنه سيموت، وأن الرؤساء سيقتلونه - وأنه سيقوم. إني أتأمل في هذا الإعلان الذي كرره أمام بعض أخصائه وأسأل عن معناه، كما أسأل عن معنى موته وقيامته. إن هناك أشياء غامضة تحيط به. فأنت تراه إنساناً كسائر الناس يأكل ويشرب وينام ويجوع ويتعب ويحزن ويتألم، ولكنك إذ تتبعه تكتشف أنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان. وهل يمكن لإنسان أن يتسلط على المرض والبرص والريح والهواء والموت؟ إنني قد تابعت ما قام به أوافق الكثيرين الذين تساءلوا: من هو هذا؟ ومع أني لا أفهم تماماً معنى أنه: الله ظهر في الجسد. إلا أني سجدت له على اعتبار أنه هو الله. على الأقل هو الملاك الذي ظهر في البرية لموسى، والذي أعلن عن نفسه: أنا الرب إلهك. وأنا لا أريد أن أتوغل في الحديث. يكفي أن أؤمن بقلبي ولو لم أفهم تماماً بذهني. وأنا أفهم أن محبته أذابت قلبي وطردت خطيتي. ومع أني لم أفهم معنى موته كفارة عن خطايا العالم، إلا أني لا أتعب نفسي في البحث والتدقيق. يكفي أن أقول إني مؤمن بما قاله الملاك للرعاة: «وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 11)

لكن الفريسيين أبغضوه لأنه كشف رياءهم. وهم جماعة متكبرة تطلب أن الناس تمجدهم وتحييهم. تطلب الأماكن الأولى في المجالس والتحيات في الأسواق، وتحتقر الشعب والعشارين. وجاء الناصري يحب العشارين والخطاة ويجلس معهم على الأرض، لا كما يفعل المراؤون، ويعلن أن الله آب سماوي لجميع الناس، وأنه أرسل ابنه ليخلص الخطاة، وقال: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى» (متّى 9: 12). وقال إن الله يهتم بهؤلاء أكثر مما يهتم بالأبرار الذين لا يحتاجون إلى التوبة. وأنه نظير الراعي الأمين يترك القطيع كله ليبحث عن الخروف الضال. من أجل هذا أبغضوه!

على أن البعض ممن عرفوه أحبوه وأعلنوا ولاءهم له. فقد سمعت أن نيقوديموس ويوسف الرامي ويايرس من زعماء الفريسيين اعترفوا بأنه نبي، وقد سمعت أن الكاتب لعازر وبيته يحبون السيد،ويكرمونه وأن بيت عنيا مفتوح له...

قلت: «لقد سبق لي أن جلست مع نيقوديموس ومع يايرس. لم أتعرف بعد بيوسف الرامي مع أني سمعت عنه. على أن اسم الكاتب لعازر غريب على أذني».

قال: «لعازر من طائفة الفريسيين الممتازين. هو من خلفاء عزرا الكاتب ولكنه صنف ممتاز.. ممتاز جداً. يكون من حسن حظك أن تتعرف إليه. إنه يعيش مع أختيه مرثا ومريم. وقد بلغني أنه كان في العائلة شخص آخر اسمه سمعان، وقد أُصيب بالبرص، فهو يعيش في محلة البُرص. لا أعلم هل هن زوج مرثا أو أبوها.. أنصحك أن تذهب إلى بيت عنيا وتسأل أي واحد في الطريق عن بيت لعازر الكاتب أو مرثا أو مريم، بل يمكنك أن تسأل عن بيت سمعان الأبرص. إنه بيت كبير جداً يمكنه أن يستضيف أزيد من خمسين شخصاً في وقت واحد لعدة أيام»

شكرت زكا، وخرجت ميمماً بيت عنيا. يظهر أني ضللت الطريق، فلم أصل إليها إلا بعد الغروب بوقت، فوجدت الجميع في بيوتهم، والظلام يعم المكان. لم أجد فرداً واحداً في الطريق لأسأله عن بيت لعازر الكاتب. وظللت أسير في الشارع الكبير، وفي مواجهتي رأيت بيتاً كبيراً يظهر شيء من الضوء في نافذة مرتفعة منه، فتجاسرت وطرق الباب. وإذا بصوت من الداخل يقول: «من يطرق الباب؟» أجبت: «غريب يرغب أن يهتدي إلى بيت لعازر الكاتب». وكان الجواب أن هذا الباب بابه. وإذ ذاك سمعت حواراً بين من سأل وبعض من في الدار. لم يمض إلا القليل حتى سمعت صوتاً حلواً يقول: «مرحباً بالضيف الكريم... جئت أهلاً ونزلت سهلاً. أعدوا العشاء للضيف». وجلسنا على مائدة حافلة بكل طعام طيب. جلس لعازر معي، ووقفت مرثا تخدم مع عبيد الدار. أما مريم فجلست في مقعد منخفض قريب.

ورويت لهم قصة خروجي من القرية التي عاش فيها آبائي وأجدادي. لم نكن نعرف شيئاً عن إله أو دين، إلى أن فتح أحدهم ذهننا فخرجت أبحث عن الله.. ظللت سنين طويلة أجول بلاد العالم إلى أن عرفوني على ذاك الذي قيل فيه: «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر» (يوحنا 1: 18). سمعت عنه الكثير. آمنت به على البعد، وحاولت أن أتلاقى معه، لكن حظي السيء لازمني، فقد كنت أصل إلى حيث يوجد، فيُقال لي: «لقد كان هنا ومضى منذ أيام قليلة». وضحك لعازر وقال: «وكذلك الأمر معك اليوم، فقد كان عندنا منذ يومين».

قلت: «عل كل حال أرجو أن أسمع منكم شيئاً عنه. إننقلبي جائع لأخباره». وقال لعازر: «إذن لنطلب من شقيقتي مرثا لتقوم هي بالحديث، لأنها لا تمل الحديث عنه. وقد يروقك الحديث فتستغني عن النوم» فقلت: «إني جاهز لذلك إذا كانت هي تستيطع السهر»

واستأذن لعازر وأخته مريم، وبقيت متكئاً على أحد المقاعد، وجلست مرثا على مقعد مواجه. وقالت: «لن أذكر لك إلا حادثة واحدة من عظائم المعلم الكبير يسوع المسيح ابن الله، الطريق والحق والحياة».

جاء المعلم بيت عنيا ومعه تلاميذه الإثنا عشر. جاء على ما يبدو من مكان بعيد. ليس في قريتنا خان. لم يجد باباً يُفتح له إلى أن وصل إلى بيتنا. ففتحت له الباب الكبير. رحبت به وبمن معه. شكراً ليهوه أن بيتنا يتسع للضيف، بل شكراً له أن قلبنا يتسع. كنت أظن أني أقدم له جميلاً إذا قبلته في بيتي، ولم أكن أعلم أنه هو المتفضِل عليّ وعلى جميع أفراد بيتي - فمنذ دخل بيتنا امتلأ البيت بالبركات.. وكما قلت لك لن أتكلم معك إلا عن حادث واحد!

لا شك أنك سمعت أني منذ مرض زوجي أتيت لأقيم مع أخي لعازر الذي كان يقيم مع شقيقتنا مريم بعد انتقال أمنا إلى الحياة الأخرى. كان شقيقنا لعازر لنا كل شيء، أعز علينا من نفس الحياة. كنا نحس أن الله يعطينا الحياة لكي نقوم على خدمته. يستيقظ في الصباح فنسارع إلى غرفته لنقوم بكل ما يلزم له إلى أن يتركنا إلى مكانه في الهيكل لينسخ الكتب المقدسة. وبعد أن نفرغ من كل ما يلزم للبيت نترقب عودته بلهفة. هذه هي حياتنا، ذكرت لك ذلك حتى تعرف أثر الحادث الذي أرجو أن تتفهمه على حقيقته!

تأخر لعازر في الفراش على غير عادته، فأسرعت إلى غرفته ووجدت أختي مريم عنده. كان وجهه أحمر قانياً. لمست جبهته فلسعتني نار محرقة. عندما رآني حاول ان يبتسم ولكن محاولته أسفرت عن أنّ ة باكية. دعونا الطبيب المجاور لمنزلنا، وهذا دعا طبيباً آخر وآخر.. وجاء عدد من الأصدقاء، هذا والمرض يشتد، وأخونا الحبيب يئن أنيناً حزيناً.. سألنا عن صديقنا الحبيب الذي له في قلوبنا أعلى مكانة. كنا نعرف أن له مكانة عندالله، وكنا نعتقد أنه أكثر من نبي، لكننا لم نكن نعرف الحقيقة التي عرفناها فيما بعد. سألنا فعرفنا أنه في مدينة مجاورة، فأرسلنا له صديقاً. لم نرسل أحداً من الخدم، بل أرسلنا أحد الأصدقاء برسالة قصيرة نقول: «يَاسَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يوحنا 11: 3). وعاد رسولنا في نفس اليوم يقول إنه أبلغ الرسالة للمعلم، وإن المعلم قال: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ» (يوحنا 11: 4).

حملت كلمات السيد رسالة تطمين، لكن حالة شقيقنا أخذت تسوء، وجاء الصباح والحالة أشد سوءاً، وفي المساء أسلم لعازر أنفاسه الأخيرة. ولا تعلم مقدار الحزن الذي ملأ قلوبنا. صحيح أن لعازر قام من الموت، ولكننا لا نزال نحس بلهيب الجرح العميق في قلوبنا. لا أزال أنا واختي نبكي بمرارة. كانت الصدمة قاسية. مات لعازر، ولكن يدهشك أن تعرف أن ثقتنا في السيد لم تتزعزع. لم نفهم ما قاله: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ» (يوحنا 11: 4). ماذا يقصد بهذه الكلمات؟... جعلنا في دموعنا نعيد ونقلب في هذه الكلمات إلى أن احترقت قلوبنا.

وقد أخبرنا التلميذ بطرس فيما بعد أن السيد حينما سمع الرسالة التي أرسلناها مكث في المكان يومين. قال لنا إن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه، وظن التلاميذ أنه لم يفكر في الذهاب إلى بيت عنيا بسبب مؤامرة اليهود. وقال بطرس إن المعلم فاجأنا في اليوم الثالث بالقول: «لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ أَيْضاً» . فقلت له: «يَا مُعَلِّمُ، الآنَ كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، وَتَذْهَبُ أَيْضًا إِلَى هُنَاكَ»فأجبانا بكلمات غريبة: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ ٱلنَّهَارِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي ٱلنَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي ٱللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأَنَّ ٱلنُّورَ لَيْسَ فِيهِ» ثم فاجأنا بالقول: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ» فقلنا له: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى».كنا نظن أنه يقصد رقاد النوم، بينما كان هو يقصد أن يبلغنا أنه مات. إذ ذاك قال لنا علانية: «لِعَازَرُ مَات»!! (يوحنا 11: 7 - 14).

كانت رسالة شديدة الوقع علينا.. كأن السيد يكلمنا بألغاز.. وقد ختم إعلانه عن موت لعازر بكلمات أكثر غرابة من كل ما سبق. قال: «َأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ!» (يوحنا 11: 15).

وجاء يسوع إلى بيت عنيا بعد أربعة أيام من موت شقيقنا. وسمعت عن مجيئه. قالوا إنه في بيت أحد الأصدقاء في طرف المدينة، فأسرعت لأراه. تركت النساء النادبات والمشاركات. وذهبت إليه. وحالما رأيته قلت: يا سيد، لماذا تأخرت «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!» (يوحنا 11: 21). كانت كلماتي تجسيداً لعتاب نفس مملوءة حباً وولاءً وإيماناً.. نعم إيماناً تعرض للزعزعة. على أني أضفت كلمات أخرى غريبة. قلت: «لكِنِّي الآنَ أَيْضًا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللهِ يُعْطِيكَ اللهُ إِيَّاهُ» (يوحنا 11: 22). لم أكن أقصد بالطبع أنه سيطلب إقامة أخي. كنت أقصد أنني لا أزال أؤمن بعلاقته الكاملة بالله التي تجعل لطلباته مقامها الخاص. أعترف أن إيماني لم يصل إلى القوة التي قد تحملها كلماتي - بدليل إجابتي للسيد عندما قال لي: «سَيَقُومُ أَخُوكِ» (يوحنا 11: 23). فقد قلت: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الأَخِير» (يوحنا 11: 24). أنت ترى أنني كنت أؤمن بالقيامة، وكانت الحياة الأخرى غامضة نوعاً، لكننا نؤمن أننا سنكون على أقرب قرب من إبراهيم!!

وكان جواب السيد لي أعجب ما سمعناه منه قال: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟» أقول لك الحق إني لم أفهم هذا الكلام «أنا هو القيامة.. والحياة» ما معنى هذه الكلمات؟ «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَد» ماذا يقصد السيد بهذا الكلام؟ ها هو أخي كان يؤمن بالمسيح، مع ذلك مات.. لكن السيد يقول هذه الكلمات فأنا أؤمن بها ولو لم أفهمها، فجاوبت سؤاله: «أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟» بقولي: «!!يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَم» (يوحنا 11: 25 - 27).

وطلب المسيح مني أن أدعو أختي، فعدت إلى البيت وهمست في أذن أختي: «الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ» (يوحنا 11: 28). فقامت سريعاً وذهبت إلى حيث كان يسوع. ولما لاقته فاض حزنها وانفجر ألمها، فخرت عند قدميه وقالت: لماذا تأخرت؟ «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!» (يوحنا 11: 32). كانت عيناها الباكيتان تعتبان عليه بشدة... كيف هان عليك أن تترك حبيبك يموت؟ وأحاط بمريم الجمهور الغفير الذي كان في البيت، وارتفع الشهيق وفاضت الدموع، وأبصر السيد عالماً من العيون المقرحة وسيلاً من الدموع، فجاشت عواطفه إذ رأى الإنسانية البائسة التي تحصد ثمار الخطية، وطفرت الدموع من عينيه وبكى.. نعم بكى السيد مشاركاً الإنسانية الحزينة.. وسأل: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» (يوحنا 11: 34).

لا شك أن الجمهور ظن أنه يريد أن يصل إلى القبر ليبكي هناك. فقالوا له: «تَعَالَ وَانْظُرْ» (يوحنا 11: 34) ولما رآه الجمهور يبكي قال بعضهم: «انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!» (يوحنا 11: 36). على أن البعض الآخر قال مؤاخذاً: «أَلَمْ يَقْدِرْ هذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هذَا أَيْضًا لاَ يَمُوتُ؟» (يوحنا 11: 37). سمع يسوع كل هذا الكلام فترك في نفسه الرقيقة الحساسة آثاراً عميقة. نشكر الله أن يسوعجاءنا ابن اللهو.. ابن الإنسن أيضاً. وحاجتمنا إلى ابن الإنسان لا تقل عن الحجاة إلى ابن الله. ثم قال السيد: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ!ٍ» (يوحنا 11: 39).

وهنا انزعجت... إن إكرام الميت دفنه كما يقولون. لا نقبل أن نرى الميت منتناً. فقلت: «يَاسَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّام» (يوحنا 11: 39). فنظر إليّ عاتباً وقال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللهِ؟» (يوحنا 11: 40). تسمرت في مكاني. وقفت وقد فقدت كل تفكيري. ما عسى يحدث؟ راودتني أفكار كثيرة. ترى ماذا يكون مجد الله هذا؟ ألعل قوة المسيح تحتفظ بجسد الشقيق دون أن تطرأ عليه عوامل الانحلال؟ خطر كل شيء ببالي، ما عدا ما حدث فعلاً. أنت ترى أننا كنا نؤمن بالسيد فعلاً. كنا نؤمن به نبياً. كنا نؤمن به ابن الله بمعنى أنه مختار من الله. لم يبلغ إيماننا به انه هو الله نفسه، وأنه هو رب الحياة، فإننا لم نكن نعرفه. إن الله يا صديقي فوق كل فهم.. ووقف المسيح أمام القبر المفتوح، ورفع عينيه إلى فوق وقال: «أيها الآب» قد علمنا أن الله أبونا، وكان هذا إعلاناً جديداً. كنا ننظر إلى الله أنه السيد «شدّاي» السيد القوي العادل، لكنه علمنا أن الله أبونا، وأنه يحبنا ويهتم بنا ويعتني بكل ما يتصل بحياتنا، وطلب منا إذا وقفنا نصلي أن ندعوه باسمه المحبوب «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 6: 9).

على أنه هو كان يعتبر بنوته لأبيه من نوع أعلى. إنه الابن الوحيد الذي في حضن الآب. إنه يخاطبه بكل دالة البنوة «أيها الآب». قال: «أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا موقن أنك في كل حين تسمع لي. إني يا أبي أعلم هذا. لا أحتاج إلى برهان لتوكيده. ولكني أطلب أن يعلم هذا الجمهور أنك أرسلتني».

وصمت لحظة واحدة، ثم صرخ بصوت عظيم، ليسمع كل الناس. الكثيرون من الدجالين يتمتمون بتعاويذ وأشباه التعاويذ، أما السيد فيعلن كل شيء بصوت مسموع.. بل بصوت مرتفع: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!» (يوحنا 11: 43).

كنا قد لففنا الوجه بمنديل يغطي عينيه ويُحكم غلق فمه، ولففنا جسده بأقمشة ووضعنا الطيب على كل ساق وكل قدم وحدها.. ونظرنا وإذا بحركة في الجسد المُسجى.. قام لعازر كما يقوم النائم، ووقف في مكانه وبدأ يتحرك ببطء بسبب الأربطة. كان الجمع في الخارج يتطلع بخوف. أما أنا وأختي فنظرنا بمزيج من فرح وخوف وشك وإيمان، عندما سمعنا السيد يقول: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ» (يوحنا 11: 44). فاندفعنا نحوه، وبدأ بعضنا يقّبله وبعضنا يحل أربطته. وتزاحم القوم حولنا حتى كادوا يُطبقون على أنافاه. فحمله بعض رجالنا واختطفوه من الجمع، وسرنا في طريق جانبي بعيداً عن الجمهور، ووصلنا به إلى البيت.

لكن الجماهير هجمت على البيت، وامتلأت الغرف والقاعات والفناء الكبير حتى لم يبق مكان. فأخذنا لعازر إلى غرفة داخلية، ثم خرجنا للجمهور والتمسنا منهم أن يتركونا اليوم. وسنُقيم في الغد أو بعد الغد حفل عشاء، ندعو فيه الجميع، ويكون لعازر حاضراً.

على أنهم لم ينصرفوا إلا بعد أن قدمنا أكواب شراب الليمون وشراب البرتقال... خرجوا وهم يتحدثون عن المعجزة الكبرى!!

أما نحن كنا قبل هذه المعجزة نؤمن بالسيد. كنا نؤمن أنه نبي ممتاز، وأنه ابن الله بمعنى من المعاني. ولكننا بعد هذه المعجزة رأينا شخصاً آخر. نعم رأينا أبن الإنسان. لكننا رأينا أكثر من ذلك. رأينا ابن الله رب الحياة.. كيف يمكن هذا؟ هذا ما لم تدركه عقولنا. ولكن روح الله ملأنا فآمنا أن المسيح هو الله نفسه ظاهر في الجسد!

وآمن عدد كبير من اليهود به أنه مرسل من الله، وأنه نبي عظيم. قالوا: «قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَ» (لوقا 7: 16).

غير أن يهوداً آخرين ملأ الشر قلوبهم فوجدوا في المعجزة موضوعاً للإساءة للسيد، فذهبوا إلى الفريسيين وأخبروهم عن المعجزة.. وبلغ الأمر رؤساءهم، فاستدعوا المجمع الكبير وقال: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً» (يوحنا 11: 47) لم يستطيعوا أن ينكروها، ولكنهم بسبب قساوة قلوبهم لا يؤمنون أنه من الله. قالوا إنه يتحالف مع الشيطان، وفوق ذلك فإنهم لم يهتموا بالأمر إلا من ناحية أنفسهم، وقالوا: إذا استمر يعمل هذه الآيات فإن كل الشعب سيؤمن به مسيحاً وملكاً. والرومان لا يمكن أن يسكتوا على ذلك. إنهم لا يتسامحون مع من يتحدى سلطانه. وسيرى الرومان أننا أضعف من أن نقف في وجه ذلك الملك فيأتون ويأخذون بلادنا وأمتنا. كان كل ا هتمامهم بمركزهم فقط!

وهكذا فكروا في علاج شرير، ليمُت يسوع هذا. ليمُت ولو كان بريئاً. وقالوا: «أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!» (يوحنا 11: 50).

قالوا ذلك من وجهة نظرهم، ولكن الله كان قد رتب فعلاً أن يموت المسيح عن الشعب. فهل كان رئيس مجعهم يتنبأ؟ من يعلم؟

ومن ذلك الوقت تشاور رؤساء اليهود ليقتلوه.. بل تشاروا أن يقتلوا لعازر أيضاً...

بدأ المسيح يسير مختفياً. ترك أورشليم وبيت عنيا وذهب إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها أفرايم!

هذه قصة بيتنا يا صديقي، وهذه قصة ايماننا. ألست ترى إذن أننا نحن لا نبحث عن الله، ولكن الله هو الذي يبحث عنا؟

شكراً لله أنك آمنت بالله الذي أخرجك تبحث عنه.. لكن أشير عليك أن تذهب لتراه في مدينة أفرايم.. اذهب تشملك بركة الله...!!

الفصل الثالث عشر: عصابة بارابات تأسر نوسترداميس

انتهت مارثا من قصتها، بعد منتصف الليل، وتركتني بعد أن طلبت لي بركة الله. على أنها لم تذهب إلى الفراش، بل ظلت تقوم ببعض المطالب لهذا البيت الكبير!

واستيقظتُ متأخراً، وعلمت أنها قامت في الصباح الباكر وراقبت العبيد والخدم وهم يعملون في مهامهم المختلفة بالنسبة لبيت قد يستضيف بالعشرات والمئات. علمت أنهابدأت تُعد للعشاء الكبير الذي وعدت به. تناولت شيئاً من الطعام واستأذنت في الانصراف. كان لعازر قد خرج في ميعاده، ومريم كانت في خلوتها المعتادة أمام الله!

حاولت مرثا أن تستبقيني فقلت لها إني سأذهب إلى مدينة أفرايم لكي أراه هناك. انطلقت في طريقي حتى تركت مدينة بيت عنيا، وتركت طريق أورشليم وسرت في طريق قيل لي أنه يخترق برية يهوذا ويصل إلى مدينة أفرايم. كانت الطريق خشنة مملوءة بالأشواك والأحجار وكان السير متعباً، يبدو أني ضللت لأني وجدت أني لا أسير في الطريق المرصوف. الرمال تحيط بي. وبغتة وجدت أحدهم يقبض على عنقي من الخلف ويسأل: «إلى أين أنت ذاهب؟» التفت فوجدت عملاقاً ضخم اللحية كبير الشفتين بارز الأنف، قلت: «إني ذاهب إلى مدينة أفرايم لأقابل المعلم الناصري». فضحك ضحكة هازئة ثم قال: «بل أنت ذاهب لتتجسس على عصابة باراباس. هيا معي.. هيا. لا تلزمني أن أستعمل القسوة معك». قلت له: «صدقني يا أخي أني أبحث عن المعلم الناصري. لا تؤخرني». وحاولت أن أفلت منه فلكمني على وجهي قريباً من الأذن وقال: «لعل هذه تكفي.. لا تكثر من الكلام الفارغ».

وفي مكان لا يبدو أن أحداً يقيم بالقرب منه هبطت الأرض تحت أقدامنا ووجدت شيئاً يشبه غرفة كبيرة جلس فيها عدد من رفقاء الرجل الذي قبض عليّ، وسمعت صوت أنين من خلف ركن المكان. قلت للرجل: «لماذا تأتي بي إلى هذا المكان؟». فقال: «لقد وقعت أيها الرجل بين رجال السيد باراباس، وأظنك تعرف أن رجال باراباس لا يعرفون الهزل. لقد قبضوا على باراباس واثنين من رفقائنا دوماس وهاران بدسيسة خسيسة. شخص ادعى أنه يريد الذهاب إلى أفرايم وتساهلنا وتركناه. سيُصلب باراباس وزميلانا لأننا كنا أغبياء وصدقناه».

ثم التفت إلى أحد الرجال المحيطين وقال: «قيّده في العمود وجهز السوط».. والتفت إليّ وقال: «إذا لم تكن حكيماً فلا تلومن إلا نفسك. أولاً أفرغ ما في جيبك».. ولم ينتظروا بل خلعوا عني كل ملابسي وأفرغوا ما فيها من نقود ذهبية وفضية ومجوهرات وحوالات مصرفية جائزة عند التجار باسم «حامله» وقال: «يبدو أنك من كبار الأغنياء. لك أن تطمئن أننا لن نقتلك». وبعد أن قيّدوا يديَّ خلف ظهري ساقوني في دروب مظلمة حتى وصلنا إلى كهف كبير، علمت أن له فتحة باب يطل على البرية، ولكنه مثبت بصفائح حديدية. قال لي ساخراً: «يؤسفني أني لا أستطيع أن أقدم لك إلا السرير الذي صنعه الله، ولعلك تؤمن به! على أني سأعطيك شيئاً يحميك من البرد. أما الطعام فلا تنس أننا في البرية، فقد تقضي يومين أوثلاثة بدون طعام.. أو بطعام لا يتفق مع مركزك السامي».

قال اللص هذا الكلام وتركني!

انطرحت على الأرض واستغرقت في نوم عميق.. لم أَتضايق من الأرض الخشنة أو من الطعام التافه أو من الجوع.. بل لم تضايقني لسعات السياط. لم أتضايق من كل ما لقيت من المشاق والهوان من عصابة باراباس، إنما تضايقت أني لم أستطع الوصول إلى الناصري!

كم مرّ عليّ وأنا في الكهف؟ لا أعلم. هل مرّ أسبوعان أو ثلاثة أو شهر. خُيّل إليّ أني قضيت أجيالاً!!

وفي أحد الأصباح قلت: «لماذا لا أستغيث بالناصري؟» ورفعت عينيّ وصرخت بقلب جريح: «أيها الناصري الحبيب. لقد آمنت بك. وقد خرجت لأراك. اهدِ يا سيدي أقدامي إليك».

ما ان فرغت من طلبتي هذه حتى سمعت صوت ضوضاء، ودخل المكان رجل عظيم الخلقة يتبعه عدد من العمالقة أمثاله ومعهم سجاني، الذي تقدم وقطع قيودي وأعاد إليّ ثيابي ثم قال: «لقد أمر الزعيم أن أرد لك ما أخذته منك. ها هو. خذه وانصرف، وسيرافقك أحد رجالنا إلى الطريق. اذهب في حال سبيلك، وانس أنك وقعت بين رجال باراباس، واشكر السماء أن الزعيم لم يأمر بقتلك». قلت: «هلا دللتني على ذلك الزعيم لأشكره ولأؤكد له أني ما جئت إلى طريقك متجسساً، بل كما سبق أن قلت لك إني جئت أبحث عن المعلم الناصري»!!

نظر إليّ الرجل الضخم وقال: «مالك أنت والناصري؟ ومنذ متى عرفته؟». قلت: «لقد سمعت عنه من الرعاة، ومن سمعان الشيخ، وذهبت إلى مصر أبحث عنه هناك، ومكثت أزيد من ثلاثين سنة أذهب هنا وهناك وأصل إلى المكان بعد أن يكون قد تركه».

قال: «وهل تحب أن تسمع شيئاً جديداً عن السيد الناصري؟»قلت: «بالطبع أرغب فإذا أطلقتموني حراً فسأبحث من هذا اليوم عنه. لن أشكو لأنكم أسرتموني هذه المدة إلا لأنكم عطلتموني عن متابعة بحثي»!!

قال الرجل: «لا داعي للشكوى. سأعوضك عما خسرته من أسرك هنا». ثم أشار إلى أحد رجاله فذهبوا بنا في طريق إلى غرفة فسيحة ملحقة بالكهف، فيها مقاعد. بالطبع لم تكن أنيقة لكنها كانت مريحة!!

جلس الرجل وجلست أمامه، فقال: «أنا سمعان بن هوشع المعروف بباراباس. من عائلة فريسية متدينة موغلة في الوطنية. وقد رأيت بعينيّ طغيان دولة الرومان ومظالمهم الشنيعة، كما رأيت مساندتهم لبيت هيرودس الأدومي الأصل في حكم اليهودية بالقهر والسيف. ومع أنهم أحاطوا هذه الحرية بقيود كثيرة، ويكفي أن تعلم أن رئيس الكهنة، المفروض اختياره من نسل هارون بسلسال طبيعي، صار لعبة في يدهم فغيّروا وبدلوا حسب أهوائهم. لذلك وبحماسة الشباب كوّنا فريقاً من الشباب أمثالي، وجعلنا مهمتنا محاربة روما بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة.. بالطبع الوسيلة المشروقة غير ممكنة في ظل حكومة الطغيان. وكنا في حاجة إلى مال وقد زوّدنا أهلونا سراً بالكثير، ولكنه لم يكف فاضطررنا أن نضع ضرائب غير رسمية على كثيرين من الأغنياء. وبعض هؤلاء أو على الاصح غالبيتهم دفعوا كارهين.. بل أنهم كانوا يساندون حكومة الاحتلال. واتضح لنا أن الكثيرين منهم كانوا يدسّون لنا.. وكان من أثر ذلك أن أحرقنا مزارع البعض ونهبنا متاجر آخرين.. ووصل الأمر إلى القتل. وانضم إلينا عدد من العاطلين.. لا أريد أن أبرئ نفسي، فقد انحدر المستوى ولو أني ظللت أحافظ على الهدف الأصلي، إلا أنه أصبح هدفاً جانبياً. وقامت عصابتي بالسلب والنهب والقتل وهدم البيوت وإحراق المزارع والمتاجر، وأصبح اسمي يثير الرعب والفزع... ولما كانت المصالخ الشخصية تتحكم في معظم الناس، لم يؤيد حركتنا أحد من أصحاب المصالح، ومع أن هؤلاء كانوا قلة إلا أنهم كانوا يملكون السلطة أو يقفون إلى جانبها. ولم ينضم إلينا سوى الرعاع الذين لا يمكن أن يجدوا سبيلهم إلا في الفوضى. من أجل هذا أبغضتنا الطبقة الحاكمة بشدة، وسلطت علينا كل قوات الشرطة ورجال الأمن، وقام رجال المخابرات بتدبير الكمائن. وكان أن قام أحد الجواسيس بإرشاد فريق المطاردة إلى حيث كنا مختبئين. وقد قبضوا عليّ وعلى دوماس وعلى هاران وزجوا بنا في سجن القلعة. وقرر الوالي أن يعلقنا على صلبان تحقيراً لنا. لقد كنت أحمل الجنسية الرومانية، وكان يجوز لي أن أطالب بأن أقتل بالسيف، ولكنهم رفضوا كل ملتمس وقرروا صلبي وزميليّ. ولم تفلح كل المساعي في إصدار عفو عني فبقينا في القلعة، كل منا في غرفة ضيقة مقيدين بالحديد، ولا يتسع المكان لنا للنوم إلا واقفين تقريباً. كانت أيامنا قاتمة سوداء، وقد بلغ الضيق حده حتى أننا كنا ننتظر يوم صلبنا لنتخلص من هذه الحياة الكريهة، برغم ما كنا نعلمه من آلام الصلب!»

وجاء يوم.. لا أنسى هذا اليوم يوم الجمعة. هل كان هو يوم العيد أو قبله بيوم أو بعده بيوم؟ لا أعلم. لقد اختلطت التواريخ عند ذوي الشأن، فاختلفوا في تحديد اليوم. وأنت أيها الغريب لا يهمك أن تعرف إلا أنه يوم الجمعة في موسم الفصح. جاء رجل الشرطة وأمر، ففتحوا زنزانتي وأمر فحلوا قيودي وسار بي إلى حارس الباب ووشوش في أذنه كلاماً. ظننت أنه يقول أنه سيأخذني لأُصلب، وإذ بحارس الباب يمد يده ويصافحني قائلاً: «أهنئك، فقد صدر الأمر بالإفراج عنك»!!

نظرت إليه وقد بان الغضب على وجهي وقلت: «هل تسخر مني؟ احذر لنفسك. إني لا أزال باراباس، واستطيع أن أقبض على عنقك بيدي هذه وأرسلك إلى الجحيم في لحظة». فضحك وقال: «لا داعي للغضب. أنت ترى يديك محلولتين، والباب مفتوحاً أمامك. هيا انطلق إلى حيث تريد»!!

رأيت أن الرجل يتكلم جاداً، لكني لم أصدق بعد أني حر. لا يمكن أن يطلقوني حراً! لقد قرر الوالي تعليقي على خشبة. ما الذي حدث؟ وقرأ الحارس ما دار في ذهني وأجاب على السؤال الذي لم تنطق به شفتاي، قال: «لقد أخذ شخص آخر مكانك. اذهب تجده هناك على جبل الجلجثة. لقد ذهبوا منذ وقت. أمر الوالي فجلدوه ثم حمّلوه الصليب، وربما وصلوا إلى هناك الآن. وذا كنت تريد معرفة من الذي فداك فاركض لتتلذذ برؤيته». قلت: «ومن هو هذا المسكين الذي حل محلي؟» فقال: «إنه يهودي معلم، اسمه يسوع الناصري».

وثب قلبي في داخلي، إني أعرفه.. لقد حدثني دوماس عنه، إنه رآه وهو صبي في المهد يوم أن طاردته عصابتنا بقيادة دوماس، وأن دوماس حالما رآه خرّ على الأرض خاشعاً. بل حدثني عن مصري كان راجعاً إلى اليهودية وأنه رفع خنجره ليغرزه في صدره، ولكنه رأى الصبي يتجلى أمامه فسقط الخنجر من يده.. وحدثني دوماس عن أعمال عظيمة قام بها هذا الناصري. حدثني عن العيون العمياء التي أعطاها البصر، والآذان الصماء التي منحها السمع، والأجسام البرصاء التي طهرها من البرص، بل قال لي إنه أقام موتى.. ابن أرملة في مدينة نايين كانوا يحملونه ليدفنوه، أقامه بكلمة.

قلت: «أقول لك إني عندما قبض عليّ رجالك كنت خارجاً من بيت الكاتب لعازر الذي أقامه الناصري بعد أن قضى أربعة أيام في القبر». وقال باراراس إنه لم يسمع عن إقامة لعازر. قلت: «لأنك كنت في السجن».

وأكمل باراباس حديثه فقال: «تركت حارس باب السجن وركضت حتى وصلت مقطوع الأنفاس ورأيت الناصري يسير وكأنه يحمل على عاتقه خطايا العالم كله: المرض والحزن والألم والجوع والعري والجروح والدموع والموت.. خُيل إليّ أن هذه كلها وُضعت على عاتقه. وكان يسير خلفه رجل علمت أن اسمه سمعان القيراوني يحمل صليب الناصري!»

ثم رأيت الجنود أخذوا الصليب من سمعان ثم قبضوا على الناصري ومددوه على الخشبة وبدأوا بقساوة بربرية.. أوه.. أوه.. وضعت يديّ على عينيّ. لم استطع أن أستمر ناظراً. لقد قتلت كثيرين، لكني لم أكن متوحشاً نظير أولئك الجنود. دقوا المسامير الغليظة الخشنة في يديه. وفي نفس الوقت كان جنود آخرون يدقون المسامير في يدي ديماس، وهاران زميليّ في السجن. كان الجنود يدقون المسامير في الثلاثة في وقت واحد. كان زميلاي يقذفان الشتائم واللعنات والتجاديف.لقد لعنا الجنود والحكام وقائد القلعة والوالي، كما لعنا المجمع والهكيل ورؤساء الكهنة، ولعنا بيت هيرودس.. بل لعنا اسم الله. ماذا كان يخشيان؟

أما الناصري فكان يرسل أنيناً عميقاً دون أن ينطق بكلمة..

وبعد أن فرغ الجنود من دق المسامير ربطوا الأجسام.. وانتبهت إلى الناصري: ربطوا جسده بحبال إلى الخشبة، ثم أقاموها ودفعوا بها إلى الحفرة التي أعدوها، فتمزقت أوصاله وسال عرقه غزيراً وشحب وجهه وصدرت منه كلمات سمعناها كلنا: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34). سقطت على وجهي وأنا أقول: «أنا يا رب، أنا الذي كان يجب أن يحتمل هذا المصير. لا أجسر أن أطلب منك الغفران. لا استحقه. كلا... لا أستحقه».

كدت أهجم على الجنود. قلت في نفسي أين رجالي؟ أين أسلحتي لكي أهجم على أولئك الجنود القساة. ثم نظرت إلى الجمهور الواقف ينفرج. رأيت عدداً كبيراً من الناس العاديين ومن الكهنة ومن الرؤساء. وقد فزعت عندما رأيت تصرفهم أكثر مما فزعت من الجنود وهم يدقون المسامير. كانوا يهزون رؤوسهم وهم يقولون: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.. »(متّى 27: 40). ورأيت رؤساء الكهنة يقولون: «لِيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ!» (مرقس 15: 32). «لقد زعم أن الله أبوه، فليطلب من أبيه أن يخلصه». وصرخت بأعلى صوتي، ولكن صوتي ضاع في الضوضاء. انزل أيها الناصري، انزل عن الصليب، ثم اطلب أن تنز صاعقة تحرق هذا الجمهور الجاحد الشرير. كيف تقول: يا أبتاه اغفر لهم؟ لا يا رب، لا يا رب لا تغفر! لا تغفر!

سقطت مرة أخرى على الأرض.. لم أسمع كلام الناصري. سمعت زميليّ يعيران الناصري. يقولان: «تُرى هل هم صادقون أنك أيها الناصري مضل؟ هل كنت تدجل على الناس؟ إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. خلص نفسك وخلصنا». اندهشت وأنا أسمع دوماس يتفق مع زميله في تعيير الناصري. كان دوماس بذكر أعمال الناصري الطيبة، فهل نسيها؟ لقد غضبت عليه. لقد كان دوماس رجلاً حتى في أعماله اللصوصية، لكنه في تصرفه هنا ظهر حقيراً. على أنه يبدو أنه راجع نفسه. رأى السيد يحتمل بصبر الألم والجحود. رآه يطلب من الله أن يغفر، ورآه يتقبل الإهانات من الجمهور منه ومن زميله. عاد إلى نفسه وذكر أعمال الناصري، فوبخ نفسه وصمت، ولكن زميله لم يصمت، بل اشتدت كلماته، فصرخ فيه: «اصمت أيها اللص. اصمت فلا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن بعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلت أيدينا»... ثم صمت برهة ونظر إلى المعلم الناصري. لم ير مذنباً محكوماً عليه بالصلب، لكنه رأى ملكاً يسير نحو ملكوته. نعم إنه يسير في طريق قاس، لكنه سيصل إلى عرشه فقال: «اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِك» (لوقا 23: 42). لقد فتح الله عيني دوماس فرأى يسوع لا مذنباً سيموت، ولكن ملكاً يسير نحو عرش ملكه. بل إلهاً ورباً... يموت برغبته لا مرغماً. يموت عن غيره.. لقد فهم دوماس الأمر وهو معلق. أما أنا فقد فهمته أكثر لأنه مات عني!!

وسمعت النصاري يقول لدوماس: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).

طوبى لك يا دوماس. ربي اجعل هذا الغفران أيضاً من نصيبي.

وبينما أنا غارق في دموعي أحسست أن الشمس تغيب مع أننا كنا في الظهيرة. فتحت عينيّ فإذا الدنيا ظلام.. وإذا زلزلة هزت المكان. انشق حجاب الهيكل. الجبال قذفت أحجارها والصخور تشققت والقبور تفتحت، وأبصرت أجسام الراقدين تتحرك وتقوم.. وأبصر الناس هؤلاء الأحياء يسيرون في طرقات المدينة وسمعت السيد في الساعة التاسعة يقول: «قَدْ أُكْمِلَ. يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَأَسْلَمَ الرُّوحَ» (يوحنا 19: 30 ولوقا 23: 46).

ثم مضى باراباس يقول: «انصرفت الجماهير، وفرفع قائد الئة رأسه إلى السماء وقال: «حقاً كان هذا الإنسان باراً. حَقًّا كَانَ هذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!» (مرقس 15: 39).

لم أستطع أن أفهم الصليب. كنت أعرف أن الناصري كان يمكنه أن يخلص نفسه، فلماذا لم يفعل ذلك؟ كنت أعلم أنه يستطيع أن ينتقم من خصومه ومن المسيئين إليه، فلماذ لم ينتقم؟ كننت أعلم أنه يستطيع أن يشكوهم لله فلماذا طلب الغفران؟ كنت أعلم أنه في إمكانه أن ينزل عن الصليب ويعيش، فلماذا ظل على الصليب إلى أن مات؟

كان الصليب لغزاً. لم أستطع أن أقبل أن ينتصر الباطل على الحق، وأن يفوز الظلام على النور، وأن يهزم الموت الحياة. نعم، لم أستطع أن أفهم الصليب. ظللت في مكاني إلى أن مال النهار إلى المغيب.

رأيتهم يدلّون المعلم ويلفونه بأكفان ويضعون شيئاً من الطيب. شيخان فعلا ذلك. كنت أعرفهما. كانت لهما صلة بعائلتي: الرئيس نيقوديموس والرئيس يوسف الرامي. اثنان من كبار الرؤساء. وقد اندهشت أنهما وهما الفريسيان يكرمان جسده.

ظللت طوال السبت في البيت، وفي صباح الأحد انطلقت ميمماً القبر الذي دُفن فيه الناصري - وفي طريقي سمعت امرأة تركض وهي تحدث نفسها: «لقد سرقوا الجثمان ولست أعلم أين وضعوه». وبعد فترة مرت جماعة من النسوة وهن يقلن: «لقد رأينا القبر فارغاً، وظهرت لنا ملائكة قالوا إن السيد قام كما قال» لقد سبق الملعم وقال للتلاميذ إنه سيموت، ولكنه بعد ثلاثة أيام يقوم.. وقام يسوع من الموت. فلما تحققت أنه قام بدأ لغز الصليب يتفتح؟ مان ينبغي أن يموت السيد، فإن أجرة الخطية هي موت. ولقد سمعت من دوماس الكلمات التي قالها له المصري إن الملائكة أعلنت أنه وُلد مخلص هو المسيح الرب، وأن المعمدان أشار إلى يسوع وقال: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يوحنا 1: 29). حاولت أن أرى المعلم فلم أوفق، لكني تيقنت ممن رأوه أنه قام، فركعت وقلت: «أيها الناصري آمنت يا سيدي فاقبلني ضمن رعيتك». وغذ ذاك ملأ السلام قلبي، وأحسست أني أصبحت إنساناً جديداً. لست أنا باراباس القديم القاتل، أنا باراباس المؤمن الذي مات المسيح عني.. نعم عني أنا فعلاً. كان ينبغي أن أموت أنا، ولكنه مات نيابة عني. ونيابة عن دوماس، وأرجو أن يكون هاران أيضاً قد آمن.

شخص حكم عليه المجمع الكبير بالضلال، وطلب من الحاكم الروماني أن يصلبه. لم أتعب نفسي بالسؤال عن هذا الأمر. كنت مشغولاً بموضوع الص ليب، بلغز الصليب، وسر الصليب. عدت إلى المدينة وقضيت الليلة في بيتنا، أقصد بيت الأهل، وكانوا ينتظروني. وقد أخبروني عن سر إطلاق سراحي. قالوا لي إن الوالي بعد أن تحقق من براءة ساحة الناصري أراد أن يطلقه، وبذل كل مسعى في ذلك، ولكن أصوات رؤساء اليهود ارتفعت على صوت العقل وهم يصيحون: اصلبه! اصلبه! وكانت العادة أن يفرج الوالي في العيد عن سجين، فعرض الوالي أن يفرج عن يسوع، وخيّرهم بين يسوع وبيني. وكان أهلي ينتظرون أن يطلق الوالي يسوع، ولكنهم اندهشوا وهم يسمعون: اطلق باراباس. با للعجب! يطلبون صلب المحسن الكبير والإفراج عن القاتل المجرم الذي طالما جعل أيامهم خوفاً ولياليهم رعباً. والعجب أنهم يدعون أنهم أبناء الله، وأنهم عبيد الله.

وها أنا جئت اليوم لأحوّل مكان العصابة إلى هيكل للمؤمنين، ولأحوّل من اللصوص خداماً للمسيح، ولأكرس حياتي لخدمة المسيح!!

ابتسمت وقلت: «باراباس، هل تعلم من هو المصري الذي أشرع دوماس خنجره في وجهه؟ إنه أنا باراباس. صرخت بدون صوت: أنقذني أيها الناصري، ورأيت الخنجر يسقط إلى الأرض. وكنت أظن أن دوماس سيكف عن شروره.. على كل حال شكراً لله أنه آمن.. وأنك آنت آمنت!!».

أما أنا فقد آمنت من قديم، وها أنا منطلق أبحث عن سيدي لأراه بالعيان، وأفرح بهذه الرؤية.

قبّلت باراباس وانطلقت إلى المدينة - على أني قبلما أتركه قدمت له حبة لؤلؤ سوداء طلبت منه أن يحتفظ بها على سبيل التذكار، فقبلها ووعد أن يحتفظ بها طول حياته تذكاراً لارتباطنا معاً في الوقوف مع الناصري!!

الفصل الرابع عشر: مع سيدتين

خرجت من الكهف وقد رافقني أحد رجال باراباس، سار معي في طريق لم أره طريقاً. وقال لي إن برية يهوذا لغز، كم ضل فيها رجال الأمن. وكان رجال الحكم يجدون من أرسلوهم لاقتحام معقلنا قتلى على الطريق. وقال لي إن باراباس جبار.. سيكون ذا نفع كثير للنصارى ولرسالته. وعند رأس الطريق أشار إلى طريق أورشليم ونصحني أن لا أنخدع بالطريق الجانبي الناعم، بل أظل سائراً باستقامة، مهما بدا الطريق المستقيم خشناً، ومهما أغراني الطريق الناعم بالسير فيه. ولما ودعني حاولت أن أقدم له بعض المال فرفض بلطف، وإن يكن بإصرار، وقال: «يسرني أن تكون الهدية قبلة». فقبّلته وهو قبّل يدي وانصرفت.

وصلت إلى أطراف المدينة. لقد تغيّرت. ما من مرة أتيت إليها إلا وكانت صورتها تختلف عن الصورة السابقة. تذكرت المرة الأولى التي تلاقيت فيها مع سمعان الشيخ.. والمرة الثانية التي جئت أسأل عن الملك.. والمرة الثالثة التي تلاقيت فيها مع الرئيس نيقوديموس.

ما أكثر ما حملت مدينة أورشليم من أحداث. والآن ها أنا أجيء لأبحث عن الناصري الذي انتصر على الموت!

لقد سبق أن بحثت عن الصبي.. ثم عن المعلم.. وها أنا أبحث عن الله الذي خرجت أبحث عنه. وقد وجدته أو على الأصح قد وجدني. وأنا اليوم أبحث عنه لكي أراه بالعيان.

أحسست أن المدينة تغلي. الطرقات غاصة بالرجال والنساء من كل الطبقات. الحديث هامس ولكن كثرته جعلت منه أزيزاً كأزيز طيران مئات الألوف من النحل. اقتربت من المجتمعين هنا وهنا. وصلت إلى اذني هذه الكلمات:

- هل سمعت ما قاله الجنود الذين كانوا يحرسون قبر المعلم الناصري؟ هل سمعت أنهم قالوا إنهم وهم قائمون على حراساتهم حدثت زلزلة شديدة ظهرت خلائق عجيبة ملأت المكان بنور أشد لمعاناً من مئات الشموس، وأنهم سقطوا صرعى كموتى، وأتهم لما استيقظوا وجدوا القبر مفتوحاً خالياً.

- هل سمعت أن بعض النساء ذهبن إلى القبر وأنهن وجدن القبر خالياً، وأن ملاكين ظهرا لهن وقالا: «لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ ههُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيه. لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ!» (مرقس 16: 6 ومتّى 28: 6).

وقال أحد الملاكين: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ» (لوقا 24: 5 و7).

- هل سمعت أن الجنود لما أخبروا عما حدث، اضطرب رؤساء الكهنة وقالوا إن هذا الخبر أسوأ خبر سمعوه. ثم قدموا نقوداً للجنود وطلبوا منهم أن يقولوا إنهم ناموا من كثرة التعب، وإن التلاميذ جاءوا ليلاً وسرقوا الجسد؟

- سمعت أن الرؤساء وعدوا أن يتوسطوا لدى الوالي فلا يحاسبهم على النوم.

- لكن كيف عرف الجنود أن التلاميذ جاءوا أثناء نومهم وسرقوا جسد يسوع؟

- هل سمعت أن المجدلية ذهبت إلى القبر باكراً، ولما لم تجد جسد الناصري عادت مولولة إلى بعض تلاميذه وقالت: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا 20: 13).

كانت المدينة تغلي وقد تناقلت الكلمات من مكان إلى مكان. قال البعض إن قصة القيامة قصة موضوعة افتعلها التلاميذ. وقال البعض الآخر: وما مكسب التلاميذ من تأليف قصة مكذوبة؟ لماذا يعرّضون أنفسهم للاضطهاد والضرب والحبس والاحتقار والموت؟

لقد أكد لي باراباس أن السيد قام حقاً. لقد تحقق هو من ذلك. وأنا متيقن أنه قام حقاً. ولكن الأحاديث المتناقضة بلبلت أفكاري، بحيث تطرق قليل من الشك في ذهني. قليل جداً لم يستطع أن يجد له مكاناً ثابتاً في قلبي. لكن لماذا أقف لأستمع لكلام الناس؟ لماذا لا أفتش عن الأشخاص الذين نقلوا الخبر؟ لقد ذكر باراباس اسم المجدلية ونساء معها، وقال أيضاً عن تلميذين... ما اسمهما يا ترى؟ نعم إني أذكر أنه قال إن أحدهما اسمه كليوباس، وذكر اسم يعقوب، واسم سمعان بطرس... سأبدأ بالبحث عن المجدلية. قيل لي إن الكثيرين يعرفونها. سألت أول رجل قابلته عن امرأة اسمها مريم المجدلية، فلم يتكرم عليّ حتى بلفتة، وسألت آخر وآخر.. وتجاسرت وسألت امرأة فنظرت إليّ بشيء من الشك وقالت: «وماذا تريد منها؟ إنك بالطبع لا تريد بها شراً». قلت: «حاشا لي! حاشا أن أريد شراً بامرأة فاضلة. ولكني مهتم بالسؤال عن المعلم الناصري». وإذ ذاك أشرق وجهها وقالت: «تعال معي إذاً، لأني ذاهبة إلى هناك».. ووصلنا إلى البيت ووجدت المرأة الفاضلة ومعها سيدات أخريات. قدمت نفسي لهن. وقالت المجدلية إنها كانت قد سمعت أني خرجت من أهلي ومن عشيرتي أبحث عن الله، فقلت إني وجدته في الناصري من سنين طويلة، ولكني لم أره بالعيان. كنت أذهب إلى حيث أخبروني، فأجده قد ترك المكان قبل وصولي بقليل وقد وقعت بين يدي رجال باراباس، وظللت مقيداً في كهوفه في برية يهوذا، ولكنه جاء بالأمس وقص لي روايته مع الناصري وإيمانه به. وقد ذكر لي اسم المجدلية وآخرين شاهدوا المسيح بعد قيامته. وقد جئت إليك يا سيدتي لترشديني إلى المكان الذي يمكن أن أراه فيه.

قالت المجدلية: «إذن أنت المصري الذي قابلك العديد من إخوتنا، وقد سمعت من الحبيبة مرثا أنك قضيت جانباً كبيراً من الليل تستمع إلى قصة لعازر». قلت: «نعم. نعم». وفي أثناء حديثها ألمحت إلى آيات أخرى كثيرة صنعها يسوع. قالت إنه قابل عشاراً اسمه لاوي بن حلفي قلب حياته رأساً على عقب، أو على الأصح عدّل حياته. أخرجه من الطين وأوقفه على صخر وألبسه الخلاص، ووضع في يده عصا الرعاية وجعل من العشار رسولاً. كما ذكرت لي عن امرأة أخرى قال لها: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنا 8: 11).. وإن السيد أكرمها لأنها أحبت كثيراً! كما ذكرت لي اسمك يا سيدي. ومع أني لا أريد أن أكون فضولياً، إلا أني أرغب أن أسمع دائماً عن عظائم الناصري. لكن أول ما أطلبه أن أرى الناصري. أرى وجهه وأجثو عند قدميه

وقالت المجدلية: «إن السيد لا يقيم في مكان محدود. إنه يظهر لنا فجأة. وسأذكر لك قصتي معه وكيف رأيته عند القبر. أما عن المرأة التي ذكرت، التي أحبت كثيراً فهي هذه المرأة التي تجلس أمامك. وربما قبلت هي أن تحكلي لك قصتها، لأنها لا تمل من تقديم الشكر للسيد الذي رفعها.. كما رفعني من المزبلة وأجلسها وأجلسني على عرش. تقدمي يا رفقة وحدّثي هذا المصري، أو كائناً من يكون، فإنه حبيب يسوع».

وتقدمت المرأة و وجهها كتلة من الدم من شدة الخجل، وقالت: «نعم سا سيدي، أنا المرأة الخاطئة التي أُمسكت في ذات الفعل. أنا لا أريد أن أبرر نفسي، ولا أن أخفف جريمتي. لقد سقطت. لا أريد أن أضع لوماً على الرجل الذي خدعني، ولا أريد أن أتحدث عن الدسيسة الخسيسة التي رتّبها مع قوم من ذوي الشأن لكي يوقعوا الناصري في أحبولة. لم أكن أنا يا سيدي هدف الدسيسة، كان الهدف الناصري نفسه. لا أريد أن أقول لك إن الجوع.. جوع ابني إلى كسرة خبز وجوعي. لا أريد أن أقول لك إن الرجل الذي ظننته نبيلاً وهو يهتم بالأرملة البائسة ويقدم لها الطعام مرة ومرتين «لوجه الله» وإذا به يرتب دسيسته فيقاضيني ثمن ما أعطى، أغلى ما تملك المرأة. ويرتب الكمين، ويسهل القوم له الهروب ويقبضون عليه» .

«كلا، يا سيدي لا اريد أن أبرر نفسي أو أخفف من شناعة جريمتي أنا الخاطئة المسكينة البائسة، وقد وقفت عارية أمام الجمهور كله ولكن الناصري غطاني وستر عاري. كان المشتكون عليّ شيوخاً وشباباً وقد جروني بعد أن مزقوا ثيابي وكشفوا عن جسدي الجريح وأوقفوني أمام المعلم «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» (يوحنا 8: 4 و5). كانوا متأكدين أن السيد لا يمكن أن يتخلى عني، فهو صديق العشارين والخطاة. لكن كيف يمكنه أن يساعدني؟ إن الموقف دقيق. لو أنه قال إني اعفو عنها، لوقف موقف المناقض للناموس، بينما سبق هو وقال عدة مرات إنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمل. وهو بالطبع لا يريد أن يقول ارجموها، وإلا أثار السلطات الرومانية ضده، بعد أن اصدر الرومان تعليماتهم أن حكم الموت في يدهم وحدهم. لقد أشفقت عليه أنا الخاطئة. وتمنيت لو أن الأرض فتحت فاها وابتلعتني فينجو هو من مكيدتهم!!»

«وصت السيد كويلاً، وكرروا عليه الكلام مرة ومرتين وهو يتطلع إلى الارض ويكتب على التراب. لم أعرف ماذا كتب. قالوا لي فيما بعد أنه كان يكتب خطايا المكشتكين عليّ.. ثم رفع وجهه وقال: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» (يوحنا 8: 7).

نظرت إليهم من جانب عيني فرأيت كأن زوبعة عاتية تهب عليهم وتزعزع كيانهم، فخرجوا من المكان كأنهم هاربون من وحوش تطاردهم. وكان يمكنني أنا أيضاً أن أهرب، لكني أحسست أن شيئاً قوياً يقيّدني، فإن الناصري ليس إنساناً عادياً... كلا، لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً. ها هو يرفع وجهه نحوي ويقول: «يا امرأة» ولعلك لا تعرف أن هذا اللقب لا يُطلق إلا على الأنثى الفاتضلة، الزوجة الفاضلة. كان اسمي وهم يجرونني «الزانية الآثمة الفاجرة.. ال ال..»وهكذا من مختلف اللوثات. أما هو فيعيد إليّ كرامتي «يَا امْرَأَةُ، أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنا 8: 10 و11).

كم أبغضت الخطية وقتها - لقد صفح، ذاب قلبي وخرجت كل المفاسد التي فيه. هذه المحبة التي هي أقوى من الموت...

هل تصدق؟ لق سامحت الرجل الذي خدعني، وسامحت الذين اشتكوا عليّ.. لأني أحببت بكل قلبي السيد العظيم الذي ستر عاري وغفر إثمي ونقّى قلبي!!

ولقد تسمع من البعض أنني أنا المرأة التي دخلت بيت سمعان الفريسي وجلست خلف السيد أدهن قدميه بالطيب وأمسحهما بشعر رأسي وأغسل قدميه بالدموع. ومع أني تركت البقعة التي كنت أقيم فيها إلى بقعة أخرى لا يعرفني فيها أحد، إلا أن سمعتي طاردتني، والرجل الذي سبق أن خدعني لم يكف عن مطاردتي...!!

قد يقولون إني أنا تلك المرأة، وقد يقولون إني أنا المرأة التي سكبت قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن على رأس السيد. وإن السيد انتهر الذين عذبوني بتوبيخهم: «كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ» (مرقس 14: 5) قال السيد: «قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا! حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا» (مرقس 14: 6 و9).

أقول لك: «قد أكون تلك المرأة وقد لا أكون، ولكن أرجو أن تثق أني أنا المرأة التي أحبت كثيراً لأنه سامحني بالأكثر.. ومهما أحببت فإني أشعر أني لم أحب بعد بالكفاية فهو يملأ كل قلبي. إني أعتز بأني أحب مرثا ومريم، ومريم زوجة كلوبا، ويونا امرأة خوزي وكيل هيرودس.. وكرامتي العظمى هي في أن العذراء المباركة أولتني التفاتها.. وها هي المجدلية دعتني إلى بيتها، وقد رجوتها أن تحدثني عن الناصري بعد أن رأته عند القبر.. وقد دخلت أنت وهي تهم بالكلام. أظن أنها لا تبخل برواية قصتها كلها. خصوصاً وأن الناصري هو الذي يبحث عمن يطلبون أن يقابلوه»!!

واحمرّ وجه المجدلية وقالت إن قصتها بسيطة جداً. كان بها شياطين كثيرة أخرجها السيد، فهي تحبه كثيراً قلت: «لقد سمعت أشياء كثيرة عن حباتك. إنك إذ تتذكرينها تمجدين المسيح وتتحدثين بفضله. لقد تقابلت مع الرجل الذي كانوا يدعونه «لجئون» وأخبرني أن السيد طلب منه أن يحدث بمراحم الله» . قالت المجدلية إن القوم قالوا أكثر من الواقع، قلت: «لا بأس، إن الحقيقة وحدها هي التي تبقى.. تكلمي. أرجوك تكلمي».فقالت: «أنا أعلم أني وُلدت في بيت ميسور الحال. كنت أملك أو على الأصح أهلي يملكون شيئاً من المال.. ونظير الفتاة التي تتربى في مهد الغني عشت مدللة، وكنت أهتم بجسمي وثيابي، وكنت أعيش حياة الترف والبطالة. ومن هنا بدأت متاعبي. وأنا فعلاً لا أعلم الحقيقة بالنسبة لي!! قالوا إني بدأت أنحرف في سلوكي، وإن إبليس الكبير انتهر فرصة انحرافي هذه وسلط أبالسته الصغيرة عليّ، فدخلت واحداً بعد آخر فيّ حتى اكتمل عددهم. لم يكن العدد سبعة يعني حقيقة العدد، بل كان يعني كمال العدد. كانت شياطين كثيرة فيّ. أُصبت بالجنون الكامل. لم أعش في البيت. خرجت أهيم في الشوراع مهلهلة الثياب أتكلم كلاماً بلا معنى، أقذف الناس بالأحجار وأمزق ثيابي. قيّدوني ربطوني حبسوني.. ذلك بعد أن استعملوا كل علاج وعقاقير وصلوات وأحجبة... وفي أحد الأيام قابلني يسوع... كان أهلي في أول الأمر يعالجونني لأني فرد منهم. كانوا يخافون من العار. وكانوا بعد ذلك يعالجونني اتقاء لشري. لم يكن أحد يهتم بي محبة لي. فلما لاقاني السيد نظر إلي فأبصرت في عينيه فيضاناً من الحب القوي الجبار الذي أذاب القيود وفتح الأبواب وأخرج الشياطين. وإذ ذاك نظرت إليه بكل حبي وجثوت عند قدميه وكرست حياتي ومالي لخدمته، فأنا وبعض الصديقات نخدمه من أموالنا، لأنه هو الغني كل الغنى لم يكن له أين يسند رأسه. وترنيمتي الدائمة: أمشي معه دوماً لك حين».

«ما أكثر المرات التي تمنيت أن أملك كل مال الدنيا لأجند حرساً كبيراً يقوم على حمايته. وما أكثر الليالي التي قضيتها أبلل فراشي بدموعي وأنا أطلب أن الله يحرسه من الجماعة المنافقة التي تناوئه. لقد قالت لك صديقتي إنها تلك المرأة التي أحبت كثيراً - نعم هي كذلك، لكن أنا، أنا المرأة التي أحبت أكثر أكثر أكثر»

«وقبضوا على سيدي... ربطوه بالحبال كأنه لص. لطموه على وجهه. ضربوه بالعصا. جلدوه بالسياط. وضعوا عليه الصليب.. سمروا يديه ورجليه.. وضعوا إكليل الشوك على رأسه. طعنوا جنبه بالحربة. آه يا صديقي. لقد تمزّق قلبي. إني مندهشة أني استطعت أن أعيش بعد أن رأيت ما رأيت في سيدي...»

«هل استطعت أن أراه يُلطم ويُضرب ويُجلد؟ كنت أسقط على وجهي بدون وعي وأنا أرى جسده الممزق من الجَلد - سرت خلفه أولول وهم يجرونه إلى الصليب. هجمت على الجنود ومزقت وجوههم بأظافري وهم يحاولون منعي من الاقتراب إليه. أما المسامير.. كان كل مسمار يُدق في قلبي...»

«ومات الحبيب... وأنزلوه من الصليب ووضعوه في القبر. مبارك أنت يا يوسف الرامي. لم يخش بأس الرؤساء ولم يعبأ بسخرية رئيس الكهنة. وأنت يا نيقوديموس لتحل البركة عليك وعلى بيتك.. وضع الاثنان شيئاً من الطيب، قضينا السبت في بيوتنا - وذهبنا صباح الأحد نضع الأطياب على الجسد. كنا قد نسينا أنه سبق وتنبأ بأنه سيقوم بعد ثلاثة أيام. كان موته صدمة قاتلة لجميعنا. مات السيد فانطفأ النور وأظلمت الدنيا في وجوهنا وضاع كل رجاء... ولما كان حبنا لشخصه فائقاً حد المعرفة، كان حزنناً لا حدّ له. لقد ظللنا نبكي يوم الجمعة وطول يوم السبت. لم يتناول أحد منا كسرة خبز حتى صباح الأحد...»

«وكنا في الطريق نتساءل «ترى من يزحزح لنا الحجر؟» ووصلنا. لا أذكر بالضبط متى حدثت الزلزلة، أقصد متى ابتدأت، لأننا وصلنا وآثارها باقية. تزلزلت الأرض وجاء ملاك زحزح الحجر وجلس عليه. ورأينا الجنود منكفئين وقد بان الرعب واضحاً على وجوههم. لا أعلم كيف تجاسرنا وسرنا نحو القبر وألقينا نظرة داخله، فلم نجد الجسد؟ وفيما نحن نحدق النظر أبصرنا شابين في ثياب بيضاء.. دعني أقول ملاكين. لم نرهما في أول الأمر، فقد كنا في حالة خوف وفزع. كنا في حالة الموت. البقعة لا تزال تحمل آثار الزلزلة. الجنود في حالة فزع. رجلان في ثياب براقة يظهران لنا، وقالا: «لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيل قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى 28: 5 و6 لوقا 24: 5-7 ) لم أقف مع النساء عندما تكلم الملاكان، ولكني عدت راكضة إلى المدينة وطرقت باب البيت الذي فيه سمعان بطرس ويوحنا وقلتلهما: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا 20: 2). قلت ذلك وعدت مرة أخرى إلى القبر. كان الجنود قد تركوا المكان إلى المدينة. وصلت إلى القبر وأنا أبكي وأولول. وفيما أنا أبكي ألقيت نظرة أخرى على القبر الخالي، فرأيت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً، فقالا لي: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَلَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا 20: 13) أنت ترى أننا لم نكن نفكر في القيامة.. بل كنا من المنكرين لها في أول الأمر، لأننا عندما أخبرنا التلاميذ أن يسوع قام، وأن الملائكة أخبرونا أنه قام تراءى كلامنا لهم كالهذيان.. لم تكن سرقة الجسد كما قول اليهود من مصلحتنا، وفي نفس اللحظة أحسست بحركة خلفي فالتفت لأرى إنساناً واقفاً. كان الواقف هو يسوع نفسه، ولكني لم أكن أعلم أنه يسوع كانت عيناي مغرورقتين بالدموع، كما أن الصورة كانت مختلفة عن الصورة التي عرفتها، مختلفة شيئاً ما. وقد سألني: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ»وإذ ذاك قال لي «يا مريم» هذا هو النداء الذي ناداني به يوم أخرج شياطيني. كان النغمة المحببة التي كنت أحس أنها حياتي، كنت أرددها بين حين وآخر يا مريم إذ ذاك رأيته... رأيته بقلبي، انطرحت عند قدميه أتشبث بهما لا أريد أن أفلتهما. كنت أقول: ها قد وجدتك، ولن أتركك تذهب عني. كلا لن أتركك. فقال لي: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ» (يوحنا 20: 17) فانطلقت راجعة إلى التلاميذ ورأيت النساء اللواتي كن معي عند القبر ورأين معي الملائكة، يونا ومريم أم يعقوب وأخريات وتحدثت معهن عن لقائي بالسيد، فذهبنا إلى التلاميذ وقلت لهم إني قد رأيت الرب....»

«كم أشكر الله من أجل هذا الإكرام العظيم. المرأة التي يعتبرها اليهود شيئاً لا شخصاً.. مريم المجدلية التي كانت بيتاً للشياطين يكرمها السيد فتكون أول من رآه بعد قيامته، وأول من حمل بشرى القيامة. ولمن؟ للتلاميذ، للرسل!»

«اسمع يا صديقي نوسترادميس، أنا أشهد أن المسيح قام. هزم الموت. كان لابد أن يقوم، سمعته.. رأيته بعيني.. شاهدته.. لمسته يدي. اذهب يا نوسترداميس وقل لكل من تقابله إن المسيح قام حقاً. المسيح قام. وظهر اولاً لامرأة.. للمجدلية، وكانت رسوله الأول للتبشير بالقيامة».

انتهت المجلدية من حديثها الحلو، فوقفت وقلت لها: «لم يكن للمرأة مكان في بيتي. لم يكن لها كرامة الإنسان. كانت أقل من الرجل. كنا نفرح يوم يولد الولد وندق الطبول له، وكنا نحزن يوم تُولد البنت. اليوم أشكر الله أنه أكرم المرأة وأعطاها مكان التقدير. أشكر الله أنه أكرمك يا سيدتي، فهل تسمحين لي أن أقبّل يدك، مخالفاً بذلك كل التقاليد البالية؟ وقبّلت يدها بكل احترام، واستودعتها الله. خرجت أبحث عن يسوع راجياً أن أراه».

الفصل الخامس عشر: سمعان بطرس

سارت معي المجدلية حتى وصلت إلى الباب الخارجي، وفيما أنا أبتعد قالت: أعتقد أنك يمكن أن تصل إلى تحقيق أملك عن طريق سمعان بطرس. إن السيد نفسه حين أرسلنا لنخبر التلاميذ عن قيامته قال: «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ» (مرقس 16: 7).

لذلك سرت في طريقي أقصد أن أقابل سمعان بطرس. وقد عثرت عليه بعد جهد واستقبلني مرحّباً. عرفت أنه سمع عني، وسمع عن شوقي أن أرى المسيح المقام. ثم قال: لقد سمعت ولا شك أن رؤساء اليهود يُشيعون أننا سرقنا الجسد وخبأناه في مكان ما، وادعينا أنه قام. وهي تهمة ظاهرة البطلان، إذ أية فادئة تعود علينا من وراء هذا الأمر؟ إن المسيح المقام يسبب لنا متاعب كثيرة. لقد اضطهدوا السيد وصلبوه. وقد قال لنا المسيح قبل الصلب: «إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يوحنا 15: 20 و16: 33).

بل إننا ويا لخجلي - كنا قد نسينا أنه سبق وأنبأنا بموته وقيامته. وقد سخرنا من كلام المجدلية وكلام النساء عندما أخبرننا أن السيد قد قام، وتراءى كلامهن لنا كالهذيان....

قلت: «أرجو يا سيدي أن تعرف أني في سؤالي عن القيامة لا أطلب شهادة عن القيامة. فأنا قد آمنت بأن المسيح يسوع هو ابن الله، وحمل الله الذي صُلب من أجل خطايانا وقام... نعم وقام لأجل تبريرنا. أرجو أن تعرف أني أستمتع بكل ما يتصل بعظائم المسيح، بمعجزاته كلها، جسدياً وروحياً. وأنا اشتهي أن أراه في الجسد عياناً، إذا أكرمني المسيح فسمح لي أن أراه أشكره، وأشكره أيضاً إذا لم يسمح. إني قابل لمشيئته.. أنا أقول له فعلاً: «لتكن مشيئتك». وقال بطرس إنه واثق أن السيد سيحقق لي أمنيتي لأن: «الذين يبكرون إليه يجدونه» ولأنه كان يقول: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي» (إشعياء 65: 1) فبالأحرى يوجد من الذين يطلبونه، ثم قال: سأذكر لك كل ما تم الآن في موضوع القيامة.»

طرقت المجدلية باب المنزل في أورشليم حيث كنت أقيم أنا ويوحنا وقالت لنا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا 20: 2). كان هذا في بكور يوم الأحد. فقمت أنا ويوحنا وسرنا... الأصح أن أقول ركضنا. ركضت حتى انقطعت أنفاسي، فتمهلت في الركض. أما يوحنا فاستمر يركض، ووصل إلى القبر قبل أن أصل، إلا أنه لم يشأ أن يدخل القبر أولاً. يبدو أنه أراد أن يعطيني الفرصة قبله. دخلت وهو بعدي. ورأينا الأكفان موضوعة، والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً في موضع وحده. كان القبر يقدم صورة غرفة نوم قام النائم فيها بدون عجلة، ورتب فراشه بكل هدوء، ليس كما يشيع رؤساء اليهود عن سرقة الجسد. آمن يوحنا، ووبخ نفسه وإيانا لأننا لم نكن بعد نعرف أن الكتب المقدسة تنبأت أنه ينبغي أن يقوم من الأموات. وأما أنا فلم أستطع أن أحدد موقفي.. آمنت ولكنه كان إيماناً مقلقلاً إلى حدٍ ما، لأني مضيت متعجباً في نفسي مما كان!

وجاءت المجدلية مرة أخرى وأكدت لنا أنه أبصرت السيد، وأنه طلب منها ومن النساء أن يخبرن التلاميذ وبطرس أنه قام وأنه يسبقنا إلى الجليل. وقد تأخرنا فلم نذهب إلى الجليل في نفس اليوم. على أن السيد أكرمنا فظهر لبعضنا قبل الميعاد المحدد، إلا أن مقابلتنا في الجليل تمت بعد ذلك.

وصمت سمعان بطرس برهة ثم قال: «ما كنت أرغب أن أخبرك عن ظهوره لي. نعم فقد ظهر لي: كنت في حاجة إلى هذا الظهور. لا شك أنك لم تسمع عن خطيتي البشعة التي ارتكبتها ضد سيدي. في يوم الخميس الذي أكلنا فيه الفصح ورسم لنا فريضة العشاء الرباني، أعلن خيانة من يسملّه وعن موته على الصليب. ونظر إليّ وقال إنه يطلب من أجلي حتى لا يفنى إيماني، فاندفعت أؤكد له أني مستعد أن أمضي معه إلى السجن بل إلى الموت. ونظر السيد إليّ بعطف وأنبأني أني سأنكره لا مرة واحدة، بل ثلاث مرات في تلك الليلة. وأنكرته يا صديقي. أنكرت أني أعرفه. أنكرت بأقسام ولعن. وصُلب المسيح قبل أن أجثو عند قدميه وأطلب صفحه.. وظللت أبكي يوم الجمعة وطول يوم السبت. مكث معي يوحنا. حاول أن يعزيني، ولكني لم أقبل تعزية. أنا خائن أنا.. يمكنك أن تصفني بكل صفة نكراء. إني نظير يهوذا. أين التصميم أني مستعد أن أموت معه؟ وأنكرته لا أمام الموت بل أمام الجارية. كل ما كان يصيبني لو أني أعلنت أني مع الناصري أنهم يستهزئون بي. لم يكن رؤساء اليهود يعملون أي حساب لنا. لقد قبضوا على السيد وتركونا نهرب.هربت أنا وبقية التلاميذ. هربنا كمخلوقات جبانة.. وعدت إلى نفسي ووبختها، ومع ذلك تبعته من بعيد ودخلت دار رئيس الكهنة وهم يحاكمون السيد. وجلست مع الخدم حول النار نستدفئ. كان كل حديثهم سخرية بسيدي. قالوا عنه كل كلمة شريرة، وصمتّ. لم أدافع عنه بكلمة. كان يمكن أن أؤكد لهم أني ضربت العبد ملخس وقطعت أذنه بالسيف، ولكن السيد أبرأه. كان يمكنني أن أذكر أنه فتح أعين العميان وآذان الصم وطهر البرص وأقام الموتى. هم أنفسهم اعترفوا بذلك. كان يمكن أن أقول ذلك، وما كانوا يعملون معي شيئاً. ربما كانوا يسخرون مني. ربما كانوا يلطمونني وربما كانوا يطردونني.. لكني جبنت وصمتّ... وفوجئت بالجارية - وقد رأتني ساهياً لا أشترك معهم في الاستهزاء بسيدي - فوجئت بها تقول لي: «أنت كنت مع الناصري». وفي الحال قلت لها: «يا امرأة، لا أعرف ما تقولين؟». وصدر مني الإنكار ثلاث مرات. كان يسوع واقفاً أمام رئيس الكهنة فالتفت في تلك اللحظة إليّ وعيناه تقولان لي: «هل حقاً لا تعرفني؟» وصاح الديك. تماماً كما أنبأ سيدي، فخرجت إلى خارج وبكيت بكاء مراً. ومات سيدي على الصليب. مات دون أن تكون لي فرصة لأعترف له بذنبي وأعلن له توبتي... فظللت أبكي كما قلت لك إلى صباح الأحد. وقام السيد من الأموات وأرسل لي مع الرسالة العامة رسالة خاصة «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ» (مرقس 16: 7) نعم ظهر السيد لي. جثوت عند قدميه وبكيت وظللت أبكي وأبكي. ووضع المسيح يده على رأسي وقال: «لكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ» (لوقا 22: 32). لم أقل للتلاميذ رفقائي إلا أن المسيح ظهر لي. إن مجرد ظهوره لي كان إعلاناً عن صفحه. لقد صفح عني، ولكني ظللت طول حياتي أوبخ نفسي. وهكذا ترى المعاني العميقة لظهورات المسيح بعد قيامته» .

- وظهر ليعقوب:

ويعقوب ليس «يعقوب بن زبدي». بل هو يعقوب أخو الرب. ولا داع لأن تسأل عن درجة قرابته: هل هو أخ شقيق، أو أخ من يوسف، أم هو ابن خالة أو ابن عم؟ وأنت تجد هذا التعبير في بلادنا. ففي قصة أبينا يعقوب مع خاله لابان تقرأ أن يعقوب طلب من إخوته أن يحملوا حجارة يطرحوها على رجمة، ولم يكن ليعقوب إلا أخ واحد، لا أخ آخر شقيق أو غير شقيق، لكنه استعمل كلمة «أخ» بمعناها الواسع. ويعقوب أخو الرب لم يكن يؤمن أن يسوع هو المسيح، على أنه آمن به بعد القيامة وصار قطباً كبيراً في الكنيسة. وكان ظهور السيد له البرهان القاطع الذي آمن يعقوب على أثره. وأنت ترى هنا أن للقيامة قوتها العملاقة التي غيرت العالم.

- تلميذا عمواس:

كان عشرة منا في بيت في أورشليم، وكانت الأبواب مغلقة بسبب الخوف من اليهود. ولعل هذا يعطيك برهاناً جديداً على أننا لم نسرق الجسد ثم ندّعي أن يسوع قد قام. وسمعنا طرقاً على الباب. بالطبع لم نفتح الباب إلا بعد أن تحققنا من شخصية الطارق. كان كليوباس أحد الطارقين ومعه زميل له. كانا من مدينة عمواس على مسافة أميال قليلة جنوبي أورشليم.

في يوم الأحد كان كليوباس وزمليه يسيران عائدين إلى مدينتهما عمواس، حزينين مكتئبين متألمين، وقد حملا صورة الفشل مجسمة. كانا يتكلمان بعضهما مع بعض كلمات قليلة تحمل هذا الطابع الحزين بسبب حادثة الصلب. وفي سيرهما وجدا شخصاً غريباً يسير معهما... لم يعرفا أنه يسوع أولاً، لأنهما لم يكونا ينتظران أن يرياه. لقد مات يسوع. رأياه معلقاً.. ورأياه يُدفن. مات وانتهى. قد يكون هذا الغريب في صورة يسوع ولكن لا يمكن أن يكون هو يسوع، ثم يغلب أن يكون جسد القيامة قد حمل بعض التغيير. وقد سألهما: «مَا هذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» (لوقا 24: 17). فقال له أحدهما وهو كليوباس: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟» (لوقا 24: 18). لم يجب السيد على السؤال، لكنه سألهما: «وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا 24: 19-21). واأسفاه فشل رجاءنا.

ونظر إليّ بطرس وقال: «لقد كان عندهما إيمان ناقص مثل الإيمان الذي كان لنا. ومع ذلك فقد كان عندهما من الشجاعة أكثر مما كان عند بعضنا - على أنهما أثبتا أن إيمانهما كان ناقصاً. فقد ظهر أنهما كانا قد سمعا أخبار قيامة السيد بعد ثلاثة أيام، ولكنهما أظهرا شكاً كبيراً في حقيقة القيامة، إذ قالا: «بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ» (لوقا 24: 22-24). كان حديثهما مع الغريب يحمل نغمة التكذيب للقيامة. لقد سبق المسيح وأعلن أنه سيقوم. وذهبت النساء إلى القبر فوجدنه خالياً، وقالت النساء إن الملائكة أخبروهن أنه قام، وإن من التلاميذ من ذهب إلى القبر فوجده خالياً فعلاً. كانا يقصدان أمر ذهابي مع يوحنا إلى القبر. كل هذا وهما يتشككان في أمر القيامة - كانا فعلاً يستحقان توبيخاً.. بل إننا كلنا نستحق توبيخاً. وقد وبخنا المسيح فيما بعد - قال السيد لهما: «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ» (لوقا 24: 25) ألم يذكر الأنبياء آلام السيد؟ ألم يذكر الله الحية التي تسحق عقب نسل المرأة؟ ألم يذكر حمل فداء إسحاق؟ ألم يذكر نظام الذبائح الموسوي؟ ألم يذكر دم يوم الكفارة؟ ألم يذكر داود في مزاميره الكثير من ذلك؟ ألم يذكر إشعياء أنه مسحوق لأجل آثامنا؟ واستمر يشرح لهما قصة الفداء من موسى ومن جميع الأنبياء. وكانا يصغيان بلهفة، وقلبهما يحس أن نيراناً حامية تلسعه وتوقظه. ولما وصلوا إلى حدود عمواس تعلقا بالغريب ليمكث معهما، إذ ظهر أنه ينوي مواصلة السفر. قالا إنه نحو المساء والسفر في الليل غير آمن، فدخل معهما وجلس على المائدة معهما، ثم أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما... وإذ ذاك رأيا أثر المسامير فعرفاه وهتفا بصوت واحد: «رَبُّونِي! أي يَا مُعَلِّمُ»(يوحنا 20: 16). ولكنه اختفى في لحظة» .

تركا الطعام وعادا ركضاً إلى أورشليم وطرقا بابنا كما قلت لك، ورويا لنا هذه الرواية، وخلاصتها أن الرب قام. فقلت لهما: «نعم قام». وقال التلاميذ: «وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» (لوقا 24: 34).

قلت: «إن قلبي يحس أن طوفاناً من البهجة يفيض عليه ولكني أطلب أن أسمع أكثر عن السيد الذي خرجت من بلادي وتركت كل شيء لأراه. إنني أغبطكم.. أكاد أقول أحسدكم لأنكم رأيتموه.. تكلم يا صديقي، تكلم».

قال سمعان: «إني لم أفرغ بعد من قصة تلميذي عمواس.. كانا يذكران قصتهما... وقبل أن يفرغ منها إذا بالسيد نفسه يقف في وسطنا ويقول: «سَلاَمٌ لَكُمْ!» (لوقا 24: 36). ولعل لك الحق يا صديقي أن تندهش إذ أقول لك أن ظهوره المفاجئ شاع الجزع في قلوبنا... هل هو حقاً المسيح أو هو روح؟.. فقال لنا: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي. وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟ وَقَالَ لَهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ» (لوقا 24: 39-44). إذ ذاك فُتحت أذهاننا وبدأنا نفهم. وقد قال إن لنا رسالة نقوم بها، فلننتظر في أورشليم حتى ننال قوة الروح القدس. واختفى السيد ولا نعلم كيف. لكن فرحنا كان طاغياً. لقد رأيناه حقيقة وأخذنا نرتل هاتفين: الرب قام حقاً» !

- توما:

وفيما نحن نرنم دخل توما، ولاحظ ما نحن فيه من بهجة. كنا طول الأيام الثلاثة ننوح ونولول، الرجال مع النساء - الكارثة كبيرة. لكن هوذا يرانا نرنم بابتهاج. قلنا: «قام السيد ورأيناه ولمسناه» قال: «لا تتكلموا أحاديث البطل. ستُتهمون بالخبل.. القيامة هذه وهم » - «ماذا تقول يا توما؟ المجدلية رأته النساء رأينه» قال: «وهل تصدقون النساء الحالمات الخياليات؟» قلنا: «بطرس رآه.. يعقوب رآه» هز توما رأسه وقال: «مسكين سمعان ومسكين يعقوب. إن ثورة الضمير في كليهما رسمت التخيلات أمامهما وكأنها حقيقة. تلميذا عمواس رأياه - ما الذي رأياه؟ هل تستطيعون أن تقولوا ماذا رأيا؟» قلنا: «نحن كلنا يا توما رأيناه. تكلم معنا، أكل أمامنا، طلب منا أن نعود إلى الكتب المقدسة، كتب موسى والأنبياء» فقال: «اسمعوا، اسمعوا كلمة، لن أقول غيرها، إني لا أصدق خيالاتكم، بل لن أصدق عيني. إن قيامة يسوع من الموت أمر مستحيل!! لا أصدقه بل لا أصدق عيني. إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي، هل تسمعون وأضع يدي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أؤمن».

وقد تألمنا كل الألم. لم يقبل توما أي مناقشة منا. رفض أن يسمع. رفض أن يقبل شهادة الكتاب!

وبعد ثمانية أيام اجتمعنا معاً، نتدارس موقفنا.. كنا كلنا نحن التلاميذ ما عدا يهوذا يالطبع الذي انتحر عقب خيانته للمعلم!

وبينما نحن جالسون في كثير من الحزن جاء يسوع ووقف في الوسط وقال: «سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يوحنا 20: 26 و27).

وهنا انطرح توما عند قدمي المسيح وقال: «رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 28 و29).

- هل تحبني؟

لا أزال أجلس أمام سمعان بطرس وهو يتحدث. كان وجهه يرسم شتى الانفعالات. لقد مرت به أحداث مؤثرة. قال لي: «اسمع يا نوسترداميس، إن المسيح يقول لك، طوبى لك لأنك آمنت دون أن ترى. ولأنك لا ترغب أن ترى لكي تؤمن، ولكنك آمنت لذلك ترغب أن ترى... ظل إيماننا يتأرجح. كم جربنا الشيطان. ربما كانت التجربة أبعد من الإيمان بالقيامة. قام المسيح ولكننا لا نعرف بعد ما إذا كان سيعود إلينا. ولا نعرف نوع العلاقة بيننا وبينه. ولا نعرف حقيقة رسالته بعد القيامة».

مضت أيام. لم نعلم أين يقيم المسيح في هذه الأيام. إنه يفاجئنا في غير انتظار. في اليوم الأول ظهر خمس مرات ثم اختفى، وبعد ثمانية أيام فاجأنا بظهوره ثم اختفى..

وبعد أيام - بدت في عيني دهوراً - في الحق لا أستطيع أن أحدد مشاعري، هل فقدت الأمل في مجيئه، أم أحسست أن السيد سامحني حقاً، ولكنه ألغى اختياره لي كتلميذ ورسول؟ وسواء كان هذا أو ذاك فقد قلت في أحد الأيام لرفاقي: «أنا ذاهب لأتصيد». كنت قد تركت الصيد. كانت عندنا سفن للصيد، كنا شركاء عائلة يونا وعائلة زبدي، وكان عندنا عمال. وقد اتفقنا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي وأنا واندراوس أخي أن نترك الصيد لبعض أهلينا. لكن في ذلك اليوم قلت لرفاقي: «أنا أذهب لأتصيد». فقال لي ستة من الرفاق، منهم ابنا زبدي وتوما ونثنائيل: «نذهب نحن أيضاً معك». وذهبنا إلى بحيرة طبريا. وظللنا الليل كله نطرح الشباك في أماكن متفرقة دون أن نمسك شيئاً.

وفي الصباح وقف يسوع على الشاطئ. كان الظلام يحيط بالجو فلم نعرف أنه المسيح. ولكنه نادانا: «يا غلمان هل اصطدتم شيئاً». فأجبنا بالنفي: قال: «اطرحوا الشباك إلى جانب السفينة الأيمن فتمسكوا». فأطعنا كلامه، وإذا بالشبكة تمتلئ سمكاً، نحاول أن نجرها فنعجز. لأول مرة تمتلئ بهذه الصورة. مال يوحنا إلى أذني وقال: «هو الرب»إن عين الحبيب متصلة بقلبه. عرف يوحنا حبيبه بقلبه لا بعينه. كنت عرياناً فلبست ثوبي وطرحت نفسي في الماء وسبحت إلى الشاطئ. ووصلت السفينة ورأينا السيد واقفاً وبجانبه جمر وسمك مشوي وطعام مُعد. كيف أعدّه؟ لا نعلم. كنا نحس برهبة فلم يجسر أحدنا أن يسأله. بالطبع عرفناه.. لم نسأله من أنت.. جلسنا وأكلنا. قدم هو الخبز والسمك لنا...

وجلسنا بعد الغذاء صامتين. وهنا التفت المسيح إليّ وسألني: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» (يوحنا 21: 15) منذ أقل من أربعين يومياً أكدت له أنه إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك. إنه الآن يسأل سؤالاً آخر في عمقه، لا رباط بينه وبين كلامي. قد أقف إلى جانبه ولاءً لمبدأ، أو انتظاراً لمصلحة، أو منافسة لآخرين، أو ازدراءً بهم، أو كبرياء. أما سؤاله فيتصل بالحب: أتحبني؟ إن هذا اهتمامه الأول، وأنا أجبته: نعم يا رب أنا أحبكَ أكثر من كل شخص وأكثر من كل شيء «نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ» فقال لي: «ارْعَ خِرَافِي» (يوحنا 21: 15) شكراً لله ها هو يردني إلى رسوليتي - على أن السيد نظر إليّ مرة ثانية وقال: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَلت لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لي: ٱرْعَ غَنَمِي» على أن السيد لم يقف عند هذا الحد، بل قال لي ثالثة: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» وملأ الحزن قلبي وتجلى على وجهي وقلت: «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ» نطق لساني بهذه الكلمات. وقرأ السيد ما جال في قلبي. أنا أحبك يا رب بالرغم من كل شيء. أنت تعلم ذلك. لقد جبنت وأنكرت وجدفت ولعنت، ولكني أحبك يا رب. أحبك أحبك. وقال السيد: «ٱرْعَ غَنَمِي» (يوحنا 21: 15-17).

ثم صمت قليلاً وتكلم ما لم أفهمه إذ ذاك. فهمته فيمابعد. قال: «لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ» (يوحنا 21:18).

فهمت من هذا الكلام أنه ينبئني بما سألاقيه في خدمتي.. ما لم أعرفه.. وإلى الآن لا أعرفه. سيعلنه لي فيما بعد.

فرغ المسيح من حديثه لي وقال: «اتبعني..هلم ورائي». نعم يا سيد سأتبعك كل الطريق. سأتبعك ولو إلى الموت. رفعت عيني وأبصرت زميلي يوحنا فقلت: «ترى ما مصير يوحنا أيضاً؟» وأجاب: «لا تسأل عما لا يخصك. إن كنت أشاء أنه يبقى حتى مجيئي فماذا لك؟ اتبعني أنت». وقد فهم بعضنا أن يوحنا لن يرى الموت، مع أن السيد لم يقل ذلك. قال: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ» (يوحنا 21: 22). ونظر بطرس إليّ وقال: «والآن يا نوسترداميس ها قد سمعت قصة قيامة المسيح. قلتها لك لا لكي تؤمن، فقد علمت أنك آمنت. علمت أنك قبلته مخلصاً وفادياً، وإنما قصصتها عليك لكي يتقوى إيمانك. وسواء رأيت السيد بالعيان أم لم تره، فقد نلت الخلاص. وأنا أقول لك كلمات السيد: طوبى لك لأنك وأنت لم تر قد آمنت. طوبى لك». إني اعتقد أن السيد سيدبر لك لقاءً.. كما أعتقد أنه سيدبر لنا لقاء ويعطينا فيه تعليماته الأخيرة. لماذا لا تقم قريباً منا، فقد يُتاح لك أن تراه .

جثا بطرس ورفع عينيه إلى السماء وشكر الله من أجل عطيته التي لا يُعبر عنها، ثم وضع يده على رأسي وقال: «لتحل بركة السيد عليك. لتملأك المحبة العظيمة المنتصرة».

انطلقت من عنده وأنا أمجد الله الذي أكرمني بلقاء القديسين، وما تمتعت به من أخبار مجيدة عن سيدي وعن محبته وصليبه وقيامته الظافرة!

الفصل السادس عشر: لقاء المسيح

يدي ترتعش بشدة وأنا أدوّن مذكرات اليوم. ها أنا أقبض على القلم بكلتا يديّ. جسمي كله يضظرب. استيقظت في الصباح على غير العادة متأخراً. كنت أستيقظ قبل الفجر وأقضي فترة مع المسيح في التعبد والتأمل. لا أنكر أني كنت أحياناً أعتب عليه أنه لا ينيلني أمنية الحياة. قلت: «يا سيد أنا لا أريد أن أفاضل. كل الذين ظهرت لهم أفضل مني، ولكنهم كلهم كان عندهم الكتب المقدسة. كان عندهم كتب موسى والأنبياء والمزامير. كلهم كان طريق الإيمان لهم معداً. نعم كلهم بلا استثناء، أما أنا يا رب فقد كنت أعيش بلا إله، وقد تركت أهلي وعشيرتي وسرت إلى بلاد لم أعرفها، وقاسيت ما قاسيت لأراك يا سيد. خرجت أبحث عنك. فلماذا حرمتني حتى الآن من رؤية وجهك؟ يا رب أرني وجهك، ثم خذني إليك، لا أطلب شيئاً آخر. ليس لي أمنية أخرى. أراك وأموت. إن ناراً تأكل قلبي يا سيدي»!!

سرت أمام البيت الذي قضيت الليل فيه. سرت طويلاً بدون هدف، وإذ بي أسير في طريق الجبل خارج بيت عنيا. عندما أحسست بالتعب عدت إلى نفسي فإذا أنا في سهل من سهول الجبل، وإذا أنا لست وحدي. ما هذا؟ هوذا باراباس وزكا ولعازر.. بطرس ورفاقه، جمهور غفير يجتمع وبرنم. ما الذي جاء بهؤلاء إلى هذا المكان؟ علمت أن بعض المؤمنين بالمسيح اعتادوا أن يقيموا اجتماعات بين حين وآخر، يرفعون الصلوات للآب شاكرين الله لأجل إرساله ابنه...!

كان الحاضرون من الذين سبق المسيح فقدم لهم بركات.. هذا الشاب الذي فتح عينيه، وهذا بارتيماوس وهذه السامرية، وهذه مرثا ومريم.. هذا زكا، وهذا رجل أراه لأول مرة، برنابا.. هوذا يوسف الرامي ونيقوديموس، أكثرهم من الرجال.. أكثر من خمسمائة أخ. وجثوت معهم أصلي. صليت بحرارة وبكيت: «يا سيد أرني وجهك». وفيما أنا منكفئ على وجهي أحسست بحس حركة تحيط بي، ففتحت عينيّ وأبصرت الجماهير تركض إلى الأمام. وإذا بشخص مهيب يقف على ربوة ويقول: «سلام لكم». وجثا الجمهور كله أمامه وسجدوا له. ورفع ذلك السيد يده فكان سكوت أحرى. علمت أنه هو.. حاولت أن أشق طريقي إليه. حاولت أن أصرخ، ولكن الصوت احتبس في حلقي وعجزت عن كل حركة..

وجلس وأخذ يعلم: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متّى 5: 13).

«أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 14-16).

«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى 5: 38-48).

«مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متّى 6: 3 و4).

«وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متّى 6: 6).

«لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، أَفَلَيْسَ بِٱلْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا. لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ»(متّى 6: 25-33).

«لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّ»(يوحنا 3: 16).

« لأَنَّ ٱلآبَ يُحِبُّ ٱلٱبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هٰذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذٰلِكَ ٱلٱبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلٱبْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِٱلَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ. هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ»(يوحنا 5: 20-24 و6: 29).

« تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ»(متّى 11: 28-30).

هذا بعض ما قاله السيد، ولم أستطع أن أستوعب إلا هذا الجزء القليل الذي ذكرته هنا. إنها كنوز من جواهر منتقاة، لو كُتبت في كتب فلست أظن أن العالم يسع الكتب المكتوبة.

كان الجميع يُصغون بكل قلوبهم، أما أنا فكنت كمن يتلهم كلامه التهاماً، فهمت معنى قوله: «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً. كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ»(يوحنا 6: 35 و4: 13 و14).

انتهى من كلامه فهجم الجمهور نحوه يريدون أن يلمسوا ثيابه، ولكنه أشار إليهم فجلسوا في أماكنهم ومرّ هو بهم..

أبصر بعض النسوة يحملن أطفالهن، فاقترب منهن ووضع يديه على رؤوس الأطفال واحتضنهم وباركهم.. ولما وصل إليّ قال: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي»(رومية 10: 20) ماذا تطلب وماذا تريد أن أعمل لك؟

قلت: «يا سيدي لا أطلب شيئاً إلا أن أراك.. أراك فقط يا سيدي. لقد آمنت بك من سنين طويلة. سلمت حياتي لك. وضعت كل خطاياي عند قدميك» فقال لي: «مغفورة لك خطاياك». قلت: «الآن تطلق عبدك بسلام لأن عيني أبصرتاك».

فقال: «ليس بعد. الطريق أمامك ممدود. أكمل الرحلة إلى أن تعبر النهر. في العالم سيكون لك ضيق. ستقابلك متاعب ومشقات، ولكنك لن تكون وحدك. لأني ها أنا معك كل أيام جهادك، ولن أتركك حتى تصل إلى الميناء الأخير بسلام».

كنت طول الوقت خافض الرأس أسمع كلماته. فلما سكت رفعت رأسي فلم أجده. اختفى في لحظة...

تركت المكان وفي قلبي طوفان من العواطف. فرح فاض حتى ملأ كل جوانب حياتي... فرح جعل يرتفع ويرفع. غرقت فيه. قلت: «يا رب كفى. حب اكتسح في طريقه كل شيء. اختفى العالم من أمامي بكل ما فيه. شخص واحد ملأ قلبي.. هو وحده. لا أهتم بشيء آخر. نسيت الطعام واللباس.. الحياة نفسها» لقد قال لي: «وها أنا معك ولن أتركك». ومع ذلك أحسست أني فقدت كل شيء عندما اختفى عني. قلت له: «جيد يا رب أن أكون ههنا». ولكنه رأى لي شيئاً آخر.

خرجت كما لو كنت قد خرجت من الفردوس إلى الأرض، ومن الجنة إلى الشوك. ها أنا أرتب أموري لأسير في الطريق التي عينها لي من الجلجثة إلى النهر.. الطريق طويل كما علمت، فيه جبال ووديان وتلال، فيه أرض ناعمة وأرض خشنة. فيه جهات آمنة وجهات مخاطر. فيها قلاع للسيد وفيها أوكار للعدو. خرجت لأجهز نفسي لهذه الرحلة. بعد أسبوع.. كلا، بعد عشرة أيام. أبلغوني أن السيد استدعى التلاميذ ليلتقوا به في الجليل، فانطلقوا إلى هناك إلى الجبل حيث أمرهم. فتقدم وكلمهم قائلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (متّى 28: 18-20 ولوقا 24. 49).

وسمعت أنه أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أروشليم بفرح عظيم.

الباب الخامس: من جلجثة إلى المدينة

الفصل الأول: الاستعداد للرحلة

كان أمر المسيح أن أبقى. لم يشأ أن يطلقني. ألمح إليّ أنه في حاجة إليّ. أحسست بشيء من الغرور. أنا.. أنا؟ المسيح في حاجة إليّ؟ وهو يملك كل العوالم. ولكنه بفضله يعطي ثم يطلب كما لو كان يستعطي. أعلن أن عليّ أن أحدث الناس عما أكرمني به. أعلن أنه يتمجد بذلك. قال لي إن الطريق ليس سهلاً. سأمر بأرض خشنة، بأدغال وتلال وجبال، لكنه قال إنه سيكون معي. سيكون معي زملاء. ولكن الأمر الهام أنه هو سيكون معي. قد لا أراه بعين الجسد ولكنه لن يفارقني.

بدأت أستعد للرحلة. لقد ترك تعليماته أن أنتظر في أورشليم إلى أن يصل رسوله حاملاً معه كل ما تحتاجه هذه الرحلة. وعلمت أن الاثني عشر سيكونون في الانتظار وسيكون إخوة يسوع وأمه والمجدلية وبعض النساء الأخريات، وعدد من الرجال. كان لعازر وشقيقته مريم. كانت مرثا في البيت تجهز الطعام للضيوف الذين سيزورون بيت عنيا.

كان اجتماعنا في العلية في بيت مريم أم يوحنا مرقس. كان يوحنا في أول الشباب، لكن أمه كانت سيدة تقية ناضجة. عندما دخلت العلية أحسست أني أدخل مكاناً محمى بنار شديدة. كان الجميع يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة.

ذاب كل شيء في لهيب تلك الصلوات، ذابت الغيرة التي كانت تتجلى بين التلاميذ، والتحموا كلهم بمحبة منكرة للذات. لم يكن مكان للمشاجرة من منهم يكون الأول. لم يوجد من يطلب أن يجلس على يمين المسيح أو عن يساره. ذاب الشك والخوف والقلق. ذابت الأنانية والمادية، ذاب التردد.. أحسست أننا لسنا مائة وعشرين، بل أننا فرد واحد. كنا نجتمع كل يوم من الصباح إلى المساء، لا نتبلّغ إلا بأقل القليل من الطعام في أثناء النهار. لقد مرت أيام لم نشعر فيها بحاجتنا إلى طعام أو شراب. كانت أيامنا فردوسية. كانت طلباتنا أن يتمجد المسيح، وأن يرسل لنا المعزي الموعود به.

وفي إحدى الفترات وقف سمعان بطرس وقال: «أيها الرجال الإخوة.. أنتم ترون أن واحداً من التلاميذ مفقود. لقد اختار المسيح اثني عشر.. ولكن أحدنا كان من الأول ابن الهلاك. لقد سبق النبي داود فأنبأ بالروح أن مكانه سيأخذه آخر. كان خائناً غادراً، وصار دليلاً للذين قبضوا على المسيح. اقتنى حقلاً من أجرة الإثم.. وقد ذهب إلى بيته وشنق نفسه.. علق عنقه بفرع الشجرة، ولكن جسمه الثقيل هوى به فوقع على العُليق النابت فانشقت بطنه وخرجت أمعاؤه، وسمعت المدينة كلها بنصيب الخائن، وصار اسم يهوذا عَلماً لكل خائن - ولقد أنبأ الكتاب أن مكانه سيأخذه آخر. لذلك أطلب منكم أن تمثلوا أمام الله ليختار على أيديكم الرسول الثاني عشر، ويُشترط في اختياره أن يكون قد ابتدأ معنا، وشاهد المسيح منذ بدء خدمته إلى اليوم، ليكون شاهداً معنا بقيامته». وعُرضت عدة أسماء تناقش القوم فيها، لم أتدخل أنا في الأمر لأني كنت أعتبر نفسي غريباً في وسطهم. على أن المناقشة انتهت على اثنين هما: بارسابا الملقب يوستس، ومتياس. لم يكن المفاضلة بينهما. كل من الاثنين كان يحمل نفس الكفايات التي في الآخر. ولذلك لجأوا إلى النظام اليهودي وهو إلقاء القرعة، فصلوا وطلبوا من الله أن يعلن أياً من الاثنين يختاره. وألقوا القرعة فوقعت على متياس. فحُسب مع الأحد عشر.

لم نكف عن الصلاة.. ولم تخف حرارتها.. بل كان الأمر بالعكس. ظللنا نصلي بنفس واحدة وبحرارة مدة عشرة أيام كاملة. كنا نتحدث مع الآب متمسكين بوعد الابن.

اكتب هذه الكلمات الآن قبل منتصف الليل بقليل، كان اليوم أعظم يوم في حياتي. الاختبار الذي جزته لا يزال إلى الآن يهزني بعنف.. لم أكن أدرك الحاجة القصوى إلى ما قمنا به في العشرة الأيام الأخيرة. أشخاص يصارعون في سبيل ما هو أغلى من الحياة.. فلما جاء اليوم الحادي عشر، أو دعني أقول الخمسين تذكرت أن يوم الخمسين لم يكن يوماً جديداً لنا. هو يوم عيد الحصاد، إننا نتعب ونتعب ونتعب... ثم نحصد. صحيح أننا نتعب، لكن ما نحصده لا فضل لنا فيه، فالتربة خلقها الله. والخصوبة فيها من صنع الله، والحياة في البذار من الله، والمطر يرسله الله. نرمي البذار ثم ننتظر، وبعد أن يبرز النبات يرسل الله شمسه وهواءه يعملان على إنضاجه.. وإذ ذاك نجمعه، وهذا ما حدث...

تزعزع المكان بشدة. لم تكن زلزلة واحدة بل زلازل متتابعة هزت المكان وهزتنا. ثم ما هذا؟ ألسنة من نار، لم تحرق ثيابنا، ولا أجسامنا، لكنها أحرقت قلوبنا فالتهبت! وجعلنا نعتف: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!» (متّى 21: 9). بل انطلقنا نرنم: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي. أَنْتَ مُسْتَحِقٌّ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ. مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ!» (رؤيا 4: 8 و11 و5: 12).

كنا في العلية عدة عشرات.. نزلنا إلى الطريق ونحن نحس أن قوة علوية ملأتنا وأحاطت بنا من كل ناحية. علمت من إخواني أنهم مثلي أن طوفاناً من اللهيب يحيط بهم.. الله نفسه من خلف ومن قدام ومن فوق ومن أسفل.. من اليمين ومن اليسار.. وقفنا نقدم شهادتنا للمسيح الملك.. يا عجباً أن أتكلم بلغتي المصرية القديمة التي نسيتها.. بل أتكلم باليونانية، وتكلمنا بكل اللغات.

سمع جمهور الحجاج اليهود الين كانوا قد جاءوا من مختلف بلاد العالم.. سمعوا صوت الزلزلة فأقبلوا. أبصرونا ونحن نتكلم وقد اختلطت أصواتنا. كان الجمهور مؤلفاً من خليط من جنسيات مختلفة. كلهم كانوا يهوداً، لكنهم تجنسوا برعوية البلاد التي أقاموا فيها، وسمع كل واحد شهادة السيد المسيح بلغته التي وُلد فيها.

ظن البعض بسبب اختلاف اللغات أننا سُكارى، بالرغم من أن الوقت كان الساعات الأولى من الصباح. وظن غيرهم أننا قد اختل ميزان عقولنا.

وهنا وقف سمعان بطرس، فقلت في نفسي: ما عسى بطرس أن يقول، وهل يجرؤ أن يقدم شهادة سيده، وهو الذي أنكره أمام جارية؟ ولماذا لا يقف يعقوب بدلاً منه؟ لكن بطرس وقف. ولما تكلم لم أسمع الرجل الذي أنكر، بل رجلاً غير بطرس الذي كان، سمعت حديثه القصير المركز:

بدأه بنفي فكرة السُكر، لأن وقت الصباح ليس وقت الشرب. إن ما بدا من القوم ليس شيئاً جديداً. إن له أساساً قديماً، قديماً جداً. وعاد بطرس إلى ذلك القديم، إلى نبي اسمه يوئيل كان قد سبق وتنبأ أن روح الله سيحل على أبناء الشعب من شيوخ وشباب. وقال بطرس إن ما صدر من ترنيم وشهادة بلغات مختلفة هو من عمل روح الله القدوس. والمح بذلك أن اتهام اليهود لهم أو سخريتهم بهم خطأ، وأعلن، وإن يكن بدون صراحة كافية، أنهم يجدفون على الروح القدس بسخريتهم أو اتهامهم. ثم قدم بطرس يسوع الناصري وشهد أن الله شهد له بالآيات والمعجزات أنه ابن الله، وأنه والله واحد، وأن الآب أرسله.. ومع أن اليهود الذين قاوموه واضطهدوه كانوا يظنون أن الأمر كان رغماً عنه، أثبت أنه هو الذي رتبه. على أن ذلك لم يمنع أن اليهود ارتكبوا جريمة. قال لهم في مواجهتهم: «َبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ» كم اندهشت أن الذي أنكر أمام جارية يقول لرؤساء اليهود: «وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال 2: 23).

وصرخ بصوت عال: «ولكن الله أقامه. لم يستطع الموت أن يمسكه. إن الله سبق فأعلن أن القدوس لن يرى فساداً»...

وختم بطرس حديثه بالقول: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أعمال 2: 36).

كم كان بطرس رائعاً وهو يلقي هذه الكلمات. وقف بطرس عملاقاً. وبدا جمهور الرؤساء أمامه أقزاماً. وصاح القوم مرتعبين وقدثارت ضمائرهم وانتخست قلوبهم: «ماذا نفعل؟ ماذا نفعل؟ قل لنا يا بطرس، قولوا لنا أيها التلاميذ. أخبرونا... أخبرونا ماذا نفعل لننجو من الغضب الآتي».

وكان الجواب: لقد جاء الله نفسه ليفديكم.. جاء المسيح ابن الله لكي يكفر عنكم. مات على الصليب من أجلكم. «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (أعمال 2: 38).

وأقبلت الجماهير عشرات ومئات، وآمن في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف واعتمدوا.. وهكذا تأسست الجماعة الأولى التي اعترفت بالمسيح رباً وإلهاً ومخلصاً، وذلك بصورة علنية!

ظل القوم مجتمعين إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم انصرفوا جماعات جماعات وهم يتحدثون عن معجزة اليوم!

بقي الاثنا عشر وعدد قليل من المقربين، وإذ ذاك تقدمت إلى بطرس وقلت له: «أنت تذكر أني طلبت من السيد أن يطلقني، ولكنه أمرني أن أكمل سياحتي من الجلجثة إلى المدينة. وقد أعطاني تعليماته والأسلحة اللازمة، وها هي معي، ولكني أحتاج إلى من يوضحها لي بما يكفل فهمها فهماً كافياً. ومع أن الوقت متأخر إلا أني اضطررت أن آتي إليك وإلى زملائك لأني سأقوم برحلتي غداً في بكور الصباح»!

ونظر إليّ بطرس وقال: «آه، أنت المصري الذي تحدثت معك. إنني لا أزال أذكر حديثنا، وإني أشكر الله أنك لا زلت متمسكاً بالسيد.. ومع أنه يكفي أن نستمع لكلمات السيد إلا أني سأعيدها لك! أما أول ما أقوله لك فهو أن الطريق أمامك ليست طريقاً سهلة. لقد قال لك على ما أذكر إن أمامك جبالاً ووهاداً وصحاري وودياناً.. أمامك سهول وأراض منبسطة وغابات. أمامك حدائق وأشواك.. أمامك قليلون يرحبون بك وكثيرون يقاومون ويضطهدونك.. ألم يقل المسيح: «فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يوحنا 16: 33)

أما الأجهزة التي أعطاها لك فها هي، هذا المصباح الكبير الذي يضيء لك كل الطريق. لا تستعمل مصباحاً غيره.. إذا وجدت مصابيح أخرى فأنا أنصحك ألا تقبل منها إلا ما يتفق مع هذا المصباح. إنه «مصباح كلمة الله»!

وكلمة الله المكتوبة هذه ينيرها لك كلمة الله المتجسد الذي قال: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12). ويدهشك أن تعلم أنه هو المصباح وفي نفس الوقت هو الطريق...

أمامك الكتاب المقدس. اسمع للوصية، فإن: «نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا» (مزمور 19: 7).

وأمامك شخص المسيح الذي يقول لك: «اتبعني». ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته.

أما الجهاز الثاني فهو جهاز عظيم حقاً. هل ترى هذه الأزرار؟ إنها معجزة تكاد لعظمتها لا تُصدق، فهذا الزر يتصل بجهاز الشركة مع الآب والابن والروح القدس. أرجو أنك تستعمل هذا الجهاز باستمرار حتى لا تشعر بالوحدة. قل له: ولكني دائماً معك. أمسكت بيدي اليمنى. «بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي» (مزمور 73: 24)

والزر الذي يليه يتصل بجهاز «النجدة»، خصوصاً عندما يحيط بك أعداء، أو عندما تكون قد أهملت اليقظة وتعرضت للعدو وللهزيمة.. هذا الجهاز يتصل بالاعتراف والتذلل والتوسل. إنك قد تتعرض للغرق ولكنك إذ تستعمل جهاز النجدة هذا سيمد يده إليك وينقذك... ثم يوبخك ويقول لك: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» (متّى 14: 31).

والزر الثالت، وأرجو انك لا تحتاج إليه، قد تنزل دون أن تدري وتظل تتدحرج وتتدحرج حتى تسقط في الهوة السفلى، عندما تجد أصابع الأخطبوط أحاطت بك، وأنك ضعت نهائياً.. لقد استعمل هذا الجهاز قديماً الملك داود.. وأظن الملك سليمان.. لا تخف سر. سر بدون قلق، سر مطمئناً فإن معك المواعيد الصادقة والنفيسة ومعك السلام، ومعك روح الله، بل معك المسيح نفسه. وستجد في الأجهزة التي معك ما يعينك!

نفس الظروف التي ستجوزها ستكشف لك عن هذه الأجهزة وعن كيفية استعمالها، لا تهملها. سر وتوكل على الله.. ولماذا تنتظر حتى الصباح؟ لماذا لا تسير من الآن، هيا ابدأ سياحتك المباركة وسنصلي من أجلك.

وهكذا بدأت رحلتي متوكلاً على الله. بدأتها بعد أن امتلأت بروح الله وجددت شهادتي بإيماني بسيدي وإلهي الرب يسوع المسيح الذي قبلني في عداد مفدييه. نعم سرت في يقين، ولو أني لا أنكر أن يقيني لم يكن كاملاً.. يا رب ثبتني.. يا رب ثبتني.

الفصل الثاني: محطة الشحن والتجديد... والتوجيه

في جلستي السابقة، لا أقصد جلسة الأمس أو على الأصح اليوم - ذكر لي بطرس أنهم في إحدى لقاءاتهم مع المسيح سألوه في معرض أحاديثهم: «يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال 1: 6) وقال بطرس إنهم برغم الأجواء الروحية التي وفرها المسيح لهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من الجسد، بل استمروا يفكرون في مملكة إسرائيل. وقال بطرس: كم كان المسيح كريماً معنا. لم يوبخ جسدانيتنا بل لم ير أن الوقت قد حان ليفهمنا حقيقة الملكوت. قال لنا: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْض» (أعمال 1: 7 و8). في هذا اعلن المسيح أن مملكته لا تضم أورشليم فقط ولا كل اليهودية، بل السامرة أيضاً.. بل كل العالم.. على أن ما نبّر عليه بالأكثر هو أننا سننال قوة.. وقد نلنا هذه القوة فعلاً.

وأنا نوسترداميس كنت معهم في العلية، ونلت هذه القوة.. وقال لي بطرس وأنا أتركه، بعد أن شرح لي الأجهزة التي معي وكيفية استعمالها: «قد نلت قوة تكفيك الحياة كلها، بل الأبدية نفسها. على أن هذه القوة قد تتعرض لما يضعفها. وهناك الوصية: «لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ» (1تسالونيكي 5: 19). والوصية الأخرى: «لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ» (أفسس 4: 30). والوصية الهامة: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَة. فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ» (متّى 26: 41 وأفسس 6: 12). وقال لي بطرس: «إنك قد تحس بين حين وآخر بأنك ضعيف أو أن قوتك قد قلت نوعاً، أو أن العدو الذي يهاجمك يملك قوات كثيرة... إن ما تملكه من الأجهزة فيه الكفاية، ولكن المسيح - زيادة في تأمين طريقك - قد أقام محطات شحن القُوى بين كل مسافة وأخرى لتقوية الموجود أو إعادة الشحن. وفي نفس الوقت تقوم هذه المحطات بتوجيه المسار أو تعديله إذا كان قد انحرف - وهذه المحطات موجودة على طول الطريق. قد تكون ظاهرة كل الظهور، وقد تكون في أماكن غير ظاهرة، ولكنها بكل تأكيد موجودة... بعضها في مبان عالية لها قباب مرتفعة، وبعضها في مبان متواضعة. البعض في بيوت عائلات، والبعض في سراديب المغائر. سترحب بك هذه المحطات. وستقدم لك كل خدمة لازمة، لأنها محطات تابعة له»!!

وأضاف بطرس: «على أني أنذكر أن العدو قد أقام محطات شبيهة بالمحطات التي أقامها المسيح، فاحترس منها. إن محطات المسيح مختومة بختم الصليب. لاحظ هذا الختم.. إنه واضح. سيخدعونك، فافتح عينيك»!!

سرت وأنا أحس أني سأطير طيراناً لأنني كنت ممتلئاً قوة. لم أهتم كثيراً بكلمات بطرس الأخيرة. إني أحس أن فيّ من القوة ما يجعلني أحلق كالنسور.. وإلى الأبد. ولذلك بدأت سياحتي راكضاً، وكان بعض السياح نظيري قد بدأوا سياحتهم. بعضهم كان قد سبقني. ولكني ركضت ووصلت إليهم وسبقتهم. ثم نظرت إليهم بطرف عيني في غير احترام، وإذا بي أعثر في حجر في الطريق لم ألاحظه من عجلتي، فوقعت على الأرض، وجُرح جبيني. وأسرع إليّ من كانوا خلفي وقالوا لي بعطف إنها مسألة بسيطة، وعالجوا الجرح بيد المحبة. وقالوا لي بنغمة رقيقة إنه من الأفضل لنا أن نمشي ونستمر ماشين. نعم «فَإِنّ مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ»ولكن أفضل ما في هذا الوعد أنهم «يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ» (إشعياء 40: 31).

كان الجزء الأول من الطريق خشناً جداً، مملوءاً بالأحجار غير ممهد. ثم أنه طريق ضيق جداً، محاط بسياج من شوك هنا ومن هناك، وخارج السياج رأيت مناظر مغرية. كنت أرى حقولاً وأزهاراً ومدناً جميلة وحجارة لامعة. وقد خطر لي يوماً أن أخترق سياج الشوك هذا لأتمتع بما في الخارج من أشياء جميلة، وفعلاً نفذت ما فكرت فيه.. كم حزنت لأني فعلت، فإني بعد أن تمزقت يدياي وقداي وجُرحت في وجهي وتعريت من ثيابي. اكتشفت أن ما رأيته لم يكن إلا سراباً، فقد كان العدو يرسل من بعيد صوراً كاذبة لهذه البقعة الخطيرة المملوءة بالشوك والحفر والتلال والحجارة الحادة. وعدت أدراجي وقد حملت في جسدي وفي نفسي عار حماقتي في أول الطريق. سرت متثاقلاً من شدة التعب، لكن شكراً لله أني رأيت على مسافة قريبة علامة الصليب تعلو برج المبنى، فركضت نحوه، وبعد أن وصلت تحققت من الختم المبارك، فدخلت المكان، وإذ بجماعة من السيّاح قد جلسوا بخشوع في حضرة الله وهم يرفعون تسبيحات وصلوات وتضرعات، وكانوا يستمعون إلى كلمات التشجيع والتعضيد المبنية على المواعيد المقدسة: «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِٱسْمِكَ. أَنْتَ لِي. إِذَا ٱجْتَزْتَ فِي ٱلْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي ٱلأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي ٱلنَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ، وَٱللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ. لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ» (إشعياء 43: 1-3). وجعلت أنهل هذه المواعيد وأستمع إلى التوجيهات المباركة. ها هي قوتي تعود لي. كم سررت وأنا أرى آخرين إلى جانبي يمدون لي يد المعونة، بل رأيت آخرين يشجعونني على أن أمد لهم يد المعاونة. يا له من مكان! لقد صيّر من متاعب السياحة بركة. هذه المحطة واحة في وسط صحراء ونعيم في وسط جحيم. ولقد أحسسنا أنه «هو» موجود معنا بقوة. يبدو أنه يُسر أكثر أن يجتمع بنا في هذه المحطة!

ومن الغريب أني سمعت من البعض هجوماً على هذه المحطة. إنهم يقولون أن لا لزوم لها. إنها شيء رجعي، والأجهزة التي فيها قديمة. والذين يخدمون فيها متأخرون، لا داع لها. وكثيرون سعوا إلى هدمها. صحيح أن بعض العاملين فيها لم يكونوا أمناء كما يجب، وبعضهم لا توجد عنده الكفاءة، لكنها برغم كل شيء لازمة كل اللزوم لبنيان حياة الذين وُلدوا حديثاً في الإيمان ولتدريبهم على حياة السياحة المباركة، ولتدريبهم على خدمة المسيح، ولتوجيههم ليدعوا الذين غرقوا في بحار الإثم ليتعلقوا بحبل النجاة. وقد أخذني دليل المحطة إلى السجل المحفوظ فيها، وقرأت عن عدد الذين قبلوا رسالة الإنجيل عن طريقها، ففي الدفعة الأولى أتى ثلاثة آلاف ثم ألفان، ثم ألوف أخرى.. وقرأت عن أشخاص لا عدد لهم كادوا يعودون، ولكنهم نالوا التشجيع فاستمروا. ما أكثر الجياع الذين قدموا لهم طعاماً، والعرايا الذين قدموا لهم كساء، والمرضى الذين قدموا لهم دواء بل شفاء، والبائسين الذين قدموا لهم عزاء.. وماذا أقول عن قسم الإسعاف المتصل بالطب الجسمي والنفسي والروحي. كم من جريح ضمدوا جروحه، وكم من كسير الروح جبروا كسر روحه، وكم من باكٍ مسحوا دموع عينيه! قد تكون أجهزة المحطة قديمة لا تتفق مع ما يتقوّله البعض عن الرجعية، إلا أنه اتضح لي أن المسيح أمر أن تُقام هذه المحطات في كل الطريق إلى المدينة، بل في نفس المدينة تقام المحطة الكبرى!!

وفيما أنا أترك هذه المحطة رأيت على الجانب الآخر ما يشبه هذه المحطة، قام بها بعض المناوئين للمسيح - محطات مستحدثة استعملوا فيها أجهزة حديثة على رأيهم، ابتعدوا عن البئر القديمة بئر الماء الحي، وحفروا لأنفسهم آباراً أخرى تختلف في طعمها ولونها عما تقدمه محطة السيد. ومن الأسف أن كثيرين من الشبان انحرفوا إلى هذه المحطات. هذه محطة اسمها محطة التحليل النفسي. وهذه محطة اسمها العلم المسيحي. وهذه م حطة اسمها الإنجيل الاجتماعي وحده. ومن الغريب أنيرأيت في محطة المسيح الخدمة الاجتماعية، لكني وجدت هذا الإنجيل فرعاً من النهر الكبير، إنجيل الكفارة. أما هؤلاء فسخفوا إنجيل الكفارة، وقالوا إنه إنجيل قديم رجعي. ولغة اصحاب هذه المحطة براقة. يقولون لك إن الجائع محتاج إلى خبز القمح والشعير أكثر من حاجته إلى ما تدعوه المحطة الأولى الخبز الحي، وكذلك عن الماء والكساء. مع أن محطة المسيح اهتمت بهذه الأمور اهتماماً بالغاً. وقد قال لي رجال محطة المسيح إن المصدر الدائم لرغيف القمح هو خبز الحياة. فإذا امتنع هذا عن الوجود ضاع كل شيء. ولكن أصحاب المحطة الجديدة استمروا في خطئهم.

فكرت أن أمرّ بالمحطة الحديثة لأراها عن قرب، لكني أثرت ألا أتأخر. فتركت المحطة متزوداً بقوة مجددة. وفيما أنا خارج قابلني أحدهم وقال: «إني أرى وجهك مشرقاً لامعاً، تبدو القوة عليك. لا يظهر عليك أثر متاعب السفر. فهل صرفت وقتاً في العلية؟ عرفت إذ ذاك أثر هذه المحطة المباركة التي يدعوها السائحون «العلية».

في تلك البقعة جثوت على الأرض، وعاهدت ربي ألا أمتنع عن الصعود إلى العلية ما بقيت فيّ نسمة، ولا أمتنع عن العمل على استمرارها بكل وسيلة ممكنة.. وسأصلي إن يحفظها الله قائمة عالية مباركة...

لقد نلت منها كل بركة. كنت أظن في أول الأمر أني لن أحتاج إليها، وأني سأسير في طريقي بدونها. لكني اكشتفت حاجتي القصوى إليها، فقد أخذت منها ما ملأ قلبي بالغبطة والسلام، وما ملأ حياتي بالقوة. مباركة أنت يا محطة الشحن والتوجيه! مباركة أنت يا كنيسة الله!

الفصل الثالث: الغابات

كانت الطريق كما سبق أن ذكرت خشنة، غير معبدة، كان فيها أحجار ورمال ونُقر وتلال وبعض الشوك، لكنها لم تكن على كل حال سيئة جداً. كنت أسير فيها وإن يكون بغير سهولة. قطعت في الطريق عدة أميال انتهت إلى حافة غابة كثيفة، وتوقفت أمامها أسأل نفسي: «ماذا أعمل!» سلطت نور المصباح. يا له من مصباح! ظهر أمامي الطريق - لقد سلك المسيح نفسه في هذا الطريق إلى الجلجثة، وسلكه رجال الله الأتقياء، رجال الإيمان «ٱلَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرّاً، نَالُوا مَوَاعِيدَ، سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ، أَطْفَأُوا قُوَّةَ ٱلنَّارِ، نَجَوْا مِنْ حَدِّ ٱلسَّيْفِ، تَقَوَّوْا مِنْ ضَعْفٍ، صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي ٱلْحَرْبِ، هَزَمُوا جُيُوشَ غُرَبَاءَ، أَخَذَتْ نِسَاءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بِقِيَامَةٍ. وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا ٱلنَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ. وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِٱلسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، وَهُمْ لَمْ يَكُنِ ٱلْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ ٱلأَرْضِ»... (عبرانيين 11: 33-38).

إذن لأتقدم فهذا هو الطريق... سرت في الطريق. كان ضيقاً جداً لا يسمح لي بالانحراف يميناً أو يساراً. كانت هناك آثار خطوات أمامي كنت أتتبعها بتدقيق. كنت آمناً طالما أنا أضع قدميّ على هذه الآثار. كنت أمسك بالمصباح باستمرار. أعترف أني أهملته بعض اللحظات فوقعت وجُرح وجهي ويداي، لكني كنت أعود فأقوم. إنه مصباح قديم جداً. لقد حاولوا قبل الرحلة أن يقدموا لي مصابيح حديثة براقة، وقالوا لي إن المصباح الذي قدمه لي سيدي قديم لا يتفق مع العصر الحاضر، وقالوا لي إن لونه قاتم و «مودته» انتهت. وهو لا يتفق مع الأنوار الحديثة، مثل نور الفلسفة العصرية، نور السلوك الشبابي ونور الواقع في المعاملات. إنه لا يتفق مع «السوق». لكن شكراً لله أني لم أقبل ما قالوه. إني لا أحتقر تلك المصابيح. إن لها امتيازاتها. قد تُسعمل في أماكن أخرى غير طريق السياحة، لكن هذا المصباح القديم هو الوحيد الذي يلزمني في طريقي. وقد ظهرت فائدته وأنا أخترق الغابات المظلمة المملوءة بالوحوش والحشرات والناس المتوحشين والسهام المسمومة.

وقد تسلحت بالمواعيد المقدسة. سرت وأنا أردد: « اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ ٱلْعَلِيِّ فِي ظِلِّ ٱلْقَدِيرِ يَبِيتُ. أَقُولُ لِلرَّبِّ: مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلٰهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ. لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِ وَمِنَ ٱلْوَبَإِ ٱلْخَطِرِ. بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ ٱللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي ٱلنَّهَارِ، وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي ٱلدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي ٱلظَّهِيرَةِ. يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرَبَوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ. اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟» (مزمور 91: 1-7 و27: 1).

وهكذا ظللت مستعداً بالسلاح لمقاومة كل ما عساه يهاجمني في هذا الظلام الكثيف... سمعت زئير الأسود و عواء الذئاب.. يلزم أن أعترف أن الخوف راودني، لكني كنت أسارع بالالتجاء إلى السلاح.

وعندما رأيت الوحوش تفزع مني ساورني شيء من الكبرياء. ظننت أن الوحوش تخشاني. وفي الحال أحسست بناب الأسد في ذراعي، فصرخت قائلاً: «يا رب نجني». وجاءت النجدة في الحال.. رأيت على بعد الأسود تحيط بدانيال في الجب.. ولكن الملاك جاء وسد أفواهها، فلم تستطع أن تؤذي دانيال، بل أن اندهاشي بلغ أقصاه وأنا أرى دانيال ينام على صدر الاسد.

جاءت الحشرات السامة: الثعابين والتنانين، ورأيت ابناء الله يدوسونها. كانت المخاوف تحيط بي وبجماعة السياح: أسود، ذئاب، نمور، فهود، ثعالب، ثعابين، تنانين، خلائق تشبه الناس ترسل سهامها المسمومة وتصوبها علينا، ولكن سلاح الله الكامل كان يحمينا.. كنت أسير ممنطقاً أحقائي بالحق، وألبس دراع البر، وأحذوا رجلي باستعداد إنجيل السلام - وفوق الكل كنت أحمل ترس الإيمان الذي به استطعت أن أطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة - وكانت على رأسي خوذة الخلاص، وفي يدي سيف الروح الذي هو كلمة الله، وهو سيف عجيب لأنه أيضاً ينير الطريق - وكنت طول الوقت أرفع صلواتي الحارة إليه ليحفظني ساهراً وليحفظني في يده، فقد وعد أن الذين في يده لا يستطيع أحدا أن يخطفهم. اكتشفت أن العدو كان يعلم أنه مهزوم ولكنه لم يسلم بسهولة. كان يهجم هجوم المستقتل، وينتهز كل فرصة يستطيع أن يتسلل منها إلى جند الملك.. لقد جُرحت عدة مرات.. وتعثرت بعض المرات الأخرى، وكدت أفشل مرات ثالثة، ولكن شكراً لله - كانت على مسافات متقاربة نقط إسعاف من مواعيد حلوة وتشجيع إخوة، وصلوات أحباء ورؤى مباركة.

أبصرت النور يقترب، ستنتهي فترة الظلام. سنخرج بعيداً عن الغابات. سنستريح. ولكن السياح الآخرين قالوا لي إنها لن تكون الغابة الوحيدة. لقد درسوا الخريطة ووجدوا عدداً من الغابات.

ومع أن هذا الخبر جعلني أفزع، إلا أني عدت وقلت: «لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مزمور 23: 4).

الفصل الرابع: الأرض الناعمة

خرجت من الغابة فرأيت أمامي أجمل طريق، دعاها بعضهم طريق السلام، ودعاها غيرهم دروب النجاح، وغيرهم قال إنها الفردوس الأرضي. ابتهجت ابتهاجاً لا مزيد عليه وأنا أبدأ السير في هذا الطريق. تنهدت بارتياح خرجت بسلام من الغابة المظلمة ونجوت من الوحوش والثعابين والسهام المسمومة. شكراً لك يا رب. شكراً لك.. أنجو من الغابة وأدخل فردوساً أرضياً. كل ما كنت أرجوه أن يخفّ الظلام قليلاً وأن تكون هذه الطرق الفردوسية، فهذا ما لم أكن أنتظره ولا في الأحلام.

جمعت الأجهزة معي ووضعتها في الحقيبة التي معي وأغلقت الحقيبة. ليس هناك من داع لهذه الأجهزة. المصباح لا داعي له في النهار، و الطريق واضحة جداً. جهاز الاتصال وجهاز النجدة وبقية الأجهزة لا داعي لها لأن الأمن شامل.

وسرت رافع الراس وأنا مفتوح العينين، أتأمل جمال الطريق. وسألني زميل من السياح: «أين الأجهزة وأين السلاح أيها الصديق؟» قلت له: «ألست ترى سلامة الطريق؟ ما حاجتنا إلى سلاح أو أجهزة؟» قال: «إني أحذرك يا صديقي. إن المخاطر تكمن هنا في كل خطوة».

بالطبع استهنت بالتحذير. أليس من الغباوة أن تحمل مصباحاً في الظهيرة، وتتقلد السلاح وقت السلام؟ سرت وأنا أتهم صديقي بالوسوسة! وقلت في نفسي: لا يوجد شخص مثلي، ذهبت إلى مصر ورأيت آلهة مصر وفلسطين وسوريا وأشور وبابل وفارس واليونان، ودرست إله إسرائيل.. ثم عرفت السيد، بل رأيته، بل طلبت منه أن يطلقني فأعلن لي أنه في حاجة إليّ. لا شك أني أختلف عن الآخرين. أنا أفضل منهم. سرت معجباً بنفسي. لم ألتفت إلى الحفرة التي أمامي فسقطت، وتلوثت ثيابي. قمت ونفضت الغبار عن نفسي، ولكني سرت مغتاظاً من الآخرين لا من نفسي. سرت أتمتم: يا للعنة القوم الأشرار! ولكني ما لبثت أن سقطت في حفرة ثالثة ورابعة. وفي الأخيرة أحسست أن أشراكاً تمسك بقدميّ وبيديّ، فلم أستطع أن أقوم. ومر بي صديقي ولم يرني، فصرخت أدعوه، وانهلت عليه باللوم، فقال: «يبدو أنك لم تتعلم الدرس بعد، مع ذلك فسأنقذك. ولكن قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح ألا تذكر كيف أن فرعون لما تكبر وسأل: من هو الرب؟ الرب لا أعرف. أذله الله؟ ألا تذكر نبوخذ نصر لما تكبر فنزعوا عنه سلطانه، وصارت حياته مع حيوان البر وأكل العشب مع الثيران؟ وقد مكث في هذا الهوان سبع سنوات حتى علم أن العلي هو صاحب السلطان وأن ملكه دائم أبدي، وأن من سلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله؟».

وقد كان صديقي من الكرم بحيث بذل كل جهد في تخليصي من قيودي ورفعي من الحفرة. وغسل جروحي ونظف قروحي ونفض الغبار والطين عن ثيابي، وأمسك بيدي وسار بي.. وبعد قليل سألني: «أين حقيبتك؟» قلت: «أوه.. يبدو أنها سقطت مني في الحفرة» فعاد معي وانحنى.. بل اضطر أن ينزل إلى الحفرة ووجدها مفتوحة، والأجهزة مطروحة هنا وهناك فجعل يجمعها، وسلمها الي قائلاً: «يحسن أن تُبقي المصباح في يدك وجهاز النجدة»، فقلت: «أظن أنها من الأفضل أن تستمر آمنة في الحقيبة»

وسرنا معاً مدة ولكن بالنسبة لما لقيت من المتاعب أم أستطع أن أماشيه فتأخرت عنه. وبغتة أحسست بأعداء يخرجون من جانب الطريق. جاءت فرقة من جيش العدو علمها «الشكوك» وفرقة أخرى علمها «التذمر» ومن بعدها جاءت فرقة التردد وتبعتها فرقة «الغيرة المذمومة». ووجدت نفسي محاطاً بقوات عديدة. وأخرجت أجهزتي وإذا هع قد صدئت، خصوصاً جهاز النجدة. حاولت أن أجلوه ولكنه ظل لا يعمل كما يجب، لأني أهملته طويلاً. كاد الاتصال ينقطع بيني وبين المراكز العليا. ناديت صديقي ولكنه كان بعيداً عني. ولكن سياحاً آخرين لحقوا بي ووقفوا معي واشتركوا في مجابهة العدو، وطلبوا أن أستعمل أجهزتي، فإنها تتصلح بكثرة الاستعمال...

ووقفت في آخر الطريق أهز رأسي موبخاً نفسي. لقد كان سروري بخروجي من الغابة المظلمة لا حد له. لقد لعنتها ولكني أقف اليوم أشكر الله.. أشكرك من أجل الشوكة التي أعطيتها لي، التي كدت أن أتذمر بسببها. أشكرك من أجل الظلام الذي أحاط بي الذي تضرعت لك لكي تبعده عني. اشكرك من أجل المتاعب التي أحاطت بي التي طلبت أن تزيحها عني. أشكرك من أجل الأعداء الذين أحاطوا بي الذين لم تشأ أن تبعدهم عني. أشكرك لأن كل هذا دفعني لأن أطلبك وأسمع صوتك يقول: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9). ولأن الغابة الكثيفة جعلتني أحافظ على استعمال الأجهزة المباركة التي أبقت على خط الاتصال بيني وبينك. وصلت إلى نهاية الطريق الناعم... وها أنا أبدأ مرحلة جديدة في هذه السياحة. لا تتركني يا سيدي ولو حاولت أنا أن أتركك.. امسك بيدي ولو رغماً عني.. نعم أمسك بيدي.

الفصل الخامس: طريق الوادي

انتهي الطريق الناعم.. ابتدأ ينحدر إلى الأسفل. كان الانحدار مفاجئاً. بدا كأني فوق جدار ينحدر باستقامة إلى الأسفل.. فلما وصلت إلى لآخر المنحدر وجدت أني أنحدر إلى واد. وتطلعت إلى الأمام فإذا انحدارات تتلوها انحدارات. كانت البقعة ملآنة بالأودية.

عدت إلى الخريطة لأتأكد أنه الطريق. وجدت الوادي في الطريق. لم يكن أصلاً في الطريق، لكن العدو تحالف مع جواسيس في الطابور الخام والسادس وحولوا النهر عن طريقه، وبقي مكان النهر جافاً.

1 - السموم في الهواء:

كان منخفضاً انخفاضاً مخيفاً. كان الهواء يشبه ماء آسناً مملوءاً بسموم جاءته من البحيرة الكبريتية الواقعة في الجنوب. كانت هذه السموم تزكم الأنوف في أول الأمر, لكنها تفقد الإحساس بها إذا لم يعالجها السائح، بل قد يستعذبها ولا يستريح إلا بوجودهاً، فإذا طال زمن وجودها ولدت في الجسم قروحاً مخيفة تتطلب علاجاً قاسياً ومراً طويلاً، بل قد يصل الأمر بها إلى تحطيم الجسم تحطيماً كاملاً.

وقد رتب السيد في أول الطريق أن يقدم المرشدون للسياح ما يقيهم شر هذه السموم. أعطاهم أقنعة مزودة بما لا يتيح لهذه السموم أن تصل إلى صدورهم، وخزن لهم فيها كمية من الهواء النقي الذي يحفظهم وهم في الوادي وخارج الوادي. كما زودهم بأجهزة اتصال بأعلى الجبال، إذ يديرونها تصل إليهم دائماً كمية من الهواء المتجدد. وقد أعطاني جهاز الاتصال. ولكني أعترف أني أهملت ذلك القناع كما أهملت الاتصال. وكانت النتيجة أني أحسست بعد وقت قصير أني أعذب نفسي «البارة» كل اليوم بالنظر والسمع. كانت آلامي مبرحة في أول الطريق، كان الصداع يلازمني نهاراً وليلاً. حاولت أن اعالجه بما يعالجه به سكان الوادي بالأشربة المخدرة وبالجلوس مع السكان، وبالسلوك في عوائدهم. ذهب الألم تقريباً. أقول تقريباً لأنه كان يعاودني بين حين وآخر. وحدث أني رأيت وجهي يوماً في المرآة فكان رعبي شديداً. وجدت وجهاً يختلف عن وجهي. عينان ذابلتان فقدتا النظر تقريباً. وثقل السمع وشحب الوجه وضعفت اليدان وتخلخلت الرجلان. وكنت أضطجع في الفراش غالبية اليوم. وكنت أتحرك بكل بطء وقدماي لا تسيران بثبات، بل تنزلقان نحو الطريق الذي ينحدر انحداراً مخيفاً إلى هوة سحيقة فيها العقارب والحيات والتنانين.

علمت فيما بعد أن مصيري كما كان يبدو إلى بوار - وقد حاولت أن أستعمل قناع الوقاية فأفلت مني، ولم أستطيع تثبيت جهاز الاتصال. ولما أحسست بما أنا فيه من خطر، ورأيت أني عاجز عن إنقاذ نفسي، كان ألمي شديداً وبكيت بدموع محرقة أذابت الأتربة المتراكمة على جهاز النجدة، واستطعت أن أرسل استغاثتي بجهد، مع أنها كانت ضعيفة جداً جداً. قلت لا يمكن أن هذه الاستغاثة تصل. «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ» (مزمور 66: 18). لكن من الغريب علىّ أنه سمع واستجاب فقد جاءني عدد من رجال الإنقاذ وحملوني بعيداً عن حافة الهاوية، وشغلوا كل الأجهزة المعالجة. كان من بين الأجهزة جهاز قالوا أنه يسلّم السائح المريض للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح. فأصيب الجسد بأمراض وأدواء.. أوه، لا داع لأن أذكر كل ما عانيته من الشيطان. علمت فيما بعد أنه لا علاقة للشيطان بالعلاج، إنهم دعوه كذلك لمرارة العلاج وقد ظل العلاج أياماً وليالٍ. ولما وصلت إلى دور النقاهة حملوني في طريق سري إلى قمة الجبل القريب بعيداً جداً عن هواء الوادي، ومكثت هناك مدة طويلة. شكراً لله فقد عادت إليّ كل قوتي، وشكرت الله وشكرت رجال الإنقاذ الذين قالوا لي: احترس، فإنك أصبحت تشبه الخشبة المختطفة من النار. احترس فإنك قابل للسقوط إذا لم تبتعد كل البعد عن مسالك البوار. سر وأنت تردد الكلمات المباركة: «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ ٱلأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ ٱلْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ. لٰكِنْ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً. فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ، ٱلَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ. لَيْسَ كَذٰلِكَ ٱلأَشْرَارُ، لٰكِنَّهُمْ كَٱلْعُصَافَةِ ٱلَّتِي تُذَرِّيهَا ٱلرِّيحُ. لِذٰلِكَ لاَ تَقُومُ ٱلأَشْرَارُ فِي ٱلدِّينِ وَلاَ ٱلْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ ٱلأَبْرَارِ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ ٱلأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَتَهْلِك» (مزمور 1: 1-6).

2 - وادي العاهات:

هذا الطريق طويل بدرجة مخيفة. وفي الحقيقة هو عدة طرق متشابكة في الوادي الواحد. يمكن أن نسميها حواري أو عطفات... وجميع هذه الطرق موجودة في وادي العاهات.

(أ) طريق العيون المفتوحة:

قد استغربت الاسم لأني رأيت جميع الذين يسيرون فيه لا يبصرون. حدقت النظر في أحدهم فوجدت عينه مفتوحة إلى آخرها، ولكني إذ تأملت فيها لم أجد فيها حياة، فتذكرت كلمات الكتاب : «لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُونَ» (إرميا 5: 21). وسألت الأطباء الكبار فقالوا إن المرض ليس في العيون. إننا نعالج القلب ونعالج المخ، لأن المريض يصبح أعمى العين بعد أن يكون أعمى القلب أو أعمى الذهن. في هذا الطريق أبصرت بلعام الذي يزعم أنه نبي، وكان يقول عن نفسه «الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْن» (العدد 24: 3) ولكن وبخ حماقته حمار أعجم! رأى الحمار الهلاك في الطريق وحاول أن يتجنب طريقه، ولكن الذي زعم أنه نبي لم ير، وبالتالي لم يحاول. ومع أنه نجا مرة أو مرتين لكنه استمر في عماه فهلك أخيراً.

ورأيت جماعة من كبار علماء الفقة الديني، لم يكونوا سبب هلاك أنفسهم فقظ ولكنهم قادوا كثيرين معهم إلى الهلاك. لقد أبصرتهم يتكلمون ويتضاحكون وهم يسيرون بعجلة نحو حفرة عميقة في الطريق، فوقفت أمامهم وصرخت في وجوههم لكي يحيدوا، ولكنهم سخروا مني ودفعوني عن طريقهم وانطلقوا ليسقطوا في الحفرة.

ورأيت جماعة بان الجوع والهزال عليهم، وهم يتطوحون نحو القمامة، يمدون أيديهم يتلسمون الطريق ليصلوا إليها. وسمعت رسول السيد ينادي «أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا، كُلُوا الطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ» (إشعياء 55: 1 و2). ولكنهم ساروا نحو القمامة تاركين الخبز الحي ليجدوا أشياء تصيبهم بأمراض وأوباء تزيد من ضعفهم وتقربهم إلى الموت.

ورأيت جماعة تكاد تهوي إلى الأرض من شدة الجوع وشدة العطش وكثرة الجولان. ورأيت رسول المسيح يقدم رسالته: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (يوحنا 11: 28). ولكنهم تجمعوا عليه وشغّلوا ما بقي لهم من قوة وقبضوا عليه وصرخوا في وجهه: «لقد أزعجت سلامنا بصوتك الكريه. سنجعلك تصمت إلى الأبد». وظلوا ينهالون عليه ضرباً ولكماً وركلاً وبصقاً على الوجه. وقد حاولت أن أنقذ الرجل فنالني بعض ما ناله، اضطررنا أن نترك المكان هاربين ونحن نقول: «يا للعميان المساكين».

وسمعت بعض هؤلاء يصرخون: «من الذي يقول إننا عميان؟ نحن لسنا عمياناً. نحن نبصر.. نحن نبصر.. نبصر كل شيء». ومع أنهم كانوا يصطدمون بأشياء في الطريق ويسقطون ويُجرحون وتسيل دماؤهم، لكنهم كانوا يقومون وهم يقولون: «نحن نبصر.. لسنا عمياناً».

حاولت أن أقنع بعضهم أن يقابلوا رسول المسيح الذي أرسله ليعالج عيون العميان. ولكنهم صدوني وكادوا يعتدون عليّ قائلين: «أنت الأعمى! أنت الأعمى ونحن نعيش في النور».

والذين رأيت بيوتهم اكتشفت أنهم يقيمون في أماكن لا أستطيع أن أسميها بيوتاً. بعضها أركان وغرف مظلمة تعيش معهم الحشرات والأوساخ. حاولت أن أنظف المكان لهم، ولكنهم رفضوا وقالوا إنهم لا يستريحون إلا في أمكنتهم. ومع أن بعضهم كان قد بقي لهم القليل من نور العين، إلا أنهم كان يحجبون عن عيونهم نور الشمس. إنهم لا يطيقون النور، أحبوا الظلمة لأن أعمالهم كانت شريرة.

تذكرت ذلك القسيس الذي تعب من الكفاح مع الشعب حتى ضاعت قوته وملأ اليأس حياته، فطلب من المسيح أن يأخذه يريحه من متاعب الخدمة، وأجاب المسيح طلبته وأخذه إلى السماء، وهناك طلب القسيس ملاكاً يطوف به السماء ليتمتع برؤية أمجادها، وكان القسيس ينظر بانبهار شديد إلى تلك الأمجاد. إنه يكاد يلتهم كل شيء.. مجد ومجد ومجد.. ووصل في طوافه إلى نافذة قيل له إنها تطل على الأرض، وأطل منها فرأى جزءاً من هذا الوادي، ورأى الهوة التي تقع في نهاية الطريق، وأبصر من بعيد جماعة كبيرة تتضاحك بأصوات عالية، ورآها تتحرك في طريق الهوة. قال في نفسه إنها لا بد وأن تسلك الطريق الأيمن قبل أن تصل إلى الهاوية، ولكنه أبصرهم يسيرون وهم يضحكون لا يميلون يميناً أو شمالاً. وجعل القسيس يصرخ محذراً: «عودوا، عودوا، ألا تبصرون؟ الهوة .. الهوة؟». ولكنهم كانوا عمياناً، فساروا في طريقهم إلى أن سقطوا كلهم في الهوة المخيفة. وتذكرت أن القسيس طلب من الملاك المرافق أن يعيده إلى الأرض ليحذر عميان القلب من الهوة المخيفة.

وفيما أنا أفكر في هذا القسيس أبصرت، أو خيل لي أني أبصر، رجلاً اسمه شاول الطرسوسي كان مفتوح العينين ولكنه لا يبصر، وظل في عماه سنين طويلة آذى فيها نفسه وسبب الأذي لكثيرين. كان يسير في الطريق فيصطدم برجال ونساء وأطفال فيميل عليهم وهو يظنهم أعداء، فيمد يده ويضربهم بعصاه وبالسكين، بل يمدها بالنار. ما أكثر من جرح وما أكثر من قتل. وقد لمس السيد عينيه يوماً فأبصر. ما أكثر ما بكى وهو يذكر الآذى الذي سببته الحرائق التي أشعلها في البيوت التي دمرها، والدماء التي أسالها. بكى وبكى وبكى، لقد سامحه الله ولكنه لم يسامح نفسه. بين حين وحين كان يذكر أيام عماه بندم وحزن - وقد كلفه المسيح أن يعود إلى هذا المكان طريق «العيون المفتوحة» بالذات لكي يعالج الآخرين بالعلاج الذي عالجه به. ولقد ذكر هو نفسه هذه الأمور، وهذه هي نفس كلماته. قال إنه في عماه: «حَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ. وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ» (أعمال 26: 10 و11). لكن المسيح قابله وفتح عينيه وقال له: «لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 16-18).

ها وقفت أسأل نفسي: «ماذا عملت مع هؤلاء العميان؟ لماذا أرسلني الله إلى هذا الطريق؟ ألم يرسلني لأتمم مشيئته؟ ألم يعطني كل ما يلزم لمعالجة الشعب المسكين؟ لقد قمت مرة واحد بدعوة العميان للمجيء إلى المسيح وكففت. حاولت أن أركض لأنتهي من هذه الطريق... يا رب سامحني. ومن تلك اللحطة كرست كل الوقت لأقود الشعب الأعمى إلى نور الحياة بكل ما وهبني الله من إمكانيات. شكراً لك يا رب. لقد جاء كثيرون إلى المسيح ونالوا البصر وساروا معي يؤنسون وحدتي ويشاركونني في دعوة الآخرين ويقولون: «هلموا انظروا إنساناً فتح عيوننا ونقلنا من الظلمة إلى النور. ألعل هذا هو الطبيب العظيم؟» كان بعضهم يشتمنا، بل كان بعضهم يرمينا بالأحجار، ولكن عدداً منهم سمع وأقبل إلى الطبيب ونال البصر. ولما أراد العميان أن يسخروا من أحدهم قائلين إن الذي أعطاك البصر هو رجل دجال، قال له: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ» (يوحنا 9: 25). واجتمع جماعة منهم وجعلوا يرنمون:»

لا مقتضى لشمسنا في العلا

يسوع نور العالم...

كنت أعمى والآن أبصر

يسوع نور العالم...

وجذب ترنيمنا الكثيرين من العميان فقبلوا المسيح وأبصروا.. وتحول وادي العاهات..حارة العميان إلى شعلة من النور..

فقلت: «أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا. لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟» (مزمور 23: 4 و27: 1).

(ب) طريق الصُمّ:

انتهى طريق: «العيون المفتوحة» إلى طريق آخر وجدت فيه الناس لهم عيون وبها يبصرون، ولكني رأيتهم يسيرون في غير الطريق الأمين، فاقتربت منهم وناديتهم: «هذا هو الطريق». ولكنهم نظروا إليّ! وهزوا رؤوسهم وساروا في الطريق الآخر الذي يؤدي إلى هلاك. ابتسموا ومضوا في طريقهم.. وبعد جهد أدركت أنهم لا يسمعون. كان صمم البعض كاملاً، وكان صمم البعض جزئياً، آذانهم ثقيلة. كانت آذان البعض سليمة ولكنهم لا يسمعون، لأن آذانهم كانت ملوءة بالأوساخ وقد عششت فيها الحشرات. وكانت آذان البعض سليمة جداً ولكنهم كانوا يستمعون لوشوشة العالم والشيطان.

وقد وقفت أمام الكل حزيناً. إنهم يسيرون في طريق خاطئ. كنت أضطر أن أصرخ بأعلى صوتي ليسمع أصحاب الآذان الثقيلة. كانت بعض الحوادث بيننا تضحك وتبكي. ناديت واحداً منهم: «ارجع عن طريقك وهلم معي، لأن طريقك يقودك إلى الهلاك». فقال لي: «تقول الملاك؟» قلت: «الهلاك الهلاك». فقال: «الفلك؟». وقلت لآخر: «لا خلاص لك إلا بالمسيح». فقال: «تقول إن وجهي قبيح». قلت: «المسيح المسيح». قال: «تقول أنا جريح».

وعدت إلى سيدي فقال إنه جاء لكي يفتح آذان الصم وقد جئت بما استطعت أن أحضرهم وعالجهم. كان علاج البعض سهلاً نسبياً. واحتاج البعض الآخر إلى جراحة. امرأة اسمها ليدية فتح الله أذنها بالكلام.. ضابط كبير في فيلبي فتح الله أذنه بزلزلة. عالج المسيح الآذان أحياناً بالكلمة مع روح الله، والبعض بتوبيخ، وأحياناً بتوبيخ شديد. وعالج البعض الآخر بضرب سياط الفشل والخسارة.. أما البعض فلم يرجع لهم سمعهم إلا بعمليات جراحية قاسية. أُصيبت أذن داود يوما بصمم واضطرت العناية إلى استعمال عدة عمليات. اشكرك يا رب لأنك فتحت أذني.. افتح يا رب آذان الصم لكي يسمعوا بشارة الخلاص فيسمعوا ويخلصوا..

(جـ) طريق المقيّدين:

اضطررت أن أبيت الليل في طريق الصم في الاستراحة الملكية التي أقامها المسيح في الطريق. سُهي عليّ أن أذكر أن السيد من فرط عنايته أقام استراحات مزودة بكل ما يحتاج إليه السائح، بعضها في أول الطريق وبعضها في وسطه، وبعضها في نهايته. وفي هذه الاستراحات كل ما يلزم من إسعاف وقتي. هذا خلاف الاستراحات الكبرى التي سبقت وتحدثت عنها.

وفي الصباح اتجهت إلى الأمام. وإذا بالطريق يبدو في أغرب صورة. على الجانبين سجون تبشه القلاع، كان عدد المقيدين فيها فوق الحصر، من مختلف الأعمار والطبقات. لاحظت أن بعضهم كان يئن ويبكي ويتأوه ويكافح لكي يتخلص من قيوده، ويصارع مع آسره. لكني لاحظت أن البعض الآخر يبتسم ابتسامة البهجة وهو يقول: «أنا فرحان! آه! ما أجمل الحرية».

اقتربت من واحد من هؤلاء، فرأيت قيوده تكاد تقطع يديه وقدميه، وهو يقول: «لقد تخلصت من قيود الأوامر والنواهي من أبي وأمي».. تطلعت في وجهه وقلت: «آه، أنت الشاب «ساذج» ابن الشيخ الأمين في قرية الإيمان في بيت البركة» . قال: «نعم أنا هو، ولكني خرجت من المنزل من عهد قريب. كنت عبداً. أبي يأمر وينهي. أخي يأمر وينهي.. أخرج من البيت بحساب، وأعود إلى البيت بحسات... خرجت وأنا الآن أستنشق نسيم الحرية». قلت: «لكني أرى هذه القيود تحيط بيديك وقدميك. إني أرى فيها آثار زريبة الخنازير». قال: «إنها اسورة زينة... إنها جمال! أنا أتمتع. أنا آكل وأشرب وأرقص. هل ترى أولئك الغانيات؟ هي هذه الحياة.» قلت: «إني لا أرى غانيات..إنني أرى الخنازير. لا أرى عطوراً ولكني أرى روائح نتنة، ولا أرى رقصاً، ولكني أرى تلوي الأجسام التي تلسعها السياط. لا أرى حرية لكني أرى عبودية». قال: «إنك أعمى. أعمى. أنا أعيش في الحرية».

لم أتعب مع الآخرين الذين كانوا يحسون بقيودهم. لكني تعبت مع السيد «ساذج» علمت أن هذه القلاع يملكها السيد ديابوليس، وأنه كان يقيد ضحاياه بقيود اسمها اسورة للزينة - هذا مقيّد بكأس الخمر، ينظر إلى لونها ويحس بنشوتها ويتلذذ بها ولكنه أخيراً، أخيراً يحس بلسعتها.

وآخر يقيّده السيد ديابوليس بقيد أنيق اسمه المرأة الأجنبية. أحس في أول الأمر أنه في الفردوس. وعندما أشرت إلى القيد وما تركه من آثار سيئة، قال لي: «أنت غبي. أنت لا تعيش. أنت لا تفهم الحياة». وقد تعبت معه طويلاً. على أني بمعاونة المسيح.. أو على الأصح على أن المسيح قضى مدة طويلة يعالجه. لم يكسر قيوده إلا بعد أن تحطمت بعض عظامه..كان عدد المقيدين كما ذكرت كثيراً جداً، وكانوا من الرجال والنساء. كانوا من مختلف الطبقات. أغنياء وفقراء. رأيت أحد الفقراء يميل على الحصيرة يضطجع عليها ويقول: «أنا سلطان.. أنا سلطان». وقد رأيت القيد يرتبط بفمه وبأنفه وبكل جسده. ورأيت آثار السياط على جسده، ونظرت إلى بطنه الضامر فقال: «هذه رشاقة». ولكنه كان ضمور الجوع. شكرت الله أن عدداً من هؤلاء حررته نعمة الله. لكن البعض الآخر عاند وتقسى.. بل أن البعض مد يده بالأذى..

وقد تركت المكان حزيناً. كان آخر من قابلته وأنا على وشك أن أترك المكان اثنان، أحدهما كان رجلاً، بدا عجوزاً، ولو أنه لم يكن بعيداً عن الشباب إلا قليلاً. تأملت في وجهه، لقد سبق أن رأيته في غرفة التجنيد والتسليح. ونظر إليّ بعيون زائغة وقال: «هل تذكرني؟» قلت: «ألست صديقي السيد عملاق؟» قال: «كان هذا اسمي، ولكني الآن العبد قزم». كانت قيود ثقيلة. قلت: «إن سيدي يستطيع أن ينتشلك». فقال: «لقد فات الأوان. لا فائدة من الانشغال بأمري. اتركني. سأذهب إلى مصيري حتماً. لا توجد قوة تستطيع أن تنقذني. اهتم بغيري».

قال هذا وأما وجهه إلى الناحية الأخرى. وبكى ولكنه أسرع ومسح عينيه وقال: «لا فائدة! لا فائدة!». حاولت معه وحاولت.. ولكنه ظل يقول: «اتركني! لا فائدة!».. كانت قيود هذا الشاب خليطاً من سموم ديابوليس و.. المرأة الأجنبية.

أما الشخص الثاني فكان هو الذي ناداني قال لي: «إلى متى تسلك في طريق الغباوة والجهالة والظلام؟». التفت نحوه وقلت: «آه أنت الصديق العزيز السيد طالب». قال: «بل أنا السيد مؤمن.. أدركت جهالتي وغباوتي وعبوديتي، فتحررت وانطلقت». وتأملت في يديه وقدميه، ورأيت قيوده مؤلفة من قطع ذهبية وفضية ونحاسية، قيّده بها السيد ديابوليس. لقد جاءه وطلب منه أن يسير معه، وكان في كل خطوة يزّين يديه وقدميه بهذه القيود. امتلأت يداه وقدماه بها، فهو لا يستطيع أن يتحرك هنا وهناك بسببها. وهو ينادي السياح: «هلموا، اتبعوني وتزينوا بإسورتي. ما أجملها ما أجملها». ولما حاولت أن أقنعه أن هذه ليست إسورة للزينة ولكنها قيود مزيّفة ستقذف به إلى الهاوية، ضحك ضحكة ساخرة، وقال: «إنكم أنتم الحمقى الأغبياء». وقلت في نفسي: «حقاً إن الأحمق حكيم في عيني نفسه». تركته ودموعي نهر على خدي.

(د) مدينة الكنائس:

انحدر الطريق إلى الأسفل. خطر ببالي أني ربما ضللت الطريق. ولكني إذ عدت إلى الخارطة وجدت أني في الطريق. ومع أننا كنا بعيدين عن قمة الجبل، إلا أن الجو بدأ يظهر بارداً. وفي الطريق أبصرت لوحة كبيرة تقول «مدينة الكنائس». هذا صف طويل من الكنائس، بعضها يرتفع فوقه صليب، وبعضها لم أر له صليباً. شكرت الله أنه توجد كنائس في الوادي. هذه كنيسة أنطاكية وبجانبها كنيسة رومية. دخلت الكنيسة فلم أجد جماعة مجتمعة، بل رأيت أفراداً متفرقين، هنا جماعة وفي الجانب الآخر جماعة ثانية، وجماعة ثالثة في ركن قريب، وجماعة رابعة في ركن قصي... وبدلاً من أن يرنموا ويصلوا ويقرأوا الكتاب، شاهدت خنافة، ارتفع الصوت فيها، ثم امتدت بالأيدي، وبعد ذلك لعبت المقاعد، واستُعملت بعذ ذلك أدوات لا تتصل إلى الكنيسة بصلة.

هذا يقول ينبغي أن يكون هنا مذبح وذبيحة، والثاني يقول انتهى عهد المذبح والذبيحة.. الثالث يقول أين الهيكل؟؟ آخر يقول بالاستحالة، يتحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وآخر يقول: بل يبقيان كما هما ليذكرانا بموت المسيح. هذا يقول البخور، الثاني يقول القداس، الثالث يقول المعمودية بالتغطيس، الرابع يقول بل الرش. هذا يقول الكهنوت المسلم من الرسل والخلافة الرسولية.. وانتهت المشادة إلى أن تمزق شمل الكنيسة. خرجت كل جماعة في طريقها، وتأسست كنائس كثيرة بدلاً من كنيسة واحدة، كما رأيت ذلك عندما خرجت ووجدت صفوفاً خلف صفوف. فهذه كنيسة أرثوذكسية والثانية كاثوليكية الثالثة بروتستانتية. هذه كنيسة تؤمن بالاستحالة وبالقداس وبالتغطيس.. وأخرى تؤمن بغير ذلك. هذه تؤمن بالتكلم بالألسنة وبالرسائل وبالإعلانات.. وهذ وهذه...

ولما رأيت الكنائس الكثيرة شكرت الله أنه صار لنا بدلاً من كنيسة واحدة عشرات الكنائس، ولكن ما لبثت أن حزنت أن تلك الكنائس بدلاً من أن تهتم بتقديم رسالة الخلاص اهتمت بمهاجمة الكنائس الأخرى، أولاً بالكلام، فكانت المواعظ المهاجمة والحرومات والسخرية. وسمع العالم الخارجي المسيحيين يشتمون بعضهم ويتهمون بعضهم البعض بالكفر والزندقة.. وما إلى ذلك من تُهم شنيعة - وحاول البعض ان يوفقوا بينهم ويوجدوا مهادنة، ولكن كل الجهود وصلت إلى طريق مسدود!

ولقد حاولت أنا وجماعة من السياّح المخلصين أن نوجّه الكنائس إلى المسيح والعمل له ومن أجله هو، وترك كل كنيسة تختار لها سبيل خدمتها طالما كل كنيسة تقول إنها تعمل للمسيح، فلم نفلح.

وفي سياحتي لاحظت أن الخصومة تشتد والصوت يرتفع والبغضاء تنتشر. بل رأيت أن اعتداءات قامت وأن كثيراً من الجرائم حدثت باسم المسيح. وقد بكيت ما شاء لي البكاء. رفعت عينيّ إلى المسيح الذي مات من أجلي، عدت إلى الجلجثة إلى سيدي. شكراً لله، لقد بدأ بعض العقلاء يعودون إلى صوابهم. ومع أن الخلافات بقيت، إلا أن الرسالة المسيحية امتدت، وقام شيء من التعاون أرجو أن يقود إلى شيء أكثر من ذلك.

سرت في طريقي في قرية الكنائس فرأيت كنائس عجيبة. دخلت الكنيسة الأولى. لم أعلم اسمها أو لعل اسمها خفي عليّ. على كل حال شعارها «مسيح بلا صليب» وهي كنيسة لها عدة فروع:

أما الفرع الأول يقدم المسيح الإنسان الكامل المثالي. قالوا إن الله خلق اثنين كاملين: آدم الأول وآدم الثاني الذي هو المسيح. آدم الأول لم يحتفظ بكماله بل سقط وفسد. أما الثاني فاحتفظ بكماله. حاربه إبليس فانتصر على إبليس، لا في التجارب الثلاث المكتوبة في الكتب المقدسة فقط، بل طيلة حياته. هل مات على الصليب أم مات حتف أنفه؟ فهذه ليست مسألة هامة. إنه غالباً مات ميتة طبيعية. لقد قال اليهود إنهم صلبوه والحقيقة أنهم لم يصلبوه. على أن الصليب سواء كان أم لم يكن، فلا علاقة له بكفارة أو بغير كفارة. لئن كان قد صُلب في سبيل مبدأ فقط، ليقدم مثالاً في موته كما في حياته. عاش باراً نقياً مثالاً لنا في البر والنقاوة... عاش عفّ اللسان لا يصيح ولا يصرخ ولا يُسمع في الشارع صوته، ليقدم لنا مثالاً في اللسان العف... لقد عاش محباً للناس ولخير الناس ليعلمنا أن نحسن إلى الجميع ونخدم الجميع ونحب الجميع. لقد عاش منتصراً على الشهوات وعلى الخطية ليقدم لنا نموذجاً للانتصار على الشهوات... كان إنساناً كاملاً ليقدم لنا إمكانية الإنسان أن يكون كاملاً..

كانت هذه موعظة خادم تلك الكنيسة وقد قدمها بحماسة وغيرة. قال إن البعض يقولون إنه إله، والعجب أنهم يقولون ذلك وهو إنسان عاش مثل الناس. أكل نظيرهم وسار على أرضنا نظيرهم ومات نظيرهم. كيف يمكن أن يكون ذلك الإنسان إلهاً؟ أما قولهم إنه مات عنهم فهو حديث لا يقبله العقل...

سمعت للرجل موعظته وقلت: «أنت تتعجب ممن يقولون إن ذلك الإنسان إله، لكن العجب أنك تنكر ذلك وأنت تقبل ما كتبت الكتب المقدسة عنه. أنت تقبل أنه وُلد من عذارء بدون زرع بشر. وتقبل أنه أجرى آيات وعجائب. ترى هل يستطيع مجرد إنسان أن يلمس الأعمى فيبصر والأصم فيسمع والأبرص فيطهر؟ هل يستطيع مجرد إنسان أن ينتهر البحر فيسكن، وأن يقول للميت قم فيقوم، بل يناديه بعد أربعة أيام من دفنه، فيترك قبره ويسير على قدميه إلى بيته؟ قل لي: هل يكون مثل هذا مجرد إنسان؟»

وأنت تقول إنه لا يزيد عن مجرد نموذج يدفعني إلى أن أسير في مثاله. قل لي يا صديقي كيف يمكنني أن أسير في مثاله وقد ورثت فساد الطبيعة من أبينا. لا قوة لنا على صلاح أو بر أو طهارة. إننا في حاجة إلى تغيير شامل لقلوبنا، لا إلى مجرد إصلاح. نحتاج إلى من يقتل الخطية نفسها ويقتل سلطانها. ألست ترى يا صديقي أننا في حاجة إلى إله وإلى إنسان معاً؟ نحن في حاجة إلى إله يلبس الجسد ويُصلب، فيصلب الخطية في جسده ويرفعنا إليه حتى نستطيع أن نقول: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). لا يا صديقي إن رسالتك تضليل. أصلي أن تراجع نفسك.

تركت الرجل غاضباً وحزيناً، وإذا بي أجد كنيسة أخرى.. قال لي قسيسها إنها كنيسة المسيح: «قلت المسيح ابن الله؟» فتلجلج قليلاً ثم قال: «نعم، نعم، لقد وُلد إنساناً عادياً. وأثناء معموديته حلّ عليه روح الله فصار إلهاً. وسار بين الناس «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16). فلما أخذوه ليُصلب عاد إنساناً. لا يمكن أن يكون يسوع إلهاً مساوياً للآب. إنه هو نفسه قال: «أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (يوحنا 14: 28)»

قلت: «أنت بذلك تنسب له الخداع، فكيف يمكن أن إنساناً وارثاً لطبيعة آدم يحمل خطيتي وهو نفسه خاطئ؟ إنني في الحقيقة لستُ في حاجة إلى إله يُجري آيات وعجائب فقط. لقد قام الأنبياء بآيات ومعجزات. إنني في حاجة إلى الله ليصير إنساناً ويموت عني. الله من الأول إلى الآخر. الله في ولادته وعلى صليبه». قال الملاك: «مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 11) المسيح الرب بالرغم من أنه طفل مقمط مضجع في المذود. لا يا سيدي أريوس، إن مسيحك هذا لا يمكن أن يخلصني. إني في حاجة إلى مسيح أعظم من ذلك... وتركت الرجل حزيناً.

لقد رأيت يسوع المسيح. رأيت الله ظهر في الجسد. رأيت المسيح المقام. رأيت وآمنت وخلصت، ولذلك أنا أتألم والقوم يشوّهون الحقائق.

وأثناء خروجي أبصرت كنيسة أخرى شعارها «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16) قال قسيسها: «نحن نؤمن أن الله ظهر في الجسد ولا نقول الله صار جسداً. لقد ظهر كما ظهر لإبراهيم تحت الشجرة، وتحدث معه عن ولادة إسحاق وعن هلاك سدوم.. وكما ظهر ليشوع عند أسوار أريحا. وقال له: «أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ» (يشوع 5: 14). وكما ظهر لجدعون ولمنوح. ورآه الناس مجرد إنسان. رأوه يأكل ويسير ويتعب.. ويُصلب. رأوه فقط. إنه لم يكن إنساناً. إن الخطية في الجسد يا صديقي، والمسيح كان كامل البرارة. لا يمكن أن يلبس جسداً» . قلت: يا صديقي إذاً لماذا يبذل الله ابنه؟ لمذا لم يرسل الله ملاكاً؟؟ كلا يا صديقي، إني محتاج إلى إنسان يشاركني في اللحم والدم، يحس معي ويختبر تجاربي وآلامي.. أحتاج إلى إنسان يموت.. يموت فعلاً لا تخيّلاً. إني محتاج إلى الكلمة صار جسداً وعاش معي. جاع وعطش وتعب وتألم معي ومات على الصليب ودُقت المسامير في يديه ورجليه. صرخ من الألم.. توجع.. مات وقام. هذا هو مسيحي يا صديقي. هذا هو المسيح الذي آمنت به وخلصني. كنت محتاجاً إليه. كنت ميتاً بالذنوب والخطايا، كل أعمالي كانت دنسة. ما كنت أستطيع ببري أن أخلص، هو خلصني، خلصني ليس فقط من دينونة الخطية كما يظن البعض، لكن خلصني أيضاً من نفس الخطية. من لوثتها ومن قوتها ومن دينونتها... بالإيمان الكامل به قد خلصت من الخطية. إن مسيحاً بلا صليب ليس لي به جاجة «فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 14). «صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1تيموثاوس 1: 15). شكراً لله أنني آمنت به وأنه خلصني.

الفصل السادس: الرمال المائية:

تركت الوادي. لم أكن وحدي. كنا جماعة.. كان قائدنا يرنم ونحن نرنم معه. وهذا جزء من الترنيمة بقي معي جعلت أكرره. الحقيقة أني لم أكف عن تكراره طول الطريق:

Table 6. 

إن سرت في الواديوادي ظلال الموت    
فلا أخاف أبداًأنت معي بدوت    
عكازك القوييا رب يحميني    
عصاك لي مرشدةبها تعزيني    

وقد حدث أننا في نهاية الوادي وجدنا السيد قد أعدّ لنا في مبنى الاستراحة مائدة حافلة بالأطايب. جلسنا وأكلنا وتلذذنا. قال أحدنا: «جيد أن نكون ههنا». لكن الأمر صدر بأن نسير. لم يكن وقت الراحة قد آن، وقد زوّدنا السيد بأسلحة للوقاية وأجهزة خاصة لاستكشاف الطريق، كما أعطانا ما يساعدنا على إسعاف الذين يتعثرون في الطريق. وقد أخبرنا أن هذا الجزء من الطريق من أخطر أجزائه. وأوصانا بالسهر والصلاة. قال: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متّى 26: 41). ونظر إلينا بعطف وقال: «سيروا وأنا أطلب من الآب لكي لا يفنى إيمانكم». وسرنا ونحن نرنم. الطريق أمامنا سهل من منبسط جميل. بدأنا في ما يشبه حديقة فيها أشجار وأزهار.. انتهينا منها إلى طريق وسط صحراء. الحقيقة أن الطريق لم يكن واضحاً كل الوضوح. كان من المحتم علينا أن نعود إلى الخريطة كل لحظة، وأن نتبع إشارة البوصلة. لم يكن الطريق معبداً كما أنه لم يكن مستوياً. كانت التجربة فيه شديدة، فالانزلاق إلى هذا الجانب أو ذاك كان تجربتنا القاسية. كان العدو يرسل إشارات أو أصواتاً تضللنا، فنميل عن الطريق. أدركت وقتها بسبب تشديد السيد علينا أن نجعل الخريطة أمامنا ونتبع إشارة البوصلة...

- خداع الطريق:

كان أخطر شيء في سياحتنا تشابُه الطريق السليم بالطريق الخطر. إن الطريقين يبدوان في أجزاء كثيرة مختلطين، بل يبدوان طريقاً واحداً. وقد يكون الطريق الأمين خشناً مملوءاً بالأحجار والأشواك والحُفر، بينما الطريق الآخر ليّن وناعم ويسهل السير فيه. ومن أشد أخطاره أن السائح لا يدرك أنه ضل الطريق إلا بعد أن يسير مسافة طوية.

أكتب هذه المذكرات بعد أن قطعنا مسافة طويلة في سياحتنا. انزلق جاري. الطريق ليّن، كان يسير بسهولة ويُسر، بينما نحن نتخبط في الطريق الحجري، والأشواك تمزق أجسامنا، وهو يكاد يركض ركضاً. وقد أخبرنا فيما بعد أنه أحس بالبلولة في قدميه. ثم شعر أن البلولة زادت فغطت المياه قدميه. واضطرب وفكر أن يعود إلى الطريق، ولكنه أخطأ السبيل فسار في الجهة البعيدة. وإذا بساقه تغوص في ماء، فغيّر اتجاهه فغاصت أكثر، وإذا بالماء يصل إلى خصره، وهنا أرسل من الجهاز الذي معه إشارة الاستغاثة وهي ممتلئة بالرعب، فأُرسل له حبل الرجاء والتعليمات اللازمة أن يسير على أحجار الإيمان المثبتة على أساس الحق، وهكذا نجا، ولكن بعد أن تمزقت قدماه وتلطخ جانب من جسده. وقد أخبرنا أنه رأى ثعلباً يغوص وسمع صرخته المؤلمة وهو يختفي نهائياً في تلك الرمال المخيفة. شكراً لله فقد نجا.

عُدنا إلى الخريطة فوجدنا التوضيحات الكافية، كان يمكن أن نسير بأمان، ولكن ما يحزن أنه لم يوجد في كل التاريخ من استطاع أن يخترق هذه الصحراء دون أن يضل. لم يوجد إنسان واحد إلا السيد ابن الله وابن الإنسان، الذي وقف أمام أعدائه يقول لهم: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46). وقد ذكرت قصة المرأة التي جاءوا إلى السيد بها، وقال زعيمهم: «يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ ٱلْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هٰذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» (يوحنا 8: 4 و5). وبعد صمت رفع المسيح رأسه وقال: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ» (يوحنا 8: 7). لم يجسر أحدهم أن يرمي الحجر الأول لأنه لم يوجد بعد الذي يجسر أن يقول أنه بلا خطية. وقد أغمضت عينيّ وخُيّل لي أني أبصر تلك الصحراء عبر التاريخ، وأبصر الذين غرقوا فيها أو كادوا.. يدعي أبليس أن المنطقة كلها تخصه، والحقيقة أنه اغتصبها. وهو يقول: «هذه كلها لي، وأنا أعطيها لمن أشاء». فهذه منطقة الحسد. إنها لا تبدو منطقة خطرة. أرضها منبسطة، والبلولة فيها غير ظاهرة، وقد سار فيها قايين. ومع أن الله حذّره وكشف له سبيل النجاة، إلا أنه ظل يغوص ويغوص إلى أن هلك.. من كان يظن أن جرثومة الحسد الصغيرة تنتهي إلى القتل؟ قتل الأخ أخاه.

وقد رأيت إخوة يوسف ينزلقون في هذا الطريق، وغاصوا وغاصوا، فباعوا أخاهم حسداً. الحقيقة أنهم تقريباً انتهوا.. ولكنهم نجوا أخيراً..

كذلك رأيت إخوة ساروا في هذا الطيريق، فقدموا أخاهم ليُصلب، وعلم الوالي أنهم أسلموه حسداً.. ولم تفلح الوسائل الكثيرة لإنقاذهم من الغرق في هذه الرمال المائية، غرقوا فعلاً، لكن بعضهم أُنقذوا.

يا لها من رمال خطرة، إنها لا تبدو شيئاً خطيراً. والسائح يسير فيها مستهيناً لا يدرك أنه يطوّح بنفسه إلى هلاك مخيف.

أما المنطقة الثانية التي حذّرنا منها السيد فهي منطقة الطمع. وهي كمنطقة الحسد لا تبدو شيئاً خطيراً في أول الأمر. الحقيقة أنها خطيرة جداً، هي عبادة أوثان. كم غرقت نفوس فيها، إن السائح يسير في هذا الطريق وهو ينحني إلى الأرض ليلتقط قطعاً أخرى فيتوغل في الطريق ويغوص دون أن يدري لأنه يجد أمامه ما يلتقط، وبغتة يجد الرمال المائية قد غطته. كم تأثرت وأنا أرى عاخان يغوص إلى أن ابتلعته تلك الرمال المخيفة.. لا أعلم ما إذا كان قد نجا بعد غرقه أم لا. أخشى أنه غرق وانتهى.

وها منطقة ثالثة أخفى الشيطان اسمها الحقيقي. دعاها المتعة أو اللذة - هي الشهوة الرديئة المنحطة. اسمها الحقيقي «الوحل». وهي كسائر طرق الصحراء طريق لا خطر فيها. طريق حلوة، المنظر رائع جداً، يحس السائح وهو يسير فيها أنه يتمتع بالحياة. يقول في نفسه: «هذه هي الحياة». أحياناً تبدأ بالكأس. إنه يراه في أول الأمر جمالاً، ولكنه بعد فترة يجده دمامة. وقد رأيت جبابرة يغوصون فيها وينتهون. كل قتلاها أبطال. رأيت شمشون الجبار الذي انتصر على جيوش، صرعته هذه الرمال الناعمة وجعلت منه عبداً ذليلاً يسخر منه الذين كانوا يرهبونه بالأمس - لم ينج إلا كما بنار، بل رأيت جبابرة أعظم. داود الذي أرهب الجيوش غرق في هذه الرمال الناعمة. ولولا أنه استغاث بالسيد لما نجا، ولكنه خرج من تلك الرمال ممزق الأوصال. دفع ثمناً مخيفاً.. بل ظل يدفعه طول حياته. صحيح أنه لم يغرق في الرمال، ولكنه كاد ولولا رحمة السيد ما نجا.

وقد رأيت عدداً غفيراً من الشباب، وكثيرون منهم من أبناء الكنيسة، ضاعوا في تلك الصحراء المخيفة. كم ترددت قبل أن أكتب هذه الكتابة. لقد انزلقت في تلك الرمال. صحيح أني لم أتوغل فيها، لا لأني كنت حكيماً، لكن لأني خفت منها. كان عدد المحيطين بي يحاولون أن يجروني إلى الداخل، الذي كان يبدو جميلاً ولكني خفت وعُدت. أقول عدت ولكن العودة لم تكن سهلة. كانت صراعاً مع الله. إن القوة الجاذبة كانت عنيفة. كانت هناك دوامات سفلية في غاية القوة، لكن القوة العليا استطاعت أن تهزم قوة العدو. لا أزال أذكر خطايا صباي. إنها لم تترك أثراً ظاهراً على جسدي، لكن آثارها على نفسي لا تزال تؤلمني. كم أوبخ نفسي وأقول: تُرى هلى أستطيع أن أقابل سيدي بوجه مرفوع؟

وأنا أعطف كل العطف على الشباب الذي يرسل إشارات الاستنجاد. إنني أسارع مع سيدي وأحمل ما أعطاني من أجهزة ومن علاجات. وكم أشكر الله أن كثيرين ممن غرقوا تقريباً استطاعت النعمة أن تنقذهم. إن بعضهم اعترف اعترافاً تفصيلياً كيف انزلقت قدماه وكيف سار في الرمال الناعمة حتى غاص إلى ما يقرب من عنقه. وبعضهم قال إنه كان يشعر بسعادة وهو يرى الرمال تصل العنق.. لكني لا أنسى ذلك الشاب الذي قال لي: «لا تضيّع وقتك معي». كنت وصديقي نحاول محاولات جدية معه، فقد كان صديقي أقرب صديق له. لقد عاشا سنين طويلة معاً. بكى صديقي. وتأثر الشاب ولكنه قال: «لا فائدة. اتركاني، أنتما تضربان في حديد بارد». بل أنه رفض أن يسمح لنا بمحاولة ثانية معه، وقال: «لا تأتيان مرة أخرى». كانت هذه كلماته الأخيرة لنا. ولم نذهب، لا أعلم إن كنا قد أخطأنا، لكني لم أسمع عنه فيما بعد...

كانت منطقة الشهوة، من أخطر مناطق تلك الصحراء المخيفة. غرق فيها أبوانا وجذبانا، ووصلنا إلى أعماق بعيدة، الأمر الذي جعل المسيح ينزل بنفسه إلى قاع تلك الهاوية ويحمل أوحالها ولوثاتها ويصعد بنا... «الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (2كورنثوس 5: 21).

والمنطقة الرابعة أخفى العدو أيضاً اسمها الحقيقي. اسمها منطقة الجهالة، وقد دعاها إبليس «منطقة الحكمة». وقد رأيت كثيرين يغرقون فيها. فهذا يوناداب بن شمعي ينصح أمنون بكملة «حكيمة» وإذا بأمنون يسير في الرمال المائية ويغرق. لم يجد من ينقذه. وهذا سليمان يسير في هذه المنطقة فيتزوج من الوثنيات ليحتفظ بالسلام. ويشك البعض أنه نجا. وهذا يربعام يسير في هذه المنطقة فيُبعد الشعب عن الله ليعبدوا العجل. ولم ينج بالرغم من أن الله قدم له كل وسائل النجاة، فغرق وذهب غير مأسوف عليه. ما أكثر الذين غرقوا في هذه البقعة الخطيرة. وخطورتها تقوم في أنها لا تبدو خطيرة بل تبدو أرضاً ثابتة قوية يغوص الإنسان فيها وهو يظن أنه يرتفع. هكذا غاص ذلك الرجل الذي هنأ نفسه وقال: «يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لوقا 12: 19). هنأ نفسه لحكمته التي استطاعت أن تجمع الكثير، ولكنه أدرك بعد فوات الوقت أنه غبي، لأنه لم يجمع لنفسه بل جمع لغيره. ,قد وُضعت لافتات كثيرة عند هذه البقعة تحذر من السقوط فيها، ولكنهم لم يلتفتوا إلى اللافتات بل إنهم حتى بعد أن توغلوا في الرمال لم يدركوا، إلا بعد أن غرقوا تماماً، بعد أن غطت الرمال رؤوسهم.

أما المنطقة الخامسة فيدعوها العدو عزة النفس والكرامة، وهي في الحقيقة الكبرياء. وقد غرق فيها قديماً ملك عظيم اسمه نبوخذ نصر. رفع رأسه إلى السماء وتعالى على الله، وسار في تلك البقعة منتفخاً دون أن يدري أنه يغوص حتى وصل إلى رأسه. وأشفقت السماء عليه وأنقذ في اللحظة الأخيرة - وغاص في هذه البقعة رجل ممن كان يُظن أنهم مؤمنون. نسي الكلمات التي قالها المسيح: «وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (متّى 11: 29). ولذلك غاص وغاص حتى اختفى. لا أعلم هل نجا أخيراً أم لا. وكثيرون من السيّاح الذين ابتدأوا حسناً ضاعوا في هذه البقعة... «وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ» (دانيال 4: 37).

ومن أردأ بقاع هذه الصحراء بقعة النفاق والرياء. إنها تشبه كل الشبه البقاع الأخرى، بل ربما تبدو أفضل من غيرها. سقط في هذه البقعة الفريسيون والكتبة. كانوا يصلون ويصومون ويتصدقون، وقد وصل بي الأمر أني غِرت منهم. قلت: «ليتني كنت مثلهم» لكني اكشتفت أنهم يغوصون، ومع ما أصابهم ظلوا يكابرون. وقد اكشتفت أن إنقاذ الذين يسقطون في هذه المنطقة أصعب من إنقاذ من يسقطون في أي بقعة أخرى. لقد أنقذ المسيح أشر الخطاة، و لكن أولئك الأبرار رفضوا اليد الممدودة إليهم، وظلوا يقولون إنهم أبرار حتى بعد أن غطت الرمال رؤوسهم. قال أحدهم: «إنه إذا وُجد اثنان في الكون عملا كل البر فأنهما أنا وابني. فإن كان واحد فقط فإنه أنا». مسكين لقد غرق ولم تنفعه كل الوسائط. لقد أُرسلت له النعمة بكل ما فيها من قوة، وقُدم له حبل الرجاء وسفينة الأمان، ولكنه رفض أن يدخلها، ظاناً أنه في غير حاجة إليها، وظل رافضاً إلى أن هلك. وفيما هو يسلم الروح كان يتمتم: «أنا بار. أنا صالح. لست محتاجاً إلى مخلص. لست محتاجاً إلى توبة، فأنا بار».

وكذلك وجدت على الخريطة بقعة أشير إليها بالعلامة الحمراء، وكُتب عليها «بقعة المقاومة». في هذه البقعة وجدت إمرأة لوط. ووجدت اسكندر النحاس. هؤلاء لم يكتفوا فقط بعدم طاعة التعليمات، بل أعلنوا حرباً على المسيح، وحرضوا الآخرين على السير معهم في هذه الصحراء المخيفة، لم يهلكوا وحدهم بل جذبوا آخرين معهم.

وقد وجدت على الخريطة إشارة إلى بقعة حذّر المسيح منها اسم البقعة «محبة العالم». إنها لا تبدو سوداء كبقية البقاع، فليس فيها ما في غيرها من انحلال أو سكر أو فجور. إنها لا تزيد عن إعطاء كل القلب للعالم، فلا يهتم بشيء روحي. الحياة هي المال، المال ولا شيء غير المال. ما هي الحياة؟ إنها الطريق الذي تجمع فيه قطع الذهب والفضة. لا اهتمام ببيت أو زوجة أو أولاد أو طعام أو شراب. وبالتالي لا مكان لله ولا للصلاة ولا للخدمة ولا للاهتمام بالروحيات. كل ما يشغل النفس المال، نبيع في سبيله كل شيء: الزوجة. الأبناء. الطعام. اللباس. الحياة نفسها. الحياة الأبدية... في هذه البقعة غاص ألوف وألوف كانوا مثقلين بقطع الفضة والذهب فقطعت الأحبال التي أرسلت لإنقاذهم.

وقفت أمام هذه البقعة أبكي لأن كثيرين من أصدقائي ابتلعتهم هذه البقعة اللعينة: مكان التجارة. الكتب. المصنع. البحث العلمي. الجمع والتكويم.. وهكذا. ومع أن الصوت جاءهم: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ» (1يوحنا 2: 15) لكنهم لم يسمعوا.

وقبل أن أذكر البقعة الأخيرة أذكر البقعة التي كادت تبتلعني. سبق أن ذكرت بقعة الشهوة. كان سببها الفراغ وإخوات السوء. قلت إني لم أتوغل فيها لأني.. لأني، كما قالوا لي إني «لخمة» وعيني مغمضة. وأنا أحمد الله إني كنت «لخمة» غير اجتماعي، لا أحسن الحديث، ولا أقبل المرح لكني لا أزال أذكر الجروح النفسية التي لا تزال تؤلمنيإلى اليوم، وأسأل نفسي: هل أستطيع أن أرفع وجهي بجسارة إلى وجه المسيح؟ إني خجلان من نفسي.

لكني وقد امتدت بي الأيام انزلقت وكدت أضيع. لم أجد لافتة. لم أعرف اسم البقعة. لكنها لما ظهرت كانت بقعة خطيرة. فأنا أقرأ الكتاب وأصلي وأحياناً أصوم.. وبالطبع أعظ. فماذا ينتظر الله مني بعد؟ إني أقدم له ثمن السماء ربما أكثر من غيري. إني أداينه وهو لا يداينني. وسرت في هذه البقعة مطمئناً، ولا أن بعض الأوحال لوثتني. ولم ألاحظ أن صديقيّ! الحبيبين ليسا قريبين مني.. وإذ ذاك أدركت حالتي فصرخت مستغيثاً فأسرعا إلى نجدتي. أرسلا لي حبال الرجاء، كما سلطا نور الكتاب ورفعا صلوات حارة. وخرجت ممزق الجسد ملوث الثياب، معفر الوجه، وقد ظلا عدة أيام يعملان على تنظيفي، وإلى الآن لا أزال أحس بآثار هذا الانزلاق. هل بعد ان رأيت المسيح أسير في طريق معوج؟

وسرت مع صديقي وقد ابتعدت عن كل ما يذكرني بضلالي، إلا أنه ساورني شيء آخر. وانزلقت إلى البقعة التي تُدعى الشكوك. الحقيقة أني لم أسر فيها برغبتي. في الصباح اكتشفت أن حبالاً تجرنا إلى الصحراء، وأني أسير في طريق أحاطت فيه بي جيوش من الخلائق الكريهة توشوش في اذنيّ: «أنت تظن أنك تسير إلى الفردوس. هل تظن أن المسألة بسيطة إلى هذه الحد؟ هل نسيت أنك سرت في طريق الشهوة؟ صحيح أنك لم تتوغل فيها، لكن لو أن الناس الذين يظنون أنك قديس عرفوا أفكارك، هل يستمر اعتقادهم فيك؟ ولنفرض أنهم تغاضوا عن خطايا شبابك، فهل تظن أن الله لا يرى؟ هل يقبل إنساناً مشوهاً نظيرك؟ .. أظن أنك تعتمد على الفداء.. نعم الفداء يكفي لإنسان عادي لكنك خادم حامل راية... ألم تهاجمك الشهوات؟ صحيح أنك لم تسمح لها أن تعشش في رأسك. وهل عشت صالحاً كل أيام حياتك؟ ألم تأت خطية؟ ألم تسيء إلى إنسان؟ ألم تغضب؟ ألم تنتقد؟ هل تظن أنك بلا خطية؟ وها أنت اليوم تأتي وتظن أنك صالح وقديس؟ إنك تريد أن تشتري السماء. ويلك ويلك، إن السماء هي للناس الخطاة العاديين. أما أنت فالويل لك».

وفزعت من الصوت وقلت بصوت عال: «إني بخطيتي، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7). وجرني السيد المسيح وصديقاي بحبال متينة، فرجعت إلى الطريق السليم وأنا ألهث وألتفظ أنفاسي بصعوبة وأقول: شكراً لك يا رب، شكراً لك.

أما آخر بقعة خطيرة رأيتها في الخريطة فكانت بقعة الخيانة. وقد رأيت يهواذ ينغمس فيها منذ اللحظة الأولى التي التحق بخدمة المسيح. ولقد اندهشت أن المسيح أولاه عناية خاصة. علمت فيما بعد أنه عمل على ردّه إلى الحظيرة بكل وسيلة. قال مرة وهو جالس مع تلاميذه: «واحد منكم سيسلمني. الذي يغمس في الصفحة. أو الذي أغمس أنا في الصفحة وأعطيه». وعندما سأل يهوذا المسيح: «هل أنا يا سيد؟» أجابه: «أنت تقول».. بل عندما جاء لسلمه قبّله، فقال المسيح له: «يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟ أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟»(متّى 26: 50 ولوقا 22: 48).

كل هذا لم يؤثر في يهوذا فغرق في البقعة وهلك إلى الأبد. بكل أسف. كان يمكن أن ينجو ولكنه كان «ابن الهلاك» فهلك.

الفصل السابع: الخاتمة

خرجنا أنا وصديقاي من طريق الرمال المائية، وقد تمزقت أجسامنا وتلوثت ثيابنا، وأخذنا نحدث المحيطين بنا بما علّمه فادينا معنا.. لقد أنقذنا من سلطان الظلمة إلى سلطان ابن محبته. ونقلنا من الموت إلى الحياة. إنها معجزة اشتراها لنا بثمن غال جداً «لا بفضة ولا ذهب ولا حجارة كريمة، لكن بدم نفسه». كانت رسالتنا طول الطريق. وقد عبرنا البواغير ووصلنا إلى مكدونية، ثم ذهبنا إلى أثينا وكورنثوس وتسالونيكي.

ثم أخذنا جولة طويلة انتهت بنا إلى روما. وكرزنا في روما، فآمن بالمسيح في روما عدد غفير، ولذلك قبضوا علينا، ولكنهم أطلقوا رفيقي وحكموا عليّ بالحرق بالنار.

إلى هنا انتهت مذكرات نوسترداميس. وقد قام رفيقه الذي أطلقوا سراحه بتكملة القصة التي نوردها هنا:

حكموا على نوسترداميس بالإعدام حرقاً، وزجوا به في سجن كريه، وجعلوا يعذبونه ليلاً ونهارا. وفي يوم المهرجان جاءوا به مع جماعة من المسيحيين وقد ربطوا أيديهم خلف ظهورهم. كان بعضهم يسير متخاذلاً، لكن نوسترداميس سار بأقدام ثابتة حين وقف أمام الأمبراطور شامخاً، وبدت على وجهه سمات المهابة. وقد نظر القيصر إليه بشيء من العطف وسأله: «من أي بلاد أقبلت، فإنك تحمل سيماء غريبة عليّ».

أجابه: «لقد تركت أهلي منذ أربعين سنة أبحث عن الله، وقد...» فقاطعه قيصر: «وقد وصلت إليه، فأنا الله». قال نوسترداميس: «إن الله الذي خرجت أبحث عنه هو الإله الحقيقي، الإله الذي أحب الناس، وقد..» وقاطعه قيصر: «إذن لا بد أن يكون إلهاً ضعفيفاً جداً، فإن القوة في السلطان والسيف. وها أنت تراني آمر فتمزق الوحوش أجسام عبيدي.. إن إلهك ضعيف لا يستحق أن يعبده أحد». قال نوسترداميس: «إن المحبة ليست ضعيفة. إنها أقوى من الموت. إن مياهاً كثيرة لا تستطيع أن تطفئها والسيول لا تستطيع أن تغرقها. إن المحبة نار ونور». فقال القيصر: «لعل حلمي أطمعك. اسجد لي قبل أن آمر أن تشويك النار». فقلت: «إني لا أسجد إلا لإلهي الذي أحبني ومات من أجلي». وصاح القيصر: «أنت إذن من أتباع ذلك المضل الذي يُدعى المسيح. خذوه واشعلوا النار في جسده حتى لا يبقى له أثر». وجروه بعنف وأشعلوا النار عند قدميه.

وارتفع اللهيب يحيط بجسد نوسترداميس، وسمعناه يتغنى «يا طيب ساعات بها أحلو مع الحبيب.. يجري حديثي معه سراً ولا رقيب» وظل يرنم إلى أن خنقت النار أنفاسه. فقال: «أيها الرب يسوع اقبل روحي». وسقط على الأرض كومة ملتهبة، لكننا سمعنا القيصر يصرخ: «ما هذا؟ لقد قامت الكومة وهي تضيء كمصباح، وقامت إلى جانبها مصابيح أخرى كثيرة جعلت ترنم». وسقطنا كلنا والقيصر معنا على الأرض من شدة ذلك البهاء. ولكننا قبل أن نسقط رأينا علامة النور في روما المدينة العظيمة، وفي بلدان أخرى في مختلف أنحاء العالم..

ومضى صديق نوسترداميس يقول في مذكراته:

عدت إلى الغرفة التي كنا نقيم فيها، فلم أجد شيئاً ذا قيمة. كنت أعلم أنه خرج من بلاده ومعه ثروة طائلة من فضة وذهب وحجارة كريمة، ولكنه على ما يبدو وزّع كل شيء قبل أن يُقبض عليه، والقليل الذي تركه كان قد طلب مني أن أعطيه لعائلات الشهداء الذين قُبض عليهم معه. لكني وجدت كثيراً من المذكرات كان قد كبتها بيده بعدة لغات.. يؤسفني أنها لم تكن مرتبة تماماً. وقد حاولت أن أنظمها.. ها أنا أرسلها إليك يا صديقي. فأنت قد تستطيع تنظيمها، وقد تستطيع أن تجد فيها شيئاً نافعاً.

أما أنا فسأقيم في روما لأتمم خدمة الصديق الذي وجد المسيح وحمل علمه.. وتبع آثاره ومات من أجله.

صديق نوسترداميس


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany