العودة الى الصفحة السابقة
هُوَذاَ طُوبَى لَرجُلٍ يُؤدّبُهُ الله

هُوَذاَ طُوبَى لَرجُلٍ يُؤدّبُهُ الله

تفسير نخبة سفر أيوب

إسكندر جديد

بقلم 

Bibliography

هُوَذاَ طُوبَى لَرجُلٍ يُؤدّبُهُ الله. إسكندر جديد. Copyright © 2006 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى. 1971. Order Number SPB3100ARA. German title: Siehe, gesegnet ist der Mann, den Gott züchtigt! (Hiob). English title: Behold, Blessed is the Man Whom God Rebukes! (Job). Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 . Stuttgart Germany Internet: http: //www.call-of-hope.com - .

تمهيد لسفر أيوب

ليست لدينا معلومات واضحة، عن مصدر سفر أيوب. ولكن بعض الآراء، البالغة القدم، ترجح أنَّ موسى كتبه، حين كان يرعى قطعان حميه يثرون بالقرب من سيناء. وحجة أصحاب هذا الرأي، أنه يستحيل على كاتب عبراني، قبل موسى، أن يعبّر بهذا الأسلوب الكامل، عن بعض الأنظمة التشريعية المشابهة للأنظمة الموسوية، دون تناقض.

ولكن يوجد سببان، يمنعاننا من الانضمام إلى أصحاب هذا الرأي: الأول غياب الاصطلاحات، التي تميّزت بها أسفار موسى الخمسة، عن جميع كتب الأدب العبري. والثاني، احتواء نصوص سفر أيوب على أفكار فلسفية، فيها شيء من الاعتراض على عدالة السماء، بالنسبة للبلايا التي حلّت بأيوب.

أمّا الأحداث التي وردت في السفر، فقد تضاربت الأفكار حولها. فمن قائل إنها أحداث تاريخية وقعت فعلاً، وقائل آخر يعتقد بأنها قصة مجازية قُصد بها معالجة موضوع الألم. حتى أن بعض الربانيين، ذهب إلى القول بأنَّ أيوب لم يكن شخصاً تاريخياً، وإنما بطل قصة رمزية.

بيد أنّ المصلح مارتن لوثر عارض هذا الفكر، فقال إنه بالفعل، وُجد رجل، اسمه أيوب. وهو إنسان صالح أصابته نكبات قاسية احتملها بصبر. فصار مثالاً لجميع المصابين في كل جيل وعصر. ثمّ قام شاعر لم يُعرف اسمه، ولا زمانه، وكتب قصّته بأسلوب شعري جميل.

وعلى أيّ حال، يمكننا القول بالتأكيد إنَّ الكاتب، كان يهودياً مخلصاً، أبى أن يذعن للاعتقاد الذي كان شائعاً بين العامة، والذي يربط بين الخطية والألم. وبالإجماع نرى أنَّ السفر المذكور مدهش، لعدم كفاءة الأفهام البشرية لإدراك مشكلة الألم.

تبدأ قصة أيوب بفصل تمهيدي، فيه سرد للنكبات القاسية التي حلّت بأيوب، ابتداءً من خسارة ممتلكاته، فموت بنيه وبناته، ثمّ ضرب جسمه بالقروح. فحزن واكتأب، وجلس في وسط الرماد. فجاء أصحابه أليفاز التّيماني وبلدد الشوحي وصوفر النّعماتي ومعهم أليهو بن برخئيل، ليرثوا له ويعزّوه في محنته. لكن حين بدأ أيوب خطابه بسب يومه، واستذناب القضاء، دخل الأصحاب معه في محاورات جدلية، عبّروا فيها عن الاعتقادات الشائعة في زمنهم. والتي مفادها أنّ المصائب التي تقع على الإنسان، إنّما هي نتيجة للخطايا التي يقترفها ضد الله.

أمّا أيوب فرفض هذه الآراء وفنّدها بحدّة، منوّهاً بتقواه واستقامة قلبه، ومؤكداً أنّه لم يقترف ذنباً، يستحق عقاباً كهذا. وليس هذا فقط، بل أيضاً حين نقرأ الأصحاح العاشر من السفر، نرى أنّ الجرأة بلغت بأيوب، أن يطلب إلى الله ذاته، أن يعلن له ما هي الذنوب، التي يتّهمه بها، والتي جعلها سبباً لقصاصه. فحسب الأصحاب هذا الكلام تجديفاً، فراحوا يقدّمون له مواعظهم المليئة بالوعيد، إلى أن ضاق صدره بكلامهم.

حينئذ تقدّم أليهو الشاب، فبيّن أنّ الآلام، قد تكون تأديباً غايتها خير المؤدّب بها. ثم اعترض على أيوب لأنّه حسب نفسه أبرّ من الله، وعلى أصحابه لضعف حججهم. وهكذا أصلح غَلَطَ الفريقين، وبرّر الله في كلّ طرقه مع الإنسان، وشدّد على وجوب الخضوع لله، والتسليم بصلاحه.

صحيح أنَّ مشكلة الألم، لم تحل، لا بكلام أيوب، ولا بكلام أصحابه الثلاثة، ولا بكلام أليهو. لأنّ الأفهام البشرية أعجز من أن تفهم كل طرق الرب. فإننا نعرف من الجهة الواحدة، أنَّ الله عادل وقادر على كل شيء، وأنّه يحب الإنسان. ونعرف من الجهة الأخرى أنَّ الخطية في العالم، وأنَّ شعب الله يتألمون، وَيُضطهدون، وَيُظلمون. ولا نقدر، أن نوفّق بين الأمرين. هنا يبدأ عمل الإيمان بصلاح الله، الذي يدبّر كل شيء حسناً.

الأصحاح الأول 1 كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عُوصَ ٱسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هٰذَا ٱلرَّجُلُ كَامِلاً وَمُسْتَقِيماً يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ. 2 وَوُلِدَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ. 3 وَكَانَتْ مَوَاشِيهِ سَبْعَةَ آلاَفٍ مِنَ ٱلْغَنَمِ وَثَلاَثَةَ آلاَفِ جَمَلٍ وَخَمْسَ مِئَةِ زَوْجِ بَقَرٍ وَخَمْسَ مِئَةِ أَتَانٍ، وَخَدَمُهُ كَثِيرِينَ جِدّاً. فَكَانَ هٰذَا ٱلرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ. 4 وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ، وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ ٱلثَّلاَثَ لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ. 5 وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ ٱلْوَلِيمَةِ أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ، لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللّٰهِ فِي قُلُوبِهِمْ». هٰكَذَا كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُ كُلَّ ٱلأَيَّامِ.

6 وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو ٱللّٰهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَجَاءَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضَاً فِي وَسَطِهِمْ. 7 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟» فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ: «مِنْ ٱلْجَوَلاَنِ فِي ٱلأَرْضِ وَمِنَ ٱلتَّمَشِّي فِيهَا». 8 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ». 9 فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ: «هَلْ مَجَّاناً يَتَّقِي أَيُّوبُ ٱللّٰهَ؟ 10 أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَٱنْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي ٱلأَرْضِ! 11 وَلٰكِنِ ٱبْسِطْ يَدَكَ ٱلآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». 12 َقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ ٱلرَّبِّ.

كانت عوص شمالي أدوم وشرقي سوريا. وهي أرض واسعة وخصبة، وفيها ينابيع كثيرة. ففي هذه البقعة من الأرض كان يسكن أيوب. وقد ظهرت سجاياه في هالة من نور، كرجل كامل ومستقيم وحائد عن صنع الشر.

لقد شهد الله له بالتقوى وكمال الخلق، واستقامة القلب وطهارة السيرة. وشهد له المقربون منه بالفضل، حتى الشيطان المشتكي على مختاري الله، لم يستطع إنكار الفضائل التي كان أيوب يتحلّى بها.

إلا أنَّ الكمال الذي وُصف به أيوب، لا يعني العصمة من الوقوع في الزلل، أو الخلو من الخطية. وأيوب نفسه اعترف بذلك حين بدأ توبته بالقول: «أَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ» (أيوب 42: 6). ولكن من يدرس سيرة أيوب، من خلال الكتاب المقدس، يجد أنَّ رجل الله أيوب، لم يرتكب الخطايا الجسيمة، التي نسبها له أصحابه.

في الحقيقة أنّه ليس من معصوم عن الخطيئة، وكلمة الله تقول: « ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 23). وقد أقرّ إشعياء النبي بأنّ الأنبياء أنفسهم وقعوا في الخطية، إذ يقول: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء 53: 6). ونقرأ أيضاً في سفر المزامير هذه العبارات التي تؤكد أنَّ الجميع أخطأوا: «اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مزمور 14: 2 و3).

ولكنَّ هذه الأقوال النبوية، لا تعني أنَّ الخاطئ محتوم عليه بأن يهلك بسبب خطاياه. فقد دبّر الله بنعمته خلاصاً للإنسان، وذلك بالإيمان بيسوع المسيح، الذي قدّمه الله كفارة عن الخطايا، وفقاً لقول الإنجيل: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). فتعال إلى المسيح واقبله مخلّصاً، تنل باسمه غفران الخطايا. أقبل إليه ولا تخف من أن تُرفض، لأنّه قال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37).

كان أيوب ثرياً جداً، وحائزاً مركزاً مرموقاً إذ يصفه الكتاب المقدس بأنّه أعظم من كل بني المشرق. ولكنّ عظمته لم تكن من ثرائه الواسع، بل من تقواه واستقامة قلبه. والمعنى أنَّ هذين الأمرين اللذين قامت عليهما عظمة أيوب، يرتبط أحدهما بالآخر. وهما عطية من الله ومنهما تنبع الأعمال الصالحة. هكذا قال الرسول بولس: «نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10) وقد عُرف بالاختبار أنَّ الحياة المفيدة، هي المؤسّسة على التقوى والإيمان بالله.

يبدو أنّ استقامة أيوب أثارت غيظ الشيطان، عدوّ الخير والصلاح. فجاء ليغمز من تقواه أمام الرب قائلاً: إنَّ مطمح أيوب الخيرات المادية، وليست تقواه إلا وسيلة لنيل هذه الخيرات. مدَّ يدك ومس ما وهبته من ثراء وسعة حال، تختفي التقوى، ويجدّف عليك في وجهك.

فهل أنت مع الله، لأنه يسَّر أعمالك؟ أم أنَّك تعبده لكي يفتح أمامك السُبل إلى الإثراء؟

إنَّ العمل لأجل كسب الثروة أمر مشروع، والله لا يمنع أحداً من اقتناء المال. وإنما يحذّر من الوقوع في محبّة المال التي هي «أَصْلٌ لِكُلِّ ٱلشُّرُورِ» (1تيموثاوس 6: 10). ولهذا قال إمام المُرنّمين: «إِنْ زَادَ ٱلْغِنَى فَلاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ قَلْباً» (مزمور 62: 10)، وقال يسوع المسيح: «تَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لوقا 12: 15).

الصلاة

أيّها الآب ربّ السّماء، نشكرك لأجل كلمة الحياة التي هي سراج لأرجلنا ونور لسبيلنا. نعترف أمامك يا سيّدنا الرب بأنَّ لا برّ لنا، وأنَّ أعمال برّنا كثوب عدّة. ولكن نشكرك لأجل يسوع الذي فدانا بموته وقام ليهبنا البر وأتاح لنا فرصة القدوم إليك، قديسين وبلا لوم في المحبة. نسألك أن تبارك بلادنا، وتنمي ثمار البر في قلوب أبنائها. آمين.

السؤال

1 - ما هي الصفات التي وُصف بها رجل الله أيوب؟

2 - ما هي الحجة التي اعتمدها الشيطان في التقليل من فضل أيوب؟

1: 13 وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْراً فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ ٱلأَكْبَرِ 14 أَنَّ رَسُولاً جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ: « ٱلْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ وَ ٱلأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا، 15 فَسَقَطَ عَلَيْهَا ٱلسَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا ٱلْغِلْمَانَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لِأُخْبِرَكَ». 16 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «نَارُ ٱللّٰهِ سَقَطَتْ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ ٱلْغَنَمَ وَٱلْغِلْمَانَ وَأَكَلَتْهُمْ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لِأُخْبِرَكَ». 17 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: « ٱلْكِلْدَانِيُّونَ عَيَّنُوا ثَلاَثَ فِرَقٍ فَهَجَمُوا عَلَى ٱلْجِمَالِ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا ٱلْغِلْمَانَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لِأُخْبِرَكَ». 18 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْراً فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ ٱلأَكْبَرِ، 19 وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ ٱلْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا ٱلْبَيْتِ ٱلأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى ٱلْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لِأُخْبِرَكَ». 20 فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ وَخَرَّ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسَجَدَ 21 وَقَالَ: «عُرْيَاناً خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي وَعُرْيَاناً أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. ٱلرَّبُّ أَعْطَى وَٱلرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ مُبَارَكاً». 22 فِي كُلِّ هٰذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ لِلّٰهِ جَهَالَةً.

في العدد 12، رأينا أنَّ الله قد قبل تحدّي عدوّ النفوس، في امتحان تقيِّه أيوب. إلا أنّه اشترط أن لا يتعدّى نطاق الامتحان الممتلكات المادية. وقد سمح الرب الإله، أن تقع أربع ضربات مدوّخة على أيوب.

  1. فيما كان فلاّحو أيوب يحرثون حقوله الواسعة والأُتن ترعى بالقرب منهم هاجمتهم عصابة مسلّحة من قبيلة السَّبَئِيّين. فأبادوا الفلاحين والرّعاة، واستولوا على الأبقار والأتن، ولم ينج أحد سوى الغلام الذي نقل الخبر إلى سيّده.

  2. رأى الشيطان بدهائه أن لا يترك هوادة لأيوب، لكي يرتاح ويتصبّر على مصابه الأول. فأنزل به ضربة أخرى أقسى من الأولى، وأشدّ وقعاً في نفسه. فما أن انتهى الغلام الناجي من السَّبَئِيّين من سرد وقائع ما حدث للفلاحين والرّعاة، حتّى جاء غلام آخر وقال: يا سيّدي، إنَّ ناراً سقطت من السّماء والتهمت قطعان الغنم والرعاة، ولم يبقَ سواي، فأتيت لأنقل إليك الخبر. لقد ظهر لأيوب أنَّ هذه الضربة أتته من الله لا من الناس، وأنّها أبادت الغنم، التي منها كان أيوب يقدّم الذبائح الكفارية والمحرقات. وقد رأينا في العدد 5، أنَّ أيوب، قدَّس أبناءه وأصعد محرقات على عددهم كلّهم.

    بعد لحظات جاء غلام ثالث، ونقل إلى سيّده خبراً مفاده أنَّ ثلاث عصابات من الكلدانيين، باغتوا رُعاة الجمال، وبعد معركة عنيفة، سقط غلمانه بحد السيف، واستولى المهاجمون على الجمال.

    إنَّ الأرزاء الثلاثة التي تعاقبت على أيوب، وأصابته بخسائر فادحة، لم تستطع ملاشاة صبره وطول أناته، أو تحمله على اليأس أو التذمّر. ولكن ما عجزت عنه المصائب الأولى، فهذا حققته الفجيعة الرابعة، وهي موت أبنائه وبناته.

  3. ففيما هم في بيت أخيهم الأكبر، حول مقصف كبير يأكلون ويشربون خمراً، هبّت عاصفة هوجاء وصدمت البيت، فسقط على من فيه، فماتوا. ولكنَّ هذه الفاجعة الأليمة إن كانت قد آلمته، فهي لم تستطع إفناء إيمانه بالله.

صحيح أنّ أيوب مزّق جبّته حزناً، وجزّ شعر رأسه اكتئاباً. ولكن في غمرة آلامه واكتئابه، لم ينسَ ذكر الله. فقد خرّ إلى الأرض وسجد في خضوع تام لمشيئة الله.

كان الشيطان منتظراً أن يقف أيوب ويجدّف على الله، الذي سمح بهذه الويلات أن تقع عليه. ولكنَّ رجل الله لم تجرّه خسارة الأملاك والأبناء إلى فقدان الإيمان بصلاح الله. لقد غيّر الحزن الشديد منظره، إلا أنَّه لم يسلبه التعزية في الله. وفي سجوده تعبير عن أروع مثال في التسليم لله، والخضوع لإرادته في سبيل الإيمان.

لم يكن أيوب كالكثيرين الذين يفخرون بما عندهم من ثروات أو بنين، كأنّهم حصّلوها بقوّتهم وحكمتهم. بل كان يؤمن بأنَّ الله هو المعطي، وأنَّ كل شيء له، ويحق له أن يأخذه حين يشاء. وإننا لنتعلم من هذه الحوادث أربعة أمور مفيدة:

  1. لا يتزعزع الإيمان الحقيقي بزوال الخيرات الزمنية عن المؤمن، لأنَّ الإيمان ليس مؤسّساً عليها.

  2. لا تحدث المصائب اتفاقاً. فهي وإن كانت من الناس أو من قوى الطبيعة، لا تحدث بدون سماح من الله.

  3. يجب أن نعتبر مقتنياتنا لله، وما نحن سوى وكلاء عليها، وله الحق في أن يتصرّف بها.

  4. لا تستطيع أفهامنا إدراك سرائر الله، أو تلمّ بكلّ ما يرتّبه لنا من تأديبات نحن في حاجة إليها. وإنّه لجدير بنا أن نؤمن «بأَنَّ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ» (رومية 8: 28).

الصلاة

نشكرك يا إلهنا الصالح لأجل الإيمان المسلَّم مرّة للقديسين. هذا الإيمان الذي به نستطيع الارتفاع فوق المصائب أيّاً كان نوعها. أعطنا مع الإيمان روح الطاعة والتسليم لإرادتك الصالحة المرضية الكاملة. ازرع هذا الإيمان في قلوبنا وقلوب مواطنينا، وحوّله إلى ثقة كاملة في حكمتك التي تعمل لأجل خيرنا. آمين.

السؤال

3 - ما هي المصائب التي سمح الله أن تقع على أيوب؟

الأصحاح الثاني 1 وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو ٱللّٰهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَجَاءَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضاً فِي وَسَطِهِمْ لِيَمْثُلَ أَمَامَ ٱلرَّبِّ. 2 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟» فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ: «مِنَ ٱلْجَوَلاَنِ فِي ٱلأَرْضِ وَمِنَ ٱلتَّمَشِّي فِيهَا». 3 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي ٱلأَرْضِ! رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ. وَإِلَى ٱلآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ». 4 فَأَجَابَ ٱلشَّيْطَانُ: «جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. 5 وَلٰكِنِ ٱبْسِطِ ٱلآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». 6 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَا هُوَ فِي يَدِكَ وَلٰكِنِ ٱحْفَظْ نَفْسَهُ». 7 فَخَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ ٱلرَّبِّ وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. 8 فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ ٱلرَّمَادِ. 9 فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: «أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ! جَدِّفْ عَلَى ٱللّٰهِ وَمُتْ!» 10 فَقَالَ لَهَا: «تَتَكَلَّمِينَ كَلاَماً كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلاَتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ وَ ٱلشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» فِي كُلِّ هٰذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ.

في التأمل الماضي، رأينا أنَّ رجل الله تقبّل النكبات بإيمان صابر محتمل، دون أن ينسب جهالة لله. وهذا التصرّف أغاظ الشيطان جداً، ففكر في مكيدة أخرى أكثر دهاءً. فزعم أمام الرب أنّ الامتحان الذي جازه أيوب، لم يكن بالقسوة الكافية. واتّهمه بقساوة القلب إلى حد عدم التأثر لمصاب الآخرين. وفي تعبير آخر أنّ الغاوي، ادّعى بأنّ المصائب السابقة، لم تمس سوى حياة الآخرين. أمّا جلد أيوب فلم يلحق به أيّ أذى. فإذا ما وصل الأذى إلى جسده، يتغيّر الأمر ويسقط من كماله. فقبل الله التحدّي مرة أخرى، وسمح بأن يمتحن تقيّه في جلده، دون المس بنفسه.

نعرف بالاختبار العلاقة بين الصحة الجسدية والإيمان بالله. فكثيرون هم الذين متى ضعفوا جسدياً، ضعف إيمانهم. ولكن هذه الحال لم تكن حال أيوب، ولا حال أيّ من مختاري الله. صحيح أنَّ الرب أطال سلسلة القيد للشيطان، ولكن حياة أيوب بقيت في يد الرب، لا في يد الشيطان.

وأنت أيّها المؤمن لا تخف، لأنّ نفسك في يد الله، ولا يستطيع الشيطان أن يمسّها. هذه الحقيقة أدركها الرسول يوحنا، فكتب لنا بمداد الاختبار: « ٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱللّٰهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَٱلشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ» (يوحنا الأولى 5: 18). إنّه يحفظها بقوّة الله التي جدّدتها وتتعهّدها كل يوم بالتقديس.

لقد ظنّ الشيطان، أنَّ أيوب صار مكشوفاً بالنسبة له. فضرب الجسد بالقروح الرديئة، من شأنه أن يبعد الأصدقاء والمريدين عن المصاب، فيبتلي بالعزلة، حيث يضعف معنوياً. وقد تسوّل له نفسه اتهام الله بالقساوة، وبالتخلّي عن المنكوبين، وغير ذلك من الأمور التي تضعف الإنسان روحياً.

خصوصاً وأنّ القروح التي ضرب بها أيوب، كانت نوعاً من الدمامل التي تنتشر في الجسم، وتسبّب للمصاب بها حكة مستمرة. وفي الغالب تحدث نتوءاً في الوجه ويتساقط شعر الأجفان وتنتهي إلى تآكل أعضاء الوجه كالعينين والأنف. وكانت القروح أحياناً تتشقّق، ويخرج منها القيح، وتنبعث منها روائح كريهة، فينزعج المصاب ومن حوله.

حين ابتُلي أيوب بهذا المرض الخبيث، جلس في المزبلة، حيث يطرح الرماد والنفايات. فجاءت امرأته. وأثارته على الله. لأنّ فقدان الأولاد والثروة وصحة الزوج، حطّمت إيمانها. فطلبت إلى زوجها، أن يجدّف على الله. ولعله بسبب هذا الموقف، نعتها القديس أغسطينوس بأنها معينة الشيطان. وبعضهم يشبّهونها بحواء، لأنها جرّبت رجلها.

ولكن أيوب رفض أفكارها واتّهمها بالجهالة، ولم يخطئ بشفتيه، كما توهّم الشيطان بأنّه سيفعل. بل لعلّه صلّى إلى الرب إلهه قائلاً بعمق: لتكن مشيئتك. ومن قوله «أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ وَٱلشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» يبدو أنَّ أيوب اعتقد أنَّ الله أدّبه ولم يظلمه، كما توهّمت امرأته.

وأنت هل وجدت في تصرّف أيوب، مثالاً يُحتذى في الصبر واحتمال الضيقات؟ وهل وجدت في تصرّف امرأته أمراً لا يليق حتى بغير الأتقياء؟! نحن جميعاً ضعفاء، ولكن حين نعترف بالضعف ونطلب القوة من الله يمنحها لنا. ونحن جميعاً جهلاء. ولعلّ بعضنا أكثر جهالةً من امرأة أيوب. ولكن الجهل ليس محتوماً علينا. ويمكننا التخلّص منه، بالتوجّه إلى الله بطلب الحكمة. هكذا قال الرسول يعقوب: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب 1: 5).

الصلاة

يا إلهنا الحي، إننا نشكرك ونعظم اسمك المبارك، لأجل نعمتك المخلّصة، التي علّمتنا أن ننكر الفجور، الذي في العالم بالشهوة، امنحنا القوة لكي نرفض أفكار الشيطان الدنسة. بارك شعوب العالم ببركة المعرفة الحقيقية، لكي نمجد اسمك في كل شيء. آمين.

السؤال

بماذا أُصيب أيوب، وكيف كان موقفه من المصاب الذي وقع عليه شخصيا؟

2: 11 فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ أَيُّوبَ ٱلثَّلاَثَةُ بِكُلِّ ٱلشَّرِّ ٱلَّذِي أَتَى عَلَيْهِ، جَاءُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ: أَلِيفَازُ ٱلتَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ ٱلشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ ٱلنَّعْمَاتِيُّ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَأْتُوا لِيَرْثُوا لَهُ وَيُعَزُّوهُ. 12 وَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكُوْا، وَمَزَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ جُبَّتَهُ وَذَرُّوا تُرَاباً فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، 13 وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ لأَنَّهُمْ رَأُوْا أَنَّ كَآبَتَهُ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدّاً.

مضى زمان بين الحوادث التي ذكرت في هلة الأصحاح وزيارة أصحاب أيوب. لأنهم أتوا من بعيد، ووصول خبر مأساة أيوب إليهم كان يفتقر إلى وقت. وسفرهم أيضاً، يحتاج إلى وقت. وقيل إنَّ أصحاب أيوب جاؤوا ليرثوا له ويعزّوه. فلمّا وجدوا رجلاً مشوّه الخلقة، مضطجعاً على المزبلة، لم يعرفوه أولاً. ولكن لمّا عرفوه، بكوا ومزّقوا ثيابهم، وذرّوا تراباً على رؤوسهم إظهاراً لحزنهم. ومن شدّة حزنهم على بلوى صاحبهم، جلسوا سبعة أيامٍ وسبع ليالٍ، دون أن يتفوّه أحدهم بكلمة. ويقول بعض المفسرين إنَّ صمتهم، نجم عن تحيّرهم من جهة سبب محنته، وعن ظنّهم بأنَّ ذنباً خفياً، كان يثقل ضميره.

الأصحاح الثالث 1 بَعْدَ هٰذَا فَتَحَ أَيُّوبُ فَاهُ وَسَبَّ يَوْمَهُ 2 وَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: 3 «لَيْتَهُ هَلَكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَٱللَّيْلُ ٱلَّذِي قَالَ قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ! 4 لِيَكُنْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ظَلاَماً. لاَ يَعْتَنِ بِهِ ٱللّٰهُ مِنْ فَوْقُ وَلاَ يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ. 5 لِيَمْلِكْهُ ٱلظَّلاَمُ وَظِلُّ ٱلْمَوْتِ. لِيَحُلَّ عَلَيْهِ سَحَابٌ. لِتُرْعِبْهُ ظُلُمَاتُ ٱلنَّهَارِ. 6 أَمَّا ذٰلِكَ ٱللَّيْلُ فَلْيُمْسِكْهُ ٱلدُّجَى، وَلاَ يَفْرَحْ بَيْنَ أَيَّامِ ٱلسَّنَةِ، وَلاَ يَدْخُلَنَّ فِي عَدَدِ ٱلشُّهُورِ. 7 هُوَذَا ذٰلِكَ ٱللَّيْلُ لِيَكُنْ عَاقِراً! لاَ يُسْمَعْ فِيهِ هُتَافٌ. 8 لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو ٱلْيَوْمِ ٱلْمُسْتَعِدُّونَ لِإِيقَاظِ ٱلتِّنِّينِ. 9 لِتُظْلِمْ نُجُومُ عِشَائِهِ. لِيَنْتَظِرِ ٱلنُّورَ وَلاَ يَكُنْ، وَلاَ يَرَ هُدْبَ ٱلصُّبْحِ، 10 لأَنَّهُ لَمْ يُغْلِقْ أَبْوَابَ بَطْنِ أُمِّي وَلَمْ يَسْتُرِ ٱلشَّقَاوَةَ عَنْ عَيْنَيَّ. 11 لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ ٱلرَّحِمِ؟ عِنْدَمَا خَرَجْتُ مِنَ ٱلْبَطْنِ لِمَ لَمْ أُسْلِمِ ٱلرُّوحَ؟ 12 لِمَاذَا أَعَانَتْنِي ٱلرُّكَبُ، وَلِمَ ٱلثُّدِيُّ حَتَّى أَرْضَعَ؟ 13 لأَنِّي قَدْ كُنْتُ ٱلآنَ مُضْطَجِعاً سَاكِناً. حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحاً 14 مَعَ مُلُوكٍ وَمُشِيرِي ٱلأَرْضِ ٱلَّذِينَ بَنُوا أَهْرَاماً لأَنْفُسِهِمْ، 15 أَوْ مَعَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ ذَهَبٌ ٱلْمَالِئِينَ بُيُوتَهُمْ فِضَّةً، 16 أَوْ كَسِقْطٍ مَطْمُورٍ فَلَمْ أَكُنْ، كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرُوا نُوراً. 17 هُنَاكَ يَكُفُّ ٱلْمُنَافِقُونَ عَنِ ٱلشَّغَبِ وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ ٱلْمُتْعَبُون.

أجل لقد صمت الأصحاب، ولكنَّ أيوب كان غير قادر على السكوت. كان قد احتمل مصائبه بصمت إلى ذلك الوقت، إلا أنَّه الآن انفجر مرجل الكرب الكامن في نفسه بكلمات قوية وشديدة. وكما يقولون: إنَّ المصيبة هي تجربة القداسة. وإنَّه بقدر متانة القداسة وقدرتها على الاحتمال، تزداد المصيبة.

لسنا نعلم إن كان الأصحاب، قد رفعوا قلوبهم بصلوات من أجل صديقهم أيوب، طالبين إلى الرب الإله أن يمنحهم النعمة في عينيه، حين يبدأون الكلام في حضرته. ولكننا نعلم أنَّ الشيطان قد تدخّل لإثارة أيوب وانفجار غيظه في حضرتهم، ففتح فاه ولعن يوم مولده، وتمنّى لو أنَّ الله لم يسمح لصباح ذلك اليوم أن ينبلج، وأنّ الشمس لا تشرق عليه بأنوارها، وأن لا يدخل في عداد أيام السنة. وتمنّى أن يلعنه السحرة والعرّافون، ليصبح يوماً مشؤوماً، لا يعمل فيه أحد.

قد يجد بعضهم عذراً لأيوب في ثورته، اعتقاداً بأنه لم يفعل ما يستوجب وقوع المصائب العظيمة عليه. وإنَّ من كان في حالته بلا أمل في حياته، لحري به أن يثور. لأن كل أفراحه السابقة ما كانت لتستطيع ذكرياتها أن تخفف من وطأة الآلام الحاضرة التي يعانيها. ولكن مهما كانت نكباته قاسية، فليس في وسعنا أن نبرّره في أقواله.

لأنه ليس الغضب، ولا مرارة النفس، ولا الحزن والاكتئاب، ولا لعن الأيام، ولا وسيلة أخرى تستطيع أن تغيّر مجرى الحوادث، وخصوصاً بعد ما حدثت. والحكيم الحكيم، هو من يلقي على الربّ همّه، ويتكل عليه في كل شيء.

ويمضي أيوب في ثورته على الوضع، الذي صار إليه. فترتعش نفسه بألم مبرح، ولا يلبث أن تستبد به حمّى القلق. فيقارن آلامه مع راحة الموت فتتوق نفسه إلى الانطلاق.

كان الاعتقاد الشائع من حيث الحياة المستقبلية، أنها عبارة عن مجرد وجود لا لذة فيها ولا صفة لها، تجري على وتيرة واحدة موحشة، لا قوّة لها ولا جمال. لأنها تصرف بين الظلال الأخرى، تخفق فيها لهب الحياة خفوقاً ضئيلاً، وهي بمثابة النجاة من الموت. هناك الإنسان يتساوى هو والملوك والأمراء، الذين كانوا جبابرة على الأرض، وهم الآن في راحة، حيث اختلاف الرتب. لأن العبد يتحرر وينقطع عن العمل، ولأن المنافقين يكفون عن الشغب، ويستريح المتعَبون. ويظن البعض أنّ أيوب كان يرتاح للفكر بأنّ الموت يجلب الراحة، وينهي جنون الشوق إلى الحياة وهوى كثرة الأيام. ولكن أقوال أيوب ترجح بأنه خلال محنته صار عنده شوق من نوع أشواق بولس حين قال: «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23).

الواقع أنَّ الموت بالنسبة لمختاري الله، هو الطريق إلى الراحة في جواره. هناك يستريحون من أتعابهم. ولعل راحة المؤمن التي تعقب الموت هي التي جعلت القديس فرنسيس الأسيزي يخاطب الموت قائلاً: «أنت أيها الموت الأحسن والألطف»، مما يدل على أنَّ الأسيزي، كان يعتبر الموت كخليقة من خلائق إلهه ومليكه، يستطيع أن يمجّد الله كالخلائق الأخرى.

يمكنك أن تشارك مختاري الله في عدم خوفهم من الموت، إن كنت تتصالح مع الله في المسيح يسوع. لأنّ الفادي يحررّك من عبودية الخوف من الموت.

الصلاة

اللهم نشكرك من كل قلوبنا، لأنّ المسيح كسر شوكة الموت. وجعل القبر نقطة انطلاق إلى الخلود في عالم الله. أعطنا جميعاً أن نكون مستعدين لذلك اليوم الذي فيه ننطلق من عالم الفناء إلى عالم البقاء. آمين.

السؤال

5 - ماذا قال أيوب في ثورته، وما تمنّى؟

3: 18 ٱلأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعاً. لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ ٱلْمُسَخِّرِ. 19 ٱلصَّغِيرُ كَمَا ٱلْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَ ٱلْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ. 20 «لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ، وَحَيَاةٌ لِمُرِّي ٱلنَّفْسِ؟ 21 ٱلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ ٱلْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ وَيَحْفُرُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْكُنُوزِ، 22 ٱلْمَسْرُورِينَ إِلَى أَنْ يَبْتَهِجُوا، ٱلْفَرِحِينَ عِنْدَمَا يَجِدُونَ قَبْراً. 23 لِرَجُلٍ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ وَقَدْ سَيَّجَ ٱللّٰهُ حَوْلَهُ. 24 لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي وَمِثْلَ ٱلْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي، 25 لأَنِّي ٱرْتِعَاباً ٱرْتَعَبْتُ فَأَتَانِي، وَ ٱلَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ. 26 لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ وَقَدْ جَاءَ ٱلْغَضَبُ».

لم يعرف القدماء بالضبط الحالة، التي يصير إليها الإنسان بعد الموت، كما أُعلنت لنا في العهد الجديد. بل ظنوا أنَّها في الهاوية أخيلة، بلا أجساد وبلا أفراح الحياة. لذلك نرى هيمان الأزراحيّ يقول: «لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ دَنَتْ. حُسِبْتُ مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ. بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ فِرَاشِي مِثْلُ ٱلْقَتْلَى ٱلْمُضْطَجِعِينَ فِي ٱلْقَبْرِ ٱلَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ ٱنْقَطَعُوا. وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ. عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ غَضَبُكَ وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ. أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْساً لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ. عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ ٱلذُّلِّ. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ، أَمِ ٱلأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ. هَلْ يُحَدَّثُ فِي ٱلْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ أَوْ بِحَقِّكَ فِي ٱلْهَلاَكِ؟ هَلْ تُعْرَفُ فِي ٱلظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ ٱلنِّسْيَانِ؟» (مزمور 88: 3-12). ونرى حزقياً الملك يقول: «أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ، بِهَذِهِ يَحْيُونَ، وَبِهَا كُلُّ حَيَاةِ رُوحِي فَتَشْفِينِي وَتُحْيِينِي. هُوَذَا لِلسَّلاَمَةِ قَدْ تَحَّوَلَتْ لِيَ ٱلْمَرَارَةُ، وَأَنْتَ تَعَلَّقْتَ بِنَفْسِي مِنْ وَهْدَةِ ٱلْهَلاَكِ، فَإِنَّكَ طَرَحْتَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ كُلَّ خَطَايَايَ. لأَنَّ ٱلْهَاوِيَةَ لاَ تَحْمَدُكَ. ٱلْمَوْتُ لاَ يُسَبِّحُكَ. لاَ يَرْجُو ٱلْهَابِطُونَ إِلَى ٱلْجُبِّ أَمَانَتَكَ. ٱلْحَيُّ ٱلْحَيُّ هُوَ يَحْمَدُكَ كَمَا أَنَا ٱلْيَوْمَ» (إشعياء 38: 16-19).

أمّا أيوب وإن كانت أفكاره تشبه أفكار غيره من القدماء. إلا أنّه في غمرة آلامه فضّل الموت على الحياة. وحسب الموت راحة بالنسبة إلى أوجاعه. ومن أيام أيوب إلى نهاية العهد القديم، تغنّى الكثيرون من الرازحين تحت الكدر بهذه الألفاظ الجميلة. لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ ضجعة الموت تريحهم من أتعابهم، كما يرتاح المتعب بالنوم. ولكن لما جاء يسوع، أعطى للراحة مفهومها الحقيقي. لأنه علم أن لا راحة، إلا بالخلاص من الخطية. ولسعادة الإنسانية أنه فدى الإنسان من الخطية، وبرره وأعطاه سلام الله، الذي يريح القلب، ويشفي الضمير من أعمال ميتة.

في الواقع أنّه قبل المسيح كان شبح الموت جاثماً على صدر الإنسان. وكانت ظلمة الهاوية، تثير الرهبة في نفسه. ولكن حين أمات المسيح الموت بموته الكفاري، وغلب الهاوية بقيامته، قام رجاء المؤمنين، وانطلقت أنشودة الرجاء على فم بطرس: «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، 4 لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1 بط 1: 3 و4).

في القسم الثالث من خطابه قال أيوب: لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ، وَحَيَاةٌ لِمُرِّي ٱلنَّفْسِ؟ ولعله لم يقدر أن يرى طريقته أو سبب كآبة حياته. إنّه لا يرى غرضاً أو سبباً لحلول هذه المحن القاسية عليه، والتفكر في ذلك يزيد ضيقه ضيقاً. في اضطراب فكره أتى عليه خوف، فسلبه السلام والطمأنينة والراحة. إنه يتكلم بمرارة في ضيقه الهائل، ولكنه لا ينسب ظلماً لله، ولا يرفض طاعة له، ولا يترك استقامته. وكل ما هنالك هو أن مصائبه، وضعت لشكواه ألفاظاً خارجة عنه وليس لها مقر في قلبه.

والآن ماذا يعلّمك الكتاب المقدس ببسطه الحالة المعنوية السيئة، التي صار إليها أيوب في محنته القاسية؟ من المؤكد أنَّ روح الله ألهم كاتب هذا السفر أن يدوّن لنا ضعفات رجال الله:

  1. لكي يؤكد لنا أنَّه ليس من إنسان كامل سوى يسوع المسيح.

  2. ليعلّمنا بأن لا نعتز بأنفسنا مهما بلغت تقوانا لأنّه بدون عون الله، لا يستطيع أي منا أن يثبت حين تحيق به البلايا، حتى التي هي أقل صعوبة من بلايا أيوب.

  3. التشكّي من المصائب يزيدها، ولا يقلل منها. وإنَّ الصبر والسكوت، أفضل وأولى أمام الرزايا.

  4. لا يليق بأحد أن يقول: ليتني لم أولد. فإنَّ الحياة الأبدية وجميع خيراتها، مُعدّة للمولودين، لكل من يقبلها بالإيمان بالمسيح (متّى 22: 4).

الصلاة

نشكرك أيها السيد الرب، لأنك دعوتنا إلى الراحة بالقرب منك، ولأنك استأصلت من قلوبنا الخوف من الموت. وبانتظار ذهابنا إليك، أعطيتنا قوة الإيمان والرجاء والمحبة، التي بها نغلب ونرتفع فوق كل المخاوف. آمين.

السؤال

6 - ماذا قال أيوب في القسم الثالث من خطابه؟

7 - ما هو سبب كآبته؟

الأصحاح الرابع 1 فَأَجَابَ أَلِيفَازُ ٱلتَّيْمَانِيُّ: 2 «إِنِ ٱمْتَحَنَ أَحَدٌ كَلِمَةً مَعَكَ فَهَلْ تَسْتَاءُ؟ وَلٰكِنْ مَنْ يَسْتَطِيعُ ٱل ٱِمْتِنَاعَ عَنِ ٱلْكَلاَمِ! 3 هَا أَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَ كَثِيرِينَ وَشَدَّدْتَ أَيَادِيَ مُرْتَخِيَةً. 4 قَدْ أَقَامَ كَلاَمُكَ ٱلْعَاثِرَ وَثَبَّتَّ ٱلرُّكَبَ ٱلْمُرْتَعِشَةَ. 5 وَ ٱلآنَ إِذْ جَاءَ عَلَيْكَ ضَجِرْتَ! إِذْ مَسَّكَ ٱرْتَعْتَ! 6 أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدَكَ وَرَجَاؤُكَ كَمَالَ طُرُقِكَ؟ 7 اُذْكُرْ مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَأَيْنَ أُبِيدَ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ؟ 8 كَمَا قَدْ رَأَيْتَ أَنَّ ٱلْحَارِثِينَ إِثْماً وَٱلّزَارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهُمَا. 9 بِنَسَمَةِ ٱللّٰهِ يَبِيدُونَ وَبِرِيحِ أَنْفِهِ يَفْنُونَ. 10 زَمْجَرَةُ ٱلأَسَدِ وَصَوْتُ ٱلزَّئِيرِ وَأَنْيَابُ ٱلأَشْبَالِ تَكَسَّرَتْ. 11 اَللَّيْثُ هَالِكٌ لِعَدَمِ ٱلْفَرِيسَةِ وَأَشْبَالُ ٱللَّبْوَةِ تَبَدَّدَتْ.

إنَّ أصحاب أيوب الثلاثة رأوا وهم ساكتون حزن الرجل الذي أحبّوه، وأصغوا بكل اهتمام إلى ما بدا منه من انفجار العواطف. وظهر لهم أنَّه يشفّ عن وجود خطأ في حياته الماضية. صحيح أنّه لم ينسب ظلماً لله، ولكنه اندهش كيف أنَّ الله سمح بأن تأتي هذه البلايا!

لقد فقد صبره الذي تذرّع به عند حلول المصائب الأولى عليه وتوبيخ زوجته له، وهال أصحابه تشوّقه إلى الموت. ومع أنهم كانوا واثقين بتقواه، إلا أنهم لم يقدروا أن يتخلّصوا من هذا الفكر، إنَّ المصيبة الأخيرة أتت عليه بسبب خطية ارتكبها في الماضي. فجادلوه على هذا الأساس، وكان أول المتكلّمين أليفاز التيماني.

كان أليفاز أرفع الأصحاب شأناً وأعظمهم تبصّراً. فافتتح المناقشة بكلام بليغ وأسلوب شعري جميل. وكان كلامه معتدلاً جداً ، وتكاد فاتحته تكون اعتذاراً. إلا أنّه يُبدي تعجّبه من كلام أيوب! كان ينتظر منه الصبر وطول الأناة نظراً لمعرفته في أمور الله. وبعبارات لطيفة، حذّر صديقه من التذمر على الله. لأنه هو الخالق والقدوس العادل. وليس لأحد أن يعترض على أحكامه. وقد اندهش أليفاز من أنَّ أيوب معزّي الآخرين، يقع في اليأس. وحين كلّمه عمّا كان يفعله هو لو كان في موضع أيوب، كان كلامه مملوءاً من التبصّر والعطف. وفيه يمتدح صفات صديقه السامية، وطول باعه في إرشاد الكثيرين من الضالين، وتقوية الكثيرين من الضعفاء. ونفهم من العبارات أنَّ أيوب عمل في ماضيه على تثبيت الآخرين في الإيمان، وأنه لم يعش لنفسه، ولا اكتفى بالإحسان من ماله كعادة الأغنياء، بل قدّم نفسه بخدمات روحية للمحتاجين. «والأيادي المرتخية والركب المرتعشة» تشير إلى الضعفاء بالإيمان والعزم.

وأنت أيها الأخ، هل أنت في موقف كهذا، تستطيع أن تعظ غيرك، وترفع من معنوياته أمام مشاكل الحياة وأوجاعها. ولكنك حين تحيق بك البلايا والمحن، تسقط أناتك، وتفتر عزيمتك؟ تذكر أنَّ الله حين يسمح بالأرزاء أن تنزل بك، لا يفعل ذلك كرهاً بك. العكس هو الصحيح، «لأَنَّ ٱلَّذِي يُحِبُّهُ ٱلرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَقْبَلُهُ» (عبرانيين 12: 6). وقد قال الرسول يعقوب: «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب 1: 2-4).

حين قال أليفاز لأيوب: «أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدَكَ؟» كان في قوله شيء من العتاب، والدعوة لاعتماد التقوى في التغلب على الشدائد. وقد قسم الناس إلى قسمين أمام عينيه: القسم الأول، الذين يخطئون ويتوبون، ويستفيدون من تأديب الله ويرجعون إليه. وتكون نتيجة تأديب الرب لهم. اشتراكهم في قداسته. أمّا القسم الثاني، فهم الذين يتركون الله على أثر مصيبة، ولا يتوبون عن شرّ قلبهم. هؤلاء هم «الحارثون إثماً، الزارعون شقاوة» ولا بدّ أن يحصدوا ذلك في حينه.

التّقوى التّقوى! «إنَّها مَعَ ٱلْقَنَاعَةِ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ» (1 تيموثاوس 6: 6). التّقوى هي مخافة الله، التي تحمل الإنسان على تعظيم الخالق وإكرامه، والامتثال لإرادته. وقد عُرف بالاختبار أنَّ التّقوى هي أصل الصبر في الضيقات. ومنها ينبع التعفّف واعتزال الشهوات الرديئة.

حين سأل التلاميذ يسوع عن المولود أعمى: «مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ؟» (يوحنا 9: 2) قال إنَّ العاهة التي أصيب بها هذا الفتى لم تكن نتيجة للخطيئة؟ فحين نقابل هذا الجواب بكلمة أليفاز «مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ؟» نظنّ أنّ ضيراً وقع على أيوب دون حق.

لم يكن أيوب بريئاً كل البراءة، ولا طرقه كاملة كلها أمام الله. ومع ذلك فمتى علمنا أنَّ أليفاز كان هدفه أن يقتاد صديقه إلى التسليم لتأديب الرب، ليغفر له ذنبه وينجّيه من شدائده، حينئذ نلتمس له بعض العذر. والواقع أنَّ هذه الغاية معبّر عنها في ختام خطابه.

الصلاة

يا ربنا الله، نعظم اسمك الكريم، ولا نتكل على تقوانا. ولا نعتمد على برنا، لأنّ لا برّ لنا. ونشكرك لأجل يسوع البار الذي إذ رآنا بلا بر تحنّن علينا، وبرّرنا بدمه الثمين. وأهّلنا لملكوتك. أعطنا روح التسليم لمشيئتك والاتكال عليك، في تفريج كروبنا وإزالة صعوباتنا. وامنحنا الفكر الصالح لنقبل التأديب كدليل حبك لنا.آمين.

السؤال

8 - ما هي نتيجة تأديب الرب؟

9 - ما هو قصد أليفاز من عتابه لأيوب؟

4: 12 ثُمَّ إِلَيَّ تَسَلَّلَتْ كَلِمَةٌ فَقَبِلَتْ أُذُنِي مِنْهَا هَمْساً. 13 فِي ٱلْهَوَاجِسِ مِنْ رُؤَى ٱللَّيْلِ عِنْدَ وُقُوعِ سُبَاتٍ عَلَى ٱلنَّاسِ 14 أَصَابَنِي رُعْبٌ وَرَعْدَةٌ، فَرَجَفَتْ كُلُّ عِظَامِي. 15 فَمَرَّتْ رُوحٌ عَلَى وَجْهِي. ٱقْشَعَرَّ شَعْرُ جَسَدِي. 16 وَقَفَتْ وَلٰكِنِّي لَمْ أَعْرِفْ مَنْظَرَهَا. شِبْهٌ قُدَّامَ عَيْنَيَّ. سَمِعْتُ صَوْتاً مُنْخَفِضاً: 17 أَٱلإِنْسَانُ أَبَرُّ مِنَ ٱللّٰهِ، أَمِ ٱلرَّجُلُ أَطْهَرُ مِنْ خَالِقِهِ؟ 18 هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً. 19 فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ ٱلَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي ٱلتُّرَابِ وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ ٱلْعُثِّ؟ 20 بَيْنَ ٱلصَّبَاحِ وَ ٱلْمَسَاءِ يُحَطَّمُونَ. بِدُونِ مُنْتَبِهٍ إِلَيْهِمْ إِلَى ٱلأَبَدِ يَبِيدُونَ. 21 أَمَا ٱنْتُزِعَتْ حِبَالُ خِيَامِهِمْ؟ يَمُوتُونَ بِلاَ حِكْمَةٍ.

في هذا القسم من خطابه، يرى أليفاز رؤيا ويتكلم عن قداسة الله، وحماقة الناس والملائكة. ويشير إلى أنَّه لا فائدة لأيوب من الالتجاء إلى الله، بواسطة الخلائق السماوية. وفي تعبير آخر حاول أليفاز أن يوقظ في أيوب الشعور بطهارة الله السامية وضعف جميع خلائقه، الذين لم يكن أيوب سوى واحد منهم، فهم عرضة للخطأ. فلماذا يتذمّر أيوب على الله؟ وأنه لمن العبث أن يستغيث بالملائكة وهم لا يلبون له طلباً.

لعل أيوب كان في حاجة ماسة إلى تحذير صديقه أليفاز، فقد برّر نفسه قدام الله، والذي يبرّر نفسه يدين الله. فالصوت الخفي الذي همس في أذن أليفاز، أظهر له بوضوح سخافة ادّعاء الإنسان الخاطئ بأنه بار أمام إلهه.

هل سبق لهذا الصوت أن همس في ضميرك، مؤنّباً إياك على التمسُّك ببرّك الذاتي الموهوم؟ هذا صوت الروح القدس، الذي قال يسوع المسيح إنّه «يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يوحنا 16: 8). ليت هذا الصوت الخفي يُقابل عندك بالاعتراف بالمذنوبية وبالتوبة الشاملة! ليتك تشارك بولس اعترافه حين قال: «وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ» (فيلبي 3: 9).

إن كانت معرفة خدّام الله الأصفياء القديسين تُحسب بالنسبة لجلاله هزيلة، فأين تذهب أنت أيها الإنسان المتجاسر في حضرة القدوس الحق؟ وإن كان ملائكته لا يتجاسرون على أن يدّعوا لأنفسهم استحقاقاً كاملاً وخدمة بلا عيب، فكم بالحري الإنسان عبد التراب، لا يحق له أن يدّعي استحقاقاً؟! الإنسان بيته من طين، يوجد في الصباح وفي المساء يُحطم، هكذا قال أليفاز، مشيراً إلى ضعف الجسد البشري وسرعة زواله. إنه يذكرنا بالصوت القائل: إنَّ أيام سنينا كقصة، «لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعاً فَنَطِيرُ» (مزمور 90: 10). وإنّ حياتنا كبخار «يَظْهَرُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ» (يعقوب 4: 14). وبحسب قول أليفاز، إن الإنسان نظرا لقلة أيامه على الأرض، يموت بلا حكمة. ولكن العهد الجديد يعلمنا أنه مع قصر أيامنا، نستطيع أن نحصل على الحكمة إن نحن طلبناها من الله. فقد قال الرسول يعقوب: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب 1: 5).

نحن في الواقع جميعاً في حاجة إلى الحكمة، لكي نفتدي الوقت كما أوصانا بولس في رسالته إلى أفسس. وكانت حكمة افتداء الوقت موضوعاً لصلاة داود الملك. فقد سأل الله قائلاً: «إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ» (مزمور 90: 12).

إنَّ حكمة افتداء الوقت، تعلّمنا عدم استهلاك الأيام في العبث. وتهيب بنا أن نسهر على قداسة سيرتنا، لأنّ الله اختارنا في المسيح لنكون قدّيسين وبلا لوم قدامه في المحبة.

نتعلّم من أقوال أليفاز:

  1. أنَّ إنذارنا لغيرنا، أهون من إنذارنا أنفسنا.

  2. أنَّ التذمّر هو الحكم على الله.

  3. أنَّ لنا في الكتاب المقدس كلاماً أثبت من رؤى الليل.

  4. أنَّ الإنسان يتّضع عندما ينظر إلى نعمة الله العاملة فيه.

  5. أنَّ لنا بيتاً أبدياً غير مصنوع بيد.

الصلاة

أيها السيد الرب، نحن المزدرى وغير الموجود. ومع ذلك فنحن نستكبر ونشمخ، لذلك نسألك أن تسحق كبرياءنا حتى نسلك متواضعين معك. علّمنا حكمة إحصاء الأيام، حتى نصرف أيامنا في عمل الأشياء المرضية أمامك. قدّس قلوبنا، طهّر أفكارنا، نقّ نوايانا، ولك الشكر! آمين.

السؤال

10 - لماذا كان أيوب في حاجة إلى تحذير صديقه أليفاز؟

الأصحاح الخامس 1 «اُدْعُ ٱلآنَ. فَهَلْ لَكَ مِنْ مُجِيبٍ! وَإِلَى أَيِّ ٱلْقِدِّيسِينَ تَلْتَفِتُ؟ 2 لأَنَّ ٱلْغَيْظَ يَقْتُلُ ٱلْغَبِيَّ وَ ٱلْغَيْرَةَ تُمِيتُ ٱلأَحْمَقَ. 3 إِنِّي رَأَيْتُ ٱلْغَبِيَّ يَتَأَصَّلُ وَبَغْتَةً لَعَنْتُ مَرْبِضَهُ. 4 بَنُوهُ بَعِيدُونَ عَنِ ٱلأَمْنِ، وَقَدْ تَحَطَّمُوا فِي ٱلْبَابِ وَلاَ مُنْقِذَ. 5 ٱلَّذِينَ يَأْكُلُ ٱلْجَوْعَانُ حَصِيدَهُمْ وَيَأْخُذُهُ حَتَّى مِنَ ٱلشَّوْكِ، وَيَشْتَفُّ ٱلظَّمْآنُ ثَرْوَتَهُمْ. 6 إِنَّ ٱلْبَلِيَّةَ لاَ تَخْرُجُ مِنَ ٱلتُّرَابِ وَ ٱلشَّقَاوَةَ لاَ تَنْبُتُ مِنَ ٱلأَرْضِ، 7 وَلٰكِنَّ ٱلإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ ٱلْجَوَارِحَ لٱرْتِفَاعِ ٱلْجَنَاحِ.

كان أيوب قد لعن اليوم، الذي وُلد فيه. فكأن كلامه اعتراض على الله، الذي أعطاه الحياة. وبدأ أليفاز عظته له حاضاً إيّاه وقائلاً: ليس لك منقذ بواسطة الخلائق، فادع الله. لا تغتظ لأن الغيظ يقتل الغبي. ومن يشتكي على الله لا ينتفع، بل يجلب سخط الله وغضبه على نفسه. قد ينجح الغبي نجاحاً وقتياً. ولكن لا بد أن يسقط إن عاجلاً أو آجلاً. «لاَ تَغَرْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ ٱلإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلَ ٱلْحَشِيشِ سَرِيعاً يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ» (مزمور 37: 1 و2).

5: 8 «لٰكِنْ كُنْتُ أَطْلُبُ إِلَى ٱللّٰهِ وَعَلَى ٱللّٰهِ أَجْعَلُ أَمْرِي. 9 ٱلْفَاعِلِ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ. 10 ٱلْمُنْزِلِ مَطَراً عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ وَ ٱلْمُرْسِلِ ٱلْمِيَاهَ عَلَى ٱلْبَرَارِيِّ. 11 ٱلْجَاعِلِ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ فِي ٱلْعُلَى فَيَرْتَفِعُ ٱلْمَحْزُونُونَ إِلَى أَمْنٍ. 12 ٱلْمُبْطِلِ أَفْكَارَ ٱلْمُحْتَالِينَ فَلاَ تُجْرِي أَيْدِيهِمْ قَصْداً. 13 ٱلآخِذِ ٱلْحُكَمَاءَ بِحِيلَتِهِمْ فَتَتَهَّوَرُ مَشُورَةُ ٱلْمَاكِرِينَ. 14 فِي ٱلنَّهَارِ يَصْدِمُونَ ظَلاَماً، وَيَتَلَمَّسُونَ فِي ٱلظَّهِيرَةِ كَمَا فِي ٱللَّيْلِ. 15 ٱلْمُنَجِّيَ ٱلْبَائِسَ مِنَ ٱلسَّيْفِ، مِنْ فَمِهِمْ وَمِنْ يَدِ ٱلْقَوِيِّ. 16 فَيَكُونُ لِلذَّلِيلِ رَجَاءٌ وَتَسُدُّ ٱلْخَطِيَّةُ فَاهَا.

هنا يتقدّم أليفاز في كلامه، ذاكراً ما كان يفعله هو لو كان في موضع أيوب. ويصرح بأنه كان حينئذ يسلم أمره لله العظيم القوة والعجيب في كل طرقه. وكأنه يقول لأيوب: اقبل تأديب الله، لأنه يرفع المتواضعين، ويعزّي الحزانى، وينجّي المسكين والبائس، ويسند المستضعف. ويشجّع المتخاذل. إنه يجعل للذليل كرامة، ويعطي البائس رجاءً حياً. ويبطل أفكار المحتالين. فلا تتم أيديهم حيلهم التي قصدوها. إنهم يُصدمون مع وجود النور، نظراً لعماهة (لظلمة) قلوبهم. وقد أخبرنا الإنجيل أنَّ الأشرار يحبون الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. ويسوع له المجد قال لليهود: «لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ» (يوحنا 5: 40).

5: 17 «هُوَذَا طُوبَى لِرَجُلٍ يُؤَدِّبُهُ ٱللّٰهُ. فَلاَ تَرْفُضْ تَأْدِيبَ ٱلْقَدِيرِ. 18 لأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ. يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ. 19 فِي سِتِّ شَدَائِدَ يُنَجِّيكَ وَفِي سَبْعٍ لاَ يَمَسُّكَ سُوءٌ. 20 فِي ٱلْجُوعِ يَفْدِيكَ مِنَ ٱلْمَوْتِ وَفِي ٱلْحَرْبِ مِنْ حَدِّ ٱلسَّيْفِ. 21 مِنْ سَوْطِ ٱللِّسَانِ تُخْتَبَأُ فَلاَ تَخَافُ مِنَ ٱلْخَرَابِ إِذَا جَاءَ. 22 تَضْحَكُ عَلَى ٱلْخَرَابِ وَ ٱلْمَجَاعَةِ وَلاَ تَخْشَى وُحُوشَ ٱلأَرْضِ. 23 لأَنَّهُ مَعَ حِجَارَةِ ٱلْحَقْلِ عَهْدُكَ وَوُحُوشُ ٱلْبَرِّيَّةِ تُسَالِمُكَ. 24 فَتَعْلَمُ أَنَّ خَيْمَتَكَ آمِنَةٌ وَتَتَعَهَّدُ مَرْبِضَكَ وَلاَ تَفْقِدُ شَيْئاً. 25 وَتَعْلَمُ أَنَّ زَرْعَكَ كَثِيرٌ وَذُرِّيَّتَكَ كَعُشْبِ ٱلأَرْضِ. 26 تَدْخُلُ ٱلْمَدْفَنَ فِي شَيْخُوخَةٍ كَرَفْعِ ٱلْكُدْسِ فِي أَوَانِهِ. 27 هَا إِنَّ ذَا قَدْ بَحَثْنَا عَنْهُ. كَذَا هُوَ. فَٱسْمَعْهُ وَ ٱعْلَمْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ».

لقد أصاب أليفاز في كثير مما قاله، ولكنه في توجيه نظر أيوب إلى البركات التي تنبع من التأديب، يقصر جداً عن مقياس الإنجيل. فهو ينظر إلى التأديب كقصاص حق على الخطايا المقترفة، ويغض الطرف عن جوهر المحبة فيه.

في الواقع، حين نتأمل موضوع التأديب عبر الكتاب المقدس، نرى أنَّ رجال العهد الجديد أطول باعاً في إيضاح القصد الإلهي من التأديب. فقد قال الرسول بولس «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (2 كورنثوس 4: 17). فبالرغم من شدة الضيقات التي جازها الرسول. فحين قابلها بسعادة السماء، التي لا حد لعظمتها ولا نهاية لها، تضاءلت في نظره، حتى عبّر عنها بكلمة «خفة ضيقتنا».

فالله في نعمته، وعد أنه يثيب المؤمنين على ضيقاتهم بأفراح السماء. والضيقات تنشئ الفرح، لأنها تزكينا وتعدّنا لذلك المجد في منازل الآب. وتجعلنا نتوق إليه ونسر به، أكثر مما لو حصلنا عليه بلا تعب ولا ألم. وقد أشار الرسول بطرس إلى هذه الحقيقة، فقال: «لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ ٱمْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَلْ كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (1 بط 4: 12 و13).

يرجّح بعض المفسرين أنَّ أليفاز لو استعمل هذا الوجه من التأديب، كان يمكن أن يعزّي أيوب. لقد رأى لعنة الجهّال، وفشل حيلة المحتالين. ولكنه لم ير المحبة التي تبعث على التأديب. إنَّ كلماته البليغة لم تأتِ بالسّلام إلى أيوب المتألم، ولا بالبلسم إلى قلبه الملآن حزنا. قد يكون الألم سياجاً للمجد، ولكن هذا السياج، ليس بحائل دون طالب المجد، إن هو أراد الدخول من الباب، الذي هو الرب يسوع نفسه. وشكراً لله لأنّ يسوع قال: «اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متّى 7: 7).

حين قال أليفاز إنَّ الإنسان مولود المشقة. كان يعني أنَّ المشقة أمر لا بد منه. ويجب على الإنسان أن لا يتعجب من وجود المشقة في سبيله. فقد وُجدت منذ أن وُجدت الخطيئة في العالم. ولكن شكراً لله لأنّ الخطيئة ليست أمراً محتوماً علينا. المخلّص يسوع لاشى سلطانها. وبوسع كل إنسان أن يخلص منها ومن أثرها إن هو قبله مخلّصاً شخصياً.

الصلاة

نعظم اسمك الكريم يا إلهنا القدوس. ونباركك لأجل حكمتك في التأديب. ونشكرك لأجل الصبر الذي تعطيه للصدّيق، لكي يحتمل التأديب. ونشكرك بنوع خاص لأجل ربنا يسوع المسيح الذي نال عنا حكم الدينونة والقصاص. أعطنا النعمة لكي نمجد اسمك. آمين.

السؤال

11 - بمَ أشار أليفاز على أيوب أن يفعل؟

الأصحاح السادس 1 فَأَجابَ أَيُّوبُ: 2 «لَيْتَ كَرْبِي وُزِنَ وَمَصِيبَتِي رُفِعَتْ فِي ٱلْمَوَازِينِ جَمِيعَهَا. 3 لأَنَّهَا ٱلآنَ أَثْقَلُ مِنْ رَمْلِ ٱلْبَحْرِ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لَغَا كَلاَمِي. 4 لأَنَّ سِهَامَ ٱلْقَدِيرِ فِيَّ، تَشْرَبُ رُوحِي سُمَّهَا. أَهْوَالُ ٱللّٰهِ مُصْطَفَّةٌ ضِدِّي. 5 هَلْ يَنْهَقُ ٱلْفَرَاءُ عَلَى ٱلْعُشْبِ أَوْ يَخُورُ ٱلثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟ 6 هَلْ يُؤْكَلُ ٱلْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ، أَوْ يُوجَدُ طَعْمٌ فِي مَرَقِ ٱلْبَقْلَةِ؟ 7 عَافَتْ نَفْسِي أَنْ تَمَسَّهَا، فَصَارَتْ خُبْزِيَ ٱلْكَرِيهِ!

اعتقد أليفاز أنَّ أيوب ارتكب خطيئة، فكانت كلماته خالية من العطف، الذي توقّع أيوب أن يراه من أصحابه. وتكلّم أليفاز عن تضجّر أيوب وأشار إلى أنَّ هذا التضجّر يُحسب جهالة بالنسبة لعارفي الله. الأمر الذي أثار أيوب فاطلق صرخة داوية يطلب فيها الإنصاف. ثم لا يلبث أن يتّهم أليفاز بأنّه ينظر إلى الأمور بسطحية، فلا يرى أنَّ مصائبه المتتالية أمر يستلزم الشكوى. كان يرجو منه أن يضع البلايا التي نزلت به في كفة ميزان مع تذمّره، إذن لرثى لحاله على الأقل! ولكنّه للأسف أسمعه أقوالاً ليست فقط بعيدة عن كلام التعزية، بل أيضاً صبّ في أذنيه عبارات النقد الجارح كقوله: «الغيظ يقتل الغبي والغيرة تميت الأحمق». فأثار كلامه أيوب، فتكلّم بمبالغة، ووصف كربه بأنّه أثقل من رمل البحر. وخيبة أمله بموقف أليفاز، لم تكن وحدها سبب حزنه، بل كان له سبب آخر، وهو الشعور بأنَّ الله صار عدوّه، ويخشى أن تكون بلاياه قد أتت رأساً من الله. ولم يلبت أن لغا بكلامه، أي صار طائشاً. فنسب إلى القدير أنّه رشقه بسهامه المسمومة، معبّراً بذلك عن البلايا التي سمح الله أن تنزل به. وهذه المصائب الشديدة، شبّهها بجيوش عدّة مصطفّة لقتاله.

صحيح أنَّ هناك سبباً لصراخ الألم وأنَّ حالة أيوب ليست من الأمور التي يمكن الاستخفاف بوقعها. فقدْ فقدَ طَعم الحياة، حتى أنّه شبهها بمرق البقلة الغث، الذي أُعدّ بدون ملح. ولهذا تعاف نفسه الطعام، الذي صار طعامه اليومي. فهو يصرخ كالحمار الوحشي، أو كالثور الذي لا يخور بلا سبب. إلا أنَّ هذه الأسباب مع وجاهتها، لا يمكنها أن تبرّر مبالغة أيوب في نثر الإتّهامات، ضدّ محدّثه وضدّ الله.

6: 8 «يَا لَيْتَ طِلْبَتِي تَأْتِي وَيُعْطِينِيَ ٱللّٰهُ رَجَائِي! 9 أَنْ يَرْضَى ٱللّٰهُ بِأَنْ يَسْحَقَنِي وَيُطْلِقَ يَدَهُ فَيَقْطَعَنِي. 10 فَلاَ تَزَالُ تَعْزِيَتِي وَ ٱبْتِهَاجِي فِي عَذَابٍ لاَ يُشْفِقُ أَنِّي لَمْ أَجْحَدْ كَلاَمَ ٱلْقُدُّوسِ. 11 مَا هِيَ قُوَّتِي حَتَّى أَنْتَظِرَ، وَمَا هِيَ نِهَايَتِي حَتَّى أُصَبِّرَ نَفْسِي؟ 12 هَلْ قُوَّتِي قُوَّةُ ٱلْحِجَارَةِ؟ هَلْ لَحْمِي نُحَاسٌ؟ 13 أَلاَ إِنَّهُ لَيْسَتْ فِيَّ مَعُونَتِي، وَ ٱلْمُسَاعَدَةُ مَطْرُودَةٌ عَنِّي!

الآن يعبّر أيوب عن رغبته في أن يأتي عليه الموت، الذي كان يشتاق إليه، حينئذ لا يخاف. ومن الجهة الأخرى يتعزّى، لأنّه لم ينكر الرب. صحيح أنَّ الحياة كانت قد ثقّلت المطالب على قوّته وصبره، حتى صيّرته غير قادر على أن يخوض معارك أخرى. ولكن مع تبرمه بالحياة وتذمره من نصيبه منها، لم يمجّد كلام القدوس، وإنما طلب إليه أن يسمح له بالموت. مثله كإيليا ويونان اللذين طلبا الموت، ولكنّ الله لم يستجب لهما. لأنّ الموت لا يأتي إلا في الوقت، الذي عيّنه الله، وبعد نهاية الفرصة، التي أعطاها الخالق للإنسان لتكملة واجباته والاستعداد للرحيل.

لم يفكّر أيوب بقوّة الله اللامحدودة، والقادرة أن تشفيه من مرضه الخبيث. وأن تردّ له أمواله، وتقيم له نسلاً جديداً. ولهذا قال متضجّراً: ما هي نهايتي لأصبّر نفسي؟ لكأنّه نسي أنَّ الله، لا يتخلّى عن صدّيق، بل يقف بجانبه في كل محنة. وكسيّد الظروف، يحوّل كل شيء لخير الذين هم له.

في فصل سابق، قال أليفاز، إنّه لو كان في موضع أيوب، لكان سلّم أمره لله بلا تردّد. وأنت هل في وسعك أن تتصرف على هذا النحو، حين تحيق بك البلايا، وتحدق بك الضيقات؟ فتسلّم كل شيء لله، واضعاً ثقتك كل ثقتك في عنايته. داود في إبّان بلاياه، سلّم أمره لله وانتظره. والرب سمع صراخه، وأخرجه من جب الهلاك. ومن صميم اختباره، كتب لنا نشيده الرائع: «هٰذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَ ٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. مَلاَكُ ٱلرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ» (مزمور 34: 6 و7).

ما أحوجنا في هذه الأيام الصعبة إلى ديانة عملية اختبارية كهذه، تستطيع أن تستصرخ الله، وتستنفر حنانه لإنقاذ النفوس البائسة وإخراجها من جب الهلاك. هذه الديانة ميسورة لنا، إن كنا نُقبل إلى يسوع، الذي له القدرة على خلاص كل نفس تطلبه من كل القلب.

الصلاة

يا سامعاً الصلاة، إليك يأتي كل بشر. نشكرك لأنك قريب من كل الذين يدعونك، الذين يدعونك بالحق. أنعِمْ علينا باستجابة صلواتنا من أجل سلام النفوس اليائسة. أعلن ذاتك معيناً لكل نفس رازحة تحت الآلام، وأباً محباً يهتم بكل خلائقه. آمين.

السؤال

12 - لماذا كانت كلمات أليفاز خالية من العطف؟

6: 14 «حَقُّ ٱلْمَحْزُونِ مَعْرُوفٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَإِنْ تَرَكَ خَشْيَةَ ٱلْقَدِيرِ. 15 أَمَّا إِخْوَانِي فَقَدْ غَدَرُوا مِثْلَ ٱلْغَدِيرِ. مِثْلَ سَاقِيَةِ ٱلْوِدْيَانِ يَعْبُرُونَ. 16 ٱلَّتِي هِيَ عَكِرَةٌ مِنَ ٱلْبَرَدِ وَيَخْتَفِي فِيهَا ٱلْجَلِيدُ. 17 إِذَا جَرَتِ ٱنْقَطَعَتْ. إِذَا حَمِيَتْ جَفَّتْ مِنْ مَكَانِهَا. 18 تَحِيدُ ٱلْقَوَافِلُ عَنْ طَرِيقِهَا، تَدْخُلُ ٱلتِّيهَ فَتَهْلِكُ. 19 نَظَرَتْ قَوَافِلُ تَيْمَاءَ. مَوَاكِبُ سَبَأٍ رَجَوْهَا. 20 خَزُوا فِي مَا كَانُوا مُطْمَئِنِّينَ. جَاءُوا إِلَيْهَا فَخَجِلُوا. 21 فَٱلآنَ قَدْ صِرْتُمْ مِثْلَهَا. رَأَيْتُمْ ضَرْبَةً فَفَزِعْتُمْ. 22 هَلْ قُلْتُ: أَعْطُونِي شَيْئاً، أَوْ مِنْ مَالِكُمُ ٱرْشُوا مِنْ أَجْلِي، 23 أَوْ نَجُّونِي مِنْ يَدِ ٱلْخَصْمِ، أَوْ مِنْ يَدِ ٱلْعُتَاةِ ٱفْدُونِي؟

أصبح أيوب خائر القوى، لا يجد عوناً من نفسه وقد يئس من الشقاء. ثمّ عبّر عن شدة حزنه لخيبة أمله من موقف أصحابه نحوه. لم يشك في كونهم قصدوا تعزيته. فإنهم كابدوا مشقة السفر الطويل لكي يأتوه ويروه. لقد عرفوه وعرفوا أسلوب حياته، ومع ذلك فإنهم كانوا في شك في أفكارهم من جهة أحواله الأدبية. وكان فحوى خطاب أليفاز أنه يجب على أيوب أن يعترف بخطيته ويطلب مغفرتها. ولكن نسبة التفوّق الأدبي في نفسه، أنشأ بالطبع نفوراً عبّر عنه بالكلمات التالية: « ٱلْمَحْزُونِ مَعْرُوفٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَإِنْ تَرَكَ خَشْيَةَ ٱلْقَدِيرِ» ومعنى هذا أنَّ أيوب يشعر بأنّه إذا كان قد زلّ عن طرق الله، كما ظنّ أصحابه، فإنّ إظهار شيء من العواطف اللطيفة نحوه يقوّي ثقته بالله. والواقع أنَّ التوبيخ الذي في غير محله حتى من المسيحيين، طالما أهلك نفوساً ثمينة. وفي تعبير آخر فإنَّ أيوب يلتمس هنا حق المحزون من أصدقائه وهو التعزية. هذا حق مشروع فعلاً، لأنّ الإنسان الذي يغوص تحت الفواجع، له حق في عطف الأصدقاء، حتى ولو ترك خشية القدير، وإلا ما معنى الصداقة؟ والحق يُقال. إنّه كان على أصحاب أيوب، أن يعربوا له عن محبّتهم واهتمامهم به، في محاولة لردّه إلى الحق. لأنّ: «اَلصَّدِيقُ يُحِبُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَّا ٱلأَخُ فَلِلشِّدَّةِ يُولَدُ» (أمثال 17: 17).

6: 24 عَلِّمُونِي فَأَنَا أَسْكُتُ، وَفَهِّمُونِي فِي أَيِّ شَيْءٍ ضَلَلْتُ. 25 مَا أَشَدَّ ٱلْكَلاَمَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، وَأَمَّا ٱلتَّوْبِيخُ مِنْكُمْ فَعَلَى مَاذَا يُبَرْهِنُ؟ 26 هَلْ تَحْسِبُونَ أَنْ تُوَبِّخُوا كَلِمَاتٍ، وَكَلاَمُ ٱلْيَائِسِ لِلرِّيحِ! 27 بَلْ تُلْقُونَ عَلَى ٱلْيَتِيمِ وَتَحْفُرُونَ حُفْرَةً لِصَاحِبِكُمْ! 28 وَ ٱلآنَ تَفَرَّسُوا فِيَّ، فَإِنِّي عَلَى وُجُوهِكُمْ لاَ أَكْذِبُ. 29 اِرْجِعُوا. لاَ يَكُونَنَّ ظُلْمٌ. اِرْجِعُوا أَيْضاً. فِيهِ حَقِّي. 30 هَلْ فِي لِسَانِي ظُلْمٌ أَمْ حَنَكِي لاَ يُمَيِّزُ فَسَاداً؟

إنَّ قلب المؤمن، يتحوّل بنفس راضية عن كل قدرة بشرية، مهما كانت مخلصة. ويدعو صديقاً واحداً، لم تستطع سيول الدينونة أن تطفئ محبته، ولم تقدر تيارات الغضب أن تغمرها. هذا الصديق هو ربنا يسوع المسيح ذاك المحب الألزق من الأخ.

لقد التفت أيوب إلى أصحابه، يلتمس تعزية كعادته فلم يجد. لهذا بادرهم بتوبيخ جارح، وعزا إحجامهم إلى كون نفوسهم عافت منظره الكريه. لقد اعتبروه مصاباً من الله، وكأنّ الله يغضب عليهم إن اهتمّوا به. مثله كالأبرص في عرف ناموس موسى، يجب عزله عن الجميع، وإجباره على العيش خارج المحلة ليعاني قساوة الوحشة.

فتّش عن مياه المؤاساة المنعشة، فلم يجدها فيهم. وكانت قلوبهم جافة وباردة، كمجرى جدول الجبل الجاف. رأى أصحابه ضربته ففزعوا. فقد اقشعرّوا من مصابه واعتبروه قصاصاً إلهياً على خطيئته، فخافوا من أن يظهروا له شيئاً من العطف. ثم سألهم أن يروه في أيّ شيء أخطأ وأن يعاملوه بالعدل ويكلّموه بالاستقامة.

أجل إنّه لم يطلب منهم عوناً مادياً، ولكنّه توقّع في أن يواسوه برقيق الكلام فلم يفعلوا، بل صدرت منهم تلميحات ضد استقامته. ولهذا تحدّاهم بعنف قائلاً: «فَهِّمُونِي فِي أَيِّ شَيْءٍ ضَلَلْتُ؟» ولكن في هذا لم يكن أيوب مصيباً، لأنه تجاسر مرة أخرى أن يغاير شهادة الله عن الإنسان، حين قال: « ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 3: 12).

إنَّ تلميحات الأصحاب لم يكن لها وزن، ولم تؤثر في نفس أيوب. وإذا كان قد تكلم بشدّة، فالواجب عليهم أن يتذكروا حزنه وأن يتساهلوا مع رجل واقع في مثل هذه الضيقات. لقد وبّخهم فعلاً على تصرفهم القاسي الخالي من الشعور، كالذين يجورون على اليتيم ويضرون الأصحاب. والتمس منهم أن يعاملوه بالنصفة والصراحة، لأنه لا يكذب عليهم. ويطلب إليهم أن يتحوّلوا عن حكمهم الجائر فيه، لأنّه لا يوجد ظلم في كلامه. ويقدر أن يرى الأمور الملتوية، أي شدائده. إنه كان مثلهم قادراً على تمييز الصحيح من الخطأ. ويعتبر أنَّ الضربات التي أتت عليه كانت بلا استحقاق وبغير إنصاف. ومن هذا الموقف المتصلّب أصدر حكماً أدبياً في مسألته.

الصلاة

شكراً لك يا ربنا لأجل يسوع الحي الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا. وأعطانا فكر التواضع، لنعترف بخطايانا ونؤمن بيسوع، الذي صالحنا معك بموته الكفاري، فصار لنا القدوم إليك، مُبَرَّرين بالنعمة. آمين.

السؤال

13 - ماذا كان موقف الأصحاب من مصاب أيوب، وكيف حسبوه؟

الأصحاح السابع 1 «أَلَيْسَتْ حَيَاةُ ٱلإِنْسَانِ جِهَاداً عَلَى ٱلأَرْضِ، وَكَأَيَّامِ ٱلأَجِيرِ أَيَّامُهُ؟ 2 كَمَا يَتَشَوَّقُ ٱلْعَبْدُ إِلَى ٱلظِّلِّ، وَكَمَا يَتَرَجَّى ٱلأَجِيرُ أُجْرَتَهُ، 3 هٰكَذَا تَعَيَّنَ لِي أَشْهُرُ سُوءٍ، وَلَيَالِي شَقَاءٍ قُسِمَتْ لِي. 4 إِذَا ٱضْطَجَعْتُ أَقُولُ مَتَى أَقُومُ. ٱللَّيْلُ يَطُولُ وَأَشْبَعُ قَلَقاً حَتَّى ٱلصُّبْحِ. 5 لَبِسَ لَحْمِيَ ٱلدُّودُ مَعَ ٱلطِّينِ. جِلْدِي تَشَقَّقَ وَتَقَيَّحَ. 6 أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنَ ٱلْمَكُّوكِ، وَتَنْتَهِي بِغَيْرِ رَجَاءٍ. 7 «اُذْكُرْ أَنَّ حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ وَعَيْنِي لاَ تَعُودُ تَرَى خَيْراً. 8 لاَ تَرَانِي عَيْنُ نَاظِرِي. عَيْنَاكَ عَلَيَّ وَلَسْتُ أَنَا! 9 ٱلسَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ. هٰكَذَا ٱلَّذِي يَنْزِلُ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ. 10 لاَ يَرْجِعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ.

في هذا القسم من خطابه، ينظر أيوب ويوسع مجال النظر. ويرى أنّ آخرين أيضاً متألّمون، وأنّ الإنسان ضعيف عن احتمال أتعاب الحياة. ينظر بفراسة جديدة إلى ميدان الحياة البشرية الواسع، ويعرف مبلغ شقائها وبؤسها بما أصابه منها. إنَّه يستمر في جوابه لأليفاز. مجدّدا صراخ اليأس، ومشيراً إلى شدة ضعف الحياة البشرية. وفي تشبيهات مؤثرة، يذكر مشقات الناس. ويصور الحياة كأنها جهاد شاق مستمر.

وبالإجمال شبّه الإنسان بالأجير. الذي يعمل تحت حكم مطلق، وخدمته إجبارية. وهذا الأجير، يتشوق إلى الظل الذي يعقب غروب الشمس، حيث تنتهي أتعاب النهار ويتسلم الأجير أجرته اليومية. وخلاصة قوله إنَّ حياة الإنسان، كحياة الأجير، إذ ليس فيها كبير فرح أو راحة. ولا يستطيع أيوب أن يفتكر في راحة أحلى، أو أجرة أثمن من أن تمضي الأيام سريعاً، فيستريح في القبر. وهل هذا غريب، حين لا تحوي الحياة سوى أيام تعب ومرض وليالي أرق؟ ويجب أن لا نندهش أن يفكر أيوب هكذا، لأنه وُجد قبل أن أنار يسوع الحياة والخلود، وقبل أن يرسل الروح القدس، مقوياً ومعزياًومرشداً إلى جميع الحق.

ثم يمضي أيوب في رثاء نفسه، فيقول: هكذا تعيّن لي أشهر سوء، وليالي شقاء قسمت لي. بمعنى أنَّ حياته لم تكن كما اشتهى، فهي أشهر قاسية ليلها أشد ألماً من نهارها. وشر ما في مرضه أنّه كان يرى دوداً صغيراً ينخر في لحمه فيسبب له آلاماً لا تطاق.

7: 11 أَنَا أَيْضاً لاَ أَمْنَعُ فَمِي. أَتَكَلَّمُ بِضِيقِ رُوحِي. أَشْكُو بِمَرَارَةِ نَفْسِي. 12 أَبَحْرٌ أَنَا أَمْ تِنِّينٌ حَتَّى جَعَلْتَ عَلَيَّ حَارِساً؟ 13 إِنْ قُلْتُ: فِرَاشِي يُعَزِّينِي، مَضْجَعِي يَنْزِعُ كُرْبَتِي 14 تُرِيعُنِي بِٱلأَحْلاَمِ وَتُرْهِبُنِي بِرُؤًى، 15 فَٱخْتَارَتْ نَفْسِي ٱلْخَنْقَ وَ ٱلْمَوْتَ عَلَى عِظَامِي هٰذِهِ. 16 قَدْ ذُبْتُ. لاَ إِلَى ٱلأَبَدِ أَحْيَا. كُفَّ عَنِّي لأَنَّ أَيَّامِي نَفْخَةٌ! 17 مَا هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَعْتَبِرَهُ وَحَتَّى تَضَعَ عَلَيْهِ قَلْبَكَ، 18 وَتَتَعَهَّدَهُ كُلَّ صَبَاحٍ، وَكُلَّ لَحْظَةٍ تَمْتَحِنُهُ! 19 حَتَّى مَتَى لاَ تَلْتَفِتُ عَنِّي وَلاَ تُرْخِينِي رَيْثَمَا أَبْلَعُ رِيقِي؟ 20 أَأَخْطَأْتُ؟ مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ يَا رَقِيبَ ٱلنَّاسِ! لِمَاذَا جَعَلْتَنِي هَدَفاً لَكَ حَتَّى أَكُونَ عَلَى نَفْسِي حِمْلاً! 21 وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي لأَنِّي ٱلآنَ أَضْطَجِعُ فِي ٱلتُّرَابِ؟ تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ!»

يتابع أيوب مرثاته بتفجّع، وإذ يستفزّه ثقل الأوجاع راح يشكو بمرارة من المعاملة الإلهية، التي حسب ظنه حمّلته أكثر مما يستطيع. ويبدو أن ضيقاته وتعاسته، التي لا رجاء فيها، ضغطت عقله فلم يستطع أن يضبط نفسه ففرّط بلسانه.

حقّاً أنّه ليس حسناً للإنسان أن يبالغ في الشكوى من مصائبه، أو يتحدّث عنها بلا انقطاع. لأنها بهذا تشتد وطأتها على النفس، فتفقد صبرها. فأيوب بكلامه المستمر عن بلاياه، وبتظلمه الدائم من أوجاعه، هيّج نفسه حتى تجاسر وتكلم عن الله بقلة احترام. قال في العددين 17 و 18 ما معناه أنَّه لا يليق بالله العظيم الجليل، أن يتنازل حتى يراقب الإنسان التافه ويخطط له. ألم يكن أولى به، أن يتركه وشأنه؟ وكأنه يقول: ماذا يمكن أن تعني خطية صغيرة يرتكبها إنسان ضعيف بالنسبة للرب الإله المتعالي؟ لماذا لا يغفرها له حالاً. قبل أن يطويه الردى؟

إنَّ حكمة أيوب هذه يتردد صداها في عصرنا، حيث يكثر الطامعون في رحمة الله، والقائلون: حاشا لله أن يعذّب إنساناً! صحيح أنَّ الله رحوم، ورحمته تتمهّل على الإنسان لكي تقتاده إلى التوبة. ولكن قساوة القلب، كثيراً ما تحول دون الإنسان والتوبة. وبذلك يثير غضب الله ويوقع نفسه تحت الدينونة.

يعلّمنا الإنجيل أنَّ الله محب، بصورة فائقة كجلاله الأقدس. وقد عبّر عن محبّته بالفداء، بموت يسوع المسيح على الصليب. «لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). بمعنى أنّه يكفي الخاطئ الأثيم أن يقبل يسوع مخلّصاً، ويترك الخطية، لكي يحصل على فوائد الفداء، كغفران الخطايا والتبرير، وأخيراً الحياة الأبدية السعيدة.

الصلاة

نشكرك يا إلهنا الصالح، لأنك أحببت الإنسان منذ البدء ولأنك تترأف ولا تشاء أن يهلك أحد، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. ونشكرك لأنك تقبل توبتنا، وتغفر خطايانا. زد إيماننا بالفداء، وانعم بمراحمك على الجميع. آمين.

السؤال

14 - ماذا كانت نتيجة كلام أيوب عن بلاياه وتظلمه الدائم من أوجاعه؟

الأصحاح الثامن 1 فَأَجَابَ بِلْدَدُ ٱلشُّوحِيُّ: 2 «إِلَى مَتَى تَقُولُ هٰذَا وَتَكُونُ أَقْوَالُكَ رِيحاً شَدِيدَةً! 3 هَلِ ٱللّٰهُ يُعَوِّجُ ٱلْقَضَاءَ أَوِ ٱلْقَدِيرُ يَعْكِسُ ٱلْحَقَّ؟ 4 إِذْ أَخْطَأَ إِلَيْهِ بَنُوكَ دَفَعَهُمْ إِلَى يَدِ مَعْصِيَتِهِمْ. 5 فَإِنْ بَكَّرْتَ أَنْتَ إِلَى ٱللّٰهِ وَتَضَرَّعْتَ إِلَى ٱلْقَدِيرِ - 6 إِنْ كُنْتَ أَنْتَ زَكِيّاً مُسْتَقِيماً، فَإِنَّهُ ٱلآنَ يَتَنَبَّهُ لَكَ وَيُسْلِمُ مَسْكَنَ بِرِّكَ. 7 وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدّاً.

في ردّه على أيوب، اتخذ بلدد الشوحي وجهة نظرٍ أخرى. فإنَّ أيوب كان قد أبان أنّ دعواه عادلة، وإنّه لم يتكلّم في غير حق (6: 29-30) وفي الأصحاح السابع نسب لله أنّه أبقاه في العبودية. فجواباً على ذلك يؤكّد بلدد أنَّ الله يعمل بتمييز وإدراك. أي أنّه يكافئ البار ويعاقب الشرير. ويتعجّب من أنّ أيوب يتّهم الله بعدم الإنصاف.

وقد حرص بلدد في كلمته على الاستشهاد بأقوال الحكماء. وبدأ خطابه بتوبيخ أيوب، من أجل كلماته الطائشة. وقد شبّه كلامه بالريح الشديدة، لأنّه أطلقه بحدّة، منتقداً معاملات الله معه خاصة، ومع جميع البشر عامة. وبعد أن حمل على كلام أيوب، الذي به نسب إلى الله تعويج القضاء، أشار إلى مصرع أبنائه بخشونة. إذ قال إنّهم زرعوا شراً، وكان لا بدّ أن يحصدوا وبالاً. أي أنّهم أخطأوا فدفعهم الله إلى يد معصيتهم، أي العقاب الذي استوجبته خطيتهم. ثم وجّه كلامه إلى أيوب وحثّه على التوبة والزكوة والاستقامة، لينتبه الله إليه. ويكافئ توبته، بأن يعطيه النعمة ليعمل مسكنه مسكن بر.

8: 8 «اِسْأَلِ ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَى وَتَأَكَّدْ مَبَاحِثَ آبَائِهِمْ. 9 لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى ٱلأَرْضِ ظِلٌّ. 10 فَهَلَّا يُعْلِمُونَكَ. يَقُولُونَ لَكَ وَمِنْ قُلُوبِهِمْ يُخْرِجُونَ أَقْوَالاً قَائِلِينَ 11 هَلْ يَنْمُو ٱلْبَرْدِيُّ فِي غَيْرِ ٱلْمُسْتَنْقَعِ، أَوْ تَنْبُتُ ٱلْحَلْفَاءُ بِلاَ مَاءٍ؟ 12 وَهُوَ بَعْدُ فِي نَضَارَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ يَيْبَسُ قَبْلَ كُلِّ ٱلْعُشْبِ. 13 هٰكَذَا سُبُلُ كُلِّ ٱلنَّاسِينَ ٱللّٰهَ، وَرَجَاءُ ٱلْفَاجِرِ يَخِيبُ، 14 فَيَنْقَطِعُ ٱعْتِمَادُهُ، وَمُتَّكَلُهُ بَيْتُ ٱلْعَنْكَبُوتِ! 15 يَسْتَنِدُ إِلَى بَيْتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ. يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلاَ يَقُومُ. 16 هُوَ رَطْبٌ تُجَاهَ ٱلشَّمْسِ وَعَلَى جَنَّتِهِ تَنْبُتُ أَغْصَانُهُ. 17 وَأُصُولُهُ مُشْتَبِكَةٌ فِي ٱلرُّجْمَةِ فَتَرَى مَحَلَّ ٱلْحِجَارَةِ. 18 إِنِ ٱقْتَلَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ يَجْحَدُهُ قَائِلاً: مَا رَأَيْتُكَ. 19 هٰذَا هُوَ فَرَحُ طَرِيقِهِ وَمِنَ ٱلتُّرَابِ يَنْبُتُ آخَرُ.

يستند بلدد إلى التقليد، ويتقدّم إلى إثبات صحته بالإشارة إلى اختبار الأجيال السالفة. ورأيه هنا ليس جديداً، فإنَّ الحكماء الأقدمين تمسّكوا به. ويقتبس مثلاً شائعاً أنَّ البردي والحلفاء لا يمكن أن ينموَا في غير الغمقة والماء، وإلا فإنهما يموتان حالاً. كذلك عندما ينسى الناس الله، فإنهم يهلكون هلاكاً عادلاً. في الواقع أنَّ الإنسان بدون نعمة الله، يكون بلا رجاءٍ فيجف وييبس روحياً.

تشبيه آخر، إنَّ بيت الفاجر، وإن كان من حجارة متينة ولصاحبه رجاء بأنّه هو ونسله يسكنون فيه إلى الأبد، فهو في نظر الله أوهى من بيت العنكبوت.

والفاجر يشبّه أيضاً بيقطينة يونان، في مكان معرّض للشمس وأصولها مثبتة في الرجمة. فقد تنمو خراعيبها، ولكن ما أن تهب عليها ريح خمسينية، حتى تذبل وتيبس. هكذا رجاء الفاجر، لا ينجيه لأنه ليس في الله ولهذا ينهار سريعاً.

أمّا رجاء المؤمن، فهو موضوع على الربّ الحي. صحيح أنّه تعالى يسمح أن نُجرّب لامتحان إيماننا، ولكنّ امتحان الإيمان يزكّي الصبر ويشدّد الرجاء، والرجاء لا يخزي. لأنّه يتطلع إلى وعود الله، ويتوقّع خيراً قادماً بالصبر، الذي تشيعه محبة الله المنسكبة في القلب بالروح القدس.

صحيح أنَّ طريقنا خشنة وطويلة، لكنّ المسيح فينا رجاء المجد. والمسيح آتٍ، وسيُكافئ رجاء كل الذين انتظروه. ولعلّه بوحي من هذه الحقيقة، قال الرسول بولس: « لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا» (رومية 8: 24).

8: 20 «هُوَذَا ٱللّٰهُ لاَ يَرْفُضُ ٱلْكَامِلَ وَلاَ يَأْخُذُ بِيَدِ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ. 21 عِنْدَمَا يَمْلَأُ فَمَكَ ضَحِكاً وَشَفَتَيْكَ هُتَافاً، 22 يَلْبِسُ مُبْغِضُوكَ خِزْياً. أَمَّا خَيْمَةُ ٱلأَشْرَارِ فَلاَ تَكُونُ».

هكذا ختم بلدد خطابه، قائلاً خلاصة تعليم القدماء إنَّ الله لا يرفض الكامل بل يأخذ بيده. وقد قال: «لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ ٱلْمُمْسِكُ بِيَمِينِكَ، ٱلْقَائِلُ لَكَ: لاَ تَخَفْ. أَنَا أُعِينُكَ... أَنَا ٱلرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِٱلْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ» (إشعياء 41: 13، 42: 6) أمّا الأشرار الذين يصرّون على شرورهم فيهلكون. هكذا قال المسيح: « إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا 13: 3) وهذا ما دعا بلدد أيوب إليه أن يتوب ويرجع إلى الله، فيغدق الله عليه السرور والضحك والهتاف، عوضاً عن الحزن والتذمّر، ويخزى مبغضوه عندما يرون رجوعه إلى حاله الأولى.

الصلاة

شكراً لك يا إلهنا، من أجل نعمة الرجاء الحي. املأ قلوبنا بهذا الرجاء، حتى نعيش في سلام. جدد توبتنا إليك بفعل الروح القدس. أعطنا القوة حتى نلاحظ سيرتنا، ونسلك كأولاد نور في بر وصلاح وحق. آمين.

السؤال

15 - بمَ شبّه بلدد بيت الفاجر؟

16 - ما هي خلاصة تعليم القدماء التي أشار إليها بلدد؟

الأصحاح التاسع 1 فَقَالَ أَيُّوبُ: 2 «صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا. فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ عِنْدَ ٱللّٰهِ؟ 3 إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ. 4 هُوَ حَكِيمُ ٱلْقَلْبِ وَشَدِيدُ ٱلْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ 5 ٱلْمُزَحْزِحُ ٱلْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ. ٱلَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ، 6 ٱلْمُزَعْزِعُ ٱلأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا، 7 ٱلآمِرُ ٱلشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ وَيَخْتِمُ عَلَى ٱلنُّجُومِ. 8 ٱلْبَاسِطُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ وَ ٱلْمَاشِي عَلَى أَعَالِي ٱلْبَحْرِ. 9 صَانِعُ ٱلنَّعْشِ وَ ٱلْجَبَّارِ وَ ٱلثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ ٱلْجَنُوبِ. 10 فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ.

إنَّ جواب أيوب لبلدد، فيه صعوبات كثيرة. فإنّه يبتدئ بموافقة أصحابه، على أنَّه ما من إنسان يستطيع، أن يكون باراً أمام الله. حتى إنَّ البراءة، التي يظن الإنسان أنها بلا عيب، تخرس أمام جلال الله القدوس. وأيضاً تصور أيوب إنْ هو تقابل مع الله في محاجة، فإنه يشك في أنَّه سيجد استماعاً مترائفاً. وحتى لو وجد بلا خطية، فليس في وسعه أن يجاوب الله.

الصعوبة في أمر أيوب، هي أنه اعتقد في نفسه أنه بار. وتبعاً لذلك استنتج أنَّ الله مع علمه ببره، يتعمد معاملته كمذنب. وإنَّ الله إذا شاء أن يحاجه، فلا يشاء أن يجيبه عن واحد من ألف. وبذلك ينظر إلى الله، كأنه حاكم مطلق، وليس قاضياً عادلاً. وهذا كلام، يدل على عدم التسليم لله.

ولعل أيوب لم يأته خبر إعلان الله القائل: «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18).

ثم يقدّم أيوب وصفاً جميلاً لجلال الله وقوّته، كما يُريان في عالم الطبيعة، كقوة لا حدّ لها كما ترى في زحزحة الجبال وزعزعة الأرض وتنظيم الكواكب وضبط البحار.

وقد نلتمس بعض العذر لأيوب في ضجره، لأنَّ طاقة الإنسان في الاحتمال محدودة وضعيفة. ولكن أن يتحول الضجر إلى تعريض بعدالة الله، فهذا أمر يدعو إلى الأسف. لأن الله عادل وبار في سياسته للبشر. إنه يراقب سلوكنا، بقدر ما يرثي لضعفاتنا. وهو يبلونا ليجردنا من استعلائنا، حتى نسلك بتواضع.

9: 11 «هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ. 12 إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ، وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ 13 ٱللّٰهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ. 14 كَمْ بِٱلأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ. 15 لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ، بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي. 16 لَوْ دَعَوْتُ فَٱسْتَجَابَ لِي لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي. 17 ذَاكَ ٱلَّذِي يَسْحَقُنِي بِٱلْعَاصِفَةِ وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ. 18 لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي، وَلٰكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ. 19 إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ ٱلْقَوِيِّ يَقُولُ: هَئَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ ٱلْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ 20 إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي؟ وَإِنْ كُنْتُ كَامِلاً يَسْتَذْنِبُنِي.

بعد أن تكلّم أيوب عن خلائق الله غير الناطقة، تقدّم إلى ذكر أعماله مع الإنسان. فقال إنَّ الإنسان، لا يراه ولا يشعر به. ولكنّ الله يعمل ولا يقاوَم، ويفعل ولا يحاسَب على أعماله. حتى إنَّ أعوان رهب، ينحنون أمام قوة الله.

رَهَب هو التنين، ويشير هنا إلى جبروت مصر قديماً. ولعلّ الإسم أُطلق على مصر، أولاً لكبريائها، وثانياً لوجود التنّين أو التمساح في النيل. ولكن قوّة الله تقمع كل جبروت. فإن كان الجبابرة، يفشلون أمام قوّة الله، فكيف يرجو أيوب النجاح في محاجّته معه؟ والواقع أنَّ أيوب بعد التأمل في عظمة الله الظاهرة في الخليقة وسلطته على البحار وجميع القوى الطبيعية، قال: «كم بالأقل أنا أجاوبه» ومع ذلك ففي حيرته ينسب أيوب إلى الله عدم الإنصاف. ويظن أنه مستبد لأنه وإن كان كاملاً يستذنبه.

9: 21 «كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي. 22 هِيَ وَاحِدَةٌ. لِذٰلِكَ قُلْتُ إِنَّ ٱلْكَامِلَ وَ ٱلشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا. 23 إِذَا قَتَلَ ٱلسَّوْطُ بَغْتَةً يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ ٱلأَبْرِيَاءِ. 24 ٱلأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ ٱلشِّرِّيرِ. يُغَشِّي وُجُوهَ قُضَاتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَإِذاً مَنْ؟ 25 أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ، تَفِرُّ وَلاَ تَرَى خَيْراً. 26 تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ ٱلْبَرْدِيِّ. كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى صَيْدِهِ. 27 إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي. أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَبْتَسِمُ 28 أَخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي عَالِماً أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي. 29 أَنَا مُسْتَذْنَبٌ، فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثاً؟ 30 وَلَوِ ٱغْتَسَلْتُ فِي ٱلثَّلْجِ وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِٱلأَشْنَانِ، 31 فَإِنَّكَ فِي ٱلنَّقْعِ تَغْمِسُنِي حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي.

هنا ينكر أيوب على بلدد قوله، إنَّ الله يميّز في معاملته للناس بين الكامل والشرير. وبقدر ما يرى أيوب أنَّ الأرض مسلّمة ليد الشرير، والقضاة لا يحامون عن البريء، يعتبر أنَّ الله يعاقبه خطأ. وهو يشعر أنه لم يرتكب شيئاً يستحق هذا التأديب الصارم، الذي بحسب اعتقاده أتى عليه من القدير الذي لا يلين. ويسأل بغيظ قائلاً: إن لم يكن هو فإذا من؟ وهذا أعمق دركات اليأس التي وصل إليها أيوب.

حين نقرأ الفصل الأوّل من قصة أيوب، نرى أنّه فكر في ضُعفات بنيه. وقدّم ذبائح ومحرقات للتكفير عن خطاياهم، قائلاً: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى ٱللّٰهِ فِي قُلُوبِهِمْ» (1: 5). ولكنّه لم يفكر في ضعفاته هو، ويقدّم كفارة عنها، كما كان يفعل رؤساء الكهنة في العهد القديم. وهذا يدل على أنّه كان باراً في عيني نفسه، متفاخراً ببرّه الذاتي، والتفاخر مكرهة في عيني الرب.

9: 32 لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. 33 لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! 34 لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. 35 إِذاً أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ. لأَنِّي لَسْتُ هٰكَذَا عِنْدَ نَفْسِي.

هنا يرتفع أيوب بقلبه بإخلاص إلى ذلك الإله، العظيم القدرة والواسع الحلم. وينحني أمام عظمته معترفاً بحقارة نفسه. أمّا قوله عن المُصالح، الذي اشتهى أن يتدخل بينه وبين القدير، فيدل على أنه كانت لديه رؤى عن وسيط الصلح بين الله والناس، المزمع أن يأتي عند ملء الزمان، لكي يزيل العداوة القائمة بين الخالق ومخلوقاته بسبب الخطية. فيضع إحدى يديه على الله والأخرى على الإنسان. فاشتهاه. وتمنى أن يأتي حالاً ليرفع عنه عصى التأديب.

هذه زفرات متصاعدة من قلب جريح ونفس متألمة تتوق إلى ملاقاة الله كإنسان. إذ يكون له أمل في أن تُفهم علاقة الإنسان بالله فهماً جلياً. وإنه لمن سعادة البشر أنَّ الذي اشتهاه أيوب تم في العهد الجديد. إذ جاء المصالح يسوع في جسد إنسان، وقام بالوساطة بين الله والناس، وانتزع العداوة بدم صليبه. فهل تُقبل إلى هذا المصالح، وتنال باسمه الصفح عن خطاياك؟ افعل هذا سريعاً لأنه «هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَص» (2 كورنثوس 6: 2).

الصلاة

أيها السيد الرب، نشكرك لأنك لم تتركنا في حالة العداوة معك. بل أقمت وسيط صلح بيننا وبينك، هو يسوع المسيح، الذي قدّم ذاته فدية عنّا، لكي يصالحنا معك. أعطنا أن نؤمن بفدائه العظيم، ولك الشكر الدائم. آمين.

السؤال

17 - ما هي الرؤى التي كانت لدى أيوب؟

18 - بمن تمّت هذه الرؤى وكيف؟

الأصحاح العاشر 1 «قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ. أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي 2 قَائِلاً لِلّٰهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! 3 أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِمَ، أَنْ تَرْذُلَ عَمَلَ يَدَيْكَ، وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ ٱلأَشْرَارِ؟ 4 أَلَكَ عَيْنَا بَشَرٍ، أَمْ كَنَظَرِ ٱلإِنْسَانِ تَنْظُرُ؟ 5 أَأَيَّامُكَ كَأَيَّامِ ٱلإِنْسَانِ، أَمْ سِنُوكَ كَأَيَّامِ ٱلرَّجُلِ 6 حَتَّى تَبْحَثَ عَنْ إِثْمِي وَتُفَتِّشَ عَلَى خَطِيَّتِي؟ 7 فِي عِلْمِكَ أَنِّي لَسْتُ مُذْنِباً، وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِكَ.

الآن يعود أيوب إلى التأمل، في حالته الخاصة. ولكون شعوره ببراءته قوياً، تضجّرَ وسئمَ إلى حدّ أنّه كره نفسه، ثم راح يفترض فروضاً مناقضة لطبيعة الله الحقيقية. فراح يتساءل في ألفاظ لا تليق بجلال الله: هل الظلم يجلب نفعاً لله؟ أيمكن تفسير معاملة الله لي بقصر النظر الإلهي، الذي معناه أنَّ الله لا يقدر أن يرى بوضوح ما يعمل مع الناس؟ وهل يمكن أن يكون الله كالإنسان، ينظر إلى الأمور بسطحية، فيعاقب ما يشتبه فيه أنه خطية، قبل أن يكون عنده وقت ليمتحن القضية بتمامها؟

10: 8 «يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعاً. أَفَتَبْتَلِعُنِي؟ 9 اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَٱلطِّينِ. أَفَتُعِيدُنِي إِلَى ٱلتُّرَابِ؟ 10 أَلَمْ تَصُبَّنِي كَٱللَّبَنِ وَخَثَّرْتَنِي كَ ٱلْجُبْنِ؟ 11 كَسَوْتَنِي جِلْداً وَلَحْماً فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ. 12 مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي. 13 لٰكِنَّكَ كَتَمْتَ هٰذِهِ فِي قَلْبِكَ. عَلِمْتُ أَنَّ هٰذَا عِنْدَكَ. 14 إِنْ أَخْطَأْتُ تُلاَحِظُنِي وَلاَ تُبْرِئُنِي مِنْ إِثْمِي. 15 إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي. وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي. إِنِّي شَبْعَانُ هَوَاناً وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي. 16 وَإِنِ ٱرْتَفَعَ رَأْسِي تَصْطَادُنِي كَأَسَدٍ، ثُمَّ تَعُودُ وَتَتَجَبَّرُ عَلَيَّ! 17 تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. مَصَائِبُ وَجَيْشٌ ضِدِّي.

من أعماق يأسه وفي غمرة حيرته اندهش أيوب من تصرف الخزّاف الإلهي، الذي أسرف في العناية في عمل يديه، في كلا الزمنين، قبل الولادة والسنين التي مرت بعدها. وتعجب أن يهلكه، كأن الفخاري صنع إناءً ليكسره. لقد ذكر تكوينه من حين حبل به إلى سن البلوغ. وذكر عناية الله ورحمته وأيام راحته وسروره، ولعله ذكرها بالشكر. ولكن وجهتي معاملة الله له سببتا له حيرة عظيمة، وهذه الحيرة جعلته يتراوح بين الشعور بظلم الله الصارم نحوه الآن، وبين تذكار الشركة المباركة معه في الماضي. وهذا ولّد عنده ما يمكن أن يُسمّى بروح التذمّر، لأنّ الله حسب ظنّه قصد مصائبه وكتمها في قلبه. وأكثر ما أثاره هو الظن بأنّ الله قصد أن يلاحظه إذا أخطأ، ولا يبرئه من إثمه. ولعلّ أيوب في حيرته شعر بأنّه يتعامل مع إله سريع في تدوين حتى الخطايا التافهة. فيتململ ويبتئس، لأن بره لا ينتج أيّ فرق. فلا زال عليه أن يدلي رأسه مرتعباً أمام إله مبتهج كأسد مفترس يطارده بإصرار عجيب.

10: 18 «فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ ٱلرَّحِمِ؟ كُنْتُ قَدْ أَسْلَمْتُ ٱلرُّوحَ وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ! 19 فَكُنْتُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ فَأُقَادَ مِنَ ٱلرَّحِمِ إِلَى ٱلْقَبْرِ. 20 أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟ ٱتْرُكْ! كُفَّ عَنِّي فَأَبْتَسِمُ قَلِيلاً 21 قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ وَلاَ أَعُودَ. إِلَى أَرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلِّ ٱلْمَوْتِ، 22 أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ ٱلْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ، وَإِشْرَاقُهَا كَٱلدُّجَى».

هذه الآيات 18-22 تكوّن فقرة مثيرة تصور لنا أيوب وقد صار إلى حال اليأس. فيتعجب لأي سبب أعطاه الله حياة. ويطلب الراحة قليلاً من أوجاعه العنيفة، وشيئاً من التعزية، قبل أن يجوز إلى أرض الظلمة وظل الموت.

قد يظن البعض بعد قراءة الأصحاحين 9 و 10 أنَّ أيوب قد خطا خطوته الأولى في التجديف على الله، كما قال الشيطان أنه يقع. ولكن الأمر ليس كذلك. لأنه لم ينس أنَّ الله كان محسناً إليه، وإن ظهر الآن أنَّه يتخذ موقفاً مخالفاً لذلك.

ما هو شعورك نحو تعامل الله معك؟ هل تحتقر تأديبه أو تيأس إذا وبخك؟ قبل أن تتخذ أيّ موقف اذكر أنّ التأديب دليل المحبة كما هو مكتوب: « ٱلَّذِي يُحِبُّهُ ٱلرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَقْبَلُهُ». إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ ٱلتَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ ٱللّٰهُ كَٱلْبَنِينَ. فَأَيُّ ٱبْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ ٱلْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِٱلأَوْلَى جِدّاً لأَبِي ٱلأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لأَنَّ أُولٰئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ ٱسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هٰذَا فَلأَجْلِ ٱلْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاستِهِ. وَلٰكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانين 12: 6-11).

ونلاحظ هنا أنّه يمكن للمؤمن أن يتّخذ حيال التأديب أحد المواقف التالية:

الأوّل: أن يحتقر تأديب الرب، أي أنّه يستهين به، فإذا كان التأديب احتقاراً أو تعييراً من الناس يقول: إني لا أبالي بأفكار الناس.

الثاني: أن يخور إذا وبّخه الرب. فترتخي يداه. ويفشل عكس الأولى. ولكن كليهما ليسا من الإيمان.

الثالث: أن يتدرّب بالتأديب وهذا هو الطريق الصحيح. الواجب أن يتبعه كل مؤمن يجيزه الله في التأديب. فهو لا يحتقره ولا ينوء تحته، بل يحتمل ويتعلم الدروس، التي شاء الله أن يعلمه إياها. ملتجئاً إليه لطلب الإرشاد والعون ومتمسكاً بنعمة الله ورحمته.

الصلاة

يا إلهنا الصالح، أنت أبونا وتحبنا، وتشاء أحياناً أن تؤدبنا. فنشكرك يا إلهنا لأجل التأديب الذي تسمح به محبتك، أعطنا روح الطاعة، لكي لا نحتقر التأديب. وأعطنا الحكمة لكي نتدرب بالتدريب ونحصل على ثمر بر السلام. آمين.

السؤال

19 - ماذا كانت نتيجة تأمّل أيوب في حالته الخاصة؟

الأصحاح الحادي عشر 1 فَأَجَابَ صُوفَرُ ٱلنَّعْمَاتِيُّ: 2 «أَكَثْرَةُ ٱلْكَلاَمِ لاَ يُجَاوَبُ، أَمْ رَجُلٌ مِهْذَارٌ يَتَبَرَّرُ؟ 3 أَصَلَفُكَ يُفْحِمُ ٱلنَّاسَ، أَمْ تَلْغُو وَلَيْسَ مَنْ يُخْزِيكَ؟ 4 إِذْ تَقُولُ: تَعْلِيمِي زَكِيٌّ وَأَنَا بَارٌّ فِي عَيْنَيْكَ. 5 وَلٰكِنْ يَا لَيْتَ ٱللّٰهَ يَتَكَلَّمُ وَيَفْتَحُ شَفَتَيْهِ مَعَكَ 6 وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ ٱلْحِكْمَةِ! إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ ٱلْفَهْمِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ يُغَرِّمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ. 7 «أَإِلَى عُمْقِ ٱللّٰهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ ٱلْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ 8 هُوَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ 9 أَطْوَلُ مِنَ ٱلأَرْضِ طُولُهُ وَأَعْرَضُ مِنَ ٱلْبَحْرِ. 10 إِنْ بَطَشَ أَوْ أَغْلَقَ أَوْ جَمَّعَ، فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ 11 لأَنَّهُ هُوَ يَعْلَمُ أُنَاسَ ٱلسُّوءِ وَيُبْصِرُ ٱلإِثْمَ، فَهَلْ لاَ يَنْتَبِهُ؟ 12 أَمَّا ٱلرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ ٱلْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ ٱلْفَرَا يُولَدُ ٱلإِنْسَانُ.

يبدو أنّ كثرة كلام أيوب عن كماله، حملت صوفر على توبيخه. ناعتاً إياه بالمهذار، الذي يرسل الكلام على عواهنه. ولعل أيوب أثاره بالأكثر بسبب طلبه إلى الله أن يدخل معه في المحاجة. فحسب تصرفه هذا نوعاً من القحة (الوقاحة). وقد تمنّى صوفر، أن يتكلم الله. وكان فكره أنّه إذا تكلّم الله، فلا بد أن تظهر حكمته في تأديب أيوب. وعندئذ سيظهر أنّ البلايا التي حاقت به، قليلة بالنسبة لذنبه. أي أنَّ قصاصه، أخف مما كان يستحق.

وفي معرض الكلام عن حكمة الله طرح صوفر سلسلة من الأسئلة على أيوب، فيها إشارة إلى عظمة صفات الله وأبعاد حكمته: أيمكنك وأنت الإنسان الضعيف، أن تكتشف أعماق الله؟ أفي مقدورك وأنت السطحي المعرفة، أن تدرك أبعاد حكمة القدير، التي هي أرفع من السموات فكيف تصل إليها؟ إنها أعمق من الهاوية، فكيف تستطيع أن تسبر غورها؟ إنها أطول من الأبد فكيف يمكنك أن تقيسها؟ إنها أوسع من العالم، فكيف تستطيع أن تلم بها؟

هذه الحكمة عينها هي، التي تصدر الحكم الصحيح على الإنسان عبد التراب. وحكمها عادل ومنزّه عن الهوى وكل خطأ. لذلك على أيوب وكل إنسان أن يتأدب، ويتهذب على يدي هذه الحكمة، ولا ضير عليه إذا تلقى الترويض في مدرسة الألم.

وهناك رجاء خير لكل من يتدرب على يديْ حكمة الله، إن هو احتمل التأديب بمحبة. لأن الله يعامله آنئذ كابن، وتكون النتيجة الاشتراك في قداسة الله (عبرانيين 12: 10) أمّا الذي يرفض التأديب، فيشبهه صوفر بجحش الفراء. لأنه كما أنَّ هذا الحيوان عنيد وسريع الجري، هكذا الإنسان الغبي، سريع في زيغانه وعنيد في ابتعاده عن الله.

11: 13 «إِنْ أَعْدَدْتَ أَنْتَ قَلْبَكَ وَبَسَطْتَ إِلَيْهِ يَدَيْكَ. 14 إِنْ أَبْعَدْتَ ٱلإِثْمَ ٱلَّذِي فِي يَدِكَ وَلاَ يَسْكُنُ ٱلظُّلْمُ فِي خَيْمَتِكَ، 15 حِينَئِذٍ تَرْفَعُ وَجْهَكَ بِلاَ عَيْبٍ وَتَكُونُ ثَابِتاً وَلاَ تَخَافُ. 16 لأَنَّكَ تَنْسَى ٱلْمَشَقَّةَ. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا. 17 وَفَوْقَ ٱلظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ. ٱلظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحاً. 18 وَتَطْمَئِنُّ لأَنَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ. تَتَجَسَّسُ حَوْلَكَ وَتَضْطَجِعُ آمِناً. 19 وَتَرْبِضُ وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُ، وَيَتَضَرَّعُ إِلَى وَجْهِكَ كَثِيرُونَ. 20 أَمَّا عُيُونُ ٱلأَشْرَارِ فَتَتْلَفُ وَمَلْجَأُهُمْ يَبِيدُ، وَرَجَاؤُهُمْ تَسْلِيمُ ٱلنَّفْسِ».

قبل أن ينهي صوفر خطابه، دعا أيوب إلى التوبة. فحثه على أن يترك كل خطية معروفة. ثم صوّر له المجازاة. التي ينالها التائب من الله. وفي مقدمتها استعادة الإنسان اعتباره. فإذا صار هذا فكل شيء يكون حسناً. ويعود لا يزعجه خوف، ولا تؤثر فيه مشقة. لأنه كما تعبر المياه تزول مشقته، ولا تُذكر بعد. ويعود النور إلى حياته، ويسكن في أمن وسلام. ويرسم صوفر صورة جميلة عن شفاء أيوب إذا اعترف بخطيته وتاب عنها.

قد تكون طريقة صوفر في الوعظ خشنة، تخمش الشعور. إلا أنه قال الحقيقة دون مواربة، وكان على أيوب أن يتقبل العظة بالمحبة، التي تحتمل كل شيء. وفي الحق أنه كان مخلصاً في نصيحته لأيوب. وغايته نبيلة، لأنه قصد أن يقتنع أيوب، بأنه قدام الله لا يتبرر ذو جسد.

أمّا المشكلة بين أيوب وأصحابه، فهي محاولة التوفيق بين ضمير الإنسان وأحكام الله. فضمير أيوب حكم أنه لم يفعل ما يستحق تلك البلايا، التي نزلت به. بقي أن نعلم، أنَّ أيوب وأصحابه أخطأوا جميعاً لأنّ أحكام الله ليست كلّها عقاباً للخطية. بل أنَّ بعضها لفائدة الإنسان الروحية.

قال بولس الرسول: «أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً، وَ ٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَ ٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَ ٱلرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (رومية 5: 3-5).

وعلينا أن نسلّم بأنَّ ضمير الإنسان لا يصيب في جميع أحكامه. فأيوب مثلاً قال إنّه بلا خطية، لأنّه لم يشعر بخطية. ولكنّ الله ينظر إلى القلب، الذي هو مركز الأفكار والنوايا، ويطلب الكمال. وكان ينبغي لأيوب أن يسأل الله كي يكشف له عن خطاياه المستترة، فيطلب الغفران بدلاً من أن يبرّر نفسه.

الصلاة

يا إلهنا الصالح، نشكرك لأنك أنت فاحص القلوب والكلى. فاكشف عن أعين أذهاننا، لكي نرى خطايانا المستترة، ونطلب إليك أن تغفرها لنا. طهّر قلوبنا ونوايانا، لكي نعبدك بالحق. آمين.

السؤال

20 - ماذا صنع صوفر قبل أن ينهي خطابه؟

21 - ما المشكلة بين أيوب وأصحابه؟

الأصحاح الثاني عشر 1 فَقَالَ أَيُّوبُ: 2 «صَحِيحٌ إِنَّكُمْ أَنْتُمْ شَعْبٌ وَمَعَكُمْ تَمُوتُ ٱلْحِكْمَةُ! 3 غَيْرَ أَنَّهُ لِي فَهْمٌ مِثْلَكُمْ. لَسْتُ أَنَا دُونَكُمْ. وَمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِثْلُ هٰذِهِ؟ 4 رَجُلاً أُضْحُوكَةٌ لِصَاحِبِهِ صِرْتُ. دَعَا ٱللّٰهَ فَٱسْتَجَابَهُ. أُضْحُوكَةٌ هُوَ ٱلصِّدِّيقُ ٱلْكَامِلُ. 5 لِلْمُبْتَلِي هَوَانٌ فِي أَفْكَارِ ٱلْمُطْمَئِنِّ، مُهَيَّأٌ لِمَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ. 6 خِيَامُ ٱلْمُخَرِّبِينَ مُسْتَرِيحَةٌ، وَ ٱلَّذِينَ يُغِيظُونَ ٱللّٰهَ مُطْمَئِنُّونَ، ٱلَّذِينَ يَأْتُونَ بِإِلٰهِهِمْ فِي يَدِهِمْ!

إلى هنا أعطى أيوب انتباهاً ضئيلاً لعواطف أصحابه. والآن يسلط كلامه في التهكم عليهم بسبب ادعائهم السطحي. بأن لهم الحق بالتكلم إليه بترفّع. وقد وجد في لهجتهم، كأن كلامهم معروف ومصدق من الناس. ومما زاد في استيائه ادعاؤهم المعرفة السامية عن أعمال الحكمة الإلهية.

كانت لهجة صوفر قد أهاجت أيوب، وأثارت حفيظته. فحمل على أصحابه وحكم على منطقهم بالسطحية، مظهراً أنَّ له بعض الفهم، ولا حاجة له إليهم أن يكلموه عن حكمة الله وعظمته. إنَّه يعرف ذلك.

من ليس عنده مثل هذه، قال أيوب؟ وبذلك أجاب على كلام صوفر في 11: 7-12. ومعنى هذا أنَّ أيوب يبيّن الآن معرفته لكل شيء قالوه، عن حكمة وقوة الله. وهو عارف أنَّ كل نفس، هي في يد الله.

فأيوب كان قد دعا الله فاستجابه. ولكنّ المدهش أنّه هو الصدّيق الكامل، صار سُخرة لأصحابه. فإنهم بكلامهم الركيك وإنذارهم جعلوه رجلاً عديم المعرفة وبلا اعتبار وهذا لا يليق به.

لقد أوضح أصحاب أيوب رأيهم في معاملة الله للناس، فقالوا إنَّ الأشرار يتألمون لا الأبرار. ولكن أيوب المبتَلى، منطلقاً من اعتقاده ببره، أراهم أنَّ الأمر بعكس ذلك. أي أنه يغلب أن يكون الأشرار مغيظو الله ناجحين مطمئنين. ورأى أيوب في ذلك مناقضة. أي أنَّ الله ينجح الذين يغيظونه.

12: 7 «فَٱسْأَلِ ٱلْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ. 8 أَوْ كَلِّمِ ٱلأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ ٱلْبَحْرِ. 9 مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هٰؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ ٱلرَّبِّ صَنَعَتْ هٰذَا! 10 ٱلَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ ٱلْبَشَرِ. 11 أَفَلَيْسَتِ ٱلأُذُنُ تَمْتَحِنُ ٱلأَقْوَالَ كَمَا أَنَّ ٱلْحَنَكَ يَسْتَطْعِمُ طَعَامَهُ؟ 12 عِنْدَ ٱلشَّيْبِ حِكْمَةٌ، وَطُولُ ٱلأَيَّامِ فَهْمٌ.

بعد كلام أيوب في معاملة الله للناس، وتفوّق الأقوياء على الضعفاء، ذكر أنَّ معاملة الله لخلائقه غير الناطقة كمعاملته للناس. لأن في يده نفس كل حي، ومنه كل ما يجري من الحياة والموت. بمعنى أنَّ الحكمة التي افتخر بها أصحابه، ليست لهم وحدهم. فكل الذين لهم عيون، يستطيعون أن يروا أعمال الله في نشاطات وحوش البرية وطيور السماء وأسماك البحر. وبعدما ذكر ما يتعلمه الناس بالنظر إلى الخليقة. ذكر ما يتعلمونه بواسطة الأذن من أقوال الحكماء. وما يتعلمه الناس بالأذن أوسع مما يتعلمونه بالنظر، لأن اختبار كثيرين في أجيال كثيرة، أوسع من اختبار واحد فقط. وكما أنّ للإنسان حنكاً يميز به الطعام، هكذا له ذوق أو فهم في الأمور الأدبية والروحية، ليميز الحق من الباطل.

12: 13 «عِنْدَهُ ٱلْحِكْمَةُ وَ ٱلْقُدْرَةُ. لَهُ ٱلْمَشُورَةُ وَ ٱلْفِطْنَةُ. 14 هُوَذَا يَهْدِمُ فَلاَ يُبْنَى. يُغْلِقُ عَلَى إِنْسَانٍ فَلاَ يُفْتَحُ. 15 يَمْنَعُ ٱلْمِيَاهَ فَتَيْبَسُ. يُطْلِقُهَا فَتَقْلِبُ ٱلأَرْضَ. 16 عِنْدَهُ ٱلْعِزُّ وَ ٱلْفَهْمُ. لَهُ ٱلْمُضِلُّ وَ ٱلْمُضَلُّ. 17 يَذْهَبُ بِٱلْمُشِيرِينَ أَسْرَى وَيُحَمِّقُ ٱلْقُضَاةَ. 18 يَحُلُّ مَنَاطِقَ ٱلْمُلُوكِ وَيَشُدُّ أَحْقَاءَهُمْ بِوِثَاقٍ. 19 يَذْهَبُ بِٱلْكَهَنَةِ أَسْرَى وَيَقْلِبُ ٱلأَقْوِيَاءَ. 20 يَقْطَعُ كَلاَمَ ٱلأُمَنَاءِ وَيَنْزِعُ ذَوْقَ ٱلشُّيُوخِ. 21 يُلْقِي هَوَاناً عَلَى ٱلشُّرَفَاءِ وَيُرْخِي مِنْطَقَةَ ٱلأَشِدَّاءِ. 22 يَكْشِفُ ٱلْعَمَائِقَ مِنَ ٱلظَّلاَمِ، وَيُخْرِجُ ظِلَّ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلنُّورِ. 23 يُكَثِّرُ ٱلأُمَمَ ثُمَّ يُبِيدُهَا. يُوَسِّعُ لِلأُمَمِ ثُمَّ يُشَتِّتُها. 24 يَنْزِعُ عُقُولَ رُؤَسَاءِ شَعْبِ ٱلأَرْضِ وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ. 25 يَتَلَمَّسُونَ فِي ٱلظَّلاَمِ وَلَيْسَ نُورٌ وَيُرَنِّحُهُمْ مِثْلَ ٱلسَّكْرَانِ.

يتصور أيوب أنَّ قوة الله، تكتسح بدون تمييز. ومن زاوية آلامه المبرحة، رأى أنّ بين الناس تمييزاً. ولكن الضالين والمضلين عند الله على حد سواء.

القضاة والملوك والكهنة تحت سلطانه. ينزع فهم الشيوخ، ويكشف أفكار الناس ومقاصدهم السرية، يوسع للأمم تخومهم، ثم يضيقها، فيعمل بهم كما يشاء. يُحمّق مشورة رؤسائهم، فيتلمسون في الظلام، وليس من نور لهديهم.

كل هذا رآه أيوب وعرفه. كما زعم أصحابه أنّهم يعرفونه. ليس هو دونهم في هذا. وقد استخدموا معرفتهم ضده، لكن أفكارهم ليست صحيحة. لقد اعتبرهم ملفقي كذب، مشيرين بطالين. كان لهم آراء عن أعمال الله في أحوال مخصوصة، أي أنه يعاقب الشرير. وإن أرسل مصائب على البار، يزعمون أنها كانت لأنه ارتكب جرماً سابقاً. فطلب أيوب أن يتركوه وشأنه. وليصبه مهما أصابه، فإنه يحتمله. وإن قتله الله فإنه ينتظره (3: 15).

الصلاة

يا ربّ إلهنا نشكرك من كل القلب، لأجل رحمتك التي هي لنا في كل صباح ومساء. ولأجل رحمتك الغنية بالصفح والغفران. ولأجل عنايتك التي ترعانا، وتهتم بنا. ولأجل نعمتك المخلصة، التي علمتنا أن ننكر الفجور، الذي في العالم بالشهوة. قونا في الإيمان والرجاء والمحبة. آمين.

السؤال

22 - أيّ موقف اتّخذه أيوب تجاه أصدقائه؟

الأصحاح الثالث عشر 1 «هٰذَا كُلُّهُ رَأَتْهُ عَيْنِي. سَمِعَتْهُ أُذُنِي وَفَطِنَتْ بِهِ. 2 مَا تَعْرِفُونَهُ عَرَفْتُهُ أَنَا أَيْضاً. لَسْتُ دُونَكُمْ. 3 وَلٰكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَ ٱلْقَدِيرَ وَأَنْ أُحَاكَمَ إِلَى ٱللّٰهِ. 4 أَمَّا أَنْتُمْ فَمُلَفِّقُو كَذِبٍ. أَطِبَّاءُ بَطَّالُونَ كُلُّكُمْ. 5 لَيْتَكُمْ تَصْمُتُونَ صَمْتاً. يَكُونُ ذٰلِكَ لَكُمْ حِكْمَةً. 6 اِسْمَعُوا ٱلآنَ حُجَّتِي وَ ٱصْغُوْا إِلَى دَعَاوِي شَفَتَيَّ. 7 أَتَقُولُونَ لأَجْلِ ٱللّٰهِ ظُلْماً وَتَتَكَلَّمُونَ بِغِشٍّ لأَجْلِهِ؟ 8 أَتُحَابُونَ وَجْهَهُ، أَمْ عَنِ ٱللّٰهِ تُخَاصِمُونَ؟ 9 أَخَيْرٌ لَكُمْ أَنْ يَفْحَصَكُمْ، أَمْ تُخَاتِلُونَهُ كَمَا يُخَاتَلُ لإِنْسَانُ؟ 10 تَوْبِيخاً يُوَبِّخُكُمْ إِنْ حَابَيْتُمُ ٱلْوُجُوهَ خِفْيَةً. 11 فَهَلَّا يُرْهِبُكُمْ جَلاَلُهُ وَيَسْقُطُ عَلَيْكُمْ رُعْبُهُ! 12 خُطَبُكُمْ أَمْثَالُ رَمَادٍ، وَحُصُونُكُمْ حُصُونٌ مِنْ طِينٍ!

يبدأ أيوب هذا الأصحاح، بالتأكيد لأصحابه أنَّ معرفته بأمور الله ليست بأقل من معرفتهم. ثم يبدي رغبته في أن يكلم الله، ليزكي طريقه. فقد رأى كل ما رآه أصحابه وسمع كل ما سمعوه من أقوال القدماء، وفطن به وفهمه تماماً. وبعد هذه المقدمة، تحول مرة أخرى إلى توبيخ الأصحاب، متهماً إياهم بأنهم حابوا وجه الله، وتكلموا بغش بشأنه: ثم نسب إليهم تلفيق الأكاذيب وتقديم حجج مبنية على الغلط. لأنهم حكموا بأن مصائبه الثقيلة قد وقعت نتيجة لخطاياه. وإذ برر نفسه، اعتبروه مرائياً.

لقد جاءوا لتعزيته ولمواساته، ولكنهم لم يتفهموا أمره، وكلامهم لم يوافقه. فكانوا كأطباء باطلين لم يعرفوا تشخيص داء المريض، ولهذا كان علاجهم غلطاً. وبما أنهم حسب تقديره أساءوا التصرف، تمنى أن يصمتوا لأن الأحمق إذا سكت، يحسب حكيماً (أمثال 17: 28).

وبسبب الحجج الضعيفة التي قدّموها في المحاماة عن جانب الله، نعتهم بالمحاباة ومخاتلة (ومخادعة) الله، كما يخاتل (يخادع) الإنسان. مما يجعلهم في نظر الحق، حلفاء غير صادقين لله، بل ممالقين مراوغين يستعملون محاورات ملتوية، ليسندوا قضية، ليس لأنهم نصراء الحق، بل بسبب احترامهم لأنفسهم. مثلهم في ذلك كرجل يساند مشاجراً، ليس لأن المشاجر على صواب، بل لأنه يخاف قوة ذراع ذلك المشاجر. والحق إن أصحاب أيوب، بالغوا كثيراً في قولهم إن معرفة الله تحصر أيوب وترقبه وتؤاخذه. فاعترض على قولهم قائلاً إن المعارضة لله بإخلاص، أسلم عاقبة من التعضيد غير المخلص له.

13: 13 «اُسْكُتُوا عَنِّي فَأَتَكَلَّمَ، أَنَا وَلْيُصِبْنِي مَهْمَا أَصَابَ. 14 لِمَاذَا آخُذُ لَحْمِي بِأَسْنَانِي وَأَضَعُ نَفْسِي فِي كَفِّي؟ 15 هُوَذَا يَقْتُلُنِي. لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئاً. فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ. 16 فَهٰذَا يَعُودُ إِلَى خَلاَصِي أَنَّ ٱلْفَاجِرَ لاَ يَأْتِي قُدَّامَهُ. 17 سَمْعاً ٱسْمَعُوا أَقْوَالِي وَتَصْرِيحِي بِمَسَامِعِكُمْ. 18 هَئَنَذَا قَدْ أَحْسَنْتُ ٱلدَّعْوَى. أَعْلَمُ أَنِّي أَتَبَرَّرُ. 19 مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُخَاصِمُنِي حَتَّى أَصْمُتَ ٱلآنَ وَأُسْلِمَ ٱلرُّوحَ؟

حين شعر أيوب، أن لا رجاء من أصحابه، تحول إلى الله قائلاً: وليصبني مهما أصاب. هذه العبارة تذكرنا بقول أستير لما دخلت على الملك أحشويرش بخلاف التقليد: «فَإِذَا هَلَكْتُ هَلَكْتُ!» (أستير 4: 16) وكلام أيوب «هوذا يقتلني لا أنتظر شيئاً» يدل على يأسه من الشفاء من مرضه الوبيل (الشديد). ولكنه أصرّ على شيء واحد، وهو أن يزكي طريقه قدام الله. ثم لم يلبث أن توهج إيمانه فجأة في التأكيد بأن الحكم الإلهي سيكون لصالحه. الفاجرون فقط، هم الذين يخافون في حضرة الله.

بعد هذه المرافعة البليغة، كلّم أيوب أصحابه من موضع قوة، طالباً بتهوّر من يستطيع تحدّي براءته ويفلح؟! فإذا وجد مثل هذا الشخص، فإنه لن يقول كلمة أخرى. وهذه الثقة عند أيوب، تشبه ثقة بولس حين قال: «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟» (رومية 8: 33).

13: 20 إِنَّمَا أَمْرَيْنِ لاَ تَفْعَلْ بِي فَحِينَئِذٍ لاَ أَخْتَفِي مِنْ حَضْرَتِكَ. 21 أَبْعِدْ يَدَيْكَ عَنِّي وَلاَ تَدَعْ هَيْبَتَكَ تُرْعِبُنِي 22 ثُمَّ ٱدْعُ فَأَنَا أُجِيبُ أَوْ أَتَكَلَّمُ فَتُجَاوِبُنِي. 23 كَمْ لِي مِنَ ٱلآثَامِ وَ ٱلْخَطَايَا. أَعْلِمْنِي ذَنْبِي وَخَطِيَّتِي. 24 لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَحْسِبُنِي عَدُّواً لَكَ؟ 25 أَتُرْعِبُ وَرَقَةً مُنْدَفَعَةً وَتُطَارِدُ قَشّاً يَابِساً! 26 لأَنَّكَ كَتَبْتَ عَلَيَّ أُمُوراً مُرَّةً وَوَرَّثْتَنِي آثَامَ صِبَايَ، 27 فَجَعَلْتَ رِجْلَيَّ فِي ٱلْمِقْطَرَةِ وَلاَحَظْتَ جَمِيعَ مَسَالِكِي، وَعَلَى أُصُولِ رِجْلَيَّ نَبَشْتَ. 28 وَأَنَا كَمُتَسَوِّسٍ يَبْلَى، كَثَوْبٍ أَكَلَهُ ٱلْعُثُّ.

هنا يتحوّل كلام أيوب إلى استغاثة، ويطلقها من الأعماق نحو رأفة الله ليسمعه القدير بإنصاف، فيرفع عنه اليد الثقيلة، والشعور المرهب أمام الهيبة الإلهية. فإن منح هذه النعمة، سيكون سعيداً، سواء كان مدّعياً أم مدَّعى عليه، لأنّه عندئذ يقدّم قضيته بلا خوف.

حين نتأمل كلمات أيوب بعمق. يتبيّن لنا أنَّ ما كان يعذب نفسه، هو أنه يجهل التهمة الموجهة ضدّه. وهو يحاول أن يعرف سبب الجفاء الإلهي، الذي هو علة صدور مثل هذا الحكم العنيف عليه. فراح يتساءل ويتساءل: أيمكن أنَّ الله يجعله يتعذب الآن، من أجل طيش الصبا؟ الذي لا يتعدى بعض الهفوات البسيطة. ومعنى هذا أنه لم ينكر أنه خاطئ. وكل ما هنالك، أنه احتج بأن خطاياه، ليست كما ظن أصحابه، واستنتجوا من عظمة مصائبه.

وفي غمرة حيرته، تساءل ما هدف هذا العداء الإلهي، ولماذا نزع الله رضاه عنه؟! ثم لا يلبث أن يستغرب، من أن يرتكز العدل الإلهي على مخلوق ضعيف، وجوده سريع الزوال، كورقة أو قش يابس تتقاذفه الرياح الخريفية!!! وهل يليق بالقدير أن يورث إنساناً مغبة هفوات صباه، التي صدرت عن جهل، ومنذ زمن بعيد؟ ولماذا يكبد الإنسان ثقلاً كهذا من السخط الإلهي؟

الصلاة

أيها السيد الرب، نعترف قدامك بجهلنا ونلتمس من حنانك أن تعطينا روح التواضع. وأن تمنن علينا بالمراحم فتغفر لنا إدعاءنا الباطل بالمعرفة. أعطنا أن ننمو في معرفة المسيح المذخر فيه كل كنوز المعرفة الصحيحة. آمين.

السؤال

23 - بمَ بدأ أيوب الأصحاح الثالث عشر؟

الأصحاح الرابع عشر 1 «اَلإِنْسَانُ مَوْلُودُ ٱلْمَرْأَةِ قَلِيلُ ٱلأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَباً. 2 يَخْرُجُ كَٱلّزَهْرِ ثُمَّ يَذْوِي، وَيَبْرَحُ كَٱلظِّلِّ وَلاَ يَقِفُ. 3 فَعَلَى مِثْلِ هٰذَا حَدَّقْتَ عَيْنَيْكَ، وَإِيَّايَ أَحْضَرْتَ إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَكَ. 4 مَنْ يُخْرِجُ ٱلطَّاهِرَ مِنَ ٱلنَّجِسِ؟ لاَ أَحَدٌ! 5 إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهُ مَحْدُودَةً وَعَدَدُ أَشْهُرِهِ عِنْدَكَ وَقَدْ عَيَّنْتَ أَجَلَهُ فَلاَ يَتَجَاوَزُهُ، 6 فَأَقْصِرْ عَنْهُ لِيَسْتَرِيحَ، إِلَى أَنْ يُسَرَّ كَ ٱلأَجِيرِ بِٱنْتِهَاءِ يَوْمِهِ.

إنَّه لغريب في نظر أيوب أن يرتكز العدل الإلهي على مولود المرأة الضعيف السريع الزوال والذي أيامه القليلة مملوءة بالتعب. وإنَّه لا يليق بالإله القدير أن يراقبه، حتى إذا وجد فيه ذنباً ولو صغيراً يقاصصه، أو يحضره إلى المحاكمة.

الجنس البشري كله نجس، ولا يمكن أن يخرج منه طاهر. ولهذا يندهش أيوب أن يقع تحت طائلة القصاص من أجل هفوات صغيرة، كأنه يُطالب بالكمال! وخصوصاً لأن أيامه قصيرة، كالزهر الذي ييبس، وكالظل الذي يبرح ولا يقف. وإذ يضع نفسه في هذا الموضع، يسأل الله أن لا يراقبه قصد العقاب، بل يتركه يتمتع بالراحة التي قد يمكنه أن يجدها. مثله كالأجير الذي يومه متعب، وليس في حياته إلا قليل من السرور، وأكثر سرور الأجير في إنهاء يومه. لذلك يطلب أيوب من الله أن يقصر عن الإنسان ولا يمنعه عن هذا السرور القليل.

14: 7 «لأَنَّ لِلشَّجَرَةِ رَجَاءً. إِنْ قُطِعَتْ تُخْلِفْ أَيْضاً وَلاَ تُعْدَمُ أَغْصَانُهَا. 8 وَلَوْ قَدُمَ فِي ٱلأَرْضِ أَصْلُهَا وَمَاتَ فِي ٱلتُّرَابِ جِذْعُهَا، 9 فَمِنْ رَائِحَةِ ٱلْمَاءِ تُفْرِخُ وَتُنْبِتُ فُرُوعاً كَٱلْغَرْسِ. 10 أَمَّا ٱلرَّجُلُ فَيَمُوتُ وَيَبْلَى. ٱلإِنْسَانُ يُسْلِمُ ٱلرُّوحَ، فَأَيْنَ هُوَ! 11 قَدْ تَنْفَدُ ٱلْمِيَاهُ مِنَ ٱلْبَحْرِ، وَ ٱلنَّهْرُ يَنْشَفُ وَيَجِفُّ، 12 وَ ٱلإِنْسَانُ يَضْطَجِعُ وَلاَ يَقُومُ. لاَ يَسْتَيْقِظُونَ حَتَّى لاَ تَبْقَى ٱلسَّمَاوَاتُ وَلاَ يَنْتَبِهُونَ مِنْ نَوْمِهِمْ.

يقابل أيوب بين الإنسان والشجرة، فيجد مفارقة بين الإثنين، والامتياز لصالح الشجرة. لأن الشجرة المقطوعة قد تفرخ ثانية، ولكن الموت يكتب على حياة الإنسان ولا يعود كما كان.

تأمّل أحد الأغنياء في هذه العبارة على ضوء ما يحدث للشجرة بفعل تعاقب الفصول، وكانت أمامه شجرة جرّدتها رياح الخريف من أوراقها، بعد أن ذبلت ويبست. فرثى للحالة، التي صارت إليها. ولكنه لم يلبث أن تذكر التحوّل، الذي سيطرأ عليها عند رجوع الربيع. ففكر في نفسه أنه بكل تأكيد أنَّ الله الذي يظهر إبداع عمله في الطبيعة، ليس بأقل استعداداً أن يجري تغييراً معجزياً في الإنسان. وقاده الفكر إلى التعليم الرسولي القائل بأن الإنسان سيحوله الله إلى حال أفضل، حين يأخذه إليه: «يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ » (كورنثوس الأولى 15: 42-44).

14: 13 لَيْتَكَ تُوارِينِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَتُخْفِينِي إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ غَضَبُكَ، وَتُعَيِّنُ لِي أَجَلاً فَتَذْكُرَنِي. 14 إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا؟ كُلَّ أَيَّامِ جِهَادِي أَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَدَلِي. 15 تَدْعُو فَأَنَا أُجِيبُكَ. تَشْتَاقُ إِلَى عَمَلِ يَدِكَ. 16 أَمَّا ٱلآنَ فَتُحْصِي خَطَوَاتِي! أَلاَ تُحَافِظُ عَلَى خَطِيَّتِي. 17 مَعْصِيَتِي مَخْتُومٌ عَلَيْهَا فِي صُرَّةٍ، وَتُلَفِّقُ عَلَيَّ فَوْقَ إِثْمِي.

حسب اعتقاد العبرانيين أنَّ الإنسان لا يتلاشى عند الموت، بل تنزل نفسه إلى الهاوية. وبقاؤها هذا ليس حياة حقيقية، لأنّ ليس لها شركة مع الأحياء على الأرض ولا مع الله (إشعياء 38: 18) ولكن من طبيعة الإنسان أنه يشتاق إلى البقاء وإلى الله. فتصوّر أيوب رجوع الله إليه، بعد انصراف غضبه فيذكره الله إذ ذاك ويدعوه. فيجيبه ويشتاق إلى عمل يديه. كما يشتاق الإنسان إلى خالقه. ولكنّ أيوب بعد تأمل عميق، تراءى له أنَّ هذا مستحيل، فقال متسائلاً: إن مات الرجل أفيحيا؟ وسؤاله الحائر هذا تردد عبر الزمان، دون أن يجد جواباً يشيع الإطمئنان في النفس، إلى أن جاء يسوع وقال كلمته التي تبعث الإطمئنان في النفس: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَ ٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا 5: 25). «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَ ٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11: 25).

ولكن أيوب لا يستمر في يأسه، إذ سرعان ما ومض في ذهنه نور حلم بديع عن إله النعمة، فرجا أن ينصرف عنه هذا الغضب الإلهي. وانطلاقا من رجائه هذا قال: «أصبر إلى أن يأتي بديلي» أن تتبدل حالتي بما هو أحسن، فينتهي جهادي. بيد أن مجد الحلم ذبل عندما تذكر الحقائق البشعة التي للوقت الحاضر، فيتراجع في تقديره إله النعمة إلى الوراء، ويتخيل إلهاً يفتش باستمرار تفتيش البخيل لكي يرقب كل خطية من خطاياه.

14: 18 «إِنَّ ٱلْجَبَلَ ٱلسَّاقِطَ يَنْتَثِرُ، وَ ٱلصَّخْرَ يُزَحْزَحُ مِنْ مَكَانِهِ. 19 ٱلْحِجَارَةُ تَبْلِيهَا ٱلْمِيَاهُ، وَتَجْرُفُ سُيُولُهَا تُرَابَ ٱلأَرْضِ. وَكَذٰلِكَ أَنْتَ تُبِيدُ رَجَاءَ ٱلإِنْسَانِ. 20 تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِ أَبَداً فَيَذْهَبُ. تُشَوِّهُ وَجْهَهُ وَتَطْرُدُهُ. 21 يُكْرَمُ بَنُوهُ وَلاَ يَعْلَمُ، أَوْ يَصْغِرُونَ وَلاَ يَفْهَمُ بِهِمْ. 22 إِنَّمَا عَلَى ذَاتِهِ يَتَوَجَّعُ لَحْمُهُ وَعَلَى ذَاتِهَا تَنُوحُ نَفْسُهُ».

الجبال والصخور، أثبت ما في الأرض. ومع ذلك تبليها المياه وتفتتها بفعلها الدائم لزمان طويل. فكم بالحري الإنسان يبلى بضربات الله المتواضعة؟

وفي كلمة أخرى أنّ أيوب يشبّه مصير الإنسان بعد الموت بالحجارة، التي تبليها المياه، فهو لا يستطيع الوقوف أمام جبروت الله. ثم يتقدم أيوب إلى فكرة أخرى، وهي أنه بكرامة الأولاد يحصل الإنسان على نوع من الخلود للوالدين. ولكن ليس في ذلك تعزية كاملة للإنسان، لأن الميت لا يعلم ما يحدث للأحياء، وهم لا يعلمون ما يحدث له، فيتوجع هو على ذاته وينوح.

وهنا يجب أن نذكر أنَّ القدماء كانوا يظنون أنَّ النفس وهي في شيول (مكان انتظار الأرواح) لها شركة عطف نحو الجسم المنحل، فتشعر بأوجاع الفساد التي تعتري الجسم. ومن هنا ندرك أنَّ القدماء كانوا عرضة لليأس أو التردّد في أمر خلاصهم.

الصلاة

أيها الأب القدوس، نشكرك ونعظم اسمك الكريم لأجل يسوع الفادي الذي أنار لنا الحياة والخلود بالإنجيل. وأعطانا بقيامته رجاء الحياة الأبدية. وعلمنا أن كل من يؤمن به وإن مات فسيحيا. عزِّ قلوبنا بهذا الرجاء من أجل اسمك. آمين.

السؤال

24 - ماذا تصوّر أيوب من جهة الله؟

الأصحاح التاسع عشر 21 تَرَاءَفُوا! تَرَاءَفُوا أَنْتُمْ عَلَيَّ يَا أَصْحَابِي، لأَنَّ يَدَ ٱللّٰهِ قَدْ مَسَّتْنِي. 22 لِمَاذَا تُطَارِدُونَنِي كَمَا ٱللّٰهُ، وَلاَ تَشْبَعُونَ مِنْ لَحْمِي؟

لم يكن لأصحاب أيوب الحق بالتكلم إليه بترفع، لأنهم ليسوا أبرّ منه أولاً. وثانياً لأنه لا يليق بالمؤمن أن يزدري بالآخرين، حتى ولو كانوا خطاة. لأن المسيح وهو ديان كل الأرض، لم يترفع عن الخطاة. وحين انتقده الفريسيون بسبب مجالسة الخطاة، قال لهم: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى... لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (متّى 9: 12 و13).

بيد أنَّ حوار الأصحاب مع أيوب، لم يكن عبثاً. فقد حمل أيوب على الاعتراف، بكل ما قالوه عن حكمة الله وقدرته وعنايته بمخلوقاته. وبأنَّ حكمة الله وقدرته، تظهران في الطبيعة وبهائم الحقل. أمّا السؤال الذي بقي يزعج عقله، والذي لم يشأ الأصحاب أن يواجهوه، فيختص بكيفية استعمال الله لقدرته. إنّه لم يكن مستعداً، أن يقبل الأمور بدون فحص آراء الآخرين، مهما كان نصيبها من القدم والتواتر. لذلك بقي الأصحاب عاجزين عن إقناعه بما ظنوه صواباً. هذا شأن الإنسان المتشامخ الروح، يحتاج إلى تأديبات الرب، لكي يتنازل عن شموخه ويقر بضعفه.

بعد أن عبّر أيوب عن عدم صبره على كلام بلدد القاسي، وعلى اتهامة بالشر، الأمر الذي أثّر فيه تأثيراً ساحقاً، فتاق إلى المؤاساة البشرية. وإذ لم يجدها تضرّع إلى أصحابه أن يترأفوا به. فلماذا يقسّون قلوبهم على إنسان حزين كسير؟ ألا يكفيه أنَّ الله يطارده؟! فلماذا يتخذون على أنفسهم القيام بذلك؟! ولكن توسله الصادر من قلب منكسر، لم يأت بفائدة. لأن أصحابه، كانوا قد انخدعوا بنظرية خاطئة من جهة الموقف كله، ولا يزالون يعتقدون، بأنه يقاسي ما يقاسيه بسبب خطاياه. إنّ إدراك الحقيقة أنّ يد الرب تبليه، كان ينبغي أن تثير رأفتهم عليه. ولكن بسبب اعتقادهم بمذنوبيته لم يقدروا أن يرأفوا به. بمعنى أنه كان عليهم أن يختاروا بين صديقهم وبين إيمانهم.

إنّ الكلمة «لِمَاذَا تُطَارِدُونَنِي كَمَا ٱللّٰهُ» تعلن بتأكيد مقدار ديننا لربنا يسوع المسيح بخصوص اعتقادنا في الله. ففي عهد النعمة، أعلن لنا أنَّ الله في المسيح إله صفوح سموح (أفسس 4: 32). إنّه الآب الذي يُسرّ بأن يسامح إلى سبعين مرة سبع مرات.

19: 23 لَيْتَ كَلِمَاتِي ٱلآنَ تُكْتَبُ. يَا لَيْتَهَا رُسِمَتْ فِي سِفْرٍ 24 وَنُقِرَتْ إِلَى ِ وَلَيْسَ آخَرُ. إِلَى ذٰلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي. 28 فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: لِمَاذَا نُطَارِدُهُ؟ وَ ٱلْكَلاَمُ ٱلأَصْلِيُّ يُوجَدُ عِنْدِي. 29 خَافُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنَ ٱلسَّيْفِ لأَنَّ ٱلْغَيْظَ مِنْ آثَامِ ٱلسَّيْفِ. لِكَيْ تَعْلَمُوا مَا هُوَ ٱلْقَضَاءُ».

حين رفض الأصحاب توسّلات أيوب، تحوّل عنهم والتجأ إلى المستقبل ليلتمس الرجاء الذي أنكره عليه الحاضر، فيشع مرة أخرى. فتمنى أن تسجل قضيته. فبكل تأكيد كانت الأجيال القادمة، ستظهر عطفاً عليه وتبرّر موقفه. وبغتة تأتينا رؤية عجيبة في أمر هذا الرجل. محام إلهي يظهر بغتة، ليسترجعه من ظلال الموت، التي انحدر إليها في عار. وليجعله يسمع الحكم عليه بالتبرير الذي تاقت إليه نفسه. فيقول: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ» فقد ركّز نظره أخيراً في وجه المدافع الإلهي الذي هو وليّ شعبه (إشعياء 54: 5) وهو وليّ المؤمنين أفراداً (مزمور 19: 14).

ما من مسيحيٍّ يقرأ الأعداد 25: 27، بدون أن يكتشف أنَّ هذه الفقرة من سفر أيوب مرآة لذاك الوليّ الحي يسوع، الذي هو حي في كل حين يشفع فينا (عبرانيين 7: 25)، الذي أنار الحياة والخلود بالإنجيل (تيموثاوس الثانية 1: 10).

لقد آمن أيوب بأنه سيرى الله، إلا أنه لم يدرك كيف سيراه. وآمن أيضاً بأنه هو نفسه يراه وعيناه تنظرانه، وأنه سيبرره، ولا يكون تبريره في غيابه بل في حضوره.

وأيضاً أصحابه سينظرون تبريره، فيقولون: لماذا نطارده؟ أي أنهم سيقتنعون بأن أيوب بريء مما كانوا قد اتّهموه به. ويقول إنَّ الكلام الصحيح عنده هو، وعليهم إذن أن يخافوا من غضب الله عليهم، بسبب غيظهم على أيوب، الغيظ الذي هو من آثام السيف، أي الآثام التي تستحق القتل بالسيف. وفي كلمة أخرى أنَّ أيوب ختم كلامه بتهديد أصحابه بأن ظهور الله الذي ينتظره برجاء وفرح، سيكون سبب خوف لهم. فإذا بقوا مُصرّين على اتهامهم له، بأن سبب آلامه هو الخطية فليحذروا، لأنه لا بد من وقوع العقاب عليهم.

الصلاة

نشكرك اللهم لأجل الوليّ الحي ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي هو وسيط صلحنا معك، وشفيعنا قدامك. ثبتنا في المسيح، لكي يثبت المسيح فينا، ويكون لنا رجاء القدوم إليك، قديسين وبلا لوم في المحبة. آمين.

السؤال

25 - ماذا كان تأثير اتّهام بلدد لأيوب بارتكاب الشر؟

الأصحاح الثامن والعشرون 1 «لأَنَّهُ يُوجَدُ لِلْفِضَّةِ مَعْدَنٌ، وَمَوْضِعٌ لِلذَّهَبِ حَيْثُ يُمَحِّصُونَهُ. 2 ٱلْحَدِيدُ يُسْتَخْرَجُ مِنَ ٱلتُّرَابِ وَ ٱلْحَجَرُ يَسْكُبُ نُحَاساً. 3 قَدْ جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً وَإِلَى كُلِّ طَرَفٍ هُوَ يَفْحَصُ. حَجَرَ ٱلظُّلْمَةِ وَظِلَّ ٱلْمَوْتِ. 4 حَفَرَ مَنْجَماً بَعِيداً عَنِ ٱلسُّكَّانِ. بِلاَ مَوْطِئٍ لِلْقَدَمِ. مُتَدَلِّينَ بَعِيدِينَ مِنَ ٱلنَّاسِ يَتَدَلْدَلُونَ. 5 أَرْضٌ يَخْرُجُ مِنْهَا ٱلْخُبْزُ أَسْفَلُهَا يَنْقَلِبُ كَمَا بِٱلنَّارِ. 6 حِجَارَتُهَا هِيَ مَوْضِعُ ٱلْيَاقُوتِ ٱلأَزْرَقِ وَفِيهَا تُرَابُ ٱلذَّهَبِ. 7 سَبِيلٌ لَمْ يَعْرِفْهُ كَاسِرٌ، وَلَمْ تُبْصِرْهُ عَيْنُ بَاشِقٍ، 8 وَلَمْ تَدُسْهُ أَجْرَاءُ ٱلسَّبْعِ، وَلَمْ يَسْلُكْهُ ٱلأَسَدُ. 9 إِلَى ٱلصَّوَانِ يَمُدُّ يَدَهُ. يَقْلِبُ ٱلْجِبَالَ مِنْ أُصُولِهَا. 10 يَنْقُرُ فِي ٱلصُّخُورِ سَرَباً، وَعَيْنُهُ تَرَى كُلَّ ثَمِينٍ. 11 يَمْنَعُ رَشْحَ ٱلأَنْهَارِ، وَأَبْرَزَ ٱلْخَفِيَّاتِ إِلَى ٱلنُّورِ.

موضوع هذا الأصحاح أنّ الإنسان من تلقاء نفسه، لا يجد الحكمة لأن هذا مختص بالله، والإنسان المحدود الإدراك لا يمكن أن يفهم الحكمة، بمعنى مبدأ السياسة العادلة الحقيقية، التي تدير مجرى شؤون هذا العالم. وسبيل الإنسان الوحيد هو أن يتقي الله، ويتكل عليه. وبالنتيجة أن يضع نفسه وأموره في يديْ الله.

في الأعداد 1-11، تكلم أيوب عن أعمال الإنسان في التنقيب عن المعادن واستخراجها من جوف الأرض. وفي زمنه كان للمصريين مناجم نحاس وفضة في شبه جزيرة سيناء. وبعض من أنفاق تلك المناجم ما زال موجوداً حتى اليوم. وقد حُفظ في المتاحف الكثير من أدوات العمال وآلاتهم ومسابكهم، وكأن الأقدمين تركوها الأمس، وليس منذ أربعة آلاف سنة. ثم يصف أعمال أولئك المعدّنين، فيقول: كانوا يحفرون حفراً في الجبال، متدلين بحبال من فوق، في أماكن غير مأهولة بالناس. وكما يقلب الفلاح وجه الأرض لتنبت له خبزاً للأكل. هكذا كان المعدّنون يقلبون أسفل الأرض ليستخرجوا من جوفها المعادن الثمينة. وبعد إخراجها يتركون الأرض في الداخل مقلوبة كأنها أحرقت بالنار، ثم يشير أيوب إلى سر الحكمة، فيقول: إنّه كما أُخفي سبيل المعادن عن طيور السماء ووحوش الأرض. هكذا أخفيت الحكمة عن عيون البشر. ثم يشير إلى الصعوبات، التي يعانيها عامل المناجم وإلى شجاعته وحذاقته في تذليل هذه الصعوبات. يحضّر الأنفاق، ويمنع رشح الأنهار، لئلا تتجمّع المياه في المنجم.

28: 12 «أَمَّا ٱلْحِكْمَةُ فَمِنْ أَيْنَ تُوجَدُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ ٱلْفَهْمِ؟ 13 لاَ يَعْرِفُ ٱلإِنْسَانُ قِيمَتَهَا وَلاَ تُوجَدُ فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. 14 ٱلْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ، وَ ٱلْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي. 15 لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَناً لَهَا. 16 لاَ تُوزَنُ بِذَهَبِ أُوفِيرَ أَوْ بِ ٱلْجَزْعِ ٱلْكَرِيمِ أَوِ ٱلْيَاقُوتِ ٱلأَزْرَقِ. 17 لاَ يُعَادِلُهَا ٱلذَّهَبُ وَلاَ ٱلزُّجَاجُ، وَلاَ تُبْدَلُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ إِبْرِيزٍ. 18 لاَ يُذْكَرُ ٱلْمَرْجَانُ أَوِ ٱلْبَلُّوْرُ، وَتَحْصِيلُ ٱلْحِكْمَةِ خَيْرٌ مِنَ ٱللَّآلِئِ. 19 لاَ يُعَادِلُهَا يَاقُوتُ كُوشَ ٱلأَصْفَرُ وَلاَ تُوزَنُ بِٱلذَّهَبِ ٱلْخَالِصِ.

فالحكمة في تقدير أيوب، لا يمكنك أن تجدها في الأرض كما تجد المعادن. ولا يمكنك أن تجدها في أعماق المحيط، ولا في قاع البحر. ولا يمكنك أن تجدها في السوق، فتبتاعها لنفسك. إنها لا توزن بفضة، ولا بذهب أوفير، الذي كان يُستخرج من شاطئ البحر الهندي. ولا يمكنك أن توزنها باللآلئ الثمينة، لأن ثمنها يفوق اللآلئ وكل أنواع الحجارة الكريمة. ولا يمكنك أن تجدها في مكان الأخيلة (الوهم - الظن)، لأن الله وحده يعرف طريقها، ورأسها مخافته.

والواقع أنّ قصة أيوب عن الحكمة تحكي عن مطلب حيّر ذكاء الناس قديماً وحديثاً. ولكن هذا المطلب ميسور لكل طالب الله بالحق. فقد قال الرسول يعقوب: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب 1: 5) هذا هو الشرط لنيل الحكمة، من كل من يشعر باحتياجه إلى حكمة الله التي هي أسمى من معرفة حكماء هذا الدهر. سليمان طلبها من الله بخلوص نية فنالها، دون أن يقدّم لها ثمناً ما، لا ذبائح ولا محرقات ولا نذور. المهم أن تطلب بإخلاص وبإيمان، لتستخدم لتمجيد الله.

اطلب هذه الحكمة اليوم ولا تتأخر. غير مرتاب البتة. فيعطيك الله سؤلك وفقاً لقول المسيح: «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متّى 7: 7).

طوبى للذي يحصل على هذه « ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَّوَلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَ ٱلرِّيَاءِ. وَثَمَرُ ٱلْبِرِّ يُزْرَعُ فِي ٱلسَّلاَمِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ ٱلسَّلاَمَ» (يعقوب 3: 17 و18).

الصلاة

نشكرك يا أبانا السماوي، لأجل يسوع المسيح، الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء. افتح عيون أذهان الناس، حتى يروا هذه الحكمة، وأنر عقولهم لكي يقبلوها، فينالوا بر الله ويشتركوا في قداسته. آمين.

السؤال

26 - كيف قدّر أيوب الحكمة وماذا قال فيها؟

28: 20 «فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي ٱلْحِكْمَةُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ ٱلْفَهْمِ. 21 إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ؟ 22 اَلْهَلاَكُ وَ ٱلْمَوْتُ يَقُولاَنِ: بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَهَا.

في هذه الآيات ملخّص الكلام السابق، أي أنه لا توجد حكمة في الأرض. وكل ما يمكن للبشر صنعه هو الإشارة إلى إشاعة غامضة سمعوها عن الحكمة. إنها لا توجد في أماكن البيع، ولا تحت الأرض في المعادن، ولا في البحر ولا في الهاوية، مكان الهلاك والموت. فإنهما يقولان قد سمعنا خبرها فقط. ولكنها ليست عندهما. والنتيجة أنّ الحكمة لله وحده، فإنّه خلق الكون ويعتني به.

هذا التعليم صحيح، ولكنه يخالف موقف أيوب السابق. وإذا كان أيوب كما يظن البعض قد وصل إلى هذه الحالة، حالة التعقل والإطمئنان، فكيف نفسر عودته إلى التشكي (أيوب 30: 20-23) وتضجّره من عدم تبريره (أيوب 38). وإن كان قد سلّم بأنّ طرق الحكمة لا تُدرك، فليس من احتياج لتوجيه أفكاره إليها، لا بذكر تشكّ هنا، ولا بروح مقاومة لله (أيوب 15: 13) لأنّ الخالق العظيم، حفظ لنفسه المعرفة العليا.

28: 23 اَللّٰهُ يَفْهَمُ طَرِيقَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَانِهَا. 24 لأَنَّهُ هُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاوَاتِ يَرَى. 25 لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْناً وَيُعَايِرَ ٱلْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ. 26 لَمَّا جَعَلَ لِلْمَطَرِ فَرِيضَةً وَسَبِيلاً لِلصَّوَاعِقِ 27 حِينَئِذٍ رَآهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، هَيَّأَهَا وَأَيْضاً بَحَثَ عَنْهَا 28 وَقَالَ لِلإِنْسَانِ: هُوَذَا مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ هِيَ ٱلْحِكْمَةُ، وَ ٱلْحَيَدَانُ عَنِ ٱلشَّرِّ هُوَ ٱلْفَهْمُ».

هنا نجد الجواب على سؤال، طالما طرحته الأجيال: أين توجد الحكمة؟ فالله وحده يعرفها ويقتنيها. وهو الذي يقدر أن يتحكم بقوى هذا الكون الهائلة. إنه إله الخليقة، الذي له السيادة الشاملة على كل خفايا الحكمة. وهو الذي عيّن للريح مقدارها وقوّتها، وعيّن للأمطار أوقاتها وكمياتها.

ولكن إن كان عقل الإنسان لا يستطيع أن يرى سر السلطان الإلهي، فهو بواسطة الطاعة والتواضع يستطيع الحصول على الحكمة اللازمة للتمييز بين الخير والشر، ورؤية ما هو صحيح. ويستطيع أيضاً أن يفيد من حكمة الله في الفداء العظيم; إن هو سلك متواضعاً مع إلهه. فقد قال المسيح: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَ ٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَ ٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى 11: 25).

لم يقصد المسيح هنا الإقلال من أهمية القدرات العقلية أو يدينها، ولكنه يدين كبرياء العقل، التي تبعد الإنسان عن البساطة. قال أحد الأتقياء: إنه القلب البسيط، وليس الرأس هو بيت الإنجيل. ويقيناً أنه ليست الحكمة هي التي تفتح أمامنا باب قبول المسيح، بل التواضع والوداعة. فقد تكون لإنسان حكمة أفلاطون، ولكن إن لم تكن له البساطة والتواضع كقلوب الأطفال، فإنه يمنع نفسه من قبول مطالب الإنجيل.

فإذا كان الإنسان يريد النجاح في سفره نحو إدراك تلك الحكمة، التي مالكها الفريد القادر هو الله، عليه أن يخاف الله ويحيد عن الشر. والواقع أنّه لا توجد حكمة حقيقية ولا معرفة صحيحة بعيداً عن مخافة الرب. وكل من انتسب للحكمة وتجاهل الله، ليس سوى غبي نسي أن يطهر نفسه من خطية كبرياء العقل.

وخير للشاب طالب المعرفة، وهو يواجه العدد الوفير من النظريات التي لها صفة العلم، أن يتلمس في كل نظرية مخافة الله. فإن كثيرين من الفلاسفة والعلماء، القوا مخافة الرب جانباً وجعلوا سلطان الله بعيداً عن دائرة خليقته. «وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ» (رومية 1: 22) ومن هنا كثرت السخافات والضلالات التي تبعد الإنسان عن حق الله، ويخبرنا التاريخ أنَّ اليونانيين القدماء، افتخروا بحكمتهم. ولكنّ كل حكمتهم لم تكن كافية أن تمنحهم القداسة أو الغبطة، أو أن تحفظهم من الضلالة عن الله وعن طريق عبادته. وما ذلك إلّا لأنّ الخطية أعمت أذهانهم، ولم يهتدوا بالنور الإلهي. وأظهروا جهلهم بآرائهم وأعمالهم.

الصلاة

عظيم وقدوس، أنت أيها الرب الإله. ونحن نشكرك من كل القلب لأنك أيضاً رحيم محب ورؤوف. وبالمحبة أعلنت لنا حكمتك بالفداء، لكي تكفر عن خطايانا. أعطنا أن نترك كل حكمة بشرية تبعدنا عن محور خلاصك بالفداء العظيم. آمين.

السؤال

27 - ما هي النصيحة الموجّهة للشابات والشباب وهم يواجهون العديد من النظريات التي لها صفة العلم؟

الأصحاح التاسع والعشرون 1 وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: 2 «يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي ٱلشُّهُورِ ٱلسَّالِفَةِ وَكَالأَيَّامِ ٱلَّتِي حَفِظَنِي ٱللّٰهُ فِيهَا، 3 حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ ٱلظُّلْمَةَ. 4 كَمَا كُنْتُ فِي أَيَّامِ خَرِيفِي وَرِضَا ٱللّٰهِ عَلَى خَيْمَتِي، 5 وَ ٱلْقَدِيرُ بَعْدُ مَعِي وَحَوْلِي غِلْمَانِي، 6 إِذْ غَسَلْتُ خَطَوَاتِي بِٱللَّبَنِ، وَ ٱلصَّخْرُ سَكَبَ لِي جَدَاوِلَ زَيْتٍ. 7 حِينَ كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى ٱلْبَابِ فِي ٱلْقَرْيَةِ وَأُهَيِّئُ فِي ٱلسَّاحَةِ مَجْلِسِي. 8 رَآنِي ٱلْغِلْمَانُ فَٱخْتَبَأُوا، وَ ٱلأَشْيَاخُ قَامُوا وَوَقَفُوا. 9 ٱلْعُظَمَاءُ أَمْسَكُوا عَنِ ٱلْكَلاَمِ وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. 10 صَوْتُ ٱلشُّرَفَاءِ ٱخْتَفَى وَلَصِقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِأَحْنَاكِهِمْ. 11 لأَنَّ ٱلأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي، وَ ٱلْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي.

يستهل أيوب هذا الأصحاح بالتكلم عن حالته الماضية السعيدة، ويقابلها بضيقاته الحالية القاسية. وهذا الأصحاح، من أكثر إصحاحات السفر تأثيراً، وقد صوّر فيه ينابيع سعادته بحذق فائق. وقد ذكر بأن كل الخير الذي كان له هو من الله، ومن رعايته المترفقة. أضاء سراجه له لينير الظلمات حوله. ويخبرنا بروح التذكار:

أولاً: إنَّ الله حفظه وسهر عليه. وأعطاه نجاحاً وأفراحاً لأن الخريف وقت جنى الأثمار.

ثانياً: كان أيوب رجلاً سعيداً في عائلته، وقد عبّر عن ذلك برضا الله على بيته وحوله غلمانه.

ثالثاً: كان مُفلحاً لأنّ اللبن كان عنده بالكثرة كالماء الفائض. وأشجار الزيتون التي في حقوله نضرت، وحين عُصرت أثمارها أعطت جداول من الزيت.

رابعاً: كان رجلاً محترماً من الناس، إذ كان يأخذ مكانه في المجالس وكان الحاضرون يراعونه بالتبجيل. وكانوا يترقبون رأيه باحترام. إذ كان حديثه كالمطر المنعش للنفوس الخائرة، وكانت ابتسامته ترياقاً (دواءً) للمترددين ليبعث الثقة في قلوبهم. ولم يقدر أحد أن يعترض على كلامه أو يزيد عليه. وطوّبته الأذن لأنّ كلامه كان بالعدل والإنصاف.

29: 12 لأَنِّي أَنْقَذْتُ ٱلْمِسْكِينَ ٱلْمُسْتَغِيثَ وَ ٱلْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ. 13 بَرَكَةُ ٱلْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ ٱلأَرْمَلَةِ يُسَرُّ. 14 لَبِسْتُ ٱلْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي. 15 كُنْتُ عُيُوناً لِلْعُمْيِ وَأَرْجُلاً لِلْعُرْجِ. 16 أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا. 17 هَشَّمْتُ أَضْرَاسَ ٱلظَّالِمِ وَمِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ خَطَفْتُ ٱلْفَرِيسَةَ.

كانت علة اعتبار الناس لأيوب هي: أعماله الصالحة، والعدالة والرحمة التي تميّزت سجاياه بهما. بمعنى أنّ الرجل الذي كان يرقبه الله، كان دقيقاً في مراقبة مصالح المحتاجين. حتى أنَّ الغرباء كان يمكنهم أن يعتمدوا على دفاعه عنهم في قضاياهم.

في كل هذه النشاطات الاجتماعية كان البر رائده. أي كما أنَّ الناس في زمنه كانوا يفخرون بلباسهم كالجبّة والعمامة، هكذا أيوب افتخر ببره. والفكر يكاد يكون أنَّ العدل تجسد في أيوب.

كان يساعد بمعرفته الذين لا معرفة لهم، وهم كعمي نظراً لسذاجتهم. وكان يساعد الضعفاء وهم كعرج لضعفهم. ولم يساعد القريبين منه فقط كأنسبائه وأتباعه، بل أيضاً ساعد الغريب، ولم يحكم في دعوى قبل الفحص. وفي كل قضية كان يحكم على الظالم وينصف المظلوم.

29: 18 فَقُلْتُ: إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ ٱلرُّوحَ، وَمِثْلَ ٱلسَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّاماً. 19 أَصْلِي كَانَ مُنْبَسِطاً إِلَى ٱلْمِيَاهِ، وَ ٱلطَّلُّ بَاتَ عَلَى أَغْصَانِي. 20 كَرَامَتِي بَقِيَتْ حَدِيثَةً عِنْدِي، وَقَوْسِي تَجَدَّدَتْ فِي يَدِي. 21 لِي سَمِعُوا وَ ٱنْتَظَرُوا، وَنَصَتُوا عِنْدَ مَشُورَتِي. 22 بَعْدَ كَلاَمِي لَمْ يُثَنُّوا وَقَوْلِي قَطَرَ عَلَيْهِمْ. 23 وَ ٱنْتَظَرُونِي مِثْلَ ٱلْمَطَرِ، وَفَغَرُوا أَفْوَاهَهُمْ كَمَا لِلْمَطَرِ ٱلْمُتَأَخِّرِ. 24 إِنْ ضَحِكْتُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوا وَنُورَ وَجْهِي لَمْ يُعَبِّسُوا. 25 كُنْتُ أَخْتَارُ طَرِيقَهُمْ وَأَجْلِسُ رَأْساً وَأَسْكُنُ كَمَلِكٍ فِي جَيْشٍ كَمَنْ يُعَزِّي ٱلنَّائِحِينَ.

هنا يقدّم أيوب صورة المستقبل الذي كان يتوقعه، والذي فتّتته البلايا. هذه الصورة نجدها في الأعداد 12 إلى 20. فقد كان أيوب ينتظر استمراراً لا ينقطع للأيام الذهبية. كان في بيته وحوله أسرته وأملاكه وأصدقاؤه. وكان يتوقع أن يعيش عمراً مديداً كالسمندل وهو طائر في الهند، كانوا يعتقدون أنه يعيش 500 سنه.

وفي الآيات الختامية، يعود أيوب إلى التغنّي بسجاياه وأمجاده. فقال عن أترابه، إنهم لم يروا فيه نقصاً ولا غلطاً فيعترضون عليه، وذلك كله بخلاف ما أتاه من أصحابه الثلاثة. أمّا جلساؤه فلم يتوقعوا أن هذا الشيخ الكبير يتنازل ويبتسم لهم، ويصير كواحد منهم. ولكن أيوب بسجاياه الكريمة حملهم على الطمأنينة وشجعهم بابتسامته، ليعلموا أن لا سبب للخوف.

كانت تلذّ له معاشرتهم فيذهب إليهم، أو كان يحكم في مشاكلهم، ويقول لهم ما يجب أن يعملوه، فكان لهم كقائد في جيشه. ولم يكن كملك قاسٍ وظالمٍ ، بل كصديقٍ. وخصّص لخدمتهم كل ما كان عنده من الحكمة والاقتدار. ولكننا نرى في كلام أيوب شيئاً من المبالغة، وهذا طبيعي، لأنّه كلام شعري، والشاعر ليس مدققاً كالمؤرخ.

الصلاة

أيها الرب الإله الصالح. يا مصدر كل بر وقداسة وصلاح. نبارك اسمك يا إلهنا لأجل كل إعلاناتك عن الحكمة. إلهنا مخافتك التي هي رأس كل حكمة. ضع في نفوسنا فكر التواضع حتى نأتي إليك ببساطة الإيمان والثقة ونسكن قلوبنا قدامك. آمين.

السؤال

28 - اذكر بعضاً من الامتيازات التي كانت لأيوب وكانت سبب سعادته

الأصحاح الثلاثون 1 «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ مَنْ يَصْغُرُنِي فِي ٱلأَيَّامِ، ٱلَّذِينَ كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي. 2 قُوَّةُ أَيْدِيهِمْ أَيْضاً مَا هِيَ لِي. فِيهِمْ عَجِزَتِ ٱلشَّيْخُوخَةُ. 3 فِي ٱلْعَوَزِ وَ ٱلْمَجَاعَةِ مَهْزُولُونَ، يَنْبِشُونَ ٱلْيَابِسَةَ ٱلَّتِي هِيَ مُنْذُ أَمْسِ خَرَابٌ وَخَرِبَةٌ. 4 ٱلَّذِينَ يَقْطِفُونَ ٱلْمَلَّاحَ عِنْدَ ٱلشِّيحِ، وَأُصُولُ ٱلرَّتَمِ خُبْزُهُمْ. 5 مِنَ ٱلْوَسَطِ يُطْرَدُونَ. يَصِيحُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَى لِصٍّ. 6 لِلسَّكَنِ فِي أَوْدِيَةٍ مُرْعِبَةٍ وَثُقَبِ ٱلتُّرَابِ وَ ٱلصُّخُورِ. 7 بَيْنَ ٱلشِّيحِ يَنْهَقُونَ. تَحْتَ ٱلْعَوْسَجِ يَنْكَبُّونَ. 8 أَبْنَاءُ ٱلْحَمَاقَةِ، بَلْ أَبْنَاءُ أُنَاسٍ بِلاَ ٱسْمٍ، دُحِرُوا مِنَ ٱلأَرْضِ.

كان أيوب مكرّماً من الجميع، أمّا الأن فإنّ الناس حتى الأدنياء منهم، يحتقرونه ويستهزئون به ويزدرونه. أي أنَّ البؤس في الحاضر، يزحف عليه من كل جانب. أولاً يأتي من الخارج. فإنه يُهان من الناس حتى الأسافل منهم الذين في الأيام القديمة، كان هو يسرع إلى مساعدتهم. لذا يقول في مرارة: أصاغري يستهزئون بي، الذين كنت أستنكف أن أأتمن أباءهم على مهمة كلب الغنم، وهي حراسة القطعان. إنهم قوم ماتت فيهم الهمة، حتى صاروا شاكرين إذ استطاعوا استخلاص معيشة بائسة من الجذور في الأرض، والملاح هو نبات الحميض الذي أكله يدل على الفقر الشديد، ومثله أصول الرتم (نوع من الشجر من فصيلة القرنيات). ومن شدة بؤسهم، كانوا ينامون على الأماكن الصخريه الجرداء، عندما يرفض الناس المحترمون بخشونة أن يعطوهم مكاناً يسندون إليه رؤوسهم. هؤلاء الأصاغر ازدروا أيوب وسبوه. فامتلأت نفسه مرارة، حتى فرّط بشفتيه على هذا النحو في وصفهم.

30: 9 «أَمَّا ٱلآنَ فَصِرْتُ أُغْنِيَتَهُمْ وَأَصْبَحْتُ لَهُمْ مَثَلاً! 10 يَكْرَهُونَنِي. يَبْتَعِدُونَ عَنِّي، وَأَمَامَ وَجْهِي لَمْ يُمْسِكُوا عَنِ ٱلْبَصْقِ. 11 لأَنَّهُ أَطْلَقَ ٱلْعَنَانَ وَقَهَرَنِي فَنَزَعُوا ٱلزِّمَامَ قُدَّامِي. 12 عَنِ ٱلْيَمِينِ ٱلسَّفَلَةُ يَقُومُونَ يُزِيحُونَ رِجْلِي، وَيُعِدُّونَ عَلَيَّ طُرُقَهُمْ لِلْبَوَارِ. 13 أَفْسَدُوا سُبُلِي. أَعَانُوا عَلَى سُقُوطِي. لاَ مُسَاعِدَ عَلَيْهِمْ. 14 يَأْتُونَ كَصَدْعٍ عَرِيضٍ. تَحْتَ ٱلْهَدَّةِ يَتَدَحْرَجُونَ. 15 اِنْقَلَبَتْ عَلَيَّ أَهْوَالٌ. طَرَدَتْ كَٱلرِّيحِ نِعْمَتِي، فَعَبَرَتْ كَٱلسَّحَابِ سَعَادَتِي.

لقد حاق الاحتقار بأيوب، فصارت نفسه هدفاً للصعاب والمرارة من قبل هؤلاء الناس، الذين صيّرته أحواله الحاضرة إلى أدنى الناس في نظرهم. لقد ابتعدوا عنه لسبب مرضه، وكثيرون منهم كانوا يبصقون، علامة للاحتقار كلما نظروا إليه. كل ذلك لأن الله ابتلى أيوب وقهره، فاستنتجوا أنه يحل لهم أن يعيّروه ويحقّروه. حتى الفروخ، أي الفتيان الرعاع، طاردوه من مكان إلى مكان. فسدّوا سبل حياته، إذ وضعوا أمامه تجارب ليسقط فيها. والإهانة المسببة عن هذه المعاملة الوحشية، كانت شديدة الوقع على نفسه المعذبة، حتى اضطرب ذهنه وقلقت أفكاره.

لقد طردت الأهوال نعمته، كما تطرد الريح السحاب، فتلاشت سعادته سريعاً. وليست أهوال تلك من هجوم الأردياء عليه فقط، بل أيضاً من هجوم الآلام والأحزان، ولا سيّما الشكوك من جهة جودة الله وعدله!

30: 16 «فَٱلآنَ ٱنْهَالَتْ نَفْسِي عَلَيَّ وَأَخَذَتْنِي أَيَّامُ ٱلْمَذَلَّةِ. 17 ٱللَّيْلَ يَنْخَرُ عِظَامِي فِيَّ، وَعَارِقِيَّ لاَ تَهْجَعُ. 18 بِكَثْرَةِ ٱلشِّدَّةِ تَنَكَّرَ لِبْسِي. مِثْلَ جَيْبِ قَمِيصِي حَزَمَتْنِي. 19 قَدْ طَرَحَنِي فِي ٱلْوَحْلِ فَأَشْبَهْتُ ٱلتُّرَابَ وَ ٱلرَّمَادَ. 20 إِلَيْكَ أَصْرُخُ فَمَا تَسْتَجِيبُ لِي. أَقُومُ فَمَا تَنْتَبِهُ إِلَيَّ. 21 تَحَوَّلْتَ إِلَى جَافٍ مِنْ نَحْوِي. بِقُدْرَةِ يَدِكَ تَضْطَهِدُنِي. 22 حَمَلْتَنِي، أَرْكَبْتَنِي ٱلرِّيحَ وَذَوَّبْتَنِي تَشَوُّهاً. 23 لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى ٱلْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ. 24 وَلٰكِنْ فِي ٱلْخَرَابِ أَلاَ يَمُدُّ يَداً؟ فِي ٱلْبَلِيَّةِ أَلاَ يَسْتَغِيثُ عَلَيْهَا؟

هنا يشير أيوب إلى البؤس الآتي من الداخل، إذ يصف الأوجاع المبرحة لمرضه الكريه، والتي هي في الليل أشدّ منها في النهار. وهذا المرض سبّب له انتفاخاً في جسمه بشكل غير طبيعي، حتى تغير لبسه. أي أن جبّته ضاقت حتى التصقت به كصدرية.

ثم يشير إلى بؤسه الآتي من الأعلى. فيقول بمرارة أنه يتعامل مع إله طرحه في الوحل والرماد. والآن هو بقسوة لا يبالي بصراخه من أجل العون، مع أنه لم يترك اتكاله عليه رغم معاملته إياه وكأنّه عدوّ.

وقد شعر أيوب بأنه يغوص في زوبعة، متصوراً أنَّ إلهاً متحجّر القلب قد ساقها نحوه لتذيبه. ولكنه في غمرة بؤسه وأوجاعه صرخ إلى الله، وهذا أمر طبيعي، فكل من في الخراب يمد يده ملتمساً النجاة. وكل من يقع في البلية. يستغيث عليها. إنها كانت يد الإيمان ممتدة، تطلب مخلّصاً لم يستطع بعد أن يثق فيه بثبات.

30: 25 «أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي عَلَى ٱلْمِسْكِينِ؟ 26 حِينَمَا تَرَجَّيْتُ ٱلْخَيْرَ جَاءَ ٱلشَّرُّ، وَ ٱنْتَظَرْتُ ٱلنُّورَ فَجَاءَ ٱلدُّجَى. 27 أَمْعَائِي تَغْلِي وَلاَ تَكُفُّ. تَقَدَّمَتْنِي أَيَّامُ ٱلْمَذَلَّةِ. 28 اِسْوَدَدْتُ لٰكِنْ بِلاَ شَمْسٍ. قُمْتُ فِي ٱلْجَمَاعَةِ أَصْرُخُ. 29 صِرْتُ أَخاً لِلذِّئَابِ وَصَاحِباً لِلنَّعَامِ. 30 إِسْوَدَّ جِلْدِي عَلَيَّ وَعِظَامِي ٱحْتَرَقَتْ مِنَ ٱلْحُمَّى فِيَّ. 31 صَارَ عُودِي لِلنَّوْحِ وَمِزْمَارِي لِصَوْتِ ٱلْبَاكِينَ.

لم يشعر أيوب بأنّه كان يتأخر عن شيء من واجباته. بل كان يترجى الخير للجميع. لأنه في أيام سعته كان يرثي للمساكين وللمصابين، كأنه مصاب معهم. وكان لسان حاله يقول: لو أنَّ الله، فقط عاملني بالكرم الذي عاملت به الآخرين، لكان مركزي مختلفاً جداً عمّا هو الآن. ثم يصف شعوره الذي يغلي من وطأة آلام المذلّة على نفسه.

اسوَدَّ من مرضه وليس من الشمس، ومن شدة أوجاعه، لم يقدر أن يضبط نفسه، بل صرخ حتى في الجماعة. وكان صوته كصوت الذئاب ورئال النعام (أولاد النعام). كل شيء يدعوه إلى الابتئاس، فجلده قد اسوَدَّ وصار خشناً. وكل شيء يدعوه إلى الاكتئاب، فعوده الذي كان يعزف عليه أناشيد الفرح، صار يعزف عليه أناشيد الحزن والرثاء.

الصلاة

يا ساكناً في الأعالي، إليك يأتي كل بشر. نحمدك يا رب السماء لأنك لا تعاملنا بحسب استحقاقاتنا، ولم تجازنا بحسب أعمالنا، بل بالرحمة عاملتنا، ولم تصعقنا لعصياننا. ولكنك تتأني علينا ولا تشاء أن يهلك أحد منّا، بل أن نأتي جميعاً إلى التوبة. توِّبنا فنتوب ونسترجع اعتبارنا عندك كمخلوقين على صورتك. آمين.

السؤال

29 - ما هو التحوّل الذي حدث بالنسبة لمركز أيوب في المجتمع؟

الأصحاح الحادي والثلاثون 1 «عَهْداً قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ! 2 وَمَا هِيَ قِسْمَةُ ٱللّٰهِ مِنْ فَوْقُ وَنَصِيبُ ٱلْقَدِيرِ مِنَ ٱلأَعَالِي؟ 3 أَلَيْسَ ٱلْبَوَارُ لِعَامِلِ ٱلشَّرِّ وَ ٱلنُّكْرُ لِفَاعِلِي ٱلإِثْمِ! 4 أَلَيْسَ هُوَ يَنْظُرُ طُرُقِي وَيُحْصِي جَمِيعَ خَطَوَاتِي. 5 إِنْ كُنْتُ قَدْ سَلَكْتُ مَعَ ٱلْكَذِبِ، أَوْ أَسْرَعَتْ رِجْلِي إِلَى ٱلْغِشِّ، 6 لِيَزِنِّي فِي مِيزَانِ ٱلْحَقِّ فَيَعْرِفَ ٱللّٰهُ كَمَالِي. 7 إِنْ حَادَتْ خَطَوَاتِي عَنِ ٱلطَّرِيقِ، وَذَهَبَ قَلْبِي وَرَاءَ عَيْنَيَّ، أَوْ لَصِقَ عَيْبٌ بِكَفِّي، 8 أَزْرَعْ وَغَيْرِي يَأْكُلْ، وَفُرُوعِي تُسْتَأْصَلْ. 9 «إِنْ غَوِيَ قَلْبِي عَلَى ٱمْرَأَةٍ، أَوْ كَمَنْتُ عَلَى بَابِ قَرِيبِي، 10 فَلْتَطْحَنِ ٱمْرَأَتِي لِآخَرَ، وَلْيَنْحَنِ عَلَيْهَا آخَرُونَ. 11 لأَنَّ هٰذِهِ رَذِيلَةٌ، وَهِيَ إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ. 12 لأَنَّهَا نَارٌ تَأْكُلُ حَتَّى إِلَى ٱلْهَلاَكِ وَتَسْتَأْصِلُ كُلَّ مَحْصُولِي.

هذا الأصحاح خاتمة كلام أيوب عن براءته. وهو بدون شك يحتوي على أسمى مُثُل لأخلاق العهد القديم. وبه تنجلي تلك الصورة الغامضة المرسومة عن أيوب في بداية السفر، حيث قيل إنَّه «كان كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر» والواقع أنّ هذا الأصحاح يبيّن إدراكاً فائقاً لسجية أيوب. فمبادؤه قليلة الطموح، ولكنها محكمة وقلبية. فهو يحاسب نفسه بمقياس يقارب روح الإنجيل، مقدماً أمثلة رائعة عن سلوكه:

  1. لم يلوّث بفساد الآداب (1-12).

  2. لم يلوّث بعدم المبالاة (13-22).

  3. لم يلوّث بالبخل والطمع (24-25).

  4. لم يلوّث بأي تلهف سري بالأصنام (26-27).

  5. لم يلوّث بمرارة لأعدائه (29-30).

  6. لم يلوّث بعدم الإخلاص (33-34).

كان سلوك أيوب الظاهر نقياً، ولكن ليس أنقى من سريرته. فمن جهة شهوة العيون تحصن بنزاهة وقناعة نادرتين، فهو لم يتطلع إلى امرأة ليشتهيها. والكلمة تدل على أن طهارة أيوب، نشأت من أصل المبدأ القائل: «خوف الرب هو الحكمة» وفي نزاهته تحرّر أيوب من الزهو والكذب والغش من أيّ نوع، حاسباً أنَّ كل هذه تفاهة مقنعة.

وفي آدابه النقية، أظهر أيوب أنَّ الزنى خطية فظيعة، تستحق العقاب من الله، وتستحق العقاب من الناس. لأنّ الزنى ليس فقط إساءة ضد قداسة الله، بل هو أيضاً إساءة ضد المجتمع. وكانت العقوبة التي شرعها، أدنى درجات الرق لامرأة الزاني، أي أن تصبح جارية تطحن. وأكد أنَّ الزنى نار، فيها تهديد بالخراب الشامل للصحّة والعائلة والسعادة. وبذلك انسجم مع كاتب سفر الأمثال حين قال: «أَيَأْخُذُ إِنْسَانٌ نَاراً فِي حِضْنِهِ وَلاَ تَحْتَرِقُ ثِيَابُهُ؟ أَوَ يَمْشِي إِنْسَانٌ عَلَى ٱلْجَمْرِ وَلاَ تَكْتَوِي رِجْلاَهُ؟ هٰكَذَا مَنْ يَدْخُلُ عَلَى ٱمْرَأَةِ صَاحِبِهِ. كُلُّ مَنْ يَمَسُّهَا لاَ يَكُونُ بَرِيئاً» (أمثال 6: 27-29) لينظر كل مؤمن ما أصاب داود عقاباً لزناه مع بَثْشَبَع امرأة أوريّا الحثّيّ (صموئيل الثاني 11)، فهذه الخطية إذا استمرّ الإنسان فيها، تُميت ضميره وتحرمه من جميع الأفراح الطبيعية البيتية وتبعده عن الله.

31: 13 «إِنْ كُنْتُ رَفَضْتُ حَقَّ عَبْدِي وَأَمَتِي فِي دَعْوَاهُمَا عَلَيَّ، 14 فَمَاذَا كُنْتُ أَصْنَعُ حِينَ يَقُومُ ٱللّٰهُ؟ وَإِذَا ٱفْتَقَدَ، فَبِمَاذَا أُجِيبُهُ؟ 15 أَوَلَيْسَ صَانِعِي فِي ٱلْبَطْنِ صَانِعَهُ، وَقَدْ صَوَّرَنَا وَاحِدٌ فِي ٱلرَّحِمِ؟ 16 إِنْ كُنْتُ مَنَعْتُ ٱلْمَسَاكِينَ عَنْ مُرَادِهِمْ، أَوْ أَفْنَيْتُ عَيْنَيِ ٱلأَرْمَلَةِ، 17 أَوْ أَكَلْتُ لُقْمَتِي وَحْدِي فَمَا أَكَلَ مِنْهَا ٱلْيَتِيمُ! 18 بَلْ مُنْذُ صِبَايَ كَبِرَ عِنْدِي كَأَبٍ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّي هَدَيْتُهَا. 19 إِنْ كُنْتُ رَأَيْتُ هَالِكاً لِعَدَمِ ٱللِّبْسِ أَوْ فَقِيراً بِلاَ كِسْوَةٍ، 20 إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي حَقَوَاهُ وَقَدِ ٱسْتَدْفَأَ بِجَزَّةِ غَنَمِي. 21 إِنْ كُنْتُ قَدْ هَزَزْتُ يَدِي عَلَى ٱلْيَتِيمِ لَمَّا رَأَيْتُ عَوْنِي فِي ٱلْبَابِ، 22 فَلْتَسْقُطْ عَضُدِي مِنْ كَتِفِي، وَلْتَنْكَسِرْ ذِرَاعِي مِنْ قَصَبَتِهَا، 23 لأَنَّ ٱلْبَوَارَ مِنَ ٱللّٰهِ رُعْبٌ عَلَيَّ، وَمِنْ جَلاَلِهِ لَمْ أَسْتَطِعْ.

لم يعتبر أيوب عبيده كأملاكه، بل اعتبرهم أناساً لهم حقوق كما لنفسه هو. فقد كان عبيده تصلهم حقوقهم دائماً بالعدل. لأنّه تذكر أنّه يوجد إله في السّماء، له يقدّم الحساب.

كان الاسترقاق مُباحاً في العهد القديم، ولكن قول أيوب وغيره من أقوال الكتاب المقدّس يدل على أنَّ الاسترقاق ليس بموجب قصد الله، لما خلق الإنسان وفداه بتجسّد المسيح. إذ نقرأ في غلاطية 3: 27-28 «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ... لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوع».

لم يكن ممكناً لأهل بيت أيوب أن يشتكوا من ظلمه. ولكن جوده وفضله لم يقتصر على أهل بيته، إنه خرج يطلب الفقراء والأرامل والأيتام.

وإلى جانب أريحيته كان ممتنعاً عن استغلال وظلم الضعيف، مع أنه كان في وسعه أن يستغل نفوذه في التأثير على الأحكام التي يصدرها القضاة. لكنه بالأحرى جعل نفسه عوناً لمن لا عون له، وسنداً لمن لا سند له. والمؤثر جداً في صفاته أن معدته المتخمة بالأطايب، لم تجعله غير مبال بمعد الجياع الفارغة، فلم يوجد أيّ لعازر مرتمٍ على أبوابه يلتقط الفتات المتساقط من طعام الكلاب (لوقا 16: 20 و21). وبالإجماع كان أيوب كريماً مضيافاً، دون أن ينتظر فرصته لرد الجميل.

31: 24 «إِنْ كُنْتُ قَدْ جَعَلْتُ ٱلذَّهَبَ عُمْدَتِي، أَوْ قُلْتُ لِلإِبْرِيزِ: أَنْتَ مُتَّكَلِي. 25 إِنْ كُنْتُ قَدْ فَرِحْتُ إِذْ كَثُرَتْ ثَرْوَتِي وَلأَنَّ يَدِي وَجَدَتْ كَثِيراً. 26 إِنْ كُنْتُ قَدْ نَظَرْتُ إِلَى ٱلنُّورِ حِينَ ضَاءَ، أَوْ إِلَى ٱلْقَمَرِ يَسِيرُ بِ ٱلْبَهَاءِ، 27 وَغَوِيَ قَلْبِي سِرّاً، وَلَثَمَ يَدِي فَمِي، 28 فَهٰذَا أَيْضاً إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ، لأَنِّي أَكُونُ قَدْ جَحَدْتُ ٱللّٰهَ مِنْ فَوْقُ. 29 «إِنْ كُنْتُ قَدْ فَرِحْتُ بِبَلِيَّةِ مُبْغِضِي أَوْ شَمِتُّ حِينَ أَصَابَهُ سُوءٌ. 30 بَلْ لَمْ أَدَعْ حَنَكِي يُخْطِئُ فِي طَلَبِ نَفْسِهِ بِلَعْنَةٍ. 31 إِنْ كَانَ أَهْلُ خَيْمَتِي لَمْ يَقُولُوا: مَنْ يَأْتِي بِأَحَدٍ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ طَعَامِهِ؟ 32 غَرِيبٌ لَمْ يَبِتْ فِي ٱلْخَارِجِ. فَتَحْتُ لِلْمُسَافِرِ أَبْوَابِي. 33 إِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَمْتُ كَٱلنَّاسِ ذَنْبِي لِإِخْفَاءِ إِثْمِي فِي حِضْنِي. 34 إِذْ رَهِبْتُ جُمْهُوراً غَفِيراً، وَرَوَّعَتْنِي إِهَانَةُ ٱلْعَشَائِرِ، فَكَفَفْتُ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنَ ٱلْبَابِ!

لم يكن أيوب شحيحاً، ولا محبا للمال، فقد صنع لنفسه أصدقاء بمال الظلم (لوقا 16: 9) وكان موقفه إزاء الثروة عادلاً، بحيث لم يغفل قط التحذير القائل بفم الرب: «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَ ٱلْمَالَ » (متّى 6: 24) كما أنّه لم يلثم يده تعبّداً للأجرام السّماوية، كما كان شائعاً لدى المشارقة في زمنه. وبهذا انسجم مع الوصية القائلة: «إِذَا وُجِدَ فِي وَسَطِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ رَجُلٌ أَوِ ٱمْرَأَةٌ يَفْعَلُ شَرّاً فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ بِتَجَاوُزِ عَهْدِهِ، وَيَذْهَبُ وَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَسْجُدُ لَهَا، أَوْ لِلشَّمْسِ أَوْ لِلْقَمَرِ أَوْ لِكُلٍّ مِنْ جُنْدِ ٱلسَّمَاءِ - ٱلشَّيْءَ ٱلَّذِي لَمْ أُوصِ بِهِ... فَأَخْرِجْ ذٰلِكَ ٱلرَّجُلَ أَوْ تِلْكَ ٱلْمَرْأَةَ ٱلَّذِي فَعَلَ ذٰلِكَ ٱلأَمْرَ ٱلشِّرِّيرَ إِلَى أَبْوَابِكَ... وَ ٱرْجُمْهُ بِٱلْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ» (تثنية 17: 2-5).

وكان أيوب يتمتّع بروح عالية من ناحية تعامله مع أعدائه، فهو لم يفرح ببلية مبغض ولم يشمت بسوء ألمَّ به. كما أنّه كانت له الشجاعة للاعتراف بأخطائه، وليس كالذين يكتمون خطاياهم خوفاً من التعيير والاستهزاء.

31: 35 مَنْ لِي بِمَنْ يَسْمَعُنِي؟ هُوَذَا إِمْضَائِي. لِيُجِبْنِي ٱلْقَدِيرُ. وَمَنْ لِي بِشَكْوَى كَتَبَهَا خَصْمِي، 36 فَكُنْتُ أَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِي. كُنْتُ أُعْصِبُهَا تَاجاً لِي. 37 كُنْتُ أُخْبِرُهُ بِعَدَدِ خَطَوَاتِي وَأَدْنُو مِنْهُ كَشَرِيفٍ. 38 إِنْ كَانَتْ أَرْضِي قَدْ صَرَخَتْ عَلَيَّ وَتَبَاكَتْ أَتْلاَمُهَا جَمِيعاً. 39 إِنْ كُنْتُ قَدْ أَكَلْتُ غَلَّتَهَا بِلاَ فِضَّةٍ، أَوْ أَطْفَأْتُ أَنْفُسَ أَصْحَابِهَا، 40 فَعِوَضَ ٱلْحِنْطَةِ لِيَنْبُتْ شَوْكٌ وَبَدَلَ ٱلشَّعِيرِ زَوَانٌ». تَمَّتْ أَقْوَالُ أَيُّوبَ.

إنَّ تذكر أيوب لحياته السابقة في النزاهة تجعله ينفجر بصرخة تكاد تكون طائشة، فيقول: لست مذنباً! وبذلك يتحدّى السماء التي قالت: « ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 23).

والواقع أنَّ أيوب في هذا الأصحاح، ادّعى أنه لا صوت إنسان ولا صوت الله نفسه يمكن أن يربكه. فهو في عينيْ نفسه بريء من كل التُّهم التي اجتهد أصحابه أن يلصقوها به.

الصلاة

أيها الرب سيدنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السّموات. نشكرك يا إلهنا من أجل النعمة والحق اللذين صارا إلينا بيسوع المسيح. الذي بالنّعمة خلّصنا، وبالحق حرّرنا. وتبنّانا لله قديسين في المحبة. ثبّتنا في وضعنا الجديد إلى يومك. آمين.

السؤال

30 - كيف كانت معاملة أيوب لعبيده؟

الأصحاح الثاني والثلاثون 1 فَكَفَّ هٰؤُلاَءِ ٱلرِّجَالُ ٱلثَّلاَثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوبَ لِكَوْنِهِ بَارّاً فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ. 2 فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيهُوَ بْنِ بَرَخْئِيلَ ٱلْبُوزِيِّ مِنْ عَشِيرَةِ رَامٍ. عَلَى أَيُّوبَ حَمِيَ غَضَبُهُ لِأنَّهُ حَسَبَ نَفْسَهُ أَبَرَّ مِنَ ٱللّٰهِ. 3 وَعَلَى أَصْحَابِهِ ٱلثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ لأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا جَوَاباً وَ ٱسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ. 4 وَكَانَ أَلِيهُو قَدْ صَبِرَ عَلَى أَيُّوبَ بِٱلْكَلاَمِ لأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَيَّاماً. 5 فَلَمَّا رَأَى أَلِيهُو أَنَّهُ لاَ جَوَابَ فِي أَفْوَاهِ ٱلرِّجَالِ ٱلثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ.

ذهب بعض العلماء المحدثين إلى القول بأن قسم أليهو لم يكن جزءاً أصلياً من سفر أيوب. وإنما هو قسم أدرجه فيه كاتب آخر، وغايته إصلاح الغلط وتكملة الكلام. والسند لهذا الرأى، هو كون اسم أليهو لم يذكر في مقدمة السفر مع الأصحاب الثلاثة. ولكن أكثرية العلماء تؤكد أن خطابات أليهو هي أصلية غير دخيلة. وفي مقدمة العلماء المؤكدين: سلن، وبود، وكورنل، وكمبهاوزن، وبادر وبيترز.

من خصائص خطابات أليهو وجود عميق من احترام الله فيها، ووجهة نظر عن الخطية أعمق من التي ظهرت في خطابات الأصحاب الثلاثة الآخرين. ومن أبرز ما جاء في كلامه أنه أظهر الله كمعلّم البر الأوحد، الذي غايتة أن يقتاد الإنسان إلى حياة روحية كاملة، عن طريق تهذيبه بالآلام.

ولا ريب أنَّ المتأمل في أقوال أليهو يتبيّن أنَّ أهم وظيفة لخطاباته، هي كشف مميزات أيوب الأكثر خطراً، الكبرياء الروحية، التي هي مرض الكثيرين من الأتقياء. قال رجل الله أغسطينوس: الكبرياء خطية فظيعة، يرتكبها الإنسان دون الانتباه إليها. إنها سرطان أكول يلتهم ما في قلبنا من التفكير الصادق، والشعور الحيّ نحو الأخ الضعيف.

32: 6 فَقَالَ أَلِيهُو بْنُ بَرَخْئِيلَ ٱلْبُوزِيُّ: «أَنَا صَغِيرٌ فِي ٱلأَيَّامِ وَأَنْتُمْ شُيُوخٌ، لأَجْلِ ذٰلِكَ خِفْتُ وَخَشِيتُ أَنْ أُبْدِيَ لَكُمْ رَأْيِيِ. 7 قُلْتُ: ٱلأَيَّامُ تَتَكَلَّمُ وَكَثْرَةُ ٱلسِّنِينَ تُظْهِرُ حِكْمَةً. 8 وَلٰكِنَّ فِي ٱلنَّاسِ رُوحاً وَنَسَمَةُ ٱلْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ. 9 لَيْسَ ٱلْكَثِيرُو ٱلأَيَّامِ حُكَمَاءَ وَلاَ ٱلشُّيُوخُ يَفْهَمُونَ ٱلْحَقَّ. 10 لِذٰلِكَ قُلْتُ ٱسْمَعُونِي. أَنَا أَيْضاً أُبْدِي رَأْيِيِ. 11 هَئَنَذَا قَدْ صَبِرْتُ لِكَلاَمِكُمْ. أَصْغَيْتُ إِلَى حُجَجِكُمْ حَتَّى فَحَصْتُمُ ٱلأَقْوَالَ. 12 فَتَأَمَّلْتُ فِيكُمْ وَإِذْ لَيْسَ مَنْ حَجَّ أَيُّوبَ، وَلاَ جَوَابَ مِنْكُمْ لِكَلاَمِهِ. 13 فَلاَ تَقُولُوا: قَدْ وَجَدْنَا حِكْمَةً. اَللّٰهُ يَغْلِبُهُ لاَ ٱلإِنْسَانُ. 14 فَإِنَّهُ لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيَّ كَلاَمَهُ وَلاَ أَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَا بِكَلاَمِكُمْ. 15 تَحَيَّرُوا. لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ. ٱنْتَزَعَ عَنْهُمُ ٱلْكَلاَمُ.

إلى هنا كان أليهو ملتزماً بالصمت. وقد أشار إلى سبب صمته، وهو الاحترام الذي يكنّه شاب مثله نحو شيوخ متسربلين بالوقار. غير أنه حين لاحظ تجاوز الأصحاب حدود الحوار البنّاء، ورأى فشلهم في إزالة شكوك أيوب، أو الرد على حججه بموضوعية، اضطرّته الغيرة للحق للدخول في النقاش. ويبدو أنّه في أثناء صمته، اضطرم في صدره عاملان: عامل الغضب ضد أيوب بسبب كلامه، الذي به تجرّأ أن يعوّج القضاء. وعامل الاستياء من الأصحاب بسبب فشلهم في تفنيد آراء أيوب.

صحيح أنَّ أقوال الأصحاب الثلاثة الآخرين احتوت على أفكار علاجية، ولكن ليست بنفس القيمة التي ظهرت في كلمات أليهو. وخصوصاً لأنّ خطاباتهم المسهبة لم تستطع إقناع أيوب بأنّه أخطأ في الموقف الذي اتخذه. ولأنهم لم يستمروا بالنقاش، واعتبروه بلا فائدة أمام إصرار أيوب على اقتناعه ببرّه الذاتي. ولهذا حين وجّه الكلام إليهم، قال: أَصْغَيْتُ إِلَى حُجَجِكُمْ... ولكن ليس فيكم من حجَّ أيوب... فلا تقولوا قد وجدنا عنده حكمة لم يستطع أحدنا أن يقاومها.

لم يكن لهم أن يعتذروا بهذا القول، لأنَّ عدم نجاحهم في المحاورة، ليس من قوّة حجج أيوب، بل من ضعف حججهم. قال أليهو إنَّه يقدر أن يجاوب أيوب ولكن لا يجاوبه بمنطق الأصحاب الثلاثة الفاشلين، بل ببراهين أقوى.

32: 16 فَٱنْتَظَرْتُ لأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا. لأَنَّهُمْ وَقَفُوا، لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ. 17 فَأُجِيبُ أَنَا أَيْضاً حِصَّتِي، وَأُبْدِي أَنَا أَيْضاً رَأْيِيِ. 18 لأَنِّي مَلآنٌ أَقْوَالاً. رُوحُ بَاطِنِي تُضَايِقُنِي. 19 هُوَذَا بَطْنِي كَخَمْرٍ لَمْ تُفْتَحْ. كَٱلزِّقَاقِ ٱلْجَدِيدَةِ يَكَادُ يَنْشَقُّ. 20 أَتَكَلَّمُ فَأُفْرَجُ. أَفْتَحُ شَفَتَيَّ وَأُجِيبُ. 21 لاَ أُحَابِيَنَّ وَجْهَ رَجُلٍ وَلاَ أَتَمَلَّقُ إِنْسَاناً. 22 لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلتَّمَلُّقُ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَأْخُذُنِي صَانِعِي.

هنا غيَّر أليهو كلامه من صيغة المخاطَبين إلى صيغة الغائبين. ولعله كان يوجّه كلامه إلى جميع السامعين من أهل القرية، وفي هذا شيء من عدم تقدير الأصحاب الثلاثة. ثم خاطب نفسه، كأنّه يتأمل بأيّ كلام يعبّر عن أفكاره. كان في قبضة الاضطرار للكلام، لأنّه كاد ينفجر بسبب غيرته وشعوره بأنّه يدافع عن حق الله. والكلام وحده هو الذي كان يقدر أن يخفف التوتر في داخله. وبكلمة أخرى كانت عليه ضرورة الكلام، كما كانت على بولس ضرورة البشارة (كورنثوس الأولى 9: 16) وتدل لهجة أليهو أنه كان يقول الحق، ولا يحابي الذين هم أكبر منه سناً، ولا يملث، (يُطيّب نفسه بوعدٍ لا ينوي وفاءه) لأنّه شعر بأنه واقف أمام الله، وليس أمام الناس فقط. وذكر أنه عن قريب سيقف أمام عرش الله ليعطي حساباً عن كل ما عمل، وكل ما تركه من الواجبات. فكان في ذلك مثالاً لكل واعظ.

الأصحاح الثالث والثلاثون 1 «وَلٰكِنِ ٱسْمَعِ ٱلآنَ يَا أَيُّوبُ أَقْوَالِي، وَ ٱصْغَ إِلَى كُلِّ كَلاَمِي. 2 هَئَنَذَا قَدْ فَتَحْتُ فَمِي. لِسَانِي نَطَقَ فِي حَنَكِي. 3 اِسْتِقَامَةُ قَلْبِي كَلاَمِي وَمَعْرِفَةُ شَفَتَيَّ هُمَا تَنْطِقَانِ بِهَا خَالِصَةً. 4 رُوحُ ٱللّٰهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ ٱلْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي. 5 إِنِ ٱسْتَطَعْتَ فَأَجِبْنِي. أَحْسِنِ ٱلدَّعْوَى أَمَامِي. اِنْتَصِبْ. 6 هَئَنَذَا حَسَبَ قَوْلِكَ عِوَضاً عَنِ ٱللّٰهِ. أَنَا أَيْضاً مِنَ ٱلطِّينِ جُبِلْتُ. 7 هُوَذَا هَيْبَتِي لاَ تُرْهِبُكَ وَجَلاَلِي لاَ يَثْقُلُ عَلَيْكَ.

يستهل أليهو هذا القسم من خطابه بالتأكيد لأيوب أنّه أولاً مخلص للغاية، ويتكلّم من القلب مباشرة. وثانياً أنّه على نفس مستوى أيوب بالضبط في اعتماد المخلوق على الخالق. وأنّه يتكلّم معه بالاقتناع المُعطى له بروح الله.

كان أيوب قد طلب أن يسمع الكلام المستقيم (6: 25) وأن يتصالح مع الله (9: 33). فكلّمه أليهو باستقامة قلب، قائلاً هأنذا إنسان مثلك جبلت من الطين، بحيث لا يرهبك منظري. وعلى ضوء الحكمة التي وضعها الله في قلبي، يمكنني أن أفحص دعواك للمصالحة مع الله. لأنّ موقفي إزاء الله كموقفك. لهذا أستطيع أن أملك وجهة نظرك، لأنّ نسمة القدير عقّلتني، بحيث أستطيع وزن الأمور بميزان الله.

33: 8 «إِنَّكَ قد قُلْتَ في مَسَامِعِي، وَصَوْتَ أَقْوَالِكَ سَمِعْتُ. 9 قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ. زَكِيٌّ أَنَا وَلاَ إِثْمَ لِي. 10 هُوَذَا يَطْلُبُ عَلَيَّ عِلَلَ عَدَاوَةٍ. يَحْسِبُنِي عَدُوّاً لَهُ. 11 وَضَعَ رِجْلَيَّ فِي ٱلْمِقْطَرَةِ. يُرَاقِبُ كُلَّ طُرُقِي. 12 «هَا إِنَّكَ فِي هٰذَا لَمْ تُصِبْ. أَنَا أُجِيبُكَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ.

هلا علمت أنَّ الإنسان لا برّ له، وأنّه ليس من كامل سوى الله. وأنت لم تصب في حسبان الله عدواً لك. لأنّ الله أعظم من الإنسان، ولا يليق أن نشكوه. عند الله أكثر من سبب لحجب وجهه عنّا. ولكن شكراً للفادي يسوع، الذي حين أكمل الفداء على الصليب مزّق الحجاب، وأعطى كل من يؤمن به امتياز الدخول إلى أقداس الله ليعبده بالروح والحق.

لا يا أيوب، إنَّ الله لا يمكن أن يتّخذ دور منازع يشترك في عراك بشري زهيد. ولكن بينما لا يتكلم الله كمنازع، فإنّه يتكلم كالإله الجدير بالقدرة، عن طريق خدمات الرحمة. ومع ذلك، فأيوب في حيرته، فاته أن يتذكر هذه الحقيقة.

الصلاة

قدوس. قدوس، قدوس، رب الجنود، مجده ملء كل الأرض. قلوبنا ترتفع إليك بالشكر والحمد والتسبيح، لأننا إذ كنّا في حالة العداوة بسبب خطايانا، صالحتنا معك بالفداء بيسوع المسيح، الذي رفع خطايانا، وقربنا إليك لكي نعبدك بالروح والحق. آمين.

السؤال

31 - ما هي أهم وظيفة لخطابات أليهو؟

32 - بمَ استهلّ أليهو خطابه لأيوب؟

33: 13 لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا. 14 لٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِ ٱثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ ٱلإِنْسَانُ. 15 فِي حُلْمٍ فِي رُؤْيَا ٱللَّيْلِ، عِنْدَ سُقُوطِ سُبَاتٍ عَلَى ٱلنَّاسِ، فِي ٱلنُّعَاسِ عَلَى ٱلْمَضْجَعِ. 16 حِينَئِذٍ يَكْشِفُ آذَانَ ٱلنَّاسِ وَيَخْتِمُ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ، 17 لِيُحَوِّلَ ٱلإِنْسَانَ عَنْ عَمَلِهِ وَيَكْتُمَ ٱلْكِبْرِيَاءَ عَنِ ٱلرَّجُلِ 18 لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْحُفْرَةِ وَحَيَاتَهُ مِنَ ٱلزَّوَالِ بِحَرْبَةِ ٱلْمَوْتِ. 19 أَيْضاً يُؤَدَّبُ بِ ٱلْوَجَعِ عَلَى مَضْجَعِهِ، وَمُخَاصَمَةُ عِظَامِهِ دَائِمَةٌ، 20 فَتَكْرَهُ حَيَاتُهُ خُبْزاً وَنَفْسُهُ ٱلطَّعَامَ ٱلشَّهِيَّ. 21 فَيَبْلَى لَحْمُهُ عَنِ ٱلْعَيَانِ وَتَنْبَرِي عِظَامُهُ فَلاَ تُرَى، 22 وَتَقْرُبُ نَفْسُهُ إِلَى ٱلْقَبْرِ وَحَيَاتُهُ إِلَى ٱلْمُمِيتِينَ. 23 إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ ٱسْتِقَامَتَهُ.

إنَّ حجة أيوب كانت أنَّ الله عامله بالاستبداد. وأليهو يثبت أنَّ الأمر لم يكن هكذا، لأنّ الله أعظم من الإنسان، ولا يسلك في طريق الاستبداد وأنّه لمن الجهالة أن يخاصمه الإنسان، أو أن يشتكي، لأنه لا يجيب. لأنَّ الله يتكلم بطرق مختلفة، بأحلام برؤى الليل، التي بها يترك ختم تعليماته على العقول البشرية، ويسترد الناس عن المقاصد الشريرة. وهو في جلاله وعظمته، لا يتحتم عليه أن يقدّم حساباً عن تصرّفاته في سياسة البشر. وخصوصاً لأنّ الإنسان ضعيف محدود الفكر، فلا يستطيع أن يلم بكل مقاصد الله. وهو يتكلّم للإنسان بالألم، حتى إذا قبل التأديب، يتدرّب فيه إلى أن تنطبع عليه صورة خالقه. وحينئذ تظهر في حياته ثمار الروح، كالمحبة والفرح والسلام وطول الأناة والوداعة.

قال أحد الأتقياء: لو أخذنا قطعة حديد ثمنها خمسة دولارات وصنعنا منها نعالاً للفرس لارتفعت قيمتها إلى عشرة دولارات. أمّا إذا صنعنا منها إبراً للخياطة، فيصبح ثمنها 355 دولاراً. وإذا صنعنا منها شفرات حلاقة تبلغ قيمتها 3280 دولاراً. وإذا صنعنا منها رقاصات للساعات، فإن ثمنها يصل إلى 25000 دولاراً. ولو كانت هذه تستطيع الكلام، وسألناها ما الذي جعل قيمتها ترتفع على هذه الصورة، لأجابت: إنه احتمال الآلام في الأفران المتقدة وضربات المطارق والصقل. هكذا أنت يا أخي إذا احتملت أفران التجارب ومطارق الآلام تزداد قداسة. تأكد من صلاح الله، حين يبلوك ويعجم (ويمتحن) عودك. لأنه له المجد يريد أن يمنعك من ارتكاب المعاصي، ويحفظك من عقابها، الذي هو الهلاك. قد يحرمك الوجع من مرحك وشهيتك وصحتك، وقد يأتي بك إلى براثن الموت. ولكن في هذه كلها فرصة لعناية الله، لكي تفعل في تهذيبك وردّك إلى سبل البر.

33: 24 يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ ٱلْهُبُوطِ إِلَى ٱلْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً. 25 يَصِيرُ لَحْمُهُ أَنْضَرَ مِنْ لَحْمِ ٱلصَّبِيِّ وَيَعُودُ إِلَى أَيَّامِ شَبَابِهِ. 26 يُصَلِّي إِلَى ٱللّٰهِ فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ فَيَرُدُّ عَلَى ٱلإِنْسَانِ بِرَّهُ. 27 يُغَنِّي بَيْنَ ٱلنَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ وَعَوَّجْتُ ٱلْمُسْتَقِيمَ وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. 28 فَدَى نَفْسِي مِنَ ٱلْعُبُورِ إِلَى ٱلْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ ٱلنُّورَ.

في هذه الآيات خلاصة الكلام السابق عن تكلم الله بالحلم والتأديب أو بمرسل، وبالنتيجة ينتبه الإنسان ويتوب. فيترأف الله عليه، ويرد له صحة النفس مع الفرح الذي هو ثمرة المؤمن الملازمة. وفرح النفس ينتج شهادة وفرحة للآخرين عن معاملات الله مع النفس.

صحيح أنَّ الإنسان ولو تاب، لن يرجع إلى شبابه كما يفهم ظاهرياً من العدد 25. ولكنّه على أيّ حال ينال الصفح عن آثامه، و «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ» (مزمور 32: 1). لأنّه يبتهج بالغفران، ويُسرّ برضى الله ويُعاين وجهه. قال يوحنا فم الذهب: «إنّ الذين يعاينون وجه الله وهو راضٍ عنهم يذوقون أفراح السماء وهم على الأرض». هذه الغبطة المجيدة تذوّقها إشعياء النبي فكتب تسبيحته الرائعة: «فَرَحاً أَفْرَحُ بِٱلرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ ٱلْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ ٱلْبِرِّ» (إشعياء 61: 10).

وتغنّى داود بفضل الله ذي الرأفة، فقال: « ٱلرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. لاَ يُحَاكِمُ إِلَى ٱلأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا. لأَنَّهُ مِثْلُ ٱرْتِفَاعِ ٱلسَّمَاوَاتِ فَوْقَ ٱلأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. كَبُعْدِ ٱلْمَشْرِقِ مِنَ ٱلْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَّفُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ ٱلرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ» (مزمور 103: 8-13).

وجاء في سفر حزقيال: «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11).

فهذه الشهادات تظهر لنا خطأ شكوى أيوب، حين قال إنّ الله يقتحمه، مع أنه لا ظلم في يده. وإنّ الله، إن كان لا يعامل الإنسان حسب خطاياه، وإن كان لا يسر بموت الشرير، بل بالحري بتوبته ليحيا، فإنه لمن التجنّي على جلاله أن ينسب إليه أحد الظلم!

33: 29 «هُوَذَا كُلُّ هٰذِهِ يَفْعَلُهَا ٱللّٰهُ مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثاً بِٱلإِنْسَانِ، 30 لِيَرُدَّ نَفْسَهُ مِنَ ٱلْحُفْرَةِ، لِيَسْتَنِيرَ بِنُورِ ٱلأَحْيَاءِ. 31 فَٱصْغَ يَا أَيُّوبُ وَ ٱسْتَمِعْ لِي. اُنْصُتْ فَأَنَا أَتَكَلَّمُ. 32 إِنْ كَانَ عِنْدَكَ كَلاَمٌ فَأَجِبْنِي. تَكَلَّمْ. فَإِنِّي أُرِيدُ تَبْرِيرَكَ. 33 وَإِلَّا فَٱسْتَمِعْ أَنْتَ لِي. اُنْصُتْ فَأُعَلِّمَكَ ٱلْحِكْمَةَ».

يتكلم الله للإنسان مرات كثيرة وبطرق مختلفة، منها التأديب الذي غاية الله منه أن يخلّص الإنسان. ويريه ما هو حق، وينقذه من الهبوط إلى الحفرة، ولكي ينيره بنور الأحياء. وأخيراً يسأل أليهو أيوب إن كان لديه ما يجيب به على حججه، إذا شاء ذلك، وإلا فليسكت ويتعلم حكمة مما سمع.

الصلاة

نشكرك يا إلهنا، لأنك لا تخاصم احداً، ولا تحقد على أحد. وحين أخطأنا وسقطنا تولّتنا محبّتك المدبّرة بالفداء والغفران، وأعدّت كل الوسائل لكل ساقط أن ينهض، ولكلّ ضال أن يوجد، ويعود إليك ابناً مكرماً. آمين.

السؤال

33 - ما هو وجه الخلاف بين أيوب وأليهو؟

الأصحاح الخامس والثلاثون 1 وَقَالَ أَلِيهُو: 2 «أَتَحْسِبُ هٰذَا حَقّاً؟ قُلْتَ: أَنَا أَبَرُّ مِنَ ٱللّٰهِ. 3 لأَنَّكَ قُلْتَ: مَاذَا يُفِيدُكَ؟ بِمَاذَا أَنْتَفِعُ أَكْثَرَ مِنْ خَطِيَّتِي؟ 4 أَنَا أَرُدُّ عَلَيْكَ كَلاَماً وَعَلَى أَصْحَابِكَ مَعَكَ. 5 اُنْظُرْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَأَبْصِرْ وَلاَحِظِ ٱلْغَمَامَ. إِنَّهَا أَعْلَى مِنْكَ. 6 إِنْ أَخْطَأْتَ فَمَاذَا فَعَلْتَ بِهِ؟ وَإِنْ كَثَّرْتَ مَعَاصِيَكَ فَمَاذَا عَمِلْتَ لَهُ؟ 7 إِنْ كُنْتَ بَارّاً فَمَاذَا أَعْطَيْتَهُ، أَوْ مَاذَا يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِكَ؟ 8 لِرَجُلٍ مِثْلِكَ شَرُّكَ، وَلابْنِ آدَمٍ بِرُّكَ.

كانت مناقشة أيوب أنّ البر لا ينفع الإنسان أكثر من الخطية. والنفع الذي أشار إليه أيوب هو النفع في الجسديات وخصوصاً الصحة والراحة. ولم ينظر إلى الأفراح الروحية كما نظر إليها داود بنُ يسّى حين قال: «وَلٰكِنِّي دَائِماً مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي ٱلْيُمْنَى. بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي ٱلأَرْضِ. قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي ٱللّٰهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مزمور 73: 23-26).

إنَّ الذي أثار أيوب، هو أنّه حين نظر إلى الخيرات الجسدية، ورأى أنها تُعطى أحياناً للأشرار وليس للأبرار، حكم أنَّ الله ليس عادلاً. وقال من هو القدير حتى نعبده. وماذا ننتفع إن التمسناه؟ (21: 25) هذا تذمّر صارخ. ومن يتذمّر على الله، يجعل نفسه أبرّ من الله. ولهذا فنّد أليهو شكوى أيوب قائلاً له: أتحسب هذا من حقك، أن تزعم أنك أبرّ من الله، وتدعو هذا دعواك العادلة؟

كل من نظر إلى السموات وتأمل، يتذكر قول المرنّم الحلو: «فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَ ٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مزمور 8: 4) فإنَّ الله كامل في ذاته ولا يحتاج إلى خدمة الناس. وبديهي أنَّ هذا الإله الذي وُصف بأنَّه صالح وإلى الأبد رحمته، لا يمكن أن يظلم خلائقه. ولا يطمع في أيّ شيء منهم، لأنّ له كل شيء. وقد اعترف أليفاز بهذه الحقيقة حين قال: هل ينفع الإنسان الله؟ بل ينفع نفسه الفطن. هل من مسرّة للقدير إذا تبررت، أو من فائدة إذا قوّمت طرقك (22: 2). أمّا أليهو فقد أكد في جوابه لأيوب أنّ الفضيلة البشرية أو الرذيلة، لا تقدر أن تجلب أي منفعة إلى الله المتسامي.

35: 9 مِنْ كَثْرَةِ ٱلْمَظَالِمِ يَصْرُخُونَ. يَسْتَغِيثُونَ مِنْ ذِرَاعِ ٱلأَعِزَّاءِ. 10 وَلَمْ يَقُولُوا: أَيْنَ ٱللّٰهُ صَانِعِي، مُؤْتِي ٱلأَغَانِيِّ فِي ٱللَّيْلِ؟ 11 ٱلَّذِي يُعَلِّمُنَا أَكْثَرَ مِنْ وُحُوشِ ٱلأَرْضِ، وَيَجْعَلُنَا أَحْكَمَ مِنْ طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ. 12 ثَمَّ يَصْرُخُونَ مِنْ كِبْرِيَاءِ ٱلأَشْرَارِ وَلاَ يَسْتَجِيبُ. 13 وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ لاَ يَسْمَعُ كَذِباً وَ ٱلْقَدِيرُ لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ. 14 فَإِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَسْتَ تَرَاهُ، فَٱلدَّعْوَى قُدَّامَهُ، فَٱصْبِرْ لَهُ. 15 وَأَمَّا ٱلآنَ فَلأَنَّ غَضَبَهُ لاَ يُطَالِبُ، وَلاَ يُبَالِي بِكَثْرَةِ ٱلّزَلَّاتِ، 16 فَغَرَ أَيُّوبُ فَاهُ بِٱلْبَاطِلِ، وَكَبَّرَ ٱلْكَلاَمَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ».

لقد أشار أيوب إلى حوادث نجاح الأشرار وآلام الأبرار. وأليهو سلّم بهذا. ولكنّه يقول إنَّه عندما يتألم الأبرار، ويصرخون إلى الله ولا ينالون سؤلهم، فذلك لأنهم لا يقدّمون الطلبة الصحيحة. فقط هم يصرخون كصراخ وحوش الأرض، ولمجرد كونهم يتألمون، لا من شعور الثقة والإيمان بحكم الله البار. ولعلهم لا ينالون جواباً، لأنهم مستكبرون، والله يقاوم المستكبرين. ولا يستجيب للمرتابين، فكم بالحري إذا بلغوا في ارتيابهم المرحلة التي بلغها أيوب، الذي يقول إنَّه لا يستطيع أن يرى الله (33: 8) وإنَّ الله لا يسمعه (33: 3).

الله لا يسمع كذباً، قال أليهو. أي أنه لا يستجيب صلاة الصارخين التي تخرج من قلب غير طاهر. فإن كنت لا تراه يا أيوب، فالدعوى قدامه فاصبر له. ومعنى ذلك أنه وإن كان الله يظهر أنه غير مكترث لصراخ المتضايقين، فهو لا يجهل الشر والدعوى تأتي أمامه، وإن حكمه على الشر محتوم. لذلك يجب أن نصبر له، حتى يظهر نفسه بمداخلته العادلة. هذه الحقيقة اختبرها داود وكتبها للأجيال وصية خالدة: « ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَ ٱصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ ٱلَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُجْرِي مَكَايِدَ» (مزمور 37: 7).

وخلاصة كلام أليهو أنَّ الله لا يظلم الناس، لأن الله ليس كملوك العالم الذين يظلمون رعاياهم، لكي يربحوا منهم. وإنه يهتم بخلائقه المظلومين، ويستجيب صلاتهم. غير أنَّه يطلب منهم الإيمان، والصلاة بنيّة مخلصة، والصبر في انتظار الجواب.

الصلاة

أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ.

السؤال

34 - ماذا في مناقشة أيوب؟

الأصحاح الثامن والثلاثون 1 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لأَيُّوبَ مِنَ ٱلْعَاصِفَةِ: 2 «مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يُظْلِمُ ٱلْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ 3 اُشْدُدِ ٱلآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. 4 أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ ٱلأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. 5 مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَاراً؟ 6 عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا، أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، 7 عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعاً، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللّٰهِ؟ 8 «وَمَنْ حَجَزَ ٱلْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ ٱنْدَفَقَ فَخَرَجَ مِنَ ٱلرَّحِمِ. 9 إِذْ جَعَلْتُ ٱلسَّحَابَ لِبَاسَهُ وَ ٱلضَّبَابَ قِمَاطَهُ 10 وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ، 11 وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟

بعد المناقشات الحادة بين أيوب وأصحابه، والتي لم تؤدِّ إلى نتيجة حاسمة، سطّر كاتب السفر بإلهام الروح القدس رد الله على أيوب. وقبل أن نتأمل في هذا الرد الإلهي، يجب أن نشير إلى أنَّ أيوب وأصحابه، لم يعرفوا الله بواسطة إعلانات الكتاب المقدس، بل عرفوه كما أعلن في الطبيعة. ولهذا نطقوا بتلك الأقوال البليغة، عن أعمال الله في تكوين العوالم، وحكمته الفائقة ومحبته، التي ظهرت في عنايته بالمخلوقات كالأرض والبحر والنور والمطر والأجرام الفلكية والكائنات الحية.

وقد اعترفوا بأنّه وإن كان الإنسان أعظم خلائق الله، فهو لا يقدر أن يدرك كل أعمال الله في الخليقة وفي سياسته للبشر. فعلى أيوب إذن أن يؤمن بأنّ الله، إنّما يعمل كل شيء حسناً، وبالحكمة والمحبة والعدل. وأن يتكل على الله، ويسلك معه بتواضع وتسليم كامل. وأن يوقن أنّ معاملات الله معه، لا تسير بطريقة المصادفة، أو كيفما اتفق، لكنها تسير بمقتضى تخطيط إلهي مرسوم. فهذا الإله المتصف بالقدرة والحكمة الفائقتين، لا يليق بالإنسان أن يخاصمه، أو يناقض حكمه، أو يستذنبه، أو يستظلمه، متكلّماً بلا معرفة.

كان أيوب قد اشتهى وسيط صلح بينه وبين الله. لكي يرفع عنه عصا القدير، فلا يبغته رعبه. فلم يعطه الرب سؤله كما طلب، بل ظهر له في العاصفة. وغايته كما يبدو لنا أن يوبّخه على جسارته في حكمه على العدل الإلهي. وأن يأتي به إلى الإيمان والتسليم، فيجد السلام والراحة.

هكذا أظهر الرب ذاته لإيليا، أولاً بريح عظيمة. ثم بزلزلة وبعد بالنار. ولكنه في الأخير كلّمه بصوت خفيف خفيض، وصل إلى قلبه. والأرجح أنَّ الصوت الذي سمعه أيوب، كان بقلبه. فشعر بأنَّ الرب حاضر، وأنَّ حضوره الإلهي، كان أفضل حل للمشكلة.

مَنْ هذا المتجاسر، الذي ينسب الظلم إلى قضائي الصالح العادل؟ من هذا المتكلّم بلا معرفة؟ تشدّد أيها الرجل المتخاذل واسمع ما أقول! هكذا أجاب الرب أيوب من عاصفة المجد. هل شاركتني في خلق العوالم وما فيها؟ وهل كنت لي مشيراً حين أسّست الأرض ورنّمت أصوات الملائكة بنشيد المجد والحمد؟ وهل تدرك حكمتي في وضع الحواجز للبحر لكي لا تطفو لججه؟

38: 12 «هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ ٱلصُّبْحَ؟ هَلْ عَرَّفْتَ ٱلْفَجْرَ مَوْضِعَهُ 13 لِيُمْسِكَ بِأَطْرَافِ ٱلأَرْضِ فَيُنْفَضَ ٱلأَشْرَارُ مِنْهَا؟ 14 تَتَحَوَّلُ كَطِينِ ٱلْخَاتِمِ، وَتَقِفُ كَأَنَّهَا لاَبِسَةٌ. 15 وَيُمْنَعُ عَنِ ٱلأَشْرَارِ نُورُهُمْ، وَتَنْكَسِرُ ٱلذِّرَاعُ ٱلْمُرْتَفِعَةُ. 16 «هَلِ ٱنْتَهَيْتَ إِلَى يَنَابِيعِ ٱلْبَحْرِ، أَوْ فِي مَقْصُورَةِ ٱلْغَمْرِ تَمَشَّيْتَ؟ 17 هَلِ ٱنْكَشَفَتْ لَكَ أَبْوَابُ ٱلْمَوْتِ، أَوْ عَايَنْتَ أَبْوَابَ ظِلِّ ٱلْمَوْتِ؟ 18 هَلْ أَدْرَكْتَ عَرْضَ ٱلأَرْضِ؟ أَخْبِرْ إِنْ عَرَفْتَهُ كُلَّهُ! 19 «أَيْنَ ٱلطَّرِيقُ إِلَى حَيْثُ يَسْكُنُ ٱلنُّورُ، وَ ٱلظُّلْمَةُ أَيْنَ مَقَامُهَا، 20 حَتَّى تَأْخُذَهَا إِلَى تُخُومِهَا وَتَعْرِفَ سُبُلَ بَيْتِهَا؟

يتابع القدير أسئلته إلى أيوب: هل تدرك عنايتي في تحديد وقت انبلاج الفجر، بحيث لا يتقدّم ولا يتأخر؟ وهل تستطيع أن تفحص البحر، لتعلم مصدر مياهه؟ وهل أدركت أسرار الموت، وعلِمت ما هو مصير الإنسان بعده؟ وهل أدركت عرض الأرض، ومصدر النور وعلّة الظلمة؟

38: 21 تَعْلَمُ، لأَنَّكَ حِينَئِذٍ كُنْتَ قَدْ وُلِدْتَ، وَعَدَدُ أَيَّامِكَ كَثِيرٌ! 22 «أَدَخَلْتَ إِلَى خَزَائِنِ ٱلثَّلْجِ، أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ ٱلْبَرَدِ 23 ٱلَّتِي أَبْقَيْتَهَا لِوَقْتِ ٱلضَّرِّ، لِيَوْمِ ٱلْقِتَالِ وَ ٱلْحَرْبِ؟ 24 فِي أَيِّ طَرِيقٍ يَتَوَزَّعُ ٱلنُّورُ وَتَتَفَرَّقُ ٱلرِّيحُ ٱلشَّرْقِيَّةُ عَلَى ٱلأَرْضِ؟ 25 مَنْ فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ وَطَرِيقاً لِلصَّوَاعِقِ 26 لِيَمْطُرَ عَلَى أَرْضٍ حَيْثُ لاَ إِنْسَانَ، عَلَى قَفْرٍ لاَ أَحَدَ فِيهِ، 27 لِيُرْوِيَ ٱلْبَلْقَعَ وَ ٱلْخَلاَءَ وَيُنْبِتَ مَخْرَجَ ٱلْعُشْبِ؟ 28 «هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ، وَمَنْ وَلَدَ مَآجِلَ ٱلطَّلِّ؟ 29 مِنْ بَطْنِ مَنْ خَرَجَ ٱلْجَلِيدُ؟ صَقِيعُ ٱلسَّمَاءِ، مَنْ وَلَدَهُ؟ 30 كَحَجَرٍ صَارَتِ ٱلْمِيَاهُ. ٱخْتَبَأَتْ. وَتَلَكَّدَ وَجْهُ ٱلْغَمْرِ. 31 «هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ ٱلثُّرَيَّا أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ ٱلْجَبَّارِ؟ 32 أَتُخْرِجُ ٱلْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي ٱلنَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ 33 هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى ٱلأَرْضِ؟ 34 أَتَرْفَعُ صَوْتَكَ إِلَى ٱلسُّحُبِ فَيُغَطِّيَكَ فَيْضُ ٱلْمِيَاهِ؟ 35 أَتُرْسِلُ ٱلْبُرُوقَ فَتَذْهَبَ وَتَقُولَ لَكَ: هَا نَحْنُ؟ 36 مَنْ وَضَعَ فِي ٱلطَّخَاءِ حِكْمَةً، أَوْ مَنْ أَظْهَرَ فِي ٱلشُّهُبِ فِطْنَةً؟ 37 مَنْ يُحْصِي ٱلْغُيُومَ بِ ٱلْحِكْمَةِ، وَمَنْ يَسْكُبُ أَزْقَاقَ ٱلسَّمَاوَاتِ، 38 إِذْ يَنْسَبِكُ ٱلتُّرَابُ سَبْكاً وَيَتَلاَصَقُ ٱلطِّينُ؟ 39 «أَتَصْطَادُ لِلَّبْوَةِ فَرِيسَةً، أَمْ تُشْبِعُ نَفْسَ ٱلأَشْبَالِ، 40 حِينَ تَرْبِضُ فِي عَرِينِهَا وَتَكْمُنُ فِي غَابَتِهَا لِلْكُمُونِ؟ 41 مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ إِذْ تَنْعَبُ فِرَاخُهُ إِلَى ٱللّٰهِ، وَتَتَرَدَّدُ لِعَدَمِ ٱلْقُوتِ؟

هذه السلسلة من الأسئلة، جاءت لإظهار عظم جهالة أيوب، ولإعلان أمجاد الخليقة التي أبدعها الله وكوّنها بقدرة وحكمة. وبإظهار الله حكمته وقدرته على الطبيعة والكائنات العاقلة وغير العاقلة، يجيب على أسئلة أيوب المتعدّدة.

الأصحاح التاسع والثلاثون 1 «أَتَعْرِفُ وَقْتَ وَلاَدَةِ وُعُولِ ٱلصُّخُورِ، أَوْ تُلاَحِظُ مَخَاضَ ٱلأَيَائِلِ؟ 2 أَتَحْسِبُ ٱلشُّهُورَ ٱلَّتِي تُكَمِّلُهَا، أَوْ تَعْلَمُ مِيعَادَ وَلاَدَتِهِنَّ؟ 3 يَبْرُكْنَ وَيَضَعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ. يَدْفَعْنَ أَوْجَاعَهُنَّ. 4 تَبْلُغُ أَوْلاَدُهُنَّ. تَرْبُو فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. تَخْرُجُ وَلاَ تَعُودُ إِلَيْهِنَّ. 5 «مَنْ سَرَّحَ ٱلْفَرَاءَ حُرّاً، وَمَنْ فَكَّ رُبُطَ حِمَارِ ٱلْوَحْشِ؟ 6 ٱلَّذِي جَعَلْتُ ٱلْبَرِّيَّةَ بَيْتَهُ وَٱلسِّبَاخَ مَسْكَنَهُ. 7 يَضْحَكُ عَلَى جُمْهُورِ ٱلْقَرْيَةِ. لاَ يَسْمَعُ زَجْرَ ٱلسَّائِقِ. 8 دَائِرَةُ ٱلْجِبَالِ مَرْعَاهُ، وَعَلَى كُلِّ خُضْرَةٍ يُفَتِّشُ. 9 «أَيَرْضَى ٱلثَّوْرُ ٱلْوَحْشِيُّ أَنْ يَخْدِمَكَ، أَمْ يَبِيتُ عِنْدَ مِعْلَفِكَ؟ 10 أَتَرْبِطُ ٱلثَّوْرَ ٱلْوَحْشِيَّ بِحَبْلٍ إِلَى خَطِّ ٱلْمِحْرَاثِ أَمْ يُمَهِّدُ ٱلأَوْدِيَةَ وَرَاءَكَ؟ 11 أَتَثِقُ بِهِ لأَنَّ قُوَّتَهُ عَظِيمَةٌ، أَوْ تَتْرُكُ لَهُ تَعَبَكَ؟ 12 أَتَأْتَمِنُهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِزَرْعِكَ وَيُجْمَعُ إِلَى بَيْدَرِكَ؟

نلاحظ أنَّ هذا الخطاب لا يذكر شيئاً عن حزن أيوب على ما فرّط به لسانه. ولا يشير إلى المسألة، التي أقلقت ذهنه. ولا يقدّم رجاء بمستقبل تستقيم فيه كل الأمور. ولكن بالالتجاء إلى قوة الله ترتسم في ذهن أيوب عناية الرب الساهرة. وكان القصد إفهام أيوب مقدار ما في ترتيب الطبيعة وعملها من الأسرار. وإنه إن كان أيوب لا يمكنه إيضاح ذلك، فكيف يمكنه أن يفهم أسرار الحياة الأبدية؟

وقال كارليل: ليس من أمّة، إلا وتأمّلت في هذا الكون العجيب، تأملاً يصحبه شعور رهيب وجليل، بأنَّه يوجد كائن عظيم غير معروف قادر على كل شيء، كلّي الحكمة والفضيلة يسوس كل البشر، الذين فيه وكل ما لهم من المصالح. وليس من أمّة أو فرد نسي ذلك، واستطاع أن يكون له شأن ما.

ونلاحظ أنَّ هذه الآيات. تتضمن تبايناً بين الله والإنسان. فالإنسان مستعد لأن يقتل اللبؤة غير مهتم بطعام أشبالها. أمّا الله، فيعتني بها وبأشبالها. فليتذكر أيوب، الذي سبق فاتّهم الله بالقسوة في معاملته إياه، مسلك الله مع الحيوانات المتوحشة. وكما يعتني الله بالحيوانات المهيبة الشديدة البأس والشرسة كاللبؤة، هكذا يعتني بالغُراب المحسوب من الطيور الدنيئة.

39: 13 «جَنَاحُ ٱلنَّعَامَةِ يُرَفْرِفُ. أَفَهُوَ مَنْكِبٌ رَؤُوفٌ، أَمْ رِيشٌ؟ 14 لأَنَّهَا تَتْرُكُ بَيْضَهَا وَتُحْمِيهِ فِي ٱلتُّرَابِ، 15 وَتَنْسَى أَنَّ ٱلرِّجْلَ تَضْغُطُهُ، أَوْ حَيَوَانَ ٱلْبَرِّ يَدُوسُهُ! 16 تَقْسُو عَلَى أَوْلاَدِهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا. بَاطِلٌ تَعَبُهَا بِلاَ أَسَفٍ. 17 لأَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَنْسَاهَا ٱلْحِكْمَةَ وَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَهْماً. 18 عِنْدَمَا تُحْوِذُ نَفْسَهَا إِلَى ٱلْعَلاَءِ تَضْحَكُ عَلَى ٱلْفَرَسِ وَعَلَى رَاكِبِهِ.

تعلو قامة النعامة سبعة أقدام ولا يمكنها الطيران لأنّ جناحيها صغيران بالنسبة لحجمها. وهي سريعة جداً. لا تلحقها سوابق الخيل. وهي تحضن بيضها أحياناً، وتتركه أحياناً أخرى حين يشتد الحر. فشاع أنَّ النعامة جائرة الطبع، وقليلة المحبّة لفراخها، وبلا حكمة. إنّ شأنها منسوب إلى أمر من الله، فالإنسان لا يعرف السبب الذي يبغيه عمل الله. إنه لا يستطيع، لأنّه لا يملك حكمة الخالق التي تحوى كل الكون.

39: 19 «هَلْ أَنْتَ تُعْطِي ٱلْفَرَسَ قُوَّتَهُ وَتَكْسُو عُنُقَهُ عُرْفاً؟ 20 أَتُوثِبُهُ كَجَرَادَةٍ؟ نَفْخُ مِنْخَرِهِ مُرْعِبٌ. 21 يَبْحَثُ فِي ٱلْوَادِي وَيَقْفِزُ بِبَأْسٍ. يَخْرُجُ لِلِقَاءِ ٱلأَسْلِحَةِ. 22 يَضْحَكُ عَلَى ٱلْخَوْفِ وَلاَ يَرْتَاعُ وَلاَ يَرْجِعُ عَنِ ٱلسَّيْفِ. 23 عَلَيْهِ تَصِلُّ ٱلسِّهَامُ وَسِنَانُ ٱلرُّمْحِ وَ ٱلْحَرْبَةِ. 24 فِي وَثْبِهِ وَغَضَبِهِ يَلْتَهِمُ ٱلأَرْضَ وَلاَ يُؤْمِنُ أَنَّهُ صَوْتُ ٱلْبُوقِ. 25 عِنْدَ نَفْخِ ٱلْبُوقِ يَقُولُ: هَهْ! وَمِنْ بَعِيدٍ يَسْتَرْوِحُ ٱلْقِتَالَ صِيَاحَ ٱلْقُوَّادِ وَ ٱلْهُتَافَ.

في هذه الآيات وصف لمنظر الفرس الجميل والمخيف وهو ذاهب إلى القتال، يقفز ببأس أي يثب أو يطفر بقوائمه، يلتهم الأرض، أي يحفر فيها ويثير غبارها. وهو دائماً مشتاق إلى خوض المعارك، حتى أنّه حين يسمع صوت البوق لا يقدر أن يصبر. والرب سأل أيوب: هل أنت تعطي الفرس قوّته؟

39: 26 «أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ ٱلْعُقَابُ وَيَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ؟ 27 أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ ٱلنَّسْرُ وَيُعَلِّي وَكْرَهُ؟ 28 يَسْكُنُ ٱلصَّخْرَ وَيَبِيتُ عَلَى سِنِّ ٱلصَّخْرِ وَ ٱلْمَعْقَلِ. 29 مِنْ هُنَاكَ يَتَحَسَّسُ قُوتَهُ. تُبْصِرُهُ عَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ. 30 فِرَاخُهُ تَحْسُو ٱلدَّمَ وَحَيْثُمَا تَكُنِ ٱلْقَتْلَى فَهُنَاكَ هُوَ».

يمتاز العقاب والنسر بقوّتهما في الطيران. ولهما إدراك غريزي بالطقس. حتى حين تأتي أيام البرد يهاجران نحو الجنوب. أمّا النسر فيمتاز عن غيره من الطيور بطيرانه وبعلو وكره وبحدّة نظره وبشراهته في أكل اللحم والدم.

والفائدة لأيوب، هي أنَّ الحيوانات غير الناطقة تعرف بالغريزة ما يلزمها، للحصول على قوتها وتربية صغارها. فكم بالحري الإنسان الذي له عقل ونفس وروح، يجب أن يعرف الله ويتّكل عليه. وإنّ الله يعتني بالخلائق الدنيا. فكم بالحري يعتني بالإنسان وهو أعظم خلائقه!

كان أيوب يعيش في ظلمة الأوجاع والأحزان والشكوك. وقصد الرب أن يرفع نظره عن هذه، لينظر إلى أعمال الله العظيمة، التي تُحدِّث بمجده وحكمته ومحبته. فبنوره يرى نوراً. ونلاحظ أنَّ الله لم يعامل أيوب معاملة عبد، مسكتاً إياه بأمر قاس، بل أوضح له الأمر بكلام مطول وبالصبر، لكي يفهم ويقتنع، ويسلّم للرب عن طيبة خاطر، لا عن خوف وغضب.

الصلاة

أيها الرب الإله، القادر على كل شيء، أمام عظمتك نحني الركب، وأمام حكمتك الفائقة، نعترف بجهلنا. وأمام محبتك الواسعة الحلم يتزكى رجاؤنا. سامحنا من أجل استعلائنا وشموخنا. إننا نذوب خجلاً من إدعاءاتنا الفارغة. فاغفر لنا، واعطنا فرصة التوبة لنسكب قلوبنا قدامك بكل تواضع. آمين.

السؤال

35 - ماذا كان على أيوب أن يفعل بعد هذا الحوار الطويل؟

الأصحاح الأربعون 1 وَقَالَ ٱلرَّبُّ لأَيُّوبَ: 2 «هَلْ يُخَاصِمُ ٱلْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ، أَمِ ٱلْمُحَاجُّ ٱللّٰهَ يُجَاوِبُهُ؟». 3 فَأَجَابَ أَيُّوبُ ٱلرَّبَّ: 4 «هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي. 5 مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلاَ أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلاَ أَزِيدُ».

عملت الكلمة الإلهية في أيوب، وحطّمت اعتداده بنفسه. لأنّه بعد أن تلقّى التفسيرات المؤثّرة لعجائب الطبيعة، وما فيها من كائنات حية أو جامدة، وتأمل في الجمالات التي أسبغها الله على كل منها، والعناية التي خصها بها، انفتح ذهنه ليرى مجد الله، الذي صنع كل شيء بحكمة. وحينئذ تحوّل من خصم معاند إلى عابد وديع.

لقد سطعت رؤيا القدير في قلبه، فاستنار لبّه، وعرف نفسه في ضوء وجه الله. ثم نظر إلى حياته في وضع الإيمان، الذي بدونه لا يمكن إرضاء الله. وما إن تأمّل في أعمال عناية الله، حتى شعر بخطيته، وتبكت ضميره. وفي مثل هذه الحال، يقلّ الكلام. لأنّ التائب توبة حقيقية لا يكثر الكلام. هكذا علّمنا الإنجيل في مثل العشار، الذي اقتصر كلامه على تضرّعٍ قصير: « ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13).

صحيح أنَّ أيوب لم يتفوّه باعتراف صريح. ولكنّه ما إن حوّل نظره عن برّه الذاتي، حتى رأى تفاهته أمام الله. ولم يلبث أن قال: «هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟» إنّه الآن يحمد الله، ولا يجادله.

نعم. إنّ ما عجزت كلمة الإنسان عنه في اقتياد أيوب إلى التوبة والتسليم لله، فهذا عملته كلمة الله. فقد أثرت في وجدانه. وحطمت تكبره. وأحدثت تحولاً كبيراً في موقفه. الأمر الذي يؤكد لنا أنه حين تعجز حكمة الإنسان عن إيضاح سر الألم، فإن كلمة الله تثير فيه الإيمان بصلاح الله، في كل ما يسمح بوقوعه على الإنسان لأجل تهذيبه.

قال بولس الرسول: «لأَنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَ ٱلرُّوحِ وَ ٱلْمَفَاصِلِ وَ ٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12)، بعكس الكلام الكثير، الذي تفوّه به أليفاز وبلدد وصوفر وأليهو، الذي لم يأت لأيوب لا باقتناع ولا بتعزية. وكذلك أجوبة أيوب، عجزت عن تفسير مشكلة الألم بالرغم من أفكاره العميقة. كما أنه بكل اجتهاده ومنطقه، لم يستطع إقناع أصحابه ببراءته. على العكس فقد أثارهم ضده، لأنّه بأقواله عوّج القضاء.

أمّا كلمة الله، فقد وضعت حداً لنزاع الألفاظ القاسية. وقد أحدثت هذا الأثر، لأنها أتت عن طريق رؤيا جديدة عن الله الحي. وجلّ ما في أمرها، أنها أقنعت أيوب بأنّه يستطيع أن يثق في إله كهذا. إله عنايته أكثر اهتماماً بالإنسان مما تصور أيوب!

40: 6 فَقَالَ ٱلرَّبُّ لأَيُّوبَ مِنَ ٱلْعَاصِفَةِ: 7 « ٱلآنَ شُدَّ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ. أَسْأَلُكَ فَتُعْلِمُنِي. 8 لَعَلَّكَ تُنَاقِضُ حُكْمِي. تَسْتَذْنِبُنِي لِتَتَبَرَّرَ أَنْتَ! 9 هَلْ لَكَ ذِرَاعٌ كَمَا لِلّٰهِ، وَبِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِهِ تُرْعِدُ؟ 10 تَزَيَّنِ ٱلآنَ بِٱلْجَلاَلِ وَ ٱلْعِّزِ، وَ ٱلْبِسِ ٱلْمَجْدَ وَ ٱلْبَهَاءَ. 11 فَرِّقْ فَيْضَ غَضَبِكَ، وَ ٱنْظُرْ كُلَّ مُتَعَظِّمٍ وَ ٱخْفِضْهُ. 12 اُنْظُرْ إِلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَذَلِّلْهُ، وَدُسِ ٱلأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ. 13 اُطْمُرْهُمْ فِي ٱلتُّرَابِ مَعاً، وَ ٱحْبِسْ وُجُوهَهُمْ فِي ٱلظَّلاَمِ. 14 فَأَنَا أَيْضاً أَحْمَدُكَ لأَنَّ يَمِينَكَ تُخَلِّصُكَ.

كلّم الرب أيوب كلاماً، ولم يسكته بإظهار عظمته بالرعد والزلزلة، ولكنه أقنعه بالكلام. ولم تكن غاية كلام الرب زيادة ارتباك أيوب، وإقناعه بأنَّه لا يقدر أن يفهم أعمال الله في الطبيعة. بل كانت غايته له المجد أن يعلن ذاته لأيوب لأنّ الله نور، والنور يطرد الظلمة.

كان أيوب قد تذمّر، ونسب لله ظلماً. وبأقواله حكم على الله، وجعل نفسه في مكانه. لهذا سأله الله: ألعلّك تناقض حكمي العادل، لكي تبرّر نفسك؟ والواقع أنّ أيوب اعترض على حكم الله، والله سأله أن يثبت أنّه يقدر أن يحكم في الكون حكماً أفضل من حكم الله، وإذ ذاك يمكن أن يقال إنَّه قادر كالله! هذه العبارات الإلهية وضعت أيوب في دائرة النور، فتواضع أمام جلال الله، متنازلاً عن برّه الذاتي، ومعطياً المجد لله.

صحيح أنَّ الله لم يجب على المشكلات، التي كانت في عقل أيوب، ولكنّه شفى جراحات نفسه، ووضع في قلبه فكر التسليم الكامل للمشيئة الإلهية. ومع أنَّ أيوب كان بعيداً عن عهد الصليب، إلا أنَّ كلمة الله التي جعلت منه عابداً، لم تكن عاجزة عن أن ترسم له الجلجثة بالآلام.

هل تتصرّف مثل أيوب في البداية فتستذنب الله لتبرّر نفسك، أم تعترف بخطاياك لكي يبرّرك الله؟ تعلّم المثل من داود حين قال: «قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي» (مزمور 32: 5).

الصلاة

نحمدك ونهلل لك أيها الرب القدير، لأنّ كلمتك ما زالت تعمل في القلوب. تستأصل منها محبة الإثم، وتزرع فيها محبة البر والفرح والسلام. اجعل كلمتك أن تعمل في قلوبنا، لكي تردّنا إليك في توبة شاملة، ولك الشكر يا إلهنا. آمين.

السؤال

36 - كيف عملت الكلمة الآلهية في أيوب؟

40: 15 «هُوَذَا بَهِيمُوثُ ٱلَّذِي صَنَعْتُهُ مَعَكَ. يَأْكُلُ ٱلْعُشْبَ مِثْلَ ٱلْبَقَرِ. 16 هَا هِيَ قُوَّتُهُ فِي مَتْنَيْهِ وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ. 17 يَخْفِضُ ذَنَبَهُ كَأَرْزَةٍ. عُرُوقُ فَخْذَيْهِ مَضْفُورَةٌ. 18 عِظَامُهُ أَنَابِيبُ نُحَاسٍ، وَأَضْلاَعُهُ حَدِيدٌ مُطَرَّقٌ. 19 هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِ ٱللّٰهِ. ٱلَّذِي صَنَعَهُ أَعْطَاهُ سَيْفَهُ. 20 لأَنَّ ٱلْجِبَالَ تُخْرِجُ لَهُ مَرْعىً وَجَمِيعَ وُحُوشِ ٱلْبَرِّ تَلْعَبُ هُنَاكَ. 21 تَحْتَ ٱلسِّدْرَاتِ يَضْطَجِعُ فِي سِتْرِ ٱلْقَصَبِ وَ ٱلْغَمِقَةِ. 22 تُظَلِّلُهُ ٱلسِّدْرَاتُ بِظِلِّهَا. يُحِيطُ بِهِ صَفْصَافُ ٱلسَّوَاقِي. 23 هُوَذَا ٱلنَّهْرُ يَفِيضُ فَلاَ يَفِرُّ هُوَ. يَطْمَئِنُّ وَلَوِ ٱنْدَفَقَ ٱلأُرْدُنُّ فِي فَمِهِ. 24 هَلْ يُؤْخَذُ مِنْ أَمَامِهِ؟ هَلْ يُثْقَبُ أَنْفُهُ بِخِزَامَةٍ؟

بهيموث جمع بهيمة في العبرية. ولما كان الجمع في الإصطلاح العبري، يشير إلى التعظيم، يكون معنى بهيموث (بهيمة عظيمة) وقد رجّح بعض المفسرين أنَّ الحيوان المقصود هنا هو فرس الماء، الذي يعيش بقرب الأنهر الكبيرة، وخصوصاً في إفريقيا. وطول هذا الحيوان نحو خمسة عشر قدماً. وارتفاعه سبعة أقدام. وقوائمه قصيرة، ورأسه كبير. ويبلغ طول أنيابه القدمين أحياناً. وهذا الحيوان. لا يأكل إلا النباتات. وقد جاء في النص أنه أول مخلوقات الله من الحيوانات من جهة الكبر والقوّة. ومع ذلك فهذا الحيوان الضخم القويّ في متنه وفي عضل بطنه وعروق فخذيه، والمتسلّح بأنياب كبيرة حادة، لم يحاول التزعّم على الحيوانات الأخرى. فكم بالحري أيوب الإنسان الضعيف غير مؤهّل للسيادة على النظام الأدبي، الذي وضعه الله. والذي يحدّد الموقف، الواجب أن يتّخذه الإنسان أمام خالقه؟!

الأصحاح الحادي والأربعون 1 «أَتَصْطَادُ ٱلتِّمسَاحَ بِشِصٍّ، أَوْ تَضْغَطُ لِسَانَهُ بِحَبْلٍ؟ 2 أَتَضَعُ أَسَلَةً فِي خَطْمِهِ، أَمْ تَثْقُبُ فَكَّهُ بِخِزَامَةٍ؟ 3 أَيُكْثِرُ ٱلتَّضَرُّعَاتِ إِلَيْكَ، أَمْ يَتَكَلَّمُ مَعَكَ بِٱللِّينِ؟ 4 هَلْ يَقْطَعُ مَعَكَ عَهْداً فَتَتَّخِذَهُ عَبْداً مُؤَبَّداً؟ 5 أَتَلْعَبُ مَعَهُ كَ ٱلْعُصْفُورِ، أَوْ تَرْبِطُهُ لأَجْلِ فَتَيَاتِكَ؟ 6 هَلْ تَحْفُرُ جَمَاعَةُ ٱلصَّيَّادِينَ لأَجْلِهِ حُفْرَةً، أَوْ يَقْسِمُونَهُ بَيْنَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ؟ 7 أَتَمْلَأُ جِلْدَهُ حِرَاباً وَرَأْسَهُ بِإِلاَلِ ٱلسَّمَكِ؟ 8 ضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ. لاَ تَعُدْ تَذْكُرُ ٱلْقِتَالَ! 9 هُوَذَا ٱلرَّجَاءُ بِهِ كَاذِبٌ. أَلاَ يُكَبُّ أَيْضاً بِرُؤْيَتِهِ. 10 لَيْسَ مِنْ شُجَاعٍ يُوقِظُهُ فَمَنْ يَقِفُ إِذاً بِوَجْهِي؟ 11 مَنْ تَقَدَّمَنِي فَأُوفِيَهُ؟ مَا تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ لِي.

لوياثان كلمة عبرانية، ومعناها الملتوي أو الملتفت. والكلمة المترجمة «تنين» ولكن أكثر المفسّرين اتّفقوا على أنّ المشار إليه هو التمساح المشهور بالقوّة والشراسة. وكان سؤال الرب الموجّه إلى أيوب: هل تقدر أن تنظر إلى التمساح نظرة الصياد إلى السّمكة، فيصيدها بالشص؟ أو هل تنظر إليه نظرة المروّض الخيول إلى الحصان فتحاول لجمه بحبل لإذلاله؟ أو تنظر إليه نظرة الإعرابي إلى الجمل، فتضع خزامه في خطمه (أنفه) لكي تقوده إلى حيث تشاء؟ هل تستطيع ترويضه، وجعله وسيلة لتسلية الفتيات في بيتك؟

كل هذه الأسئلة طُرحت في لهجة التهكّم، لأنّه يستحيل على الإنسان أن يخضع التمساح أو يذلّله بأيّ من هذه الوسائل. فإن كان أحد الخلائق، أشد هولا من أن يُهاجم أو يُشمخ عليه، فماذا ينبغي أن يُقال عن العليّ ساكن الأبد، الذي خلق كل الأشياء بكلمة قدرته؟

وخلاصة القول: إنَّ الله شاء أن يبيّن لأيوب غلطه في التشامخ. ووضع أمامه شيئين مقررين بهيئة حيوانين قويين. السؤال: هل يقدر أيوب أن يتسلّط عليهما؟ وإلا فكيف يدخل في المحاكمة مع خالق هذين المخلوقين القويين؟ وبكلمة أخرى، إنّ وصف قدرة الله وسلطانه العجيب، يقصد به أن يجعل في عقل أيوب شعوراً لازماً بإنّه لا شيء أمام جلال الله. وهذه هي النتيجة التي حصلت. لأنّه لما رأى أيوب حكمة الله وقوّته في العالم المخلوق، اعتقد بأنَّ معاملة الله له في أمره مبنيّة على حكمة فائقة، فأشرق عليه أخيراً النور، ورأى الحق فقبله.

41: 12 «لاَ أَسْكُتُ عَنْ أَعْضَائِهِ وَخَبَرِ قُوَّتِهِ وَبَهْجَةِ عُدَّتِهِ. 13 مَنْ يَكْشِفُ وَجْهَ لِبْسِهِ وَمَنْ يَدْنُو مِنْ مَثْنَى لَجَمَتِهِ؟ 14 مَنْ يَفْتَحُ مِصْرَاعَيْ فَمِهِ؟ دَائِرَةُ أَسْنَانِهِ مُرْعِبَةٌ. 15 فَخْرُهُ مَجَانُّ مَانِعَةٌ مُحَكَّمَةٌ مَضْغُوطَةٌ بِخَاتِمٍ. 16 ٱلْوَاحِدُ يَمَسُّ ٱلآخَرَ، فَٱلرِّيحُ لاَ تَدْخُلُ بَيْنَهَا. 17 كُلٌّ مِنْهَا مُلْتَصِقٌ بِصَاحِبِهِ مُتَجَمِّدَةً لاَ تَنْفَصِلُ. 18 عِطَاسُهُ يَبْعَثُ نُوراً، وَعَيْنَاهُ كَهُدْبِ ٱلصُّبْحِ. 19 مِنْ فَمِهِ تَخْرُجُ مَصَابِيحُ. شَرَارُ نَارٍ تَتَطَايَرُ مِنْهُ. 20 مِنْ مِنْخَرَيْهِ يَخْرُجُ دُخَانٌ كَأَنَّهُ مِنْ قِدْرٍ مَنْفُوخٍ أَوْ مِنْ مِرْجَلٍ. 21 نَفَسُهُ يُشْعِلُ جَمْراً وَلَهِيبٌ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ.

من هنا بدأ بوصف التمساح بالتفصيل: من يكشف ثوبه الخارجي؟! ومن يدخل بين فكّيه؟! وقيل عن التمساح إنَّه يتنفّس ويمسك نفسه حتى ينتفخ، فيغطس في الماء. ثم يطلع ويخرج نَفَسَه من منخريه مع الماء، فيظهر بالشمس كنور ومصابيح وشرار نار ودخان. وفي الكتابات المصرية القديمة، أنّ عيني التمساح كناية عن الصبح.

41: 22 فِي عُنُقِهِ تَبِيتُ ٱلْقُوَّةُ وَأَمَامَهُ يَدُوسُ ٱلْهَوْلُ. 23 مَطَاوِي لَحْمِهِ مُتَلاَصِقَةٌ مَسْبُوكَةٌ عَلَيْهِ لاَ تَتَحَرَّكُ. 24 قَلْبُهُ صُلْبٌ كَ ٱلْحَجَرِ وَقَاسٍ كَٱلرَّحَى. 25 عِنْدَ نُهُوضِهِ تَفْزَعُ ٱلأَقْوِيَاءُ. مِنَ ٱلْمَخَاوِفِ يَتِيهُونَ. 26 سَيْفُ ٱلَّذِي يَلْحَقُهُ لاَ يَقُومُ، وَلاَ رُمْحٌ وَلاَ حَرْبَةً وَلاَ دِرْعٌ.

هذه الآيات تصف حركات فزع الخلائق الأخرى. عندما يظهر التمساح، يدهشون ويتيهون، لاضطراب أفكارهم من الخوف. ويتحيّرون من الذعر. وإذا حاول أحدهم التصدّي له بالأسلحة القديمة، فإنّ هذه الأسلحة لا تؤثر فيه بسبب سماكة وقساوة جلده.

41: 27 يَحْسِبُ ٱلْحَدِيدَ كَٱلتِّبْنِ وَ ٱلنُّحَاسَ كَٱلْعُودِ ٱلنَّخِرِ. 28 لاَ يَسْتَفِزُّهُ نُبْلُ ٱلْقَوْسِ. حِجَارَةُ ٱلْمِقْلاَعِ تَرْجِعُ عَنْهُ كَٱلْقَشِّ. 29 يَحْسِبُ ٱلْمِطْرَقَةَ كَقَشٍّ وَيَضْحَكُ عَلَى ٱهْتِزَازِ ٱلرُّمْحِ. 30 تَحْتَهُ قُطَعُ خَزَفٍ حَادَّةٌ. يُمَدِّدُ نَوْرَجاً عَلَى ٱلطِّينِ. 31 يَجْعَلُ ٱلْعُمْقَ يَغْلِي كَٱلْقِدْرِ، وَيَجْعَلُ ٱلْبَحْرَ كَقِدْرِ عِطَارَةٍ. 32 يُضِيءُ ٱلسَّبِيلُ وَرَاءَهُ فَيُحْسَبُ ٱللُّجُّ أَشْيَبَ. 33 لَيْسَ لَهُ فِي ٱلأَرْضِ نَظِيرٌ. صُنِعَ لِعَدَمِ ٱلْخَوْفِ. 34 يُشْرِفُ عَلَى كُلِّ مُتَعَالٍ. هُوَ مَلِكٌ عَلَى كُلِّ بَنِي ٱلْكِبْرِيَاءِ».

بهذه الآيات انتهى كلام الرب. وفي كلامه لم يوضح لأيوب وأصحابه الأمور التي أقلقتهم. ولعلّ ذلك للأسباب التالية:

  1. كونهم لا يقدرون أن يفهموا هذه الأمور مهما سمعوا من الإيضاح عنها، كما أنّ الفيلسوف لا يقدر أن يوضح لولد صغير القضايا الهندسية.

  2. التعليم على مراحل، ولكل واحدة وقتها المعيّن. فأعلن الله للقدماء بعض قضايا روحية، وأبقى غيرها لجيل آخر. فالتعليم عن القيامة والحياة بعد الموت، ومجازاة الصالحين والأشرار في الآخرة، والفداء وعمل الروح القدس ورد في العهد الجديد، بعد تجسّد المسيح في ملء الزمان.

  3. بسبب عدم وجود الكتاب المقدس وقتئذ، أوضح الله للقدماء قدرته وحكمته ومحبّته لكل خلائقه من كتاب الطبيعة.

الصلاة

أيها الرب العلي الساكن الأبد، نعظم اسمك ونعطي المجد لجلالك. نتوسّل إليك أن تعفو عن أفكارنا المتعالية، وأن تفتح أعيننا لكي نرى حقارتنا أمام عظمتك الإلهية. آمين.

السؤال

37 - ما هو بهيموث؟ وما هو لوياثان؟

38 - بأيّة لهجة طُرحت هذه الأسئلة على أيوب ولماذا؟

الأصحاح الثاني والأربعون 1 فَأَجَابَ أَيُّوبُ ٱلرَّبَّ: 2 «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. 3 فَمَنْ ذَا ٱلَّذِي يُخْفِي ٱلْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ! وَلٰكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا. 4 اِسْمَعِ ٱلآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. 5 بِسَمْعِ ٱلأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَ ٱلآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. 6 لِذٰلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَ ٱلرَّمَادِ».

أخيراً خضع أيوب لكلمة الرب، واعترف بجهله، وأقرّ بآرائه الخاطئة، وبصلاح الله في أحكامه ومخططاته لأجل الإنسان. وتعلّم أنَّ الله يستطيع أن يفعل كل شيء، وأنَّ مقاصده تتم في حينها. وسلّم بأنَّه هو نفسه قد أظلم القضاء، وتكلّم بكلمات لم يفهمها، ويطلب الآن أن يسمع له وأن يعلم. فقد عرف الآن قيمة عجزه عن اكتشاف السبب الحقيقي لمعاملة الله له هكذا. والآن يخضع باتّضاع لحكمة الله. فينتقل إلى دائرة النور والرجاء. لقد اكتشف أنَّ معرفته الأولى عن الله والتي عبّر عنها في الأصحاحين 12 و 13، كانت ناقصة. وأخيراً اكتسب معرفة أعمق وأصدق. ورؤية الله لنفسه، هي الآن كنور النهار الباهر لمن يخرج من كهف مظلم. لقد أصبح في عالم جديد، حيث كل شيء يحيا ويتحرّك ويوجد في الله. وقد زال من قلبه الشك بالله والصعوبة في الاعتراف بعدله. ولم يعد يحتج بعد. لأنّه رأى الله وخضع له. وإيمانه بمعاملة الله الكلي الحكمة معه صارت ثابتة ومقررة. لقد جثت نفسه بخجل الندامة على شكوكها وسخافتها، صامتة صمت الشكر والعبادة أمام رب الكل. بمعنى أنّه تحقق في ضوء نور الله أنَّ كل شكوكه كانت سخيفة، والآن يسترد كلماته التي فاه بها بتسرّع وبدون تأمّل.

42: 7 وَكَانَ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ مَعَ أَيُّوبَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَالَ لأَلِيفَازَ ٱلتَّيْمَانِيِّ: «قَدِ ٱحْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ. 8 وَ ٱلآنَ فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَ ٱذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلَّا أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ». 9 فَذَهَبَ أَلِيفَازُ ٱلتَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ ٱلشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ ٱلنَّعْمَاتِيُّ وَفَعَلُوا كَمَا قَالَ ٱلرَّبُّ لَهُمْ. وَرَفَعَ ٱلرَّبُّ وَجْهَ أَيُّوبَ.

تعطي هذه الأعداد صورة جميلة جداً للعلامات الروحية لاستحسان الله لما صارت إليه حال أيوب. هذه الدلالات الروحية لها أهمية بالغة بالنسبة لوضع أيوب الجديد مع الله:

  1. أشار الله إلى أيوب بكلمة عبدي أربع مرات.

  2. امتدح الله أيوب من أجل بحثه عن الحق بإخلاص. بينما لامَ الأصحاب على اعتراضهم على هذا البحث.

  3. أكرمه الله، حين أمر الأصحاب أن يسألوه لكي يصلّي من أجلهم.

42: 10 وَرَدَّ ٱلرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ لَمَّا صَلَّى لأَجْلِ أَصْحَابِهِ، وَزَادَ ٱلرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لأَيُّوبَ ضِعْفاً. 11 فَجَاءَ إِلَيْهِ كُلُّ إِخْوَتِهِ وَكُلُّ أَخَوَاتِهِ وَكُلُّ مَعَارِفِهِ مِنْ قَبْلُ وَأَكَلُوا مَعَهُ خُبْزاً فِي بَيْتِهِ، وَرَثُوا لَهُ وَعَزُّوهُ عَنْ كُلِّ ٱلشَّرِّ ٱلَّذِي جَلَبَهُ ٱلرَّبُّ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَسِيطَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ قُرْطاً مِنْ ذَهَبٍ. 12 وَبَارَكَ ٱلرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوبَ أَكْثَرَ مِنْ أُولاَهُ. وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفاً مِنَ ٱلْغَنَمِ، وَسِتَّةُ آلاَفٍ مِنَ ٱلإِبِلِ، وَأَلْفُ زَوْجٍ مِنَ ٱلْبَقَرِ، وَأَلْفُ أَتَانٍ. 13 وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ. 14 وَسَمَّى ٱسْمَ ٱلأُولَى يَمِيمَةَ، وَ ٱسْمَ ٱلثَّانِيَةِ قَصِيعَةَ، وَ ٱسْمَ ٱلثَّالِثَةِ قَرْنَ هَفُّوكَ. 15 وَلَمْ تُوجَدْ نِسَاءٌ جَمِيلاَتٌ كَبَنَاتِ أَيُّوبَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ. وَأَعْطَاهُنَّ أَبُوهُنَّ مِيرَاثاً بَيْنَ إِخْوَتِهِنَّ. 16 وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ هٰذَا مِئَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَأَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْيَالٍ. 17 ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخاً وَشَبْعَانَ ٱلأَيَّامِ.

عندما ننتقل من بركات أيوب الروحية إلى الزمنية، تدهشنا هذه الملاحظة، إنّه عندما صلّى أيوب من أجل الآخرين، ردّ الرب إليه بركاته المادية. بمعنى أنّه عندما ركز انتباهه في طلب البركات الروحية للآخرين زيدت له كل الأمور الأخرى. هذه الحقيقة توقفنا أمام كلمة المسيح: «لٰكِنِ ٱطْلُبُوا َأوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متّى 6: 33).

نتعلّم من هذا المثل أنّنا بصلواتنا وخدمتنا الآخرين ننال أحسن البركات لأنفسنا. وأنَّ الذين لا يقتنعون بنصائحنا لسلوكهم في الحق، يقتنعون بصلواتنا من أجلهم. وقد عُرف بالاختبار أنَّ الصلاة أحسن رد على الاعتراضات، وأفضل حل للمشاكل.

ومن البركات الزمنية التي أُغدقت على أيوب، رجوع إخوته وأخواته إليه بعدما كانوا قد ابتعدوا عنه في زمن ضيقه، كما يبتعد الناس عن كل فقير ومُصاب. ورجع أيضاً إليه معارفه وأصدقاؤه القدامى، ورجعت إليه ثروته. وأُعطي من الله بنين وبنات وعمراً مديداً.

الصلاة

باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك. الذي يفدي من الحفرة حياتك. الذي يكللك بالرحمة والرأفة، الذي يشبع بالخير عمرك. فيتجدّد مثل النسر شبابك. آمين.

السؤال

39 - ماذا كانت نتيجة كلمة الرب لأيوب؟

40 - كيف كانت نهاية أيوب؟

مسابقة سفر أيوب

أيها القارئ العزيز

إن تعمّقت في دراسة هذا الكتاب تقدر أن تجاوب على 25 سؤالا من هذه الأسئلة. وتقديراً لاشتراكك نرسل لك أحد كتبنا كجائزة. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملين عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. ما هي الصفات التي وُصف بها رجل الله أيوب؟

  2. ما هي الحجة التي اعتمدها الشيطان في التقليل من فضل أيوب؟

  3. ما هي المصائب التي سمح الله أن تقع على أيوب؟

  4. بماذا أُصيب أيوب، وكيف كان موقفه من المصاب الذي وقع عليه شخصياً؟

  5. ماذا قال أيوب في ثورته، وما تمنّى؟

  6. ماذا قال أيوب في القسم الثالث من خطابه؟

  7. ما هو سبب كآبته؟

  8. ما هي نتيجة تأديب الرب؟

  9. ما هو قصد أليفاز من عتابه لأيوب؟

  10. لماذا كان أيوب في حاجة إلى تحذير صديقه أليفاز؟

  11. بمَ أشار أليفاز على أيوب أن يفعل؟

  12. لماذا كانت كلمات أليفاز خالية من العطف؟

  13. ماذا كان موقف الأصحاب من مصاب أيوب، وكيف حسبوه؟

  14. ماذا كانت نتيجة كلام أيوب عن بلاياه وتظلمه الدائم من أوجاعه؟

  15. بمَ شبه بلدد بيت الفاجر؟

  16. ما هي خلاصة تعليم القدماء التي أشار إليها بلدد؟

  17. ما هي الرؤى التي كانت لدى أيوب؟

  18. بمن تمّت هذه الرؤى وكيف؟

  19. ماذا كانت نتيجة تأمّل أيوب في حالته الخاصة؟

  20. ماذا صنع صوفر قبل أن ينهي خطابه؟

  21. ما المشكلة بين أيوب وأصحابه؟

  22. أيّ موقف اتخذه أيوب تجاه أصدقائه؟

  23. بمَ بدأ أيوب الأصحاح الثالث عشر؟

  24. ماذا تصوّر أيوب من جهة الله؟

  25. ماذا كان تأثير اتّهام بلدد لأيوب بارتكاب الشر؟

  26. كيف قدّر أيوب الحكمة وماذا قال فيها؟

  27. ما هي النصيحة الموجّهة للشابات والشباب وهم يواجهون العديد من النظريات التي لها صفة العلم؟

  28. اذكر بعضاً من الامتيازات التي كانت لأيوب وكانت سبب سعادته

  29. ما هو التحوّل الذي حدث بالنسبة لمركز أيوب في المجتمع؟

  30. كيف كانت معاملة أيوب لعبيده؟

  31. ما هي أهم وظيفة لخطابات أليهو؟

  32. بمَ استهلّ أليهو خطابه لأيوب؟

  33. ما هو وجه الخلاف بين أيوب وأليهو؟

  34. ماذا في مناقشة أيوب؟

  35. ماذا كان على أيوب أن يفعل بعد هذا الحوار الطويل؟

  36. كيف عملت الكلمة الإلهية في أيوب؟

  37. ما هو بهيموث؟ وما هو لوياثان؟

  38. بأيّة لهجة طُرحت هذه الأسئلة على أيوب ولماذا؟

  39. ماذا كانت نتيجة كلمة الرب لأيوب؟

  40. كيف كانت نهاية أيوب؟


Call of Hope
 P.O. Box 100827
D-70007
Stuttgart
Germany