العودة الى الصفحة السابقة
شرح الرسالة إلى أهل فيلبي

شرح الرسالة إلى أهل فيلبي

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

للدكتور . وليم إدي


List of Tables

1.

Bibliography

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل: شرح الرسالة إلى أهل فيلبي. للدكتور . وليم إدي . Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. . صدر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بيروت 1973. . English title: . German title: . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً - وهو صاحب حقوق الطبع - بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

المقدمة وفيها خمسة فصول

الفصل الأول: في كاتب هذه الرسالة

في هذه الرسالة تصريح بأن بولس الرسول هو كاتبها (ص 1: 1) وأن تيموثاوس كان أحد رفقائه يوم كتبها (ص 1: 1 و2: 19). وهي تدل على أنه كان مسجوناً يومئذ (ص 1: 7). وعلى أنه نادى بالإنجيل قبل ذلك في مكدونية (ص 4: 15) وهذا كله على وفق الواقع ويمنع كل ريب في أن بولس كاتبها. وتعليم الرسالة وأسلوب تأليفها وما يتعلق بذلك موافقة لما عهد من هذا الرسول في غيرها من رسائله.

الفصل الثاني: في مدينة فيلبي

كانت مدينة فيلبي من أكبر مدن مكدونية وهي على نهر اسمه كنجس أو كنجيتيس وهي على أمد تسعة أميال من البحر في سهل واسع مخصب يرتفع 1600 قدم عن سطح البحر وكانت ميناها نيابوليس واسمها اليوم كافالا. وسميت فيلبي نسبة إلى فيلبس ملك مكدونيا أبي اسكندر الكبير إكراماً له لأنه جدّد بناءها وحصّنها سنة 355 ق. م وكان اسمها قبل ذلك دِيتُم. واشتهرت لقربها من مناجم الذهب التي كان فيلبس يستخرج منها نحو ألف وزنة في السنة ولكونها على الطريق السلطانية بين أوربا وأسية ورومية وبزنتيوم المعروفة اليوم بالقسطنطينية. استولى عليها الرومانيون سنة 168 ق. م وهي السنة التي أخذوا فيها مكدونية من برسيوس بن فيلبس وآخر ملوك مكدونية. وجعلها أوغسطس قيصر مهجراً رومانياً تذكاراً للحرب العظيمة التي حدثت في جوارها وغلب فيها بروتوس وكاسيوس سنة 42 ق. م ونشأ عن ذلك أن تحولت الجمهورية الرومانية ملكية. وأسكنها أوغسطس كثيراً من الجنود الرومانية وأعطاهم كل حقوق سكان مدينة رومية (انظر تفسير أعمال 16: 12). وليس اليوم من هذه المدينة سوى أطلالها. وكان بعض سكانها في أول ما أتى بولس إليها رومانيين وبعضهم يونانيين من المكدونيين وكان الفريقان من الوثنيين وكان فيها أيضاً قليلون من اليهود لم يكن عددهم كافياً لأن يكون لهم مجمع فيها ولكنهم كانوا يصلون في محل خارج المدينة على شاطئ النهر ليس فيه بناء. وكانت اللغة الغالبة في فيلبي وقتئذ اليونانية وكانت لغة الحكومة فيها لاتينية.

الفصل الثالث: في كنيسة فيلبي

أسس بولس كنيسة فيلبي في سفره الثاني للتبشير سنة 52 وهي أول مدينة بلغها من مدن مكدونية إجابة لما رآه في الرؤيا في ترواس وهي أنه رأى «رَجُلاً مَكِدُونِيّاً يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا» (أعمال 16: 9). ورافقه وقتئذ سيلا وتيموثاوس والمرجح أن لوقا رافقه أيضاً كما يستدل من كلامه في (أعمال 16: 10) وكان بولس ينادي بالإنجيل كعادته لليهود أولاً فكانت مناداته لهم في فيلبي خارج المدينة على شاطئ نهر كنجس. وكانت نتيجة وعظه هنالك أن آمنت ليديا واعتمدت هي وأهل بيتها. وفي تلك المدينة أخرج روح العرافة من جارية كانت تتبعهم أياماً كثيرة وتزعج بولس بصراخها فكانت عاقبة ذلك أن مواليها الوثنيين غضبوا لأنهم خسروا ما كانوا يربحونه من عرافتها فاشتكوا على بولس وسيلا إلى ولاة المدينة فألقيا في السجن بعدما جُلدا لكنهما أُطلقا من قيودهما ليلاً بمعجزة. وكان تأثير تلك المعجزة وتعليم بولس أن آمن حارس السجن الوثني واعتمد هو وأهل بيته. ومع أن الولاة أطلقوهما من السجن استحسنا أن يتركا المدينة إجابة لطلبهم. واجتمعا قبل ذهابهما مع الإخوة في بيت ليديا وعلماهم وعزياهم وحينئذ غُرست هنالك أول كنيسة إنجيلية في أوربا فنمت من ذلك الوقت إلى أن كُتبت إليها هذه الرسالة وكان فيها يومئذ أساقفة وشمامسة (ص 1: 1) وكان ذلك كله في نحو 11 سنة. وبعد مضي خمس سنين (شغل بولس أكثرها في كورنثوس وأفسس) زارها سنة 57 ب. م يوم هرب من هيجان عبدَة أرطاميس عليه في أفسس والأرجح أنه هنالك كتب الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (أعمال 19: 21 و20: 1 و2) ثم زارها سنة 58 وهو راجع من أخائية إلى أورشليم وركب البحر من نيابوليس (أعمال 20: 6).

ولنا من هذه الرسالة أن عمل الإنجيل نجح هنالك كثيراً على رغم ما حدث من الضيق الشديد وأن الرسول بحضوره وكتابته ورُسلائه قدر أن يعزيهم أحسن التعزية وأنهم كانوا يحبونه محبة وافرة فشكر الله على مشاركتهم في الإنجيل من أول يوم دخل فيه فيلبي إلى يوم كتابة هذه الرسالة (ص 1: 5) وأنه اشتاق إلى جميعهم في أحشاء يسوع المسيح (ص 1: 8) وشهد بأنهم أطاعوه في كل حين ليس في حضوره فقط بل في غيابه أيضاً (ص 2: 12). وكان يرجو أن يرسل إليهم تيموثاوس سريعاً لكي تطيب نفسه إذا عرف أحوالهم (ص 2: 19) وشهد أيضاً بأنهم هم وحدهم من كل كنائس مكدونية شاركوه في أمر العطاء والأخذ (ص 4: 15). وإنهم أرسلوا إليه نفقة بيد أبفرودتس وهو في السجن (ص 4: 17) فجروا بذلك على مقتضى فعلهم السابق حين أرسلوا إليه ما يخفف ثقل ضيقه وهو في تسالونيكي (ص 4: 16) ونستنتج من كل ذلك أن الكنيسة كانت ناجحة كل النجاح.

الفصل الرابع: في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها

كتب الرسول هذه الرسالة من رومية وهو في السجن وقد ذُكرت بداءة سجنه في تلك المدينة في (أعمال 28: 16 و20 و30 و31). وأشار إليه في هذه الرسالة (ص 1: 7 و13 و14). والذي يدل على أنها كُتبت وهو مسجون في رومية لا في قيصرية ذكره فيها بيت قيصر (ص 4: 22) ودار الولاية (ص 1: 13). والمرجح أن المراد بدار الولاية ثكنة الحرس الذين كانوا حرس الأمبراطور. وأما زمن كتابتها فآخر السنتين اللتين هما مدة سجنه الأول في رومية أي سنة 63 ب. م. والدلائل على ذلك قوية ومنها توقعه سرعة الحكم بدعواه (ص 1: 20 و2: 22). وأمله أن يأتي إلى فيلبي بعد قليل ويشاهد الإخوة (ص 2: 24). ومنها أنه مضى وقت كافٍ لكي يسمع الفيلبيون نبأ سجنه وأن يرسلوا إليه أبفرودتس وأن يبلغهم نبأ وصوله إلى رومية واعتراء المرض الشديد إياه وإنبائهم بولس باضطراب أفكارهم من أمر أبفرودتس. وما ذُكر يقتضي أربعة أسفار بين رومية وفيلبي وكان ذلك يشغل وقتاً طويلاً مع الوقت الذي لا بد منه بين كل نبأين (ص 2: 26). ومنها أن نبأ سجنه انتشر كثيراً في المملكة الرومانية وآل إلى تقدم الإنجيل (ص 1: 12). ومنها أن القسوة كانت عليه وقت كتابة هذه الرسالة أشد منها في أول مدة سجنه (قابل بما في أعمال 28: 30 بما في ص 1: 29 و30 وص 2: 27). ونعلم من التاريخ الروماني أن برص رئيس المعسكر في سنة 60 ب. م الذي تسلم بولس عند وصوله إلى رومية ورفق به مات بعد تلك السنة بقليل في سنة 62 وأُقيم تيجالينس موضعه وهو ممن اشتهروا بالنفاق والقسوة. وكان نيرون قد طلق امرأته أكتافيا وأخذ يوبيا حظية وهي يهودية الأصل فكانت بالطبع عدواً لبولس. فإذا حسبنا أن بولس وصل إلى رومية سنة 61 ب. م فسنتا سجنه الأول انتهتا في سنة 63 ب. م فالمرجح أن الرسالة كُتبت قُبيل هذا الوقت وإن وقت محاكمته وإطلاقه مدة قصيرة كما ذهب إليه بعض المؤرخين فإذاً بولس كتب هذه الرسالة بعدما كتب رسالته إلى أفسس ورسالته إلى كولوسي ورسالته إلى فليمون.

الفصل الخامس: في غاية هذه الرسالة ومميزاتها

لم تكن غاية هذه الرسالة دفع الضلالات في التعليم كما كانت غاية رسالته إلى الغلاطيين ولا إصلاح الخلل في السلوك كما كانت غاية الرسالة الأولى إلى كورنثوس ولا تعليم شيء في ما يتعلق بنظام الكنيسة مع أنه فيها بعض أسماء خدم الكنيسة ولا نظم قواعد الإيمان مع أنه ذكر جلال المسيح وتواضعه وأشار إلى الفرق بين الناموس والنعمة.

فالغاية إظهار محبته المسيحية وشكره على ما أتاه الفيلبيون في تلك الأثناء من العطايا التي كانت علامة اعتبارهم إياه وسداً لعوزه في السجن إذ لم يكن يستطيع العمل كعادته لإعالة نفسه وإظهار عواطفه لهم كما أظهرها لأهل تسالونيكي في رسالته الأولى إليهم. ومما جعله ممنوناً لهم أكثر ما كان ممنوناً لأهل تسالونيكي أنهم أظهروا مراراً كثيرة قبل ذلك عنايتهم بحاجاته الجسدية. وأراد أن ينبئهم بما يطمئنون به من أمره علاوة على إعلان شكره لهم على عنايتهم به وبيان أنه لم ييأس لكثرة ضيقاته وأخطاره بل إنه يتحقق نجاح الإنجيل بواسطة ذلك وبغية أن يجعلهم مطمئنين من جهة رسولهم أبفرودتس الذي لفرط خدمته إياه اعتراه مرض شديد وكان حينئذ قد أبلّ من مرضه وبيان ممنونيته لهم على عناية رسولهم به وإنكاره نفسه وتعرضه للخطر في سبيل خدمته وتثبيتهم في الشجاعة والإيمان في الاضطهادات والضيقات التي كانت عليهم وحثهم على الاتحاد والتواضع متمثلين بالمسيح. وفي كلامه على تواضع المسيح أتى بما ليس في الإنجيل أوضح منه من الكلام على تجسد المسيح وآلامه وارتفاعه.

ثم دعاهم إلى الفرح ونبههم على وجوب أن يكون فرحهم في الرب وحذرهم من أن يدخل بينهم المعلمون الماثلون إلى الرسوم اليهودية القائدون لهم إلى الاتكال على الأمور الحسية الدنيوية فحثهم على أن يتكلموا على المسيح وحده وأن يتقدموا في الحياة الروحية متوقعين ثواب يوم القيامة العظيم.

ولم يذكر في هذه الرسالة شيئاً من الملامة إلا حين أشار إلى الاختلاف بين امرأتين من الكنيسة سماهما وطلب أن تتفقا وسأل مساعدة شريكه واكليمندس على ذلك. ثم دعاهم أيضاً إلى الفرح والاتحاد والثبات والحلم والقناعة وممارسة الفضائل المسيحية وكرر شكره لهم على كرمه عليه. وختم رسالته بالسلام والبركة.

وهذه الرسالة رقيم من صديق إلى أصدقائه في الرب كتبه أسيراً في وحدته وضيقته وريبه في مستقبله وأوضح فيه رقته عليهم بدون التفات إلى ترتيب المواضيع بدون الاقتباس من العهد القديم وإيراد البراهين على صحة تعليمه. وهي تزيد اعتبارنا لكاتبها لشفقته على أولاده الروحيين وشجاعته في الخطر وغيرته للمسيح وإنجيله وهي تشهد لقوة الإيمان المسيحي بأنه يعضد النفس في أشد الخطوب.

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

مقدمة الأصحاح

في هذا الأصحاح تحية (ع 1 و2). وشكر لله على شركتهم في الإنجيل التي أبانوها بجودهم عليه (ع 3 - 8) وصلاة لتزيد معرفتهم ويكثر صلاحهم (ع 9 - 11).

بيان حال الرسول في رومية

إن وُثق الرسول آلت إلى نجاح الإنجيل وكانت وسيلة إلى زيادة المناداة بالمسيح بواسطة الناس الذين بعضهم نادى به عن إخلاص وبعضهم نادى به عن تحزب ففرح الرسول بمناداة الفريقين (ع 12 - 18). وكان متردداً بين أن يختار أن يذهب ليكون مع المسيح وأن يبقى هنا لمنفعتهم فتيقن أنه يبقى (ع 19 - 26).

حث الرسول الفليبيين على الشجاعة والثبات وقت المصائب والاضطهاد ع 27 إلى 30

تحية وشكر وصلاة ع 1 إلى 8

1 «بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِينَ فِي فِيلِبِّي، مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَشَمَامِسَةٍ».

1كورنثوس 1: 2 و2أيام 34: 12 وأعمال 20: 17 و28 و1تيموثاوس 3: 2 وتيطس 1: 7 و1بطرس 2: 25 و5: 1 رومية 16: 1 و1تيموثاوس 3: 8 و12

بُولُسُ لم يصرّح هنا برسوليته كما صرّح به في رسالتيه إلى كورنثوس ورسالته إلى غلاطية إذ لم يجد ما يدعو إلى ذلك فكتب لهم بكل ثقة ومودة كصديق إلى أصدقائه.

وَتِيمُوثَاوُسُ هو رفيق بولس ومساعده على تأسيس كنيسة فيلبي (أعمال 16: 1 و13 و17: 14). زار تلك الكنيسة مرتين في مدة سفر بولس الثالث للتبشير (قابل ما في أعمال 19: 22 بما في 2كورنثوس 1: 1 وما في أعمال 20: 3 و4 بما في رومية 16: 21). ويحتمل أنه زارها أيضاً مدة سجن بولس في قيصرية. وكان في وقت كتابة هذه الرسالة على وشك أن يزورها (ص 2: 20). وهو لم يشارك بولس في هذه الرسالة إلا في التحية بدليل أن بولس تكلم في ما سوى ذلك بضمير الفرد (ص 1: 3) وتكلم على تيموثاوس بضمير الغائب (ص 2: 19) والظاهر من وضع اسمه في أول الرسالة أنه كان وقت كتابتها في رومية لا أسيراً معه بل صديقاً ومساعداً له على المناداة بالإنجيل.

عَبْدَا عبّر عن نفسه ورفيقه بهذا تواضعاً كما فعل يعقوب ويهوذا وبطرس (يعقوب 1: 1 ويهوذا 1 و2بطرس 1: 11 انظر تفسير رومية 1: 1). وللعبيد الذين المسيح سيدهم أعظم الحرية والشرف وكون عبوديتهم اختيارية يستلزم أنها أمينة سارة.

ٱلْقِدِّيسِينَ من صفات كنيسة المسيح أن تكون مقدسة فوجب أن يكون أعضاؤها قديسين وقد دعاهم الله كذلك وهم يعترفون بأنهم منفصلون عن العالم وموقوفون لخدمة الله ويدعون أنهم يطلبون قداسة القلب والسيرة وأنهم متوقعون أن ينالوا بنعمة الله القداسة الكاملة في السماء (انظر تفسير يوحنا 17: 9 ورومية 1: 9 و1كورنثوس 1: 2).

فِي ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بالقديسين» فإنه باتحادهم بالمسيح بواسطة الإيمان وفعل روحه القدوس ينالون القداسة.

فِي فِيلِبِّي انظر الفصل الثاني من المقدمة وتفسير (أعمال 16: 12).

أَسَاقِفَةٍ جاءت هذه الكلمة في (أعمال 20: 28 و1تيموثاوس 3: 2 وتيطس 1: 7). وسموا رعاة في (أفسس 4: 11) والأسقف في اليونانية أبسكوبس (επισκοπος) ومعناه مراقب فعمله يراقب طهارة الكنيسة في الإيمان والأعمال. ويتبين من قوله «أساقفة» بصيغة الجمع أن كنيسة فيلبي كانت مثل كنيسة أفسس في تعدد الأساقفة. وجاء في الإنجيل الشيخ رديفاً للأسقف كما يتبين من (أعمال 20: 28 وتيطس 1: 4 - 8 و1بطرس 1: 5) وسموا «أساقفة» بالنظر إلى مراقبتهم أحوال الكنيسة الروحية. وسموا «شيوخاً» نظراً إلى رتبتهم وأعمارهم. فالأسقف منقول عن اصطلاح الخدمة السياسية والشيخ عن اصطلاح المجمع اليهودي. وذكر الأساقفة بعد ذكر أعضاء الكنيسة يدل على أنه لم تكن لهم وقتئذ العظمة التي ادعوها وكانت لهم بعد ذلك.

شَمَامِسَةٍ كان عمل الشمامسة جمع إحسان الكنيسة والعناية بالمرضى والفقراء وذُكرت علة تعيينهم أولاً في (أعمال 6: 1). ولعل علة ذكر بولس الأساقفة والشمامسة إن الهدايا والرقيم أرسلاً إليهم بأسمائهم نيابة عن الكنيسة.

2 «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

رومية 1: 7 و2كورنثوس 1: 2 و1بطرس 1: 2

هذه الآية سلام رسولي جاء الرسول بمثله في (رومية 1: 7) فراجع التفسير هناك.

3 «أَشْكُرُ إِلٰهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ».

رومية 1: 8 و9 و1كورنثوس 1: 4 وأفسس 1: 15 و16 وكولوسي 1: 3 و1تسالونيكي 1: 2 و2تسالونيكي 1: 3

الشكر الذي أتى به الرسول في هذه الرسالة أطول مما أتى به في سائر رسائله وأوفر فكرر الألفاظ والنعوت ليدل على عظمة شكره لله لما أنعم عليهم. ومعنى الآية أني أشكر إلهي في كل مراجعتي ما مر من أموركم من أول معرفتي إياكم إلى الآن إذ لم أر في كل اختباري إلا ما يحملني على الحمد والشكر له. وإضافة لله إلى نفسه أي قوله «إلهي» مثل قوله «الإله الذي أنا له والذي اعبده» (أعمال 27: 23) في دلالته على قرب النسبة بينه وبين الله وأنه اعتبر نعمته تعالى على الفيلبيين علامة رضاه عنه وإن تقواهم من الأدلة على أن الله قبل صلواته وأتعابه في سبيل نفعهم وجعلها مثمرة.

4 «دَائِماً فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّماً ٱلطِّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ».

دَائِماً هذا متعلق بقوله «أشكر» في (ع 3) ويدل على أن صلاته كانت مقترنة أبداً بالشكر على ما صنع لهم.

فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّماً ٱلطِّلْبَةَ لعله قصد «بأدعيته» صلواته العامة «وبالطلبة» ابتغاء بركة خاصة لكل منهم حسب احتياجه.

بِفَرَحٍ زيادة على الشكر الذي في الآية الثالثة. وبيّن أسباب هذا الفرح في ما يأتي.

5 «لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى ٱلآنَ».

رومية 12: 13 و15: 26 و2كورنثوس 8: 1 وص 4: 14 و15

لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ هذا علة شكره وفرحه وأراد «بالمشاركة في الإنجيل» اجتهاد كل منهم في سبيل انتشاره مع الآخر ومع الرسول وذلك بسيرتهم التقوية وشهادتهم للحق جهاراً واحتمالهم الاضطهاد من أجل المسيح ومواساتهم له وصلواتهم من أجله ولا سيما هداياهم التي أخذوا يرسلونها إليه وهو في تسالونيكي ص 4: 15 و16) وأتوا مثل هذا وهو في رومية على يد مرسلهم أبفرودتس (ص 4: 15 و18) ولو سمحت لهم الفرصة لأتوا بأكثر من ذلك (ص 4: 10).

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى ٱلآنَ هذا شهادة قوية بأمانتهم ومدح وافر لهم فإنهم في نحو عشر سنين لم تفتر محبتهم ولا غيرتهم في العمل ولم يتزعزع رسوخهم في الإيمان. وليس لراع أمين فرح أعظم مما كان للرسول حين رأى تلاميذه سالكين مسالك التقى مستفيدين من تعليمه (3يوحنا 4). فنرى من ذلك أن الذين يعملون حسناً يستحقون مدح رؤسائهم. والمدح نافع لعملة الصلاح بأنه يزيد رغبتهم في الصلاح سواء كان من الرعاة للشعب أو من الأساتذة للتلاميذ أو من الوالدين للأولاد. ونرى منه أيضاً أنه يجب علينا أن نذكر في صلواتنا أصحابنا الغائبين من إخوتنا وأخواتنا في الرب لا مجرد أنسبائنا. وهذا إحدى الطرق التي نقدر فيها على أن نعينهم إن لم نستطع غيره.

6 «وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

يوحنا 6: 29 و1تسالونيكي 1: 3 ع 10

وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أي الأمر الذي طلبه في الصلاة (ع 1) وهو إتمام خلاصهم كما سيظهر مما سيأتي. وثقته مبنية على عدم تغير الله فإنه ابتدأ عمل النعمة في قلوبهم وهذا يؤكد أنه يتممه إذ لا قوة خارجة عن الله تستطيع أن تحمله على ترك ما قصده (1صموئيل 3: 8 و1كورنثوس 1: 8) وعلى مواعيد الله الصريحة (يوحنا 10: 27 - 29 ورومية 8: 29 و30 وعبرانيين 6: 17 - 20).

ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً أراد «بالعمل الصالح» هنا مشاركتهم (له) في الإنجيل وهذا مع أنه عملهم هو عمل الله بالأولى لأنه هو ابتدأه في نفوسهم وقدّرهم على أن يثبتوا إلى ذلك اليوم. وهذا مثل قوله «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (ص 2: 12 و13) اعتبر الرسول بداءة عمل الإنجيل في الفيلبيين ونهايته من نعمته تعالى ومشاركتهم في الإنجيل أحد مظاهر تلك النعمة.

يُكَمِّلُ أي يتمم خلاصهم وهذا يشتمل على كل متعلقات الخلاص من التبرير والوقاية من السقوط والتقديس والتمجيد.

إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وسمى «يوم ربنا يسوع المسيح» (1كورنثوس 1: 8) و «يوم الرب» (1كورنثوس 5: 5 و2كورنثوس 1: 14 و1تسالونيكي 5: 2) وهو وقت مجيئه الثاني بالنصر والمجد ليدين العالم ويثبت شعبه. ولم يقل إلى يوم موتهم لأنه لم ير من فرق بين إثابتهم بعد الموت وإثابتهم يوم مجيء الرب. ولم يبين أن يوم الرب قريب ولا إنه بعيد.

7 «كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هٰذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي، فِي وُثُقِي، وَفِي ٱلْمُحَامَاةِ عَنِ ٱلإِنْجِيلِ وَتَثْبِيتِهِ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي ٱلنِّعْمَةِ».

2كورنثوس 3: 2 و7: 3 أفسس 3: 1 و6: 20 وكولوسي 4: 3 و2تيموثاوس 1: 8 ع 17 ص 4: 14

كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ في ما قلته آنفاً (ع 6). إن الرسول اختبر مشاركتهم في الإنجيل سابقاً وكان ذلك مطبوعاً على صفحات ذاكرته وهذا جعل له حق الثقة بهم.

لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي أي أنه أحبهم ووثق بهم ورغب في خلاصهم وتيقن أنهم ينالونه لما علم من إيمانهم بالمسيح وطاعتهم له.

فِي وُثُقِي، وَفِي ٱلْمُحَامَاةِ عَنِ ٱلإِنْجِيلِ هذا متعلق بحال من المخاطبين والمعنى أني حافظكم في قلبي وأنتم مشاركون لي في وثقي من أجل الإنجيل وفي التعب معي لتثبيته ومعاونون لي بالمواساة والصلوات والهدايا للنفقة. ولعلهم شاركوه في ذلك بأمور أخرى لم نعلمها. فمشاركتهم إياه في الآلام والتبشير حققت له أنهم يكونون شركاءه أيضاً في كل نتائج تلك الآلام والأتعاب فتوقع أن تكون البركة الإلهية له ولهم معاً.

فِي ٱلنِّعْمَةِ حسب المناداة بالإنجيل نعمة بدليل قوله «لِي... أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ الخ» (أفسس 3: 8). وكذلك احتمال الاضطهاد من أجل الإنجيل بدليل قوله «قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (ع 29). والشركاء في الخدمة والآلام يكونون شركاء أيضاً في نعمة الانتصار بدليل قوله «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رومية 8: 17).

8 «فَإِنَّ ٱللّٰهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

رومية 1: 9 و9: 1 وغلاطية 1: 20 و1تسالونيكي 2: 5 ص 2: 22 و4: 1

فَإِنَّ ٱللّٰهَ شَاهِدٌ لِي أتى بمثل هذا في الرسالة إلى رومية (رومية 1: 9) أشهد بكل وقار الله العالِم كل شيء والفاحص القلوب أنه لم ينطق بسوى الحق.

أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ هذا برهان محبته لهم ونتيجتها.

فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ اعتبر اليونانيون الأحشاء مركز الانفعالات كالشفقة والغضب والمحبة والبغض فجرى الرسول على اصطلاحهم فكنى عن المحبة «بالأحشاء» فقال إن محبته لهم مبنية على محبته للمسيح وإنها من نوعها. وهذا دليل على شدة اتحاد بولس بالمسيح حتى كأن حياتهما واحدة. وهذا على وفق قوله «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20) وهو يدل أيضاً على وفرة حبه إياهم.

إن محبة المسيح أصل كل محبة أخوية في قلوب المسيحيين.

صلاة الرسول بغية أن تزيد معرفة الفيلبيين ويكثر صلاحهم ع 9 إلى 11

9، 10 «9 وَهٰذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي ٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ، 10 حَتَّى تُمَيِّزُوا ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلاَ عَثْرَةٍ إِلَى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ».

1تسالونيكي 3: 12 وفليمون 6 رومية 2: 18 و12: 2 وأفسس 5: 10 أعمال 24: 16 و1تسالونيكي 3: 13 و5: 23 و1كورنثوس 1: 8 وع 6

هٰذَا أُصَلِّيهِ ذكر في الآية الرابعة إنه يصلي من أجل مؤمني فيلبي وذكر في هاتين الآيتين موضوع تلك الصلاة.

أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ محبة بعضكم لبعض ولي ولسائر المؤمنين ولله الآب وابنه يسوع المسيح. إن المحبة أفضل الفضائل المسيحية فيليق بنا أن يكون موضوع صلواتنا لأجل أصدقائنا أن يزدادوا محبة.

فِي ٱلْمَعْرِفَةِ سأل أن تقترن زيادة محبتهم بالمعرفة ولعل ما حمله على هذه الطلبة إنه رأى نقصاً في محبتهم كالنقص الذي في غيرة مؤمني رومية بدليل قوله «أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً لِلّٰهِ، وَلٰكِنْ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَعْرِفَةِ» (رومية 10: 2) أراد منهم أن يميزوا بين محبوباتهم حتى لا يحبوا ما لا يستحق المحبة وأن يميزوا بين ما يجب أن يُحب حتى يحبوا كلاً منها على قدر استحقاقه.

وَفِي كُلِّ فَهْمٍ يعسر التمييز هنا بين المعرفة والفهم ولعل المعرفة أعم من الفهم فبها ندرك الأمور الأدبية وغير الأدبية وأما الفهم بالأمور التي نختارها أو نرفضها. ففي المعرفة العقل هو العالم وفي الفهم العقل والعواطف أيضاً.

حَتَّى تُمَيِّزُوا ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ أبان هذا سبب طلبه إن محبتهم تزداد في المعرفة والفهم وهو أن يميزوا الأحسن من الحسن ويختاروه. وليس المراد «بالأمور المتخالفة» الأمور المحرمة التي تختلف عن الجائزة لأنه كان لمؤمني فيلبي معرفة كافية ليميزوا بين الحلال والحرام بل المراد بها الأمور الحسنة المختلفة في القيمة المعروضة للاختيار بينها.

لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ أي بلا رياء أو أطهاراً في النيات والمقاصد والأفكار والإقرار والسلوك.

بِلاَ عَثْرَةٍ لأنفسكم. هذا كما قاله على نفسه «أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (أعمال 24: 16). ولم يقصد هنا تأثيرهم في غيرهم كما قصد في (1كورنثوس 1: 32) كما يظهر من العبارة التالية التي تشير إلى محاكمتهم لأنفسهم قدام الله.

إِلَى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ أي حين يقفون أمام منبره للمحاكمة (انظر ع 6). فأوجب عليهم أن يهتموا بمدح المسيح إياهم في ذلك اليوم لا بمدح الكنيسة أو العالم في هذه الأرض.

11 «مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ وَحَمْدِهِ».

يوحنا 15: 4 و5 وأفسس 2: 1 وكولوسي 1: 6 يوحنا 15: 8 وأفسس 1: 12 و14

مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ اعتبرهم «أشجار برّ غرس الرب» (إشعياء 61: 3) في جنته تعالى (إشعياء 51: 3 وحزقيال 31: 8 و9). مسقيّة بنعمته يتوقع الله ثمرها لمجده على قدر عنايته بها (إشعياء 5: 1 و2) وقد ذُكر «ثمر البرّ» في (عاموس 6: 12 وعبرانيين 12: 11 ويعقوب 3: 18).

وقال المسيح في شأن هذا الثمر «بِهٰذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 15: 8). وإضافة «ثمر» إلى «البرّ» بيانية فهو ما يحصل عليه المؤمن المتجدد من البرّ في نفسه وسيرته. وسمي أيضاً «ثمر الروح» (أفسس 5: 9 وغلاطية 5: 22). والمملؤون بأثمار البرّ «يَمْتَلِئُون إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (أفسس 3: 19).

ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا بالإنسان لأن الإنسان في الطبيعة كالزيتونة البرية لا نفع لها ولكن إذا طُعموا في المسيح وأخذوا منه حياة وقوة أثمروا ثمراً نافعاً. وهذا يختلف عن البر الذي بالناموس بدليل قوله «لَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ» (ص 3: 9). وعلى هذا قال المسيح «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ ٱلْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْكَرْمَةِ، كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ» (يوحنا 15: 4).

لِمَجْدِ ٱللّٰهِ وَحَمْدِهِ هذا نتيجة كونهم مملوئين من ثمر البرّ لا لمجرد تبريرهم في يوم الرب بل لمجد الله أيضاً ما داموا على الأرض على وفق قول المسيح «بِهٰذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 15: 8 انظر أيضاً أفسس 1: 6 و12 و14). وقوله «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 16).

بيان أحوال الرسول ع 12 إلى 26

12 «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ».

أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا علم الرسول حب الإخوة إياه وقلقهم من جهته وهو في السجن وخاف أن تبلغهم أنباء بأمره كاذبة فتزيدهم اضطراباً لذلك رغب في أن يشرح لهم حاله تمام الشرح وأن يبين لهم انفعالاته وآماله وأن يبشرهم بأن كانت نتيجة حبسه نجاح الإنجيل في رومية وضواحيها.

أُمُورِي أي أحوالي وأنا في سجن رومية كما جاء في (كولوسي 4: 7 وأفسس 6: 21). وأشار بها إلى الشكايات عليه وإقامته بالسجن نحو سنتين وهو مربوط إلى الجندي ليلاً ونهاراً بسلسلة. وأول ما أتاه في بيان تلك الأحوال ما نشأ في سبيل الإنجيل عن سجنه. ولم يتكلم شيئاً في شأن نفسه من تعبه أو راحته وإهانته أو إكرامه. وهذا دليل على أن نجاح الإنجيل كان أول ما اهتم به وأنه أول ما يرغب مؤمنو فيلبي في سمع أنبائه. وهذا موافق لقول المرنم «إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي» (مزمور 137: 5 و6).

قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ كان كل من علم أمور بولس هذه يتوقع أن تكون مانعة من تقدم الإنجيل لكنها تحولت إلى أكثر ما يمكن أن ينتظر أو يُرجى من النجاح على عكس ما كان يخشى طبعاً.

كان الجندي الحارس لبولس يُبدل بغيره مراراً في كل يوم حسب سنة الرومانيين العسكرية وكانت نتيجة ذلك إن سمع كثيرون من أولئك الجنود الوثنيين كلام الإنجيل وكان لبولس أن يقبل كل من يأتي إليه ويتكلم معه (أعمال 28: 16 و30 و31) وكان ممن تنصر من زواره أنيسيموس (فليمون 10).

13 «حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ».

متّى 27: 27 وأعمال 23: 35 وص 4: 22

إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ «الوُثُق» جمع وثاق وهو ما يُشد به من قيد وسلسلة وحبل والمعنى شاع نبأ وُثقي مقترناً باسم المسيح فعلم الناس أني لم أُوثق لذنب ارتكبته بل لأني مسيحي فكان كل من يراني مشدوداً بالوُثق أو يسمع نبأ ذلك يسأل عن العلة فيجاب إنها إيماني بالمسيح والمناداة به فيكون الجواب وسيلة إلى تلك المناداة.

دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وهي في اليونانية بريتوريون (πραιτωριου) وسُمي به قصر بيلاطس في أورشليم (متّى 27: 7 ومرقس 15: 16) وقصر هيرودس الملك في قيصرية (أعمال 23: 35) والثكنة التي بناها طيباريوس قيصر في رومية لسكنى الحرس الملكي. وكان الجنود الذين حرسوا بولس قد أتوا من تلك الثكنة ثم رجعوا إليها وأنبأوا رفاقهم بكل ما رأوا وسمعوا من أموره. وهذا يوضح كيف كان مؤمنون في بيت قيصر (ص 4: 22) لأن حرس بيت قيصر كانوا من أولئك الجنود.

بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ أي ظهرت أموره فوق ظهورها في دار الولاية في سائر رومية وكل مكان يبلغه العسكر وغيرهم من المملكة الرومانية.

كانت رومية وقتئذ مركز العالم المتمدن فكان يأتي إليها كل من له دعوى في الحكومة وكل من رفع دعواه إلى قيصر من كل أقطار المملكة. وكان منها تُرسل الجنود والرؤساء ويخرج البريد إلى تلك الأقطار فينشأ عن ذلك أن يبلغها سريعاً كل ما عُرف في رومية.

14 «وَأَكْثَرُ ٱلإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي ٱلرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْكَلِمَةِ بِلاَ خَوْفٍ».

أَكْثَرُ ٱلإِخْوَةِ ذكر هنا نتائج سجنه في أكثر المؤمنين ولنا من ذلك أن بعضهم كان خائفاً من سجنه وأن بعضهم لم يكترث به.

وَاثِقُونَ فِي ٱلرَّبِّ بِوُثُقِي أي زاد إيمانهم بأن المسيح ربهم ومخلصهم وبحق الإنجيل وزادت غيرتهم للمناداة به وهم يرون شجاعة بولس واحتماله الشدائد بفرح ومواظبته التبشير وهو سجين فتحققوا أكثر مما تحققوا قبلاً قوة الإنجيل على عضد النفس وغيرته للتبشير حملتهم على بث البشرى.

بِٱلْكَلِمَةِ أي بالإنجيل.

15 «أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِٱلْمَسِيحِ، وَأَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ مَسَرَّةٍ».

ص 2: 3

أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ لا ريب في أن هؤلاء القوم إخوة من الحزب الذي يميل إلى حفظ الرسوم اليهودية وقد قاوموا بولس في أكثر المواضع التي بشر فيها فهم الذين حذّر كنيسة فيلبي منهم (ص 3: 2) وأشار إليهم في الرسالة إلى كولوسي (كولوسي 4: 11). نعم إنهم بشروا بالمسيح ولكن بلا نية خالصة إذ كانت غايتهم تكثير الذين يتمسكون بالرسوم الموسوية ويقولون بوجوب تسمك المسيحيين بها فحسدوا بولس وأنكروا تعليمه التبرير بالإيمان دون أعمال الناموس واتخذوا سجن بولس فرصة للافتراء عليه وعلى تعليمه. إن بعض مؤمني رومية كانوا قد آمنوا بالمسيح منذ يوم الخمسين المذكور في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال أي منذ عدة سنين قبل إيمان بولس ولا بد من أن هؤلاء كانوا رؤساء كنيستها ولعلهم عسر عليهم أن يروا بولس متقدماً عليهم في المقام والسلطة وهم قد آمنوا قبله.

فَعَنْ مَسَرَّةٍ أي عن رضىً وموافقة للرسول على تعليمه وعمله وابتهاج بمشاركته في المناداة بالإنجيل.

16، 17 «16 فَهٰؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِٱلْمَسِيحِ لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقاً.17 وَأُولٰئِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ، عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ ٱلإِنْجِيلِ».

ع 7

هٰؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ أشار «بهؤلاء» إلى القسم الأول المذكور في (ع 15) فكان عملهم كعمل المائلين إلى حفظ الرسوم الموسوية من متنصري اليهود في أورشليم (أعمال 21: 20 و21) وأنطاكية (أعمال 15: 1 و2 و5) وكورنثوس (1كورنثوس 3: 3 و10 و2كورنثوس 10: 2 و 9 و10 و11: 13 وغلاطية 3: 4 و4: 17).

لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ أي ليس عن محبة للمسيح وإنجيله ولا عن غيرة للحق ورغبة في خلاص نفوس الهالكين كما قيل في أمثالهم (2كورنثوس 11: 13 و20 وغلاطية 6: 12).

ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقاً أي يجعلونني مضطرب الأفكار فوق آلام سجني بمقاومتهم تعليمي أن للمؤمنين أن يدخلوا كنيسة المسيح بلا ختان أو غيره من الرسوم الموسوية وبإنشائهم في رومية حزباً كأحد الأحزاب التي في كورنثوس يوم قال بعضهم «أَنَا لِبُولُسَ، وَأَنَا لأَبُلُّوسَ، وَأَنَا لِصَفَا، وَأَنَا لِلْمَسِيحِ» (1كورنثوس 1: 12) وتهييجهم غضب مضطهديه بتنديدهم به افتراء. وفي قوله «ظانين الخ» تلميح إلى أنهم لم يبلغوا مرادهم منه.

أُولٰئِكَ الخ أشار بهذا إلى القسم الثاني المذكور في الآية الخامسة عشرة وهو «أكثر المؤمنين» (ع 14) وهؤلاء اعتبروا بولس سفير المسيح سُجن ظلماً من أجل ربه فرغبوا في أن يساعدوه على عمله ومحاماته عن الإنجيل كما جاء في (ع 7) حباً للرسول ولسيده ولنفوس الناس الهالكين. فكان عملهم من أحسن معزيات الرسول في وُثقه.

18 «فَمَاذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ، وَبِهٰذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضاً».

فَمَاذَا؟ أي فما نتيجة عمل المعلمين الذين نادوا بالمسيح «عن حسد وخصام».

عَلَى كُلِّ وَجْهٍ... يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ كان تعليم الإخوة الذين مالوا إلى حفظ الرسوم الموسوية من متنصري رومية يختلف عن تعليم الذين مالوا إلى حفظها في كورنثوس لأن أولئك كانوا «يكرزون بيسوع آخر وبإنجيل آخر» (2كورنثوس 11: 4). وعن تعليم الذين مالوا إلى حفظها في غلاطية لأنهم كانوا كذلك (غلاطية 1: 6) ولعل علة حفظ الذين كانوا في رومية من ضلال الذين كانوا في كورنثوس وغلاطية وجود رسالته إليهم عندهم منذ خمس سنين قبل كتابة هذه الرسالة. ومع أن غاية أولئك المبشرين المقاومين لم تكن عن إخلاص لأنهم نادوا بالإنجيل عن تحزب لم يقل بولس أنهم غيّروا حقائق تعليم أمور المسيح وطريق الخلاص إلى حد لا ينتفع عنده السامعون يتعليمهم فإنه فضل أن يتعلم منهم وثنيوا رومية الإنجيل ناقصاً مثقلاً بالرسوم اليهودية على أن يُتركوا في ظلمة الوثنية الكثيفة ونتائجها الفظيعة التي أبانها في الأصحاح الأول من الرسالة إلى رومية. ونظر في ذلك إلى ما يوافق قول المرنم «غضب الإنسان يحمدك» (مزمور 76: 10). وقول إشعياء في أشور أنه «قضيبه غضب الله وعصاه سخط الله أَمَّا أشور فَلاَ يَفْتَكِرُ هٰكَذَا، وَلاَ يَحْسِبُ قَلْبُهُ هٰكَذَا» (إشعياء 10: 5 و7).

بِهٰذَا أَنَا أَفْرَحُ رغب بولس في أن ينادى بالمسيح وإنجيله لأنه قوة الله وحكمة الله لخلاص سامعيه لكنه لم يرغب في شرفه بين الناس ولا كثرة الذين يحسبون أنفسهم من تابعيه فإنه كان يرغب في أن تصل الناس البشرى بيسوع مصلوباً ويخلصوا بها بأي طريق كانت. فكان شأنه كشأن موسى إذ سأله يشوع أن يردع ألداد وميداد من التنبئ وهم ليسوا في خيمة الاجتماع فقال له: «هَلْ تَغَارُ أَنْتَ لِي؟ يَا لَيْتَ كُلَّ شَعْبِ ٱلرَّبِّ كَانُوا أَنْبِيَاءَ» (عدد 11: 29) وشأن يوحنا المعمدان يوم قال له تلاميذه «يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الإردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه فقال لهم: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 3: 30). فلو كان كل المبشرين بالإنجيل مثل بولس في ذلك لم يكن من تحزب في الكنيسة كما هو الواقع وكان الاتفاق والمحبة بين كل فرق النصرانية وكان الإنجيل تقدم بسرعة عجيبة لأن ليس من الموانع لدخول الإنجيل بين الكفرة وغير التائبين أعظم من الاختلاف بين المسيحيين.

بَلْ سَأَفْرَحُ مهما يقع عليّ من التجارب الناشئة عن تنديد هؤلاء الأعداء ومقاومتهم على أن ينادوا بالمسيح.

19 «لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

2كورنثوس 1: 11 رومية 8: 9

هٰذَا أي تنديدهم به ومقاومتهم إياه.

يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ أي خلاص بولس كما تدل القرينة لأنه تيقن أن تلك المضادة تكون سبيلاً إلى تقوية حياته الروحية وتأهيله لأمجاد السماء التي هي عاقبة الخلاص. ولم يرد بذلك خلاص جسده من خطر أو موت لأنه قال في الآية التالية إن الموت ليس خسارة له بل ربحاً. فاعتقد أن كل المصائب وسيلة إلى تقديسه وتمجيده (2كورنثوس 4: 17) وحسب تلك المضادة من جملتها.

بِطِلْبَتِكُمْ الخ قال هذا تواضعاً وبياناً لوفرة اعتباره صلاتهم. فتوقع انه يُعطى نعمة الروح القدس إجابة لتلك الصلاة «بمؤازرة» (غلاطية 3: 5). وبذلك تتحول عداوة مقاوميه في الكنيسة إلى نفعه الروحي. وسمى الروح القدس هنا «بروح يسوع المسيح» كما في (رومية 8: 9 وغلاطية 4: 6 و1بطرس 1: 11) لأنه يرسله ولأنه امتلأ به حين كان على الأرض واقتيد به (لوقا 4: 1). واعتبر الروح القدس هنا الهبة والواهب لأنه حيث كان هو كانت النعمة. وأصل التعزية الحقة في كل نازلة هو روح المسيح يناله المؤمن إجابة لصلاته وصلاة إخوته من أجله.

20 «حَسَبَ ٱنْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذٰلِكَ ٱلآنَ، يَتَعَظَّمُ ٱلْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ».

رومية 8: 19 رومية 5: 5 أفسس 6: 19 و20

حَسَبَ ٱنْتِظَارِي وَرَجَائِي الانتظار والرجاء في أصلها اليوناني يعنيان أنه يرجو أن لا يعمل في أثناء ما يقع عليه من الأرزاء شيئاً يستوجب الخجل عليه أو على أحد من أصدقائه لا حين يقاومه أعداؤه ولا حين يقف أمام نيرون للمحاكمة ولا حين يكون في خطر الموت فلا ينكر حق الإنجيل ولا يخاف أن يشهد بكل مبادئه. رغب الرسول في شيئين أكثر من سواهما وهما نجاح الإنجيل على يده وخلاص نفسه فتيقن أنه لا يخزى من نتائج تبشيره بمقاومة بعض الناس إياه وإن رجاءه الخلاص لا يبطل بذلك.

أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ من عملي لأجل المسيح وعمل المسيح فيّ. والمعنى أنه يرجو أن لا يعمل في أثناء ما يقع عليه من الأرزاء شيئاً يستوجب الخجل عليه أو على أحد من أصدقائه لا حين يقاومه أعداؤه ولا حين يقف أمام نيرون للمحاكمة ولا حين يكون في خطر الموت فلا ينكر حق الإنجيل ولا يخاف أن يشهد بكل مبادئه. رغب الرسول في شيئين أكثر من سواهما وهما نجاح الإنجيل على يده وخلاص نفسه فتيقن أنه لا يخزى من نتائج تبشيره بمقاومة بعض الناس إياه وإن رجاءه الخلاص لا يبطل بذلك.

كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ إنه منذ ابتدأ بولس يعلّم ويبشر منحه الله القوة على المجاهرة لكي يتكلم بكل مشورة الله كما منح سائر الرسل (أعمال 4: 31 و14: 3 و18: 26).

يَتَعَظَّمُ ٱلْمَسِيحُ يظهر من سياق الكلام أنه كان الوجه أن يقول أمجد المسيح بمجاهرتي لكنه لم يرد أن ينسب شيئاً إلى عمله فقال «يتعظم المسيح».

فِي جَسَدِي معتبراً جسده آلة لتمجيد المسيح بكلامه إن بقي حياً ولتمجيده بآلامه وموته إن مات شهيداً. وهذا موافق لقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ٱلْمَائِتِ» (2كورنثوس 4: 10 و11). وكثيراً ما جاء الجسد في الإنجيل كآلة للخطية ولكنه جاء هنا آلة لتمجيد الله كما في قوله «فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ» (1كورنثوس 6: 20). وقوله «لْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1تسالونيكي 5: 23). وقوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1كورنثوس 6: 19).

بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ انتظر أنه إن بقي حياً يعمل للمسيح فيتمجد بمناداته وإن مات شهيداً يتحد معه في السماء ويمجده هنالك بتسابيحه.

21 «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ».

لِيَ أفاد بذلك أنه ليس كغيره ممن يرون في الموت أو الحياة ما يحملهم أن يفضلوا أحدهما على الآخر لكنه حُصر بين الأمرين فلم يعلم أيهما يختار لأنه رغب في أن يترك خيمة جسده ويكون مع المسيح في السماء ورغب أيضاً في أن يفيد إخوته المحتاجين إلى تعليمه ومساعدته وأنه ما دام في هذه الحال يشعر أن صوتاً يخاطب روحه ويحقق له أنه يبقى حياً إلى حين ليثبت إيمانهم ويزيد فرحهم.

ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ أي إني أحيا بالاتحاد بالمسيح فليس لي حياة بالانفصال عنه. وهذا موافق لقوله «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (غلاطية 2: 20) كان المسيح مصدر حياته الروحية منذ آمن به لكنه لم يقصد ذلك هنا بل بيان حاله حين كتب هذه الرسالة. فإن ظواهر حياته لم تكن إلا ظواهر حياة المسيح فيه ولذلك لم تكن أفكاره إلا الأفكار التي أنشأها المسيح فيه ولا أقواله ولا أفعاله إلا مما أمره المسيح به وقدّره عليه. وهو لم يحيَ ليكسب العلم أو الشرف أو اللذة أو المال فلم تكن غايته إلا إرضاء المسيح وتمجيده. وهذا يتضمن أنه قصد أن يعرف المسيح كل المعرفة وأن يقتدي به ويطيعه وأن يجعل غيره يعرف المسيح ويحبه ويتكل عليه.

وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ يريد أنه إن قُتل في محاكمته أمام نيرون لم يكن بذل حياته خسارة بل ربحاً على أنه لم يرد أن الموت نفسه ريح لأنه كان يخشى ألم الموت كسائر الناس بل أراد الحال التي يصير إليها بعد الموت. والموت عند الإنسان الدنيوي خسارة كل محبوب إليه لكنه عند المسيحي عكس ذلك لأنه بالموت يزيد اتحاده بالمسيح وشعوره بذلك الاتحاد. وهذا أول أسباب حسبانه الموت ربحاً لأن الذي يحبه وإن لم يره وجهاً لوجه ويبتهج بمشاهدته. ومن أسباب كون الموت ربحاً للمؤمن انه يتخلص من الخطيئة وكل متعلقاتها الجسدية والروحية ومن التجارب والأحزان والآلام والأتعاب والأعداء والمضطهدين ومنها اجتماعه بالأصدقاء في السماء ونيل سعادة السماء التي تفوق سعادة الأرض بما لا يوصف. فيكون ربحه أعظم من ربح الأسير المهان إذا أُطلق من السجن إلى القصر ضيفاً مكرماً وأوفر من ربح المريض المتألم إذا نال الشفاء التام وأسمى من ربح المنفي من وطنه وأحبائه إذا رُد إليهما. وتيقن بولس ذلك شجعه على أن يتوقع الموت مسروراً.

22 «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي!».

إِنْ هي هنا للقطع لا للشك.

ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ أي الحياة على الأرض. قال هذا مقابلة للحياة في السماء التي رآها ربحاً.

هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي أي هي شرط ضروري لإثمار عملي فكأنه قال إن الله وهب لي الحياة لتكون أتعابي مثمرة. قال آنفاً «إن الموت ربح» له لكنه كان يشتهي كثيراً أن يكون تعبه مثمراً كقوله «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَاراً كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى ٱلآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ» (رومية 1: 13). وقوله «اطلب الثمر المتكاثر لحسابكم» (ص 4: 7). وبقاؤه ضروري لإثمار أعماله ونضجه. وهذا جعله يتردد في ما يختاره من الموت والحياة فإنه ينال بالموت سعادة في السماء أوفر من السعادة التي له على الأرض ولكنه ببقائه حياً يخلص كثيرون من الفيلبيين من الموت الأبدي في جهنم وينالون الحياة الأبدية في السماء. فلا عجب من أن يتوقف عن أن يؤثر الربح لنفسه على ربح كثيرين من النفوس.

فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي أي إن خيّره الله بين الموت والحياة لم يدر أيهما يختار فإنه يرى أسباباً ليريد كلاً من الأمرين لكنه لم ير سبباً لإيثار أحدهما على الآخر.

23 «فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ: لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً».

2كورنثوس 5: 8 و2تيموثاوس 4: 6 ورؤيا 14: 13

فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ رغب في الموت مع السعادة ورغب في الحياة مع العمل لنفع غيره وذكر الأمرين لبيان صعوبة اختيار أحدهما على الآخر.

لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ أي بالنظر إلى نفسي دون النظر إلى غيري. وبقوله «أنطلق» اعتبر حياته على الأرض كالسكن في الخيمة (2كورنثوس 5: 1) أو كحياة بني إسرائيل في البرية يرحلون من موضع إلى آخر حتى بلغوا أرض الميعاد وسكنوها. واعتبر السماء أرض الميعاد العلوية التي هي الميراث الأبدي لشعب الله.

وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ من تعليم الإنجيل أن نفوس المؤمنين عند الموت تدخل حالاً السماء وتصير في حضرة الرب (لوقا 23: 43 وأعمال 7: 59 و2كورنثوس 5: 6 - 8 وعبرانيين 12: 22 و23). وهذا عند الرسول الجزء الأعظم من الربح الذي ذكره في الآية الحادية والعشرين. فانطلاقه يُدخله إلى حضرة المسيح وهذا يؤكد قداسته وسعادته كقول يوحنا الرسول «نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2). وكثيراً ما عُبر في الإنجيل عن موت المؤمنين «بالنوم» (1كورنثوس 15: 51 و52 و1تسالونيكي 4: 14 - 16 ورؤيا 14: 13). والمراد بذلك بيان أن ذلك الموت راحة من تعب تعقبه القيامة لا إن النفس تفقد إحساسها كالجسد الميت إلى يوم الدين.

ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً من الحياة في الجسد على الأرض وهذا يمنع من القول بأن النفس المتوفاة تبقى بلا حس إلى يوم المعاد وفي هذا بيان شدة محبته للمسيح ورغبته في أن يكون معه وعظمة الربح بذلك. لكن لا يكون كذلك إلا موت الذين اتحدوا بالمسيح بالإيمان وهم على الأرض وموت غيرهم كل الخسارة الأبدية. هذا وإن اشتهاء الموت في نفسه ليس بدليل على استعداد مشتهيه له فربما اشتهى الإنسان الموت للتخلص من الألم أو اليأس أو شدة الندم أو جهد البلاء.

24 «وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ».

أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أي حياً على الأرض وهذا مبني على أن للنفس حياة مستقلة عن الجسد فتقدر أن تحيا بدونه كما تحيا فيه.

أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ علم الرسول أن الله استحسن أن يستخدم البشر وسيلة إلى خلاص الناس مع أنه غني عنهم وعلم أن الكنائس التي أنشأها هو (وإحداها كنيسة فيلبي) مفتقرة إلى عنايته بها ليستفيدوا من اختباره وسيرته ونصائحه وإنذاراته وتعزياته. واشتهى هذا النفع لهم لكي يتمجد المسيح بخلاصهم علاوة على انتفاعهم. فهو نظير والد له أولاد قاصرون يحتاجون إلى أن يغذيهم مدة طفوليتهم فاشتهى أن يبقيه الله حياً إلى أن يبلغوا سن الرشد.

25 «فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ».

ص 2: 24

فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا لم يقل أن ذلك مما أعلنه الله له صريحاً لكنه تحققه بقلبه ورأى أنه لا يكون إلا بإرشاد الروح القدس. فثقته هنا كثقته في قوله في (ص 2: 24). وعلم أيضاً أن بقاءه حياً مما تحتاج إليه الكنائس وهذا حمله على اعتقاد أن الله يقضي بما احتاجت إليه الكنائس أي ببقائه حياً. والنتيجة أثبتت صحة ثقته (انظر 1تيموثاوس 1: 3).

أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ أي لا أزال حياً لنفعكم ونفع سائر الكنائس.

لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ توقّع أنه بواسطته يتقوى المؤمنون بمعرفة الإنجيل وبإيمانهم بالمسيح وينتج من ذلك ازدياد فرحهم لأنه به تتبدد ظلمتهم وتُغلب تجاربهم ويشتد اتحادهم بالمسيح فاعقتد أن فرحهم يزيد أيضاً بوجوده بينهم.

26 «لِكَيْ يَزْدَادَ ٱفْتِخَارُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضاً عِنْدَكُمْ».

2كورنثوس 1: 14 و5: 12

لِكَيْ يَزْدَادَ ٱفْتِخَارُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إن افتخار الإنسان بنفسه إثم ناشئ عن الكبرياء لكن افتخاره بالمسيح اعتراف رحمته تعالى إياه ووسيلة إلى تمجيد الله. ومقصود الرسول أن الفيلبيين ينالون بواسطة تعليمه وسيرته وصلواته زيادة نعمة من الرب يسوع المسيح وهذا يحملهم على الشكر والحمد والتمجيد للمسيح.

فِيَّ أي بواسطتي. قال ذلك لأنه إن بقي حياً على الأرض نسب الفيلبيون بقاءه إلى المسيح وحمدوه عليه.

حُضُورِي أَيْضاً عِنْدَكُمْ اعتقد أنه إذا أُطلق من السجن صار إليهم كما قال في (ص 2: 24).

حث الرسول على الثبات في أثناء الضيقات ع 27 إلى 30

27 «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِباً أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ ٱلإِنْجِيلِ».

أفسس 4: 1 وكولوسي 1: 10 و1تسالونيكي 2: 12 و4: 1 ص 4: 1 و1كورنثوس 1: 10 ويهوذا 3

فَقَطْ أي ما يأتي هو الأمر الأهم الذي أمركم به (حاضراً كنت أو غائباً) ليكمل فرحي فيكم.

عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ أي لتكن سيرتكم كما يليق بعبيد المسيح وبإخوة في الكنيسة وبأعضاء ملكوت الله على مقتضى السنن المعلنة في الإنجيل. فهذا كقوله «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ... أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا» (أفسس 4: 1). وقوله «لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ» (كولوسي 1: 10). فيجب على المسيحي أن يعيش بمقتضى مبادئ الإنجيل في بيته وفي متجره وفي عبادته في بيت الله وفي كلامه وهيئة ملبوسه ونوعه في شغل وقته واستعمال ماله وتصرفه مع المؤمنين وغيرهم حتى يعتبره جميع الناس صادقاً مستقيماً فاعل الخير غير محب لذاته بل تابعاً لذلك «ٱلَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً» (أعمال 10: 38).

حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ قال ذلك على فرض أنه يُطلق من السجن فإنه قصد بعد ذلك إن أمكن الإتيان إليهم.

أَوْ كُنْتُ غَائِباً ببقائي في سجن رومية أو بدعوة الله إياي إلى الخدمة في غير فيلبي أي في رومية أو غيرها بعد إطلاقي من السجن.

أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أي نبأ أموركم. إن محبته لأولاده الذين ولدهم بالبشرى حملته على أن يسأل دائماً عن أحوالهم كالوالد المحب الذي يسأل عن أولاده بعد المفارقة.

أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ أي متحدين كأعضاء جسد واحد وأهل بيت واحد على وفق طلب المسيح إلى أبيه لتلاميذه وهو على وشك أن يفارقهم وهو قوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا 17: 21) فإنهم إذا ثبتوا كذلك عاشوا كما يحق لإنجيل المسيح.

مُجَاهِدِينَ مَعاً الخ هذا الشرط الثاني لكي يعيشوا كما يحق للإنجيل فيجب أن لا يكتفوا بمعرفته والتمتع بآماله وبركاته بل أن يبذلوا جهدهم في نشره بين غيرهم لينتفعوا به وبذلك يتمجد الله. وقوله «مجاهدين» يستلزم وجود الحرب بين الحق والباطل وبين الله والشيطان يجاهد فيها كل جنود المسيح يداً واحدة لكي ينتصر الحق ودين الله.

والمراد «بإيمان الإنجيل» الدين المسيحي المعلن بالإنجيل.

28 «غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذٰلِكَ مِنَ ٱللّٰهِ».

2تسالونيكي 1: 5 رومية 8: 17 و2تيموثاوس 2: 11

غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ هذا ضروري لكي يثبتوا وقصد أعدائهم تخويفهم عالمين أن الخوف مما يحمل الإنسان على الرجوع عن الإيمان.

مِنَ ٱلْمُقَاوِمِين من الوثنيين كالذين اضطهدوا بولس في أول إتيانه إلى فيلبي (أعمال 16: 19 - 22) ومن اليهود كالذين قاوموه في تسالونيكي وبيرية (أعمال 17: 5 و13). فلا عجب من أن ما أصاب بولس أصاب مؤمني فيلبي أيضاً وأشار إلى مقاومة أولئك المقاومين في (ع 29 و30).

ٱلأَمْرُ أي ثباتهم زمن الاضطهاد.

لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ يريد أن ثباتهم دليل على هلاك المقاومين لأنه آية على أن ليس لهم من سلطان عليكم وإنهم يقاومون قوة أعظم من قوتهم أي قوة إلهية لا بد من أن يسقطوا بها إلى الموت الأبدي «عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (2تسالونيكي 1: 7).

وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ من الموت الثاني كقوله لمؤمني تسالونيكي إن آلامهم لأجل ملكوت الله بيّنة على أنهم حُسبوا أهلاً لأن يكونوا من أعضاء ذلك الملكوت. ولا ريب في أن هذه البيّنة عزّت بولس وسيلا في سجن فيلبي حتى أمكنهما أن يسبحا الله في شدة ضيقهما وآلامهما على إعطاء الله إياهما ذلك آية لخلاصهما.

لم يقل أن آلامهم واسطة لخلاصهم بل بيّنة من الله على أنهم من جملة المخلصين بالإيمان بالمسيح.

وَذٰلِكَ مِنَ ٱللّٰهِ الذي وحده يمنحكم القوة لكي تثبتوا غير مخوفين أمام مقاوميكم. إن شجاعتهم وثباتهم كانا شهادة من الله بأنهم يخلصون.

29 «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ».

أعمال 5: 41 ورومية 5: 3 أفسس 2: 8

قَدْ وُهِبَ لَكُمْ من نعمة الله على سبيل البركة. وجاءت «الهبة» بهذا المعنى في (أعمال 27: 24 و1كورنثوس 2: 12 وغلاطية 3: 18).

لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ إن الله وهب لهم الشجاعة والثبات لنسبتهم إلى المسيح ولتألمهم من أجله وشهادتهم بحقه فلم تكن شجاعتهم طبيعية أو ناشئة عن الشعور بالخطر ولا عن العناد ولا عن الجنون كما قال الوثنيون مراراً كثيرة حين قتلوا المسيحيين لامتناعهم عن تقديم الذبائح للأوثان إنما هي ناشئة عن نعمة الله ومحبتهم للمسيح (أعمال 5: 41).

لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ إن الإيمان عطية الله ينشئه الروح القدس في المختارين (يوحنا 1: 12 و13). وهذا لا ينفي أن الإيمان من فعل الإنسان أيضاً فإن الله يضع موضوع الإيمان أمام الإنسان ويقدّره على أن يؤمن به.

بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ يعسر على أهل العالم أن يدركوا كيف أن المؤمنين يعتبرون الآلام من أجل المسيح نعمة ولكن الإنجيل صرّح بذلك وعليه قول لوقا «أَمَّا هُمْ (أي الرسل) فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ ٱلْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ (أي اسم المسيح)» (أعمال 5: 41). وقول بولس «أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي» (كولوسي 1: 24). وقول بطرس «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (1بطرس 4: 13 انظر مرقس 10: 30 ويعقوب 1: 2). إن المسيحيين يحسبون ما يقع عليهم من الاضطهاد علامة رضى الله عنهم لتبيينه أنهم متحدون بالمسيح ومشاركون له في ضيقاته. ولأنهم أحبوا المسيح وإنجيله يحبون كل ما يشهد بصحة دعاويهما فيثبت أنهم للميسح بدليل قوله تعالى «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ لَكَانَ ٱلْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلٰكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، لِذٰلِكَ يُبْغِضُكُمُ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا 15: 19). ولأنهم يعلمون أن عاقبة حمل الاضطهاد لأجل المسيح إكليل الحياة (رؤيا 2: 10) وأن المسيح كُمّل بالآلام ليهب الخلاص للمؤمنين فلاق أن يكملوا بها ليقبلوا الخلاص (عبرانيين 2: 10).

30 «إِذْ لَكُمُ ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَٱلآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ».

كولوسي 2: 1 أعمال 16: 19 الخ و1تسالونيكي 2: 2

ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ أي المحاربة الروحية في سبيل المسيح وإنجيله التي دُعي إليها كل المسيحيين في كل العصور.

ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ أشار بذلك إلى سجنه في فيلبي وجلده هناك (أعمال 16: 19) ولم يُرد أنهم أُصيبوا بما أُصيب به من الشكاية الباطلة والضربات بل إنهم اضطهدوا اضطهاداً شديداً كاضطهاده وللغاية التي هو اضطُهد لها.

وَٱلآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ وأنا في رومية فإنهم سمعوا نبأ سجنه هناك وأرسلوا أبفرودتس ليخدمه وكانوا على وشك ان يسمعوا أنباءه أيضاً بعد رجوع أبفرودتس حاملاً رقيم الرسول.

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

حث الرسول مؤمني فيلبي على الاتحاد والتواضع اقتداء بالمسيح (ع 1 - 11). وعلى التقدم في الحياة الروحية لكي يكونوا أنواراً في العالم وتعزية وفرحاً للرسول نفسه (ع 12 - 18). وإنباؤه إياهم بأنه سيرسل تيموثاوس إليهم ومدحه له ورجوع أبفرودتس وذكر ما قام به من الخدمة له (ع 19 - 30).

حثهم على الاتحاد والتواضع اقتداء بالمسيح ع 1 إلى 11

1 «فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي ٱلْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي ٱلرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ».

2كورنثوس 13: 14 كولوسي 3: 12

ذكر في هذه الآية أربع علل لوجوب ما سيأمر به منها اثنتان من العلل الخارجية وهما الأولى والثالثة واثنتان من العلل الداخلية وهما الثانية والرابعة.

إِنْ «إن» هنا للقطع بوقوع الشرط لا للشك وهذا مبني على ما كانوا قد اختبروه فمفاد قوله «إن كان وعظ في المسيح» كمفاد قول الرسول «إن كان لأحد أذنان للسمع» (مرقس 4: 23). ومراد الرسول إن كنتم قد سمعتم وعظي باسم المسيح أو وعظ غيري به واختبرتم منفعته فاصغوا الآن إلى ما أقوله وأطيعوا. فإنهم كانوا قد سمعوا وعظه يوم دعاهم إلى الإيمان بالمسيح واقتفاء خطواته فالتمس منهم أن يتمموا فرحه بالإصغاء والطاعة.

إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ أشار هنا إلى التعزية التي ينالها المؤمنون من محبتهم الأخوية واتحادهم فإنهم بها تقووا وتشجعوا في التقوى والخدمة ومقاومتهم للشر واحتمالهم للضيقات والشدائد. وتظهر فائدة المحبة الأخوية والاتحاد من قول النبي «يَطْرُدُ وَاحِدٌ أَلْفاً، وَيَهْزِمُ ٱثْنَانِ رَبْوَةً» (تثنية 32: 30). ومن قول الجامعة «اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ» (جامعة 4: 9) وقوله «ٱلْخَيْطُ ٱلْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعاً» (جامعة 4: 12). إن للناس تسلية في حب الوالدين للأولادة والرجال لنسائهم وحب بعض الإخوة والأخوات لبعض وحب الصديق للصديق لكن تلك التسلية ليست شيئاً بالنسبة إلى التسلية الناشئة عن محبة الله ومحبة المسيح ومحبة بعض المسيحيين لبعض. إن في المحبة تسلية للمحبوب إذا أخذ بينات المحبة ولكن التعزية العظمى في إظهار المحبة. وهذا نوع من سعادة الله المعطي بسخاء الذي اسمه محبة (1يوحا 4: 8).

شَرِكَةٌ مَا فِي ٱلرُّوحِ أي شركة روح الإنسان مع الروح القدس. جاء مثل هذا في (2كورنثوس 13: 14) وفي البركة الرسولية التي ختم بها بولس أكثر رسائله. إن روح الله القدوس سكن كثيراً في المسيح ويسكن في كل المؤمنين به (1كورنثوس 12: 4 و13). وسكنى الروح الواحد في كل المؤمنين ينشئ ضرورة الاتحاد في المحبة وفي الغاية وفي الأفراح. ويوجب عليهم أن يطيعوا أمر الرسول بأن يفتكروا فكراً واحداً.

أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ اعتبرت الأحشاء مركز الشفقة ورقة القلب التي تحمل على الرحمة فعلاً (انظر تفسير ص 1: 8). ومراد الرسول بها هنا أن إصغاءهم إلى طلبه والطاعة له إظهار لرأفتهم وشفقتهم على الرسول على أحسن أسلوب بناء على كونه أباهم الروحي ونظراً إلى ضيقاته في سبيل المسيح وسبيل نفعهم وإن عدم الإصغاء إظهار للقسوة والغلظة وعلة حزن له.

2 «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً».

يوحنا 3: 29 رومية 12: 16 و15: 5 و1كورنثوس 1: 10 و2كورنثوس 13: 11 وص 1: 27 و3: 16 و4: 2 و1بطرس 3: 8

فَتَمِّمُوا فَرَحِي ابتدأ فرحه حين آمنوا بالمسيح واستمر استمرارهم على إيمانهم وبإحسانهم إليه. وكان من مقتضيات إتمامه ما سيأتي الكلام عليه من الاتحاد والغيرة والتواضع. ومن البيّن من كلامه هنا أنه لم يكن بينهم ما يجب من الاتفاق وذلك منعه من السرور التام. على أن مقصده الأعظم لم يكن فرحه وإن ذكره أولاً إنما هو اتفاقهم.

حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً أوصاهم بهذا كما أوصى مؤمني رومية (رومية 12: 16 و15: 5). ومؤمني كورنثوس (2كورنثوس 13: 11). والمراد مواساة بعض الإخوة لبعض. وهذا ما طلبه المسيح لتلاميذه قبل مفارقته إياهم بقوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا 17: 21).

وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ يمكن أن يفتكر الناس فكراً واحداً في أن يبغض كل منهم الآخر ولكن الذي أراده الرسول هنا هو أن يشترك المؤمنون في المحبة وذلك أساس كونهم يفتكرون فكراً واحداً. ويهون على الناس ويسرهم أن يتفقوا في الفكر والعمل إذا وُجد الحب بينهم ولذلك حثهم الرسول على التقدم في المحبة التي هي أعظم الفضائل (1كورنثوس 13: 13). فمن لهم محبة لربهم لهم حب بعضهم لبعض وإلا فلا بدليل قول الحبيب «أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً» (1يوحنا 4: 21).

بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ هذا أدل على الاتحاد من كونهم مفتكرين فكراً واحداً لأن لانفعالات القلب قوة على الإنسان أعظم من قوة أفكار عقله. وهذا من صفات المسيحيين الأولين بدليل قول لوقا «وَكَانَ لِجُمْهُورِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ» (أعمال 3: 32) فأراد أن يكون مؤمنو فيلبي مثل أولئك.

مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً يصعب التمييز بين هذه العبارة وقوله في أول الآية «تفتكروا فكراً واحداً» ولعله قصد في الأولى الاتفاق في الأمور الكبرى العامة وفي الثانية الاتفاق في الأمور الصغرى الخاصة. أو إنه أراد في الأولى أن يكون الاتحاد باطناً وفي الثانية أن يكون باطناً وظاهراً.

3 «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

غلاطية 5: 26 وص 1: 15 و16 ويعقوب 3: 14 رومية 12: 10 وأفسس 5: 21 و1بطرس 5: 5

لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ أي غير عاملين شيئاً بتحزب الخ. فما قاله في الآية الأولى على سبيل الإيجاب قاله هنا على سبيل السلب. إن تعظم الإنسان بحزبه وتعظمه بنفسه مكروهان إلى الله وضاران للناس في الأمور السياسية والأمور الدينية وهما لا يليقان بالمسيحيين على نوع خاص. ولكن أكثر أعمال الناس ناشئ عن أحد هذين التعظمين أو عن كليهما. ويشهد تاريخ الكنيسة بفرط الضرر الذي نشأ عن الأحزاب فيها. ويشهد تاريخ كل بيت وقرية بما نشأ عن التعظم بالنفس من الأضرار بسلامهما وسعادتهما. لام بولس على التحزب في الكنيسة (1كورنثوس 1: 10 - 17) ولام عليه عموماً (1كورنثوس 13: 4 و5). وحذّر المسيح تلاميذه منه (مرقس 9: 36 ولوقا 23: 24 - 27).

بِتَوَاضُعٍ أكثر ما نشأت هذه الفضيلة من مقابلة أنفسنا بالله وتأملنا في عظمته تعالى وحقارتنا وقداسته وخطيئتنا وغناه وافتقارنا إليه فتواضعنا أمامه وأمام الناس أيضاً. فمن شعر بافتقاره إلى الله في كل شيء لا يميل أن يفتخر على غيره من الناس أو يعظم نفسه بينهم.

حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ الخ إن الكبرياء تحمل الإنسان على أن يحسب نفسه أفضل من غيره وأن يطلب لنفسه أول مقام في الرتبة والسيادة. والتواضع يحمله على الاكتفاء بمنزلة دون منزلة غيره. وقوله هنا كقوله في الرسالة إلى رومية «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِٱلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية 12: 10) وقول بطرس «كُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ» (1بطرس 5: 5). ونتيجة حسبان الإنسان غيره أفضل منه هي أن ينتفي من العالم روح التحزب وطلب السيادة وحب الإطراء ويعين الإنسان على ذلك الحسبان نظره في عيوب نفسه وفساد قلبه وأفكاره الشريرة وشهواته فإنه يستطيع أن يتحقق ذلك في نفسه ولا يستطيع أن يتحققه في غيره وإنه إن عرف عيوب غيره فهو لا يعرف شدة المحن التي أدت به إليها. ومما يعينه عليه أيضاً أن يلتفت إلى فضائل غيره لا إلى رذائله وإلى ما يفضله غيره به من السجايا لا إلى ما ينقص عنه به. والذي يعمينا عن محاسن غيرنا أكثر من كل المعميات هو الحسد.

4 «لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً».

1كورنثوس 10: 24 و33 و13: 5

لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ ليس مراد الرسول بهذا أن لا ينظر الإنسان إلى ما هو لنفسه مطلقاً لأن ذلك النظر لا بد منه لحفظ حياته لكن المراد أنه لا يقتصر على النظر إليه. فمضمونه مضمون قوله تعالى «تحب قريبك كنفسك» فيجوز أن يحب الإنسان نفسه بما هو ضروري لحياته وأعماله فكأنه قال لا تؤثروا أنفسكم على غيركم ولا تدوسوا حقوق غيركم وتغفلوا عن حاجاتهم. ولا تسمحوا بأن أموركم وأمور أهل بيوتكم تشغل كل أفكاركم. وكل من يسأل سؤال قايين «أحارس أنا لأخي» فهو ممن يخطأون بمخالفتهم قول الرسول هنا فخير لنا أن نتبع قانونه وهو قوله «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ» (رومية 14: 7). فانظر تفسيره.

بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً أي افعلوا ذلك علاوة على النظر إلى ما هو للنفس. فيجب علينا أن نطلب نفع كل من حولنا في الجسديات والروحيات وأن نحسن بالأولى إلى إخوتنا وأخواتنا بالمسيح. وأن نحثهم على التقدم في التقوى وعمل الصلاح وأن نعلم جهلاءهم ونرد ضاليهم إلى المسيح. فأبان الرسول الروح الذي طلبه منهم هنا حين قال ما معناه أنه يفضل أن يبقى معهم لمنفعتهم على ما اشتهاه من الحضور مع المسيح (ص 1: 24). وهذا يوجب علينا أن نسأل عن الفقراء والمرضى والأرامل واليتامى وكل المصابين وأن نعين المحتاجين على قدر احتياجهم وأن نعمل كل ما نستطيع في سبيل خلاص غير المؤمنين أي أن ننبههم على خطرهم ونقودهم إلى المسيح. وهذا أعظم نفع يمكننا أن نأتيه. إن الطاعة لهذه الآية تجعل الأرض كالسماء في أقصر وقت.

ومن البيّن أن الآية لا تسمح للإنسان أن يتعرض لما لا يحق له من أمور غيره فإن ذلك ممنوع بما قيل في (2تسالونيكي 3: 11 و1تيموثاوس 5: 13 و1بطرس 4: 15). ولا أن نبحث عن أمر يريد صاحبه إخفاءه في متجره أو أهل بيته ونشيعه بين الناس (أمثال 11: 13 و26: 20).

5 «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هٰذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً».

متّى 11: 29 ويوحنا 13: 15 و1بطرس 2: 21 و1يوحنا 2: 6

في هذه الآية وما يليها إلى نهاية الآية الحادية عشرة أثبت الرسول ما سبق من كلامه بذكر ما أتاه المسيح من التواضع والتنازل وإنكار النفس مثالاً للمؤمنين فكأنه قال تواضعوا كما تواضع المسيح لأن المسيح مع أنه أزلي ومساوٍ للآب في القدرة والمجد لم يرغب في أن يبقى متمسكاً بمظاهر لاهوته ومجده الإلهي وبيان مساواته للآب بل جرّد نفسه من أمجاد السماء وأخذ طبيعة العبد أي الإنسان بل أنه اتضع إلى أكثر من ذلك إذ أطاع حتى الموت. والموت الذي ماته لم يكن موتاً عادياً بل موت مصلوب من شر المذنبين وأدناهم فلذلك عظم ارتفاعه كعظمة اتضاعه.

فَلْيَكُنْ فِيكُمْ أي في أذهانكم ونواياكم.

هٰذَا ٱلْفِكْرُ الخ أي التواضع الذي هو كتواضع المسيح.

6 «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ».

يوحنا 1: 1 و2 و17: 5 و2كورنثوس 4: 4 وكولوسي 1: 15 وعبرانيين 1: 3 يوحنا 5: 18 و10: 33

إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ قبل تجسده وإتيانه إلى العالم. إن اتضاعه ابتدأ منذ تجسده واستمر إلى دقيقة صعوده. ومعنى «صورة الله» هنا صفاته تعالى أو جوهره كما أن أخذه صورة العبد كان آخذاً لصفات الإنسان وجوهره لأن الله روح لا صورة جسدية له كما توهم الوثنيون بدليل قوله «ٱلَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ ٱلْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، ٱلَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (1تيموثاوس 6: 16). وحاله يوم كان في صورة الله حاله التي وصفه فيها يوحنا الإنجيلي «بالكلمة» (يوحنا 1: 1 - 5). وما قاله بولس هنا في شأن المسيح قبل تجسده يوافق ما قاله في (أفسس 1: 10 و20 - 23 وكولوسي 1: 15 - 19 و2: 9 - 11 وعبرانيين 1: 2 - 4) وما قاله المسيح في شأن نفسه من جهة مجده الذي كان له قبل كون العالم (يوحنا 17: 5). وكان الله يري موسى وشيوخ إسرائيل شيئاً من ذلك المجد (خروج 24: 10 و11).

لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أي لم يعد إظهار مساواته الطبيعية الأصلية لله كذلك. ومعنى «الخلسة» شيء يتمسك به الإنسان ويقبض عليه من كنز أو غنيمة ويخشى أن يخسره ويحب إظهاره والافتخار به أمام غيره. فالمسيح لم يعتبر بيان لاهوته كذلك بل آثر عليه إنشاء الفداء معتبراً ذلك أعظم السرور والمجد. وهذا ابتداء إنكاره لنفسه واستعداد لإخلائها. وإذ كان له كل قدرة اللاهوت باعتبار كونه ابن الله كان يمكنه أن يظهر مجده على الأرض كما توقع اليهود من مسيحهم لكنه فضل لخلاص البشر أن لا يعلن هذا المجد الذي له.

أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ أي بيان أن يكون كذلك وذلك أن يظهر ما له من الإكرام والوقار والمجد المختص بالطبيعة الإلهية. وإعلان كونه معادلاً لله ليس سوى إعلان ما كان عليه منذ الأزل. فكان له الحق في التمسك به والمعالنة به ولكنه سرّ بالعدول عنه وقتاً رغبة في عمل الفداء. وصار في ذلك مثالاً لنا لكي لا ننظر في ما هو لأنفسنا بل في ما هو للآخرين أيضاً.

7 «لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ».

مزمور 22: 6 وإشعياء 53: 3 ودانيال 9: 26 ومرقس 9: 12 ورومية 15: 3 إشعياء 42: 1 و49: 3 و6 و52: 13 و53: 11 وحزقيال 34: 23 و24 وزكريا 3: 8 ومتّى 20: 28 ولوقا 22: 27 يوحنا 1: 14 ورومية 1: 3 و8: 3 وغلاطية 4: 4 وعبرانيين 2: 14 و17

لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ من صورة الله أي إنه ظهر للناس بدون علامات اللاهوت كأنه جرد نفسه من كل بينات عظمته ومجده وفعل ذلك اختياراً إذ أتى متجسداً ليخلص البشر. وليس المراد أن المسيح جرّد نفسه من الجوهر الإلهي لأنه يستحيل أن يخرج أحد من حقيقة نفسه خالقاً أو مخلوقاً. فإن ابن الله لما صار إنساناً لم يزل إلهاً فبقي لاهوته فيه وكان يظهر أحياناً بكلامه ومعجزاته. فمراد الرسول أن المسيح بدلاً من أن يظهر في صورة الله ظهر في صورة العبد لكي يعلمنا بذلك التواضع. والأمر ذو الشأن في هذا البيان أنه هو أخلى نفسه اختياراً لا أن غيره أخلاها على رغمه. نعم إنه أظهر أحياناً صفاته الإلهية لكنه أظهرها إثباتاً لإيمان تلاميذه ولم يفعل ذلك إلا نادراً فكأنه أخلى نفسه منها وتسربل بالصفات المختصة بالعبد. وخلاصة قوله «أخلى نفسه» إن لاهوت المسيح احتجب بناسوته حتى لم يره الناس إلا قليلاً مع أنه لم يفارقه قط.

آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ لم يرد الرسول بهذا بيان حقيقة تجسد المسيح بل بيان ما صار إليه من الاتضاع بتجسده وإخلاء نفسه. وأول ذلك الاتضاع أنه أخذ صورة عبد بدلاً من صورة الله. والمراد «بصورة العبد» كل ما يختص بالعبد من الأحوال بمقابلتها بأحوال من هو أسمى منه. فالمسيح اختار أن يظهر كعبد وأن يعمل أعمالاً تختص بالعبد بدليل قوله «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذٰلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ الخ» (يوحنا 13: 13 و14). وقوله «أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ» (لوقا 22: 27) وقوله «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى 20: 28). ولم يقل الرسول لمن كان المسيح عبداً لأن غايته بيان فرط اتضاعه فلو قال عبد الله فاته ذلك البيان لأن أعظم الملائكة العلويين عبد لله.

صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ بواسطة تجسده. والمعنى أنه ظهر على الأرض إنساناً كسائر الناس عرضة لمثل عوارضهم كالجوع والعطش والألم والموت فهذا كقوله «ٱللّٰهُ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية 8: 3) وسُرّ المسيح أن يظهر كذلك لأنه آدم الثاني نائب الجنس البشري بدليل قوله «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ الخ» (عبرانيين 2: 14 و15). وهذا علة أن تعسر على الناس أن يؤمنوا بأنه إله إذ لم يروا فيه غالباً سوى علامات ناسوته. وليس في قوله «شبه الناس» ما يُثبت وهم الدوستيين القائلين إن الجسد الذي ظهر فيه المسيح خيال لا جسد حقيقي وإن الذي صُلب ذلك الخيال لا الجسد.

8 «وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ».

متّى 26: 39 و42 ويوحنا 10: 18 وعبرانيين 5: 8 و12: 1

أبان الرسول اتضاع المسيح وإنكاره لنفسه بقوله «أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس» وزاد على ذلك برهاناً آخر على إنكاره للذات فقال:

إِذْ وُجِدَ حين كان على الأرض ممن شاهدوه.

فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ أي في منظره وتكلمه ولبسه وغير ذلك من أمور ناسوته التي ظهر بها حجاباً للاهوته فلم يكتف المسيح بمجرد ذلك من الاتضاع.

وَضَعَ نَفْسَهُ زيادة على ما سبق من اتضاعه بإخلائه نفسه وظهوره في هيئة إنسان فقط. فرضي أن يعامل كما يعامل أدنى الناس وشرهم لأنه مات موت العبد الأثيم وبذلك أظهر ما هو الغاية من إنكار النفس والاتضاع حتى امتاز بفرط اتضاعه. وهذا على وفق نبوءة إشعياء وهي قوله «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 2 و3 و5 و6). وقول الرسول «تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ» (2كورنثوس 8: 9).

وَأَطَاعَ إرادة الله لإجراء الفداء عن البشر الساقطين (رومية 5: 19 وعبرانيين 5: 8 و10: 7 و9) ولزم من تلك الطاعة غاية الاتضاع.

حَتَّى ٱلْمَوْتَ ذلك غاية ما يمكن من الطاعة ولم يذكر هنا إن موت المسيح كان كفارة لأن موته كفارة لا يصح أن يكون مثالاً لنا ولكنه ذكره بياناً لكمال طاعته وإنكار النفس. وكانت تلك الطاعة مقترنة بكل حياته من أولها إلى آخرها بدليل قوله «نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 6: 38) وقوله «هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (عبرانيين 10: 9) وامتاز موته عن موت غيره من البشر بأمرين الأول إنه كان اختياراً والثاني إنه كان لخلاص البشر بحمله عنهم كل خطاياهم.

مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ ذكر هذا إشارة إلى ما كان فيه من العار وهو مثل قوله «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلاطية 3: 13) انظر التفسير.

9 «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ».

يوحنا 17: 1 و2 و5 وأعمال 2: 33 وعبرانيين 2: 9 أفسس 1: 20 و21 وعبرانيين 1: 4

في هذه الآية والآيتين اللتين يليانها بيان ارتفاع المسيح ترغيباً لقراء رسالته في أن يقتدوا بالمسيح في الاتضاع وإنكار النفس.

لِذٰلِكَ أي إثابة على ما أظهر من الطاعة والاتضاع مع كونه إلهاً. وهذا على وفق قوله «ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ ٱلْمَوْتِ» (عبرانيين 2: 9).

رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أي أن ابن الإنسان الذي رُفع على الصليب مهاناً رُفع إلى عرش السماء مكرماً. والذي رُفع إلى ذلك المجد هو المسيح بلاهوته وناسوته لأنه بناسوته صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب (أفسس 1: 20). ومن أمور ارتفاعه أنه أزال الحجاب الذي حجب مجد لاهوته وهو على الأرض وهذا على وفق قوله في صلاته «مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5). ومنها ما في قوله «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى 28: 18). وقول الرسول «أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (1كورنثوس 15: 25). ومنها ما نتج عن إتمامه عمل الفداء لأنه تمجد بفداء شعبه. ومنها إن الله «َأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً» (يوحنا 5: 27) وعليه قوله «مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ» (متّى 26: 64). وقول دانيال «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 13 و14 انظر أيضاً رومية 14: 9).

ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ إذا كان المراد من هذا «الاسم» أحد أسماء الجلالة كان «الله» وهو في العبرانية «يهوه» واليهود احترموا هذا الاسم كل الاحترام ولم يجسروا أن يفوهوا به ولفظوا بدلاً منه «الاسم» أو «أدوناي» الذي معناه سيّد. وذهب بعضهم إلى أن المراد «بالاسم» يسوع الذي أنبأ به جبرائيل قبل ولادته (متّى 1: 21) وقال علماء اللغة العبرانية إن هذا الاسم مركب من اسم «يهوه» والمخلص ولهذا ذهبوا إلى أن «يسوع» هو الاسم المشار إليه هنا. ولعل الرسول لم يقصد اسماً مخصوصاً من أسماء المسيح بل أراد أن كل اسم سُمي به المسيح هو يفوق كل اسم آخر من أسماء الإكرام سواء كان اسم «ابن الله» أو «الكلمة» أو «المسيح» أو «عمانوئيل» أو «الفادي» أو الاسم الذي ذكره يوحنا الرسول بقوله «وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ... وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا 19: 12 و13 و16).

10 «لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْض».

إشعياء 45: 23 ومتّى 28: 18 ورومية 14: 11 ورؤيا 5: 13

لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ هذا القول مقتبس من (إشعياء 45: 23) واقتبسه بولس قبلاً في الرسالة إلى رومية ونسبه إلى المسيح (رومية 10: 11). والمراد «بجثو الركبة» في الكتاب المقدس تقديم العبادة (دانيال 6: 10 ومرقس 15: 19 ورومية 2: 4 وأفسس 4: 11) لا مجرد علامة خارجية فيها. واتفق أكثر المفسرين على أن المراد «باسم المسيح» المسيح عينه وأن معنى العبارة أنه يُعبد ويُكرم ويُسبّح له ويُعظم كالله.

مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ الخ هذه العبارة اصطلاح يعبّر به عن كل المخلوقات من الأحياء والأموات فيشمل الملائكة بدليل قوله «مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين 1: 6). ونفوس المفديين الذين دخلوا المجد (رؤيا 5: 9 - 13). والمفديين الذين على الأرض وهم الذين سمعوا نبأ المسيح وآمنوا به. ولعله يشمل ما لا يعقل من المخلوقات إذ مثلها الرسول كالعقلاء جرياً على سنن المزمور 148 وكما فعل في (رومية 8: 22) فأشرار الناس والأبالسة يجبرون على الخضوع لسيادة المسيح والاعتراف بعظمته وذلك لا يستلزم إنهم يخلصون. وهذا على وفق قوله يوحنا «وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا 5: 13).

11 «وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ».

يوحنا 13: 13 وأعمال 2: 36 ورومية 14: 9 و1كورنثوس 8: 6 و12: 3

يَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ ما تظهره الركبة من العبادة بالجثو يظهره اللسان بالتكلم. والمراد أن كل ناطق يعترف بسلطان المسيح. واعتراف اللسان دليل على إيمان القلب. وقد سبق الكلام على وجوب الاعتراف بالمسيح في تفسير (رومية 10: 9 و10).

أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ هذا موضوع الاعتراف أي أن المسيح رئيس ملكوت غير محدود ولا منته. وهذا مثل ما في (أعمال 2: 31 وأفسس 1: 23 و4: 10 و1كورنثوس 15: 25 و28) وهو يثبت أنه يجب أن يُعبد يسوع كما يُعبد الآب.

لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ أي أن الاعتراف بمجد المسيح يؤول إلى مجد الله الآب. وهذا الغاية العظمى من ذلك الاعتراف وهو كقول المسيح «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا 5: 23) وقول يوحنا «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18 انظر أيضاً يوحنا 14: 9 و10). وقول المسيح إنه مجّد الآب بعمله على الأرض (يوحنا 17: 4) وهو موافق لما في (1كورنثوس 15: 24 - 28).

حث الرسول مؤمني فيلبي على التقدم في الحياة الروحية ليكونوا أنواراً في العالم ولكي يسر هو بهم ويتعزى ع 12 إلى 18

12 «إِذاً يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ ٱلآنَ بِٱلأَوْلَى جِدّاً فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ».

ص 1: 5 أفسس 6: 13 أفسس 6: 5

إِذاً أي بناء على ما سبق من مثال المسيح المجيد من (ع 1 - 11).

يَا أَحِبَّائِي هذا دليل على شدة اهتمام الرسول بهم.

كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ إن الذي أطاعوه هو الله وهو الذي أطاعه المسيح حتى الموت (ع 8). فبنى رجاءه أن كلامه لا يكون بلا نفع على اختباره في الماضي إنهم سمعوا صوت الله بواسطته. ومما يستحق الاعتبار أن الرسالة إلى مؤمني فيلبي هي الوحيدة من رسائله في كونها خالية من التوبيخ صراحة.

لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ ٱلآنَ بِٱلأَوْلَى فكأنه قال لا تتكلوا على حضوري لتكونوا أمناء طائعين بل كونوا كذلك وأنا بعيد عنكم مسجوناً في رومية أو جائلاً للتبشير كما تكونون وأنا قريب منكم. فليحملكم على ذلك حبكم للمسيح وطاعتكم لروحه المخاطب لكم في قلوبكم. فالأولى أن تجتهدوا أكثر لأنفسكم لأني لست بينكم لأساعدكم.

تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ كان الرسول قد نهاهم عن أن يتكلوا على حضوره وأبان لهم هنا ما يجب أن يفعلوه لأنفسهم وحينئذ يحق لهم أن يتوقعوا معونة الله. وهذا يوافق قوله لمؤمني أفسس «ٱحْمِلُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا» (أفسس 6: 13). فعبارته تتضمن أمرين الأول إن الله ابتدأ عملاً في قلوبهم غايته خلاصه. والثاني إنهم مسؤولون بتتميم ذلك العمل. فعلى الإنسان أن يعمل مع الله لخلاص نفسه أولاً ولخلاص غيره ثانياً. والله هو الأول والآخر في ذلك الأمر بدليل قوله «أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (ص 1: 6) فعمل الإنسان ثانوي.

إن الله قادر على أن يخلص الناس بدون أعمالهم من التوبة والإيمان والطاعة وليس مفتقراً البتة إلى عملهم لكنه اختار أن يعمل الإنسان معه لنيل خلاص نفسه كما يعمل في تحصيل القوت والكسوة والمسكن لجسده ولمعرفة لعقله. وأشار إلى طريق تتميمهم لخلاصهم بقول «كما أطعتم» لأن المسيح أبان في إنجيله ما يجب على الإنسان أن يفعله في شأن خلاصه.

بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ وعلة ذلك عظمة الربح بتحصيل الخلاص وعظمة الخسارة بفواته وكثرة الموانع من نيله كفساد القلب وضعفنا في الروحيات وتجارب الشيطان والعالم الشرير وكون الخوف والرعدة يجعلهم أكثر اجتهاداً في طلب الخلاص وأكثر احتراساً من التجارب وأكثر مواظبة على الصلاة وعلى استعمال وسائط النعمة. أما الاتكال على النفس والجسارة فيحملان على الكسل الروحي والكبرياء والتعرض للسقوط كما أن اتكال بطرس على نفسه أدى به إلى إنكاره للمسيح.

13 «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ».

2كورنثوس 3: 5 وعبرانيين 13: 21

لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ هذا متعلق بقوله تمموا في الآية السابقة والمعنى تمموا أنتم خلاصكم لأن الله هو العامل فيكم. وقد سبق أن الله هو البادئ في عمل الخلاص وهو الذي ينشئ في الإنسان أول ميل إلى طلب الخلاص ولولا تحقق الإنسان أن الله هو العامل فيه لم يكن له أدنى رجاء في طلبه لأن ليس له قوة على أن يستقل بخلاص نفسه كما أنه ليس له قوة على أن يطير في الهواء بلا واسطة. وأمر الخلاص كأمر الفلاحة فلو لم يُنزل الله المطر والندى ويرسل حرارة الشمس ويُنمِ الزرع ما كان للفلاح أن يرجو الحصاد. وما قد عمله الله لخلاص الإنسان مما لم يستطع الإنسان أن يعمله أيضاً فإنه أعد طريق الخلاص وأعلنه في الإنجيل وأرسل ابنه ليموت عن الخاطئ وأرسل روحه ليلين قلوب الناس ويفتحها ليقبلوا المسيح. فإعداد هذه الوسائط فوق قدرة الإنسان كما أن خلق العالم فوق قدرته والله أعدها كلها وهو مستعد فوق ذلك أن يفعل في الإنسان للخلاص بشفاعة المسيح له في السماء وبفعل الروح القدس له في قلبه.

أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا هذا بيان عمل الله بروحه القدوس في نفوس الناس (1كورنثوس 12: 6 و11) وهو نوعان عمله في إرادة الإنسان وعمله في عمله ولو عمل في الثاني دون الأول لكان ملكوته محدوداً لأنه بذلك يكون جزء من الإنسان (وهو الأهم فيه) خارجاً عن دائرة سلطانه. كثيراً ما نرى أن لأحد الناس سلطاناً على إرادة غيره ليقنعه ويرغّبه ويهيجه أو يسكّنه ويفرحه أو يحزنه ويأتي ذلك كله بدون أن يقسر حريته فبالأولى أن يكون لخالق النفس مثل ذلك السلطان. فإذاً لا شيء من عمل الله في خلاص الإنسان ينزع حرية الإنسان أو يرفع عنه المسؤولية وهذا موافق لقول الحكيم «قَلْبُ ٱلْمَلِكِ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (أمثال 21: 1).

إن أعظم الموانع لخلاص الإنسان إرادته التي تأبى الخضوع لإرادة الله كما قال المسيح لليهود «لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ» (يوحنا 5: 40). وقد علمنا هو أن نصلي قائلين «لتكن مشيئتك» (متّى 6: 10).

مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ أي مسرة الله بخلاص الناس بدليل قول النبي «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11) وقول الرسول «ٱلَّذِي يُرِيدُ (أي الله) أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4) وقوله «من أجل المسرة» متعلق بقوله «العامل».

إذا عمل اثنان أو أكثر عملاً واحداً فالاتفاق من ضروريات النجاح فلكي يتم خلاص الإنسان وجب بالضرورة أنه يعمل بمقتضى الشرط الذي قضى الله به وأعلنه في الإنجيل ووعد أن يكلله بالنجاح وهو أن الخلاص بالإيمان بالمسيح لا بأعمال البر ولا بوسطاء من المخلوقات.

14 «اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ».

1كورنثوس 10: 10 و1بطرس 4: 9 رومية 14: 1

اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ هذه النصيحة متعلقة بالنصائح التي في (ع 3 - 5) وما بينهما استطراد لتقديم المسيح مثالاً في التواضع والطاعة وإنكار الذات. وقوله «كل شيء» يتضمن احتمال الضيقات فوق القيام بالواجبات.

بِلاَ دَمْدَمَةٍ الدمدمة هنا في الأصل اليوناني الكلمة التي تُرجمت بالتذمر في (1كورنثوس 10: 10). ولم يبين الرسول أعلى الله هذه الدمدمة أم على الناس فالأرجح أنها عليهما. ومثال المسيح ينهانا عن الدمدمة وكذا مضمون تعليم الإنجيل. إن بني إسرائيل في البرية أغاظوا الله بتذمرهم فهلكوا (1كورنثوس 10: 10). فكانوا عبرة لنا لكي نحذر الضجر باطناً وإظهاره بالكلام. ومن سلم إرادته لإرادة الله لم يخب ولم يخز إذا قضى بخلاف ما أراد وتوقع. ومن اعتزل التذمر على الله اعتزل التذمر على الناس. وتنشأ الدمدمة غالباً عن الكبرياء وحب الذات والحسد.

وَلاَ مُجَادَلَةٍ جاء مثل هذا في قوله «فَأُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ ٱلرِّجَالُ فِي كُلِّ مَكَانٍ رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً، بِدُونِ غَضَبٍ وَلاَ جِدَالٍ» (1تيموثاوس 2: 8). وهذا ينهي عن الاعتراض على حكمة الله وجودته وعن تفنيد أقوال الناس ولومهم على أعمالهم بلا حق. ومن ذلك أشار الرسول إليه بقوله «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ؟ أَلَعَلَّ ٱلْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: َاذَا صَنَعْتَنِي هٰكَذَا» (رومية 9: 20). إن كثيرين يخطأون بقولهم لماذا ميز الله غيري عليّ في الغنى والمقام والجمال والصحة وكثرة النسل ولماذا ضربني بالمصائب ووقى غيري منها. وكثيراً ما أزعج المسيح الكهنة والفريسيين بمجادلاتهم بغية أن يرموه (متّى 20: 11 و لوقا 5: 30 ويوحنا 6: 41 و43 و61 و7: 12 و13). وخطئ التلاميذ بمجادلة بعضهم لبعض (مرقس 9: 33 و34). واشتهر فلاسفة اليونان في مكدونية بالجدال في الفلسفة والدين وشغلوا به كثيراً من الوقت فحذر بولس مسيحيي فيلبي من المجادلات الباطلة مثلهم. إن بعض الناس يميلون إلى تخطئة غيرهم والتشكي منهم فيعسر عليهم أن يخلصوا من ذلك الميل إذا استولى عليهم بالممارسة لكن يجب على المسيحي أن يقاوم ذلك الميل لأن من نتائجه سوء الخلق والقسوة واعتياد الأجوبة القاسية فينزع راحة البيت والسلام منه ويحمل على الانشقاق في الكنيسة ويشين الدين المسيحي. وإذ كان غاية الرسول بهذه الرسالة أن يزيد اتحاد أهل فيلبي حذّرهم من الدمدمة والمجادلة لأنهما مضادتان لذلك.

15 «لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَداً لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ».

متّى 5: 45 وأفسس 5: 1 و1بطرس 2: 12 تثنية 32: 5 متّى 5: 14 و16 وأفسس 5: 8

لِكَيْ تَكُونُوا بنعمة الله واجتهادكم أو لتكونوا ظاهرين أمام الناس.

بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ أي خالين من كل ما يجعلكم ملومين أمام الله والناس لكي تكون سيرتكم كما يليق بالمسيحيين وتكونوا مخلصين طاهرين كما أمر المسيح تلاميذه بقوله «حُكَمَاءَ... وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى 10: 16). وكما قال الرسول «ٱمْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرٍّ» (1تسالونيكي 5: 22). وكقوله لأهل رومية «أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا حُكَمَاءَ لِلْخَيْرِ وَبُسَطَاءَ لِلشَّرِّ» (رومية 16: 19). فالعبارة تستلزم فوق النهي عن الإساءة إلى الناس الطهارة أمام الله كما طلب الرسول من أجل مؤمني تسالونيكي في قوله «يُثَبِّتَ قُلُوبَكُمْ بِلاَ لَوْمٍ فِي ٱلْقَدَاسَةِ، أَمَامَ ٱللّٰهِ» (1تسالونيكي 3: 13).

أَوْلاَداً لِلّٰهِ اختار الله بني إسرائيل ليكونوا أولاداً له لكن شهد موسى عليهم بقوله «فَسَدُوا تِجَاهَهُ ٱلَّذِينَ هُمْ عَارٌ وَلَيْسُوا أَوْلاَدَهُ، جِيلٌ أَعْوَجُ مُلْتَوٍ» (تثنية 32: 5). ولعل الرسول ذكر كلام موسى حين كتب إلى الفيلبيين فحذرهم من أن يكونوا مثل أولئك الذين سُموا أولاد الله وهم ليسوا كذلك. وقد سبق الكلام على أولاد الله في تفسير (رومية 8: 14).

بِلاَ عَيْبٍ هذا كقول بطرس «ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ» (2بطرس 3: 14). ومراده أن لا يتركوا سبيلاً إلى أن يوبخوا وأن يكونوا مقدسين ظاهراً وباطناً. وفي قوله «بلا عيب» تلميح إلى صفة الذبائح التي كانت تقدم لله (تثنية 17: 1) وكان من صفات المسيح المرموز إليه بتلك الذبائح إنه بلا عيب بدليل قول الرسول «ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين 9: 14). وقول بطرس «ٱفْتُدِيتُمْ... بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (1بطرس 1: 18 و19). وطُلب مثل هذا من كنيسة المسيح بدليل قوله «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ... بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أفسس 5: 27).

فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ هذا وصف لأهل العالم غير التائبين وغير المؤمنين وهو مثل ما في قول المسيح «أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، ٱلْمُلْتَوِي» (متّى 17: 17 ولوقا 9: 41). وقول بطرس يوم الخمسين «ٱخْلُصُوا مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي» (أعمال 2: 40). وقصد «بالجيل الملتوي» المقاومين الذين اتهموا المسيحيين بالعقائد الباطلة والأعمال الشريرة خلافاً للواقع فاجتهدوا بذلك في أن يمنعوا تقدم الإنجيل. ومن أمثالهم وثنيوا فيلبي الذين جروا بولس وسيلا أمام ولاة المدينة فإنهم قالوا فيهما «هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا... وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا» (أعمال 16: 20 و21). ومنهم يهود تسالونيكي فإنهم قالوا على المسيحيين «هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً. وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ» (أعمال 17: 6 و7).

تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ هذا وصف بما قصده الله للمسيحيين في الأرض وما يجب أن يكونوا دائماً بدليل قول المسيح لتلاميذه «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ... فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 14 و16).

إن المسيح هو نور العالم العظيم (يوحنا 8: 18) فيضيء المسيحيون بنوره كما تضيء السيارات وأقمارها بنور الشمس فيجب أن يضيء عبيد المسيح بنوره لكي يجذبوا الناس إليه ليخلصوا أو يمجدوا الله (انظر تفسير أفسس 5: 8 و13).

16 «مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلاً وَلاَ تَعِبْتُ بَاطِلاً».

2كورنثوس 1: 14 و1تسالونيكي 2: 19 غلاطية 2: 2 و1تسالونيكي 3: 5

مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ إن المسيحيين أنوار في العالم ليس بإظهار حكمتهم وفطنتهم بل بإذاعة الإنجيل الذي هو كلمة الحياة فيفعلون ذلك بشفاههم وسيرتهم. فالذين يشهدون للإنجيل بسيرتهم وتعليمهم ينيرون مثل منارة وبذلك يماثلون ربهم الذي «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يوحنا 1: 4). وسمي الإنجيل «كلمة الحياة» لأنه يشهد للمسيح الذي «هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا 6: 63 و17: 3). وفي هاتين الآيتين بيان لما يجب أن يكون عليه كل مسيحي في حقيقة نفسه وهو أن يكون بلا لوم أمام الله وبلا عيب أمام الناس وبيان ما يجب أن يعمله وهو أن يكون نوراً للعالم وبيان أنه كيف يضيء وهو أن يتمسك بكلمة الحياة ويذيعها. وهذا غير مقصور على الرعاة والمبشرين بل واجب على كل فرد من المسيحيين كباراً وصغاراً رجالاً ونساء. فعلى كل واحد أن يضيء كنور في بيته ومعمله وأسفاره براً وبحراً وفي سائر أحواله. وما يزيد مسؤولية المسيحيين في هذا الأمر هو أنهم إن لم يضيئوا كأنوار في العالم ليقودوا الناس إلى المسيح بقوا هم في الظلمة وهلكوا لا محالة.

لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ قد أشار الرسول سابقاً إلى أن يوم المسيح (أي اليوم الذي يجلس فيه ديّاناً للعالمين) هو الوقت الذي تظهر فيه نتائج أتعابه الرسولية (1كورنثوس 3: 12 و13 و4: 3 - 5 و 2كورنثوس 1: 14). وأبان أمر افتخاره هنا بقوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 14). وهذا دليل على أن افتخاره هو سروره بانتصار المسيح بواسطته لا بالمجد الذي حصل هو عليه.

بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ الخ قال ذلك جرياً على عادته أن يحسب كل حياته جهداً كالجهاد الذي أتاه الأبطال في الألعاب اليونانية العظيمة من سباق وصراع ومضاربة (1كورنثوس 9: 24 - 26 وغلاطية 2: 2 و2تيموثاوس 4: 7) وغاية جهاده أن «يخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً» (1كورنثوس 9: 22). فتعبه العظيم الذي احتمل فيه شديد الآلام هو ما كان في مناداته بالإنجيل. والدليل على أنه تعب بالأمانة وبذل الجهد هو صحة إيمان الفيلبيين وحسن سيرتهم وهو الدليل الذي اعتمده.

17 لٰكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ».

2تيموثاوس 4: 6 رومية 15: 16 و2كورنثوس 7: 4 وكولوسي 1: 24

ذكره أتعابه من أجل الفليبيين بمناداته بالإنجيل لكي يخلصوا حمله على ذكر ما احتمله من الآلام ولقيه من الأخطار علاوة على تلك الأتعاب وإنه سر بها بناء على كونها وسيلة إلى تقوية إيمانهم.

إِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ اعتبر سفك دمه لتقوية إيمان الفيلبيين بالمسيح كسكب الخمر أو الخمر والزيت اللذَين اعتاد سكبها اليهود على ذبائحهم قبل إحراقها على المذبح (خروج 29: 40 وعدد 15: 4 و5 و28: 7 و14) واعتاد مثل ذلك الوثنيون. واعتبر إيمان الفيلبيين وخدمتهم للمسيح ذبيحة لله كأنهم كهنة كما صار المسيحيون كلهم باتحادهم بالمسيح (1بطرس 2: 5 و9 ورؤيا 1: 6 و5: 10). وهذا على وفق قوله لمؤمني رومية «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ... أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ» (رومية 12: 1). وقوله «قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ» (ص 4: 18 انظر أيضاً عبرانيين 13: 15 و16). وكان بولس مستعداً أن يسكب دمه فوق تلك الذبيحة إذا اقتضت الحال لكي يجعلها أكثر طهارة روحية مقبولة كما انسكب الخمر والزيت على ذبائح البهائم. وهذا كقوله لمؤمني كورنثوس «أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ» (2كورنثوس 12: 15).

«أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ» قال قبلاً أنه يحسب الموت ربحاً له وهذا إحدى الطرق التي بها يكون موته ربحاً إذ به يزيد إيمانهم وسروره معهم لأنه فضلاً عن فرحه بأن يكون مع المسيح يفرح أيضاً بأن يشاركهم في الذبيحة التي قدموها لربه وربهم.

18 «وَبِهٰذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضاً وَٱفْرَحُوا مَعِي».

رأى وجوب أن يقترن الفرح بالإيمان لأن الأول ثمر الثاني ومظهر حقيقته (ص 4: 4) ويغلب أن يكون السرور مبنياً على الحياة واللذة ولكنه بناه هنا على الألم والموت وهذا لا يمكن أن يكون إلا بتوقع ما يكون له ولهم في السماء من العواقب السارة التي تلي الآلام والموت والنتائج المبهجة التي تحصل عليها الكنيسة بشهادة الشهداء بصحة إيمانها.

وَبِهٰذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ الخ أي افرحوا أنتم بالأسباب نفسها التي أفرح بها أنا بانتظار الموت لا بموتي بل بالثواب الذي يعقب الآلام والموت ونجاح الإنجيل وتوطيد الإيمان بذلك وبكون فرح أحدنا فرح الكل. ومثال المسرة بالشركة في الأرزاء بالنظر إلى عواقبها المبهجة ما أتاه الجندي الجريح الذي جاء إلى أثينا ليبشر أهلها بانتصار اليونان على الفرس في واقعة مرثون فإنه دخل باب مجلس الأعيان وهتف «فرحنا افرحوا» ثم سقط ميتاً على العتبة. كذلك على المؤمنين أن يفرحوا بموتهم في سبيل الإنجيل نظراً لنفعه للكنيسة ولكونه بركة للعالم.

قصد الرسول أن يرسل إليهم تيموثاوس وأن يرجع أبفرودتس ع 19 إلى 30

19 «عَلَى أَنِّي أَرْجُو فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ سَرِيعاً تِيمُوثَاوُسَ لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي إِذَا عَرَفْتُ أَحْوَالَكُمْ».

رومية 16: 21 و1تسالونيكي 3: 2

أَرْجُو فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ سَرِيعاً تِيمُوثَاوُسَ قرن بولس اسم تيموثاوس باسمه في التحية التي في أول الرسالة لكنه لم يكن له شركة في الرسالة فهي كلها لبولس كما يظهر من هذه الآية. وكان رجاؤه أن يرسل تيموثاوس سريعاً مبنياً على ثقته بأن المسيح يدبر الأمور حتى يتيسر له ذلك وهذا لم يكن إلا بأنه حسب كل الأمور تحت سلطان المسيح فلم يكن رجاؤه كرجاء الدنيويين الذي يحتمل أن يكون باطلاً.

لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي الخ بواسطة الأخبار التي يأتي إليه بها تيموثاوس منهم مما يتعلق بأحوالهم الجسدية وثباتهم في الإيمان خاصة. والظاهر أنه كان قد مضى زمن طويل من مجيء أبفرودتس إليه بأنبائهم. وكان مثل اهتمامه هنا بأمر الفيلبيين اهتمامه بأمر الكورنثيين (2كورنثوس 2: 13 و7: 6 و7) واهتمامه بكنيسة تسالونيكي (1تسالونيكي 3: 1 - 9).

20 «لأَنْ لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ».

مزمور 55: 13

أبان في هذه الآية علة إرساله تيموثاوس دون غيره (انظر في شأن تيموثاوس وتفسير أعمال 16: 1 - 3).

لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي أبان معنى هذا بقوله «أَنَّهُ كَوَلَدٍ مَعَ أَبٍ خَدَمَ مَعِي» (ع 22).

يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ كان تيموثاوس مع بولس وقت تأسيس كنيسة فيلبي كما يظهر من (أعمال 16: 3 و17: 14) وهذا ما يحمله طبعاً أن يشارك بولس في الاهتمام بتلك الكنيسة. ودعاه الرسول «ابنه الصريح في الإيمان» (1تيموثاوس 1: 2). فولادته الروحية جعلته وارثاً انفعالات والده الروحي واهتمامه. وأراد «بالإخلاص» أنه لا يدعي شيئاً لا يشعر به في قلبه وأنه لا يؤثر نفع نفسه على نفعهم.

21 «إِذِ ٱلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

1كورنثوس 10: 24 و33 و13: 5 و2تيموثاوس 4: 1 و16

إِذِ ٱلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ أي ما يؤول لراحتهم ومكاسبهم ونفع عيالهم. ومراده «بالجميع» جمهور المؤمنين الذين في رومية ممن يمكنه أن يرسلهم. أو رفقاؤه المبشرون الذين كانوا معه حينئذ فيحتمل أنه عرض عليهم أن يرسلهم فاستثقلوا أخطار الطريق. ومثل هذا قوله عليهم بعد ذلك عند محاكمته أمام نيرون «فِي ٱحْتِجَاجِي ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي» (2تيموثاوس 4: 16).

لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي لا يهتمون بالأمور المتعلقة بملكوت المسيح التي تحمل على إنكار الذات والتعرض للخطر. وقول بولس هنا يوافق قول المسيح لتلاميذه «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ ٱلآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي» (يوحنا 16: 32). و ربما كان لوقا وأمثاله يوم كتب هذا غائبين عن رومية في الجهات للمناداة بالإنجيل.

22 «وَأَمَّا ٱخْتِبَارُهُ فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّهُ كَوَلَدٍ مَعَ أَبٍ خَدَمَ مَعِي لأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ».

1كورنثوس 4: 17 و1تيموثاوس 1: 2 و2تميوثاوس 1: 2

استدل على إخلاص تيموثاوس من سبق معرفتهم إياه عند زيارته الأولى لهم (ع 16) وحين أرسله بولس إلى تسالونيكي والمرجّح أنه أرسله إليهم أيضاً (تسالونيكي 3: 2) وحين أرسله من أفسس إلى مكدونية (أعمال 19: 22). وحضوره مع بولس في سفره الأخير إلى أورشليم (أعمال 20: 4 - 6).

خَدَمَ مَعِي لأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ منع بولس تواضعه من أن يقول «خدمني» وما قاله جعلهما كلهيما خادمين للمسيح في سبيل الإنجيل. وقوله «إنه كولد مع أب خدم معي» الخ يشير إلى أنه إظهر كل رقة واحترام للرسول.

23 «هٰذَا أَرْجُو أَنْ أُرْسِلَهُ أَوَّلَ مَا أَرَى أَحْوَالِي حَالاً».

توقع بولس أن يحاكم سريعاً في الدعوى التي أتى رومية من أجلها وسُجن وكان مرتاباً في ما تكون النتيجة ألحكم عليه أم تبريره فقصد أن يرسل تيموثاوس إليهم حالما يعرف ذلك.

24 «وَأَثِقُ بِٱلرَّبِّ أَنِّي أَنَا أَيْضاً سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعاً».

ص 1: 25 وفليمون 22

وَأَثِقُ بِٱلرَّبِّ هذا كقوله «أرجو في الرب» (ع 19) وكقوله لفليمون «أَعْدِدْ لِي أَيْضاً مَنْزِلاً، لأَنِّي أَرْجُو أَنَّنِي بِصَلَوَاتِكُمْ سَأُوهَبُ لَكُمْ» (فليمون 22) والمرجح أنه حصل على ما رجاه وإنه أُطلق وبقي حراً أربع سنين أو خمساً ثم قُبض عليه وسُجن ثانية واستشهد.

25 «وَلٰكِنِّي حَسِبْتُ مِنَ ٱللاَّزِمِ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ أَبَفْرُودِتُسَ أَخِي، وَٱلْعَامِلَ مَعِي، وَٱلْمُتَجَنِّدَ مَعِي، وَرَسُولَكُمْ، وَٱلْخَادِمَ لِحَاجَتِي».

ص 4: 18 فليمون 2 و2كورنثوس 8: 23 و2كورنثوس 11: 9 وص 4: 18

حَسِبْتُ مِنَ ٱللاَّزِمِ أي أنه استحسن أن يرسل إليهم أبفرودتس حالاً (مع أنه تاب في عاقبة محاكمته) نظراً لشوقه إليهم واهتمام الكنيسة بأمره.

أَبَفْرُودِتُسَ ذُكر أيضاً في (ص 4: 18) ولم يُذكر اسمه في غير هذه الرسالة. ومختصر هذا الاسم أبفراس وذُكر في (كولوسي 1: 7 و4: 12 وفليمون 23). ولا دليل على إنه هو أبفرودتس المذكور هنا. ويعسر علينا أن نعتقد أن وليد كولوسي في أسية يكون أيضاً من أهل فيلبي في أوربا ورسول كنيستها المختار. وكل ما نعلم من أمره أنه من أعضاء كنيسة فيلبي أرسلته الكنيسة بالإعانة لبولس في رومية (ص 4: 18) وإن مرض هنالك مرضاً خطيراً سمعت به الكنيسة واضطربت ولما شفي استحسن بولس أن يرجعه حالاً بهذه الرسالة ومدحه كثيراً.

أَخِي في الإيمان بالمسيح.

ٱلْعَامِلَ مَعِي في المناداة بالإنجيل. ولعله عمل مع بولس وهو في فيلبي وفي رومية قبل أن مرض والأرجح أن بولس اعتبر كل خدمته للمسيح مشاركة له في العمل العظيم أي التبشير بالإنجيل. ومثل ذلك قوله في برسكلا وأكيلا (رومية 16: 3). وفي تيموثاوس (رومية 16: 21 وفي تيطس (2كورنثوس 8: 23).

ٱلْمُتَجَنِّدَ مَعِي كان عاملاً معه في خدمة المسيح ومتجنداً معه ليقاوم قوات الظلمة المحاربة بالإنجيل. وبمثل ذلك شهد لأرخبس (فليمون 2).

رَسُولَكُمْ أي الذي أرسلتموه إلي كما يتبين من قوله في (ص 4: 18). وهذا كمعنى الرسول في قوله بمن أتيا بمال الإحسان. وأما أخوانا فهما رسولا الكنائس (2كورنثوس 8: 23). وليس في ذلك ما يشير إلى أنه كان راعي كنيسة فيلبي. وأما نوع خدمته فقد أُعلن في العبارة التالية.

وَٱلْخَادِمَ لِحَاجَتِي أي أموري الجسدية بدليل ما في (ص 4: 18).

26 «إِذْ كَانَ مُشْتَاقاً إِلَى جَمِيعِكُمْ وَمَغْمُوماً، لأَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضاً».

ص 1: 8

ذكر في هذه الآية علتين لإرسالة أبفرودتس حالاً.

مُشْتَاقاً إِلَى جَمِيعِكُمْ هذا شأن من غاب مدة طويلة عن وطنه وكنيسته وأهل بيته ولا سيما من مرض مرضاً شديداً وكان في شك من أن يراهم على الأرض أيضاً.

مَغْمُوماً الخ لأنه خاف من النتائج أن بلغ أهل وطنه نبأ مرضه وإنه في خطر الموت وهو بعيد عن أهله وأصحابه. ولم يذكر الرسول كيف بلغهم نبأ مرضه.

27 «فَإِنَّهُ مَرِضَ قَرِيباً مِنَ ٱلْمَوْتِ، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ رَحِمَهُ. وَلَيْسَ إِيَّاهُ وَحْدَهُ بَلْ إِيَّايَ أَيْضاً لِئَلاَّ يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ».

قال هذا إثباتاً لصدق ما بلغهم من نبإ مرضه الشديد.

ٱللّٰهَ رَحِمَهُ أي شفاه بالوسائط العادية وكان ذلك الشفاء رحمة للمريض.

بَلْ إِيَّايَ أَيْضاً أي رحم بولس مع رحمته لأبفرودتس إذ صلى بغية شفائه وأخذ هنا يشكر الله على إجابة صلاته. ويظهر مما قيل هنا أنه لم يكن لبولس أن يأتي معجزات الشفاء متى أراد إذ لا دليل على أن بولس قدر أن يصنع شيئاً لأبفرودتس في مرضه سوى أن صلى من أجله. والمرجح أن الله حين كان يقصد أن يصنع معجزة على يد رسله كشفاء المقعد في لسترة على يد بولس وشفاء مثله في أورشليم عند باب الهيكل المعروف بالباب الجميل على يدي بطرس ويوحنا كان يعطيهم علامة أنه قد قصد ذلك.

لِئَلاَّ يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ لو مات أبفرودتس لحزن بولس على فراقه فوق حزنه على سجنه وتوقع محاكمته وقلة أصحابه فإنه مما يظهر من كلامه لم يكن له من الأصحاب الذين يعتمدهم سوى تيموثاوس وأبفرودتس. فلو مات لفقد بولس صاحباً عزيزاً ومعيناً نافعاً ولخسرت كنيسة فيلبي عضواً مفيداً ولزاد حزنه كثيراً لأنه يكون حينئذ قد بذل حياته في خدمته (ع 30).

28 «فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُوهُ تَفْرَحُونَ أَيْضاً وَأَكُونُ أَنَا أَقَلَّ حُزْناً».

أَرْسَلْتُهُ أي سأرسله لا محالة. فعبر عن المستقبل بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه ولأن وصوله إليهم يكون مع وصول الرسالة لأنه هو حاملها.

بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ لم يرسله بولس بهذه السرعة لو لم يكن قد مرض وحزنوا الحزن الشديد لمرضه فإن ذلك حمله على سرعة إرساله حينما صار قادراً على السفر.

وَأَكُونُ أَنَا أَقَلَّ حُزْناً متى عرفت بوصول رسولكم إليكم وزوال غمّكم وفرحكم بالاجتماع. وفي هذا تلميح إلى أنه يظل حزيناً بالحزن القديم (ع 27) الناتج عن سجنه ومنعه من الجولان للتبشير واهتمامه بنجاح الإنجيل وأحوال الكنائس.

29 «فَٱقْبَلُوهُ فِي ٱلرَّبِّ بِكُلِّ فَرَحٍ، وَلْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّماً عِنْدَكُمْ».

1كورنثوس 16: 18 و1تسالونيكي 5: 12 و1تيموثاوس 5: 17

فَٱقْبَلُوهُ لأني اجتهدت في إرساله بسرعة.

فِي ٱلرَّبِّ كما يليق بأن يقبل المسيحيون عضواً من كنيستهم بعد أن غاب عنهم وكان مشرفاً على الموت وشفاه الله فعليكم أن تقبلوه كهدية جديدة من الرب أرسلها إليكم إجابة لصلواتكم.

لْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّماً عِنْدَكُمْ كان عليهم أن يكرموه نظراً لما قام به من الخدمة الحسنة. ففي العبارة إشارة إلى أن مثله قليل.

30 «لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ قَارَبَ ٱلْمَوْتَ، مُخَاطِراً بِنَفْسِهِ، لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي».

1كورنثوس 16: 17 وص 4: 10

مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ أي لأجل ما عمله في سبيل المسيح من خدمة أحد عبيده وهذا على وفق قول المسيح «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى 25: 40).

مُخَاطِراً بِنَفْسِهِ أي أنه عرّض نفسه للموت إما بسفره من فيلبي إلى رومية وهو غير قادر على السفر لانحراف صحته وإما من شدة أتعابه في رومية وهو يخدم بولس في السجن اختياراً قطع النظر عن الضرر الناتج من ذلك لجسده.

لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي لم يقصد بولس البتة أن يلوم أهل كنيسة فيلبي كأنهم لم يكترثوا به أو غفلوا عنه لكنه قصد أن غيابه عنهم منعهم من إتمام الخدمة (ص 4: 10) وإن أبفرودتس سافر كل ذلك السفر لكي يقوم هو نفسه بما كان أهل الكنيسة يقومون به لو كان بولس عندهم. وما أتى به أبفرودتس حمل بولس على أن يقول لهم «اقبلوه بكل فرح» (ع 29).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ

تحذير من المعلمين المفسدين ع 1 إلى 16

1 «أَخِيراً يَا إِخْوَتِي ٱفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ. كِتَابَةُ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ إِلَيْكُمْ لَيْسَتْ عَلَيَّ ثَقِيلَةً، وَأَمَّا لَكُمْ فَهِيَ مُؤَمِّنَةٌ».

2كورنثوس 3: 11 وص 4: 4 و1تسالونيكي 5: 16

أَخِيراً اعتاد الرسول أن يبتدئ خاتمة الرسالة بمثل هذه الكلمة (كما فعل في هذه الرسالة أيضاً ص 4: 8 و2كورنثوس 13: 11 وأفسس 6: 10 و2تسالونيكي 3: 1) وإتيانه بها في وسط الرسالة والرجوع إليها عينها في آخرها يشير إلى أنه وصل إليه كتاب أو نبأ حمله على كتابة ما كتبه بعدها هنا كملحق وفيه أظهر ما أظهر ما سبق من مودته لهم لكن أعلن فيه مزيد همه من أجلهم كما تبيّن من تحذيره إياهم.

ٱفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ من الواضح أن بيان وجوب الفرح المسيحي من غايات الرسول من هذه بدليل ما في (ص 1: 18 و25 و2: 17 و18 و28 و4: 4). ويفيد قوله «افرحوا في الرب» إن أساس فرحهم إيمانهم بالمسيح واتحادهم به وتيقنهم أنه غفر خطاياهم وأنقذ نفوسهم من الشيطان والموت الأبدي وإنه رفيقهم في الحياة ومعزيهم عند الموت وأجرهم في السماء. وهذا الفرح لا يستطيع العالم أن يهبه ولا أن ينزعه. والمسيحي بفرحه في الرب يشهد للعالم بجودة دينه وحضور المسيح معه وعظمة تعزيته كما أنه بعبوسه الدائم يشهد بخلاف ذلك.

هٰذِهِ ٱلأُمُورِ يحتمل أنه أراد «بهذه الأمور» ما سبق من دعوته إياهم إلى الفرح أو ما يأتي من تحذيره إياهم من المعلمين الكاذبين. وقوله في آخر الآية «مؤمنة» يرجح الأمر الثاني. نعم إن لم يحذر في ما مر من هذه الرسالة ولا داعي إلى ظن أنه كتب إليهم رسالة أخرى تشتمل على التحذير لكنه لا ريب في أنه حذرهم شفاهاً يوم كان بينهم من المعلمين المتعصبين لناموس موسى حين زارهم أولاً وهو حامل تعليمات مجمع أورشليم إلى سورية وكيليكية في إبطال تعليم أولئك المعلمين (أعمال 15: 41). ومما يثبت ذلك إنه حين ذهب من فيلبي إلى تسالونيكي هيّج وعظه في أن مؤمني الأمم أحرار من نير الناموس الموسوي غضب اليهود عليه حتى اضطر أن يهرب من المدينة. وحين زارهم ثانية كان قد فرغ من كتابة رسالته إلى غلاطية ورسالته إلى رومية اللتين فيهما فند التعاليم اليهودية ولا ريب في أنه كلمهم حينئذ في ما كان مهتماً به.

لَيْسَتْ عَلَيَّ ثَقِيلَةً، وَأَمَّا لَكُمْ فَهِيَ مُؤَمِّنَةٌ أي أني لا أستثقل تكرير ما سبق من كلامي إذا كنتم لا تزالون تذكرونه وإن كنتم قد نسيتم تحذيري شفاهاً فما أكتبه من التحذير بذكركم إياه ويجعلكم في أمن من الخطر.

2 «اُنْظُرُوا ٱلْكِلاَبَ. ٱنْظُرُوا فَعَلَةَ ٱلشَّرِّ. ٱنْظُرُوا ٱلْقَطْعَ».

إشعياء 56: 10 وغلاطية 5: 15 و2كورنثوس 11: 13 رومية 2: 28 وغلاطية 5: 2 و12

اُنْظُرُوا ٱلْكِلاَبَ أي المعلمين المفسدين وعلة تسميتهم «بالكلاب» كونهم مخاصمين مهيجي الفتن والغضب مسيئين وقحين. ولم يقل ذلك إلا بياناً لعدم رضاه بتعليمهم وسيرتهم كقول المسيح في الفريسيين (متّى 7: 6) وتحذيراً للفيلبيين إذا أتوا إليهم.

فَعَلَةَ ٱلشَّرِّ هؤلاء هم الذين سماهم قبل «بالكلاب» وسماهم بعد «بالقطع» وفي موضع آخر «رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ» (2كورنثوس 11: 13). ودعاهم «فعلة الشر» لأنهم غاروا للناموس ولم يحفظوه حق الحفظ وبذلوا جهدهم في مقاومة المبشرين بالحق وفي هدم ما بنوه.

ٱلْقَطْعَ أي أهله. سماهم بذلك استخفافاً بهم وبتعليمهم لأنهم علموا وجوب الختان ومارسوه ولم يُرد التسليم بأن ما أتوه ختان لأنه لم يكن سوى رسم خارجي خال من المعنى الروحي المرموز إليه بالختان ولذلك لم يكن سوى قطع. ولم يقصد أن يحتقر الختان الذي مارسه أتقياء اليهود (أعمال 16: 3) بل أن يبطل تعليم الذين أضافوا الرسوم الموسوية إلى الإيمان المسيحي وصرّحوا بضرورية الختان للخلاص. والذي سماه هنا «قطعاً» سماه في موضع آخر «ختاناً مصنوعاً باليد في الجسد» (أفسس 2: 11) وأبان أن غايتهم من حملهم المؤمنين عليه هو أن يفتخروا بجسدهم (غلاطية 6: 13).

3 «لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلْخِتَانَ، ٱلَّذِينَ نَعْبُدُ ٱللّٰهَ بِٱلرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ».

تثنية 10: 16 و30: 6 وإرميا 4: 4 ورومية 2: 29 و4: 11 و12 وكولوسي 2: 11 يوحنا 4: 23 و24 ورومية 1: 9 و7: 6 غلاطية 6: 14

لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلْخِتَانَ أي أهل الختان الروحي المرموز إليه بالختان الجسدي. وسمى نفسه وغيره من المؤمنين بالختان لأن إيمانهم كإيمان إبراهيم قبل أن يُختن وسلوكهم كسلوكه فإنهم حين آمنوا حصلوا على ختان القلب المشار إليه بقوله «خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي 2: 11) وأنكروا الجسد وشهواته وحصلوا على «َخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ، ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (رومية 2: 29). وهذا يوافق قول الله بلسان موسى «ٱخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ. وَيَخْتِنُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تثنية 10: 16 و30: 6). ويبين علّة قول استفانوس لليهود «يَا قُسَاةَ ٱلرِّقَابِ، وَغَيْرَ ٱلْمَخْتُونِينَ بِٱلْقُلُوبِ وَٱلآذَانِ» (أعمال 7: 51).

نَعْبُدُ ٱللّٰهَ بِٱلرُّوحِ أي عبادة قلبية بفعل الروح القدس فينا على وفق قول المسيح للمرأة السامرية «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24). وهذا لا يمنع من العبادة الظاهرة بل يمنع من الاتكال على الرسوم دون العبادة القلبية.

وَنَفْتَخِرُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ بدلاً من أن نفتخر بالرسوم الخارجية كالختان وأمثاله.

وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ أي لا نتخذ الأمور الخارجية في الدين وسيلة إلى الخلاص ولا نعتمد للقبول أمام الله على النسب أو المقام أو حفظ الرسوم من صوم وتقشف وإماتة الجسد وزيارة الأماكن المقدسة. ويشبه تعليم الرسول هنا تعليم يوحنا المعمدان لليهود «َلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى 3: 9). ويخالف تعليم المعلمين الذين أشار إليهم في قوله «يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ» وهذا حمله على قوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 13 و14). إن اتكال اليهود في أيام المسيح على خارجيات الدين جعل عبادتهم باطلة ومثلها تكون عبادة المسيحيين إذا اتكلوا على الرسوم الخارجية ولو المعمودية والعشاء الرباني فتكون ديانتهم اسماً لا قوة وملحاً بلا ملوحة (متّى 5: 13 ومرقس 7: 7).

4 «مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ أَيْضاً. إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ فَأَنَا بِٱلأَوْلَى».

2كورنثوس 11: 18 و21

قال بولس هنا ما يذكرنا كلامه (2كورنثوس 11: 18 - 23) ومنه قوله «أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضاً» ومثله قوله «أَنَا أَيْضاً إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ» (رومية 11: 1).

مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ إن شئت الاتكال عليه لكن مع كل ذلك أنا من الذين «لا يتكلون على الجسد». شرع أن يقابل نفسه بالمعلمين المفسدين المارّ ذكرهم وأعلن أنه لم يمتنع عن الافتخار بالجسد والاتكال عليه لأنه ليس له ما لهم من أسبابه بل أوضح أنه مع توفر ما له من الامتيازات الخارجية التي لهم تركها جميعها لأنه تحقق أن لا قيمة لها في مسئلة خلاص النفس. قال في الآية الثالثة «نحن الختان» (الروحي) حاسباً أنه واحد من مؤمني فيلبي الذين هم من أصل وثني لكنه في هذه الآية تكلم بالإفراد لأنه كان فضلاً عن كونه مختون القلب مختون الجسد فإذاً له أن يقول أنه معادل لأولئك المعلمين وليس لمؤمني فيلبي أن يقولوا كذلك.

إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ... فَأَنَا بِٱلأَوْلَ كما أبان في الآيات الثلاث الآتية فإنه كانت له كل الامتيازات الممكنة من نسب وتعليم وطائفة والطاعة لرسوم الناس وقد امتحنها كلها فوجدها غير كافية للخلاص.

5 «مِنْ جِهَةِ ٱلْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ».

تكوين 17: 12 و2كورنثوس 11: 22 رومية 11: 1 أعمال 23: 6 و26: 4 و5

مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ على وفق مطاليب الشريعة (تكوين 17: 12 ولاويين 12: 3 ولوقا 1: 59). وهذا دليل على أنه وُلد يهودياً وأنه ليس بدخيل لأن الدخلاء كانوا يُختنون عند تهودهم وهم بالغون.

مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ أي من نسل يعقوب وهذا برهان على أنه ليس بدخيل وأن لا أحد من أسلافه كان دخيلاً وأنهم كانوا من أبناء الموعد.

مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ الذي كان منه أول ملوك اليهود وهو السبط الذي بقي أميناً مع سبط يهوذا حين ارتد الأسباط العشرة عن الله وافتخر هذا السبط بأن أباهم هو وحده من أولاد يعقوب وُلد في الأرض المقدسة.

عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ أي أنه تكلم باللغة العبرانية (أعمال 21: 40 و22: 2) وتبع عوائد العبرانيين وتعلم عند أقدام أفضل العبرانيين بدليل قوله «أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ، وَلٰكِنْ رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ ٱلأَبَوِيِّ» (أعمال 22: 3). ويحتمل أن يكون مراده أيضاً أن كلا والديه عبراني.

مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ كما قال في (أعمال 23: 6 و26: 5). واشتهر الفريسيون بشدة مراعاتهم للشريعة الموسوية.

6 «مِنْ جِهَةِ ٱلْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ».

أعمال 22: 3 وغلاطية 1: 13 و14 أعمال 8: 3 و9: 1 و1كورنثوس 15: 9 رومية 10: 5 لوقا 1: 6

أشار في ما سبق من وصفه لنفسه إلى امتيازاته الطبيعية وذكر في هذه الآية الامتيازات الشخصية الاختيارية.

مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ كما يتضح من (أعمال 9: 1 و2 و22: 3 و4 و26: 10 و11). وعدّ ذلك من أفظع خطاياه (1كورنثوس 15: 8 و9 و1تيموثاوس 1: 13 - 16) وعدّه هنا من مواضيع الافتخار بقياس أولئك المعلمين ومقتضى زعمهم.

مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ سمى المسيح هذا البر «بِرّ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ» (متّى 5: 20). وبمقتضاه كان الرئيس الذي أتى إلى المسيح استطاع أن يقول «هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي» (لوقا 18: 21). وبولس حفظ الناموس وهو يهودي تمام الحفظ حتى لم يستطع أحد أن يلومه ولم يكن ضميره يؤنبه على التقصير فيه إلا حين علمه روح الله ما يطلبه الناموس الأزلي من البر الذي لا يستطيع بشر أن يكون بمقتضاه بلا لوم (رومية 7: 7 - 12).

7 «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً».

متّى 13: 44

مَا كَانَ لِي رِبْحاً من كل تلك الامتيازات التي ذكرها وغيرها مما افتخر بها المعلمون المفسدون وكان هو نفسه يفتخر بها قبل هدايته ولو أراد الحق له أن يفتخر بها بعدها وكان يحسب ذلك ربحاً وهو شاول الفريسي الذي لم يكن قد آمن بالمسيح لأنه حسب أنه به كان مستحقاً الثواب السماوي.

فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ أنا بولس المسيحي المؤمن بالمسيح.

مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لنيل الخلاص به لأنه لا يمكنه أن يخلص بالمسيح إلا بأن يترك الاتكال على كل ما سواه بدليل قوله «تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ» (غلاطية 5: 4).

خَسَارَةً إنه علاوة على كونه غير نافع لخلاصه كان ضاراً لأنه منعه من الشعور باحتياجات نفسه وبعجزه عن الإنقاذ. ومنعه أيضاً عن الالتجاء إلى المسيح والتوبة عن الخطيئة ومن المصالحة لله فكان له بمنزلة محمول السفينة المشرفة على الغرق الذي يطرحه أربابها في البحر تخفيفاً عن السفينة وتنجية لها من الخطر.

8 «بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ».

إشعياء 53: 11 وإرميا 9: 23 و24 ويوحنا 17: 3 و1كورنثوس 2: 2 وكولوسي 2: 2

أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً ذكر في الآية السادسة كل ما له من الامتيازات بالنظر إلى كونه يهودياً وقال إنه حسبها خسارة عندما آمن بالمسيح وأبان هنا أنه لم يزل إلى يوم كتابة هذه الرسالة يحسبها كذلك وكذا سائر الأمور التي يزعم أنها ربح له من ثروة ومقام وسلطة. وكما أنه صرّح برفض الامتيازات التي كانت له وهو يهودي كذلك صرّح برفض الامتيازات التي كانت له وهو مسيحي من أفعاله وآلامه باعتبار حسبانها علة برّ.

مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ أي بالنظر إلى قيمة معرفة المسيح التي هي أعظم من قيمة كل شيء وإلى الربح الذي حصل عليه بها لأن معرفة المسيح تفوق سائر المعارف كما أن ضوء الشمس يفوق ضوء السراج وهي حياة أبدية (يوحنا 17: 3).

رَبِّي استطاع الرسول أن يشهد بفضل المسيح وفضل معرفته باختباره حب المسيح له. إن بولس حين ظهر له المسيح على طريق دمشق وسمعه يقول له «شاول شاول» قال «من أنت يا سيد» (أعمال 9: 4) لكنه هنا قال «ربي» لأن معرفته المسيح على توالي الأيام زادت وضوحاً وقيمة.

مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ ما صرّح به قبلاً بمقتضى القصد صرّح هنا بأنه أتاه فعلاً باختياره. فكان يمكنه أن يبلغ أسمى مقام بين أهل وطنه لو بقي يهودياً لكنه من أجل المسيح ترك كل ما له من الشرف الدنيوي وآثر عليه التعب والخطر والعار والاضطهاد والسلاسل حتى إنه يوم كتب هذه الرسالة كان يكتبها بإحدى يديه والأخرى مربوطة بيد العسكري وكان عرضة لأن يُحكم عليه بالموت. فلو كان لأحد الناس حق أن يفتخر بالآلام لكان له حق أن يفتخر هو بآلامه ويحسبها علة برّ.

وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً النفاية هنا ما يعزل عن الشيء ويُطرح لعدم نفعه وهي في الأصل اليوناني كناسة البيت بعد الوليمة ولم يجد الرسول أحسن من هذه الكلمة للتعبير بأحسن إيضاح عن قيمة الوسائط الخارجية عنده من النسب والرسوم الدينية والآداب الظاهرة والصلوات والصدقات باعتبار حسبانها علة الخلاص ومقابتلها باستحقاق المسيح وفضله.

لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ هذا علة رفضه كل ما ذكره من الامتيازات والاتكال عليها لأن ربحه المسيح ربح حقيقي يعوّض عليه كل ما خسره من أجله. وما ربحه من المسيح هنا جزء صغير مما توقع أن يربحه في المستقبل إلى الأبد. فكان من المستحيل أن يربح المسيح بدون أن يخسر كل ما سواه في سبيله وما استحال عليه يستحيل على سائر الناس إلى الأبد بدليل قول المسيح «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهٰذَا يُخَلِّصُهَا» (لوقا 9: 23 و24). والذي يربحه المؤمن من المسيح يظهر من (1كورنثوس 3: 22 و23).

9 «وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ».

رومية 10: 3 و5 رومية 1: 17 و3: 21 و22 و9: 30 و10: 3 و6 وغلاطية 2: 16

وَأُوجَدَ فِيهِ أي أكون متحداً به (يوحنا 17: 23) مغسلاً بدمه مكتسباً ببره صائراً إلى صورته مستتراً فيه الآن وفي وقت مجيئه. وهذا يشير إلى فحص اليوم الأخير حين يأتي المسيح للمحاكمة ويُحضر كل إنسان أمامه وفي ذلك اليوم توقع الرسول أنه يوجد في المسيح على ما ذُكر ويبقى كذلك إلى الأبد.

لَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي البر الذي يحصل عليه الإنسان لو حفظ الناموس تمام الحفظ وهذا يستحيل على كل بشر بدليل قوله «بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا» (غلاطية 2: 16). ولو حصل عليه لكان على سبيل دين لا على سبيل نعمة (رؤية 4: 4) وهذا طلبه اليهود عبثاً (رومية 10: 1 - 6).

بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ هذا يختلف كل الاختلاف عن البر الذي بالناموس وأضاف هذا الإيمان إلى المسيح لكونه وسيلة إلى التمسك به لا لكونه علته.

ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ ذكر هنا أصل البر وهو أنه هبة مجانية من الله لا من أعمال الإنسان. وإن الإيمان شرط الحصول على هذه الهبة السماوية (انظر أعمال 3: 16) فالذي يؤمن بالمسيح للبر يؤمن أنه أوفى كل مطاليب الناموس عنه ومات على الصليب ليكفر عن خطيته وأنه حي يشفع فينا إلى الأبد.

10 «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ».

رومية 6: 3 إلى 5 و8: 17 و2كورنثوس 4: 10 و11 و2تيموثاوس 2: 11 و12 و1بطرس 4: 13

لأَعْرِفَهُ المعرفة الاختبارية التي ذكرها في الآية الثامنة وهي التي لأجلها «خسر كل شيء». وهي قابلة الزيادة على قدر زيادة الاتحاد بالمسيح واختبار نعمته والتمثل به في آلامه وموته وقيامته كما أوضحه في ما يأتي حتى تبلغ النفس كمال المشابهة لصورته.

وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ لا القوة التي قام بها المسيح بل القوة التي نشأت عن قيامته إثباتاً لإيمان بولس بأن المسيح ابن الله وبأنه مخلصه وأنه سوف يقوم هو أيضاً يوم المعاد. ومما يُنسب في الإنجيل إلى قيامة المسيح إثباتاً للحقائق العظمى يتضح من قول بطرس أنها أثبتت «غفران الخطايا» وقبول «عطية الروح القدس» (أعمال 2: 32 و38). ومن قول بولس أنه به «يثبت بر المؤمن» (أعمال 13: 38 و39). وإنه «لولاها لبقي الناس في خطاياهم» (1كورنثوس 15: 17) وهي «واسطة التبرير» (رومية 4: 25) وبها «نحيا مع الله» (رومية 6: 11 وأفسس 2: 5). وبها يتعزون في شدائدهم وأتعابهم «عالمين إن تعبهم ليس باطلاً في الرب» (1كورنثوس 15: 58). فإذاً «قوة قيامة المسيح» هي التبرير والتجديد والحياة الجديدة فهذه كلها من نتائج تلك القيامة لكل مؤمن.

وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ وهي شرط ضروري لشركتهم في قيامته وتمجيده كما تدل القرينة وقوله «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ» (2تيموثاوس 2: 11 و12). وأشار إلى هذه الشركة قبلا بقوله «كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا، كَذٰلِكَ بِٱلْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً» (2كورنثوس 1: 5). وقوله «مع المسيح صلبت» (غلاطية 2: 20). وقوله «وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي» (كولوسي 1: 21) فالآلام وحدها لا تخلص ولا تؤكد المجد بل المشاركة للمسيح فيها بكونها احتملت من أجل اسمه والاتحاد به على محاربة الإثم.

إن كثيرين من المؤمنين يسرّون بتوقع أنهم يملكون مع المسيح لكنهم لا يكونون مستعدين ليتألموا معه. يريدون أن يلبسوا إكليل المجد لكنهم يأبون أن يلبسوا إكليل الشوك ويرغبون في لبس أثواب البر والجمال التي يلبسها المنتصرون في السماء ويرغبون عن لبس الأرجوان الذي ألبسه عسكر بيلاطس المسيح استهزاء به. أما بولس فلم يكن مثل هؤلاء بل رغب في أن يكون مثل المسيح وهو على الأرض في كل شيء حتى اتضاعه وآلامه.

مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِه رغب بولس أن يماثل المسيح في موته فوق مماثلته إياه في حياته لأنه رضي أن ينكر نفسه في كل شيء كما فعل المسيح في محاربة الخطية حتى الموت.

إن المسيح لا يزال يدعو تابعيه إلى المشاركة له في آلام جثسيماني بقوله «اُمْكُثُوا هٰهُنَا وَٱسْهَرُوا مَعِي» (متّى 26: 38) وإلى شرب كأس آلامه في الجلجثة بقوله «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ» (متّى 20: 23). نعم يندر أن يُدعى المسيحي إلى احتمال آلام كآلام المسيح في موته لكن يجب أن يكون مستعداً إلى مثل ذلك الاحتمال بالصبر والإيمان إذا كان الله يدعوه إليه. وإلى المشابهة للمسيح في الموت أشار بولس بقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ... لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ» (2كورنثوس 4: 10 - 12 انظر أيضاً 1كورنثوس 15: 31). إن بولس باحتماله شدائد السجن وتعرّضه لخطر الموت يومئذ كان مشابهاً للمسيح في آلامه وموته على قدر ما يستطيع العبد أن يشابه مولاه في مثل ذلك.

11 «لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ».

أعمال 26: 7

لَعَلِّي كلمة «لعل» في هذه الآية لا تشير إلى شيء من الريب في تحصيل المطلوب فأتى الرسول بها تواضعاً ودلالة على عظمة المطلوب وشدة رغبته فيه وكونه من النعمة لا من الاستحقاق. ومن كان مثل هذا الرسول لا يتوقف عن بذل وسعه في اتخاذ الوسائل لكي لا يتأخر عن بلوغه المطلوب.

قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ وما يليها من حياة جديدة وتمجيد كما أُعلن في (ع 20 و21). فكلامه هنا مقصور على قيامة الموتى الذين ماتوا على الإيمان متحدين بالمسيح وأشار إليهم المسيح بقوله «ٱلَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ... وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ» (لوقا 20: 35 و36). وأشار إليهم بطرس بقوله «وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 3 و4). فرغب بولس فوق رغبته في القيامة مع سائر الموتى في تحقق أن يكون مع «ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (1كورنثوس 15: 23). وقال «إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ» (رومية 6: 5). فقيامة المسيح عربون قيامة جميع المؤمنين (1كورنثوس 15: 20 و23) بدليل أقوال كثيرة ولا سيما قوله «َٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً» (1تسالونيكي 4: 14 و16). ولعل هذا أي القيامة الأولى ما رغب بولس في أن يبلغ إليه.

12 «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ».

1تيموثاوس 6: 12 عبرانيين 12: 23

قصد الرسول في هذه الآية واللتين تليانها منع قراء رسالته عن أن يستنتجوا من كلامه ظنه أنه بلغ الكمال في هذا العالم في معرفة المسيح والمماثلة له حتى أنه لم يبق في حاجة إلى الاجتهاد في أن ينمو في الفضائل أو أن يتقدم في القداسة. واتضح مما قاله هنا أنه لم يتوقع بلوغ الكمال الروحي ما دام على الأرض لأن «أرواح الأبرار المكملين» هم ممن دخلوا السماء بمقتضى تعليمه (عبرانيين 12: 22).

لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ في ما مضى من حياتي. والذي لم ينله بعد هو «ربح المسيح» (ع 8) ومعرفته التامة (ع 10) والمشابهة له. وليس مقصوده الجعالة المذكورة في الآية الرابعة عشرة لأنها مما يتوقعه لا مما ناله. نعم إنه قد تجدد وقام مع المسيح من موت الخطيئة ونال موهبة الإيمان لكنه لم يحسب ذلك إلا وسائل إلى الغرض الأسمى وبداءة الحياة المسيحية وأول الجهاد الذي شرع فيه.

أَوْ صِرْتُ كَامِلاً على مقتضى قول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى 5: 48). ومقتضى قوله هو في (أفسس 4: 13 وكولوسي 1: 28 و4: 12).

لٰكِنِّي أَسْعَى كالذي يجري في السباق والمعنى أنه يجتهد يوم أن يتقدم في الإيمان والمحبة والانتصار على الخطية والنمو في الحياة المقدسة متخذاً الوسائل التي أعدها الله للنمو حتى يبلغ رويداً رويداً إلى «إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 13). ومع كل ذلك الاجتهاد ظل يقصر كل يوم عن إدراك الغرض. وما قاله على نفسه يصدق على كل المؤمنين. فالمسيحي المتواضع الذي يعرف نفسه يعتز لأن يدعي الكمال الذي لم يجسر الرسول أن يدّعيه.

لَعَلِّي أُدْرِكُ الخ حسب نفسه كجار مد يديه إلى الجعالة على وفق قوله نصحاً لمؤمني كورنثوس «ٱلَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي ٱلْمِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلٰكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ ٱلْجِعَالَةَ؟ هٰكَذَا ٱرْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا» (1كورنثوس 9: 24). وقوله «نُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عبرانيين 12: 1). لكنه خشي أن ينسب إلى اجتهاده أكثر مما يستحقه كأن خلاصه بسعيه ولذلك لم يقل لعلي أدرك الجعالة التي أطلبها بل قال «لعلي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح». وأشار بذلك إلى وقت تجديده يوم مسكه المسيح لينقذه من الهلاك وجعله يشرع في السعي السماوي وأعطاه نعمة الثواب فكأنه قال طلبت الجعالة بالسعي السماوي ولكن لولا نعمة الله ما شرعت في ذلك السعي ولم أتوقع نيل الجعالة لو لم يمسكني الذي لا يقدر أحد أن يخطف من يده (يوحنا 10: 28). ولكل المؤمنين أن يثقوا بأن المسيح أدركهم ليخلصهم ويجب أن لا يحملهم ذلك على الكسل الروحي بل يجب أن يزيد رجاءهم واجتهادهم في اتخاذ الوسائل التي أعدها الله لهم طوعاً لأمره تعالى في (متّى 5: 48).

13 «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلٰكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ».

مزمور 45: 10 ولوقا 9: 62 و2كورنثوس 5: 16 و1كورنثوس 9: 24 و26 وعبرانيين 6: 1

أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ قال ذلك ليوجه أفكارهم إلى ما عزم على أن يقوله كما فعل في (غلاطية 3: 15 و6: 1 و18) لأنه خاف أن يطمئنوا بآمال فارغة.

لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ قابل نفسه بمن حُسبوا أنهم كاملون (ع 15) فقال إنه لم يدرك الكمال لكنه يسعى في طلبه ويتوقع التعب والاجتهاد وإنكار النفس قبل أن يدركه.

لٰكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً لكي أنال الغرض الذي لأجله أدركني المسيح ومنعني من السير في طريق الهلاك الذي كنت سائراً فيه. وأراد «بالشيء الواحد» ما ذكره في الكلام الآتي. إن من مقتضيات الجري في السباق جمع كل أفكاره وقواه بغية إدراك الغرض وأن لا يصرف نظره عنه طرفة عين. وكذا كان فعل بولس. ومثله يجب أن يكون فعل كل من يرغب في الخلاص.

أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ كما يفعل الجاري في السباق. إنّ امرأة لوط نظرت إلى ورائها فهلكت (تكوين 19: 26 ولوقا 17: 32). قال المسيح «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (لوقا 9: 62). وما أشار إليه الرسول هنا بقوله «أنسى ما هو وراء» الامتيازات التي كان يعتبرها كثيراً أيام كان يهودياً واتكل عليها للخلاص ولو اعتبرها بعد كانت عاثوراً له. وسنو أتعابه منذ آمن بالمسيح وشرع في خدمته وما قاساه من إنكار النفس والآلام فلو نظر إليها لكانت علة الكبرياء الروحية والاتكال على صالح أعماله. وما ناله من البركات السابقة لئلا يفتخر ويكتفي بها. وخطاياه السالفة لئلا تكون علة يأس له فيحزن «حُزْنُ ٱلْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً» (2كورنثوس 7: 10). فيجب على المسيحيين بمقتضى قول بولس هنا أن لا يعتبر بركاتهم الماضية إلا عربون البركات الآتية وأن ما مر من أتعابهم في خدمة المسيح ليس سوى تمرّن يقدرون به على أعظم الخدمة في المستقبل. وإن ما حصلوا عليه من الانتصار على الخطيئة ليس سوى عربون لغلبتهم الأخيرة لها.

وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ هذا كقوله «أنسى ما هو وراء» إلا أن ذلك على طريق السلب وهذا على طريق الإيجاب. فالنسيان هو عمل العقل فقط والامتداد عو عمل الروح لكنه استعار له عمل الجسد بناء عل ما يفعله الجاري في السباق بمد يده إلى غرض السبق. وأراد «بما هو قدام» كل ما يفتقر إليه لإدراك الكمال أي ما يجب عليه في ما بقي من حياته من عمل وألم ونيل النعمة بواسطة الصلاة لكي يكمل سعيه لمجد الله ونفع الكنيسة.

14 «أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

2تيموثاوس 4: 7 و8 وعبرانيين 12: 1 و1كورنثوس 9: 24 عبرانيين 2: 1

أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ كما يفعل المسابق غير ملتفت إلى الوراء ولا طالب للراحة بل ينظر دائماً إلى السماء لأنه إلى حيث تشتهي النفس تنظر العين وإلى حيث تنظر العين تمتد اليد وإلى حيث تمتد اليد تجري الرجل. وكان غرض السباق في الملاعب اليوناينة في آخر الميدان وكان في الغالب عموداً من حجر توضع على رأسه الجعالة.

جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا غلب في المسابقات الأرضية أن تكون الجعالة إكيلاً مضفوراً من أوراق بعض الأشجار كالزيتون والغار والتفاح (انظر تفسير 1كورنثوس 9: 25). وكثيراً ما عبر الكتاب عن جعالة المؤمن «بالإكليل» ومن ذلك «إكليل البر» (2تيموثاوس 4: 8). و «إكليل الحياة» (يعقوب 1: 12 ورؤيا 2: 10). و «إكليل المجد» (1بطرس 5: 4). وأضاف «الجعالة» إلى «دعوة الله» لأنها غاية تلك الدعوة ونتيجتها والله هو أصلها وعلتها (1تسالونيكي 2: 12). وهو الذي قصدها وسر بأن يمنحها (رومية 8: 30). ودُعي بولس تلك الدعوة وقبلها وبموجبها اشترك حينئذ في خدمة ملكوت الله وتوقع أن يشترك في مجدها في ما بعد. ووصفت «بالعليا» لأنها من السماء وإليها ولهذا عينه نُعتت «بالسماوية» (عبرانيين 3: 1) وهي دعوة إلى الخدمة واحتمال الأرزاء ثم إلى السكنى مع الله والمشابهة له (رؤيا 21: 3 ومزمور 17: 15). وهذه الدعوة موجهة إلى كل إنسان فكل أن يتوقع الخلاص لأنه مدعو إليه (1تسالونيكي 2: 12).

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بواسطته لأننا به نحصل على نتائج تلك الدعوة العليا بدليل قول بطرس الرسول «وَإِلٰهُ كُلِّ نِعْمَةٍ ٱلَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ ٱلأَبَدِيِّ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيراً الخ» (1بطرس 5: 10). أتى المسيح إلينا بهذه الدعوة من السماء وأعلنها لنا في إنجيله فإذا اتحدنا به بواسطة الإيمان تبررنا بمقتضاها وتقدسنا.

15 «فَلْيَفْتَكِرْ هٰذَا جَمِيعُ ٱلْكَامِلِينَ مِنَّا، وَإِنِ ٱفْتَكَرْتُمْ شَيْئاً بِخِلاَفِهِ فَٱللّٰهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هٰذَا أَيْضاً».

غلاطية 5: 10 و1كورنثوس 2: 6 و14: 20

فَلْيَفْتَكِرْ هٰذَا... ٱلْكَامِلِينَ مِنَّا أي المجتهدين في أن يكونوا كاملين المتوقعين أن يكونوا كذلك في السماء لكنهم لم يدعوا الكمال هنا (ع 12) لأنهم يعلمون إن حياة المسيحيين على الأرض بالنسبة إلى حياتهم في السماء كنسبة حياة الطفل إلى حياة البالغ. فحياتهم في هذا العالم استعداد للبلوغ والكمال في عالم الأبدية بدليل قول الرسول «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ. لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ الخ» (1كورنثوس 13: 9 - 12). وقوله «إلى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا... إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 13). ونسب الرسول الكمال إلى نفسه وإليهم لأنهم كانوا مثله في أن تركوا الاتكال على الناموس والرسوم الموسوية وعلى البر الذاتي ولكنه خاف أن يتكلوا على بلوغهم في معرفة الحق والتمييز بين الروحيات والجسديات ويفتروا في الاجتهاد ويحسبوا أنهم أدركوا الكمال في كل شيء فحثهم على التقدم في الحياة الروحية متمثلين به في «أن ينسوا ما هو وراء ويمتدوا إلى ما هو قدام» وهذا ما أراده بقوله في أول الآية «ليفتكروا هذا» والخلاصة أن بولس طلب من الذين يدعون الكمال أن يبرهنوا على صحة مدعاهم بتواضعهم وشعورهم بنقصانهم وبغيرتهم في التقدم في الحياة الروحية بمقتضى المبدإ الذي وضعه لنفسه (ع 13).

إِنِ ٱفْتَكَرْتُمْ شَيْئاً بِخِلاَفِهِ أي بخلاف ما افتكرت فيه من جهة بلوع الكمال في القداسة وبخلاف القانون الذي صرّحت به (ع 13).

فَٱللّٰهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هٰذَا أَيْضاً أي ما افتكرتم فيه خلاف افتكاري. فإن الرسول تيقن أنهم مؤمنون حقاً وإن الله لا يتركهم يضلّون في ما قال بل يعلن لهم بواسطة روحه القدوس حقيقة الأمر وهو نقصانهم وافتقارهم إلى بر المسيح لكي يكونوا كاملين بمقتضى وعده في قوله «مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا 16: 13 انظر أيضاً يوحنا 7: 17 ومتّى 14: 12). إن الله يقدر بروحه أن يعلم الناس الحقائق التي لا يستطيع الرسول الموحى إليه أن يقنعهم بها.

16 «وَأَمَّا مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ، فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذٰلِكَ ٱلْقَانُونِ عَيْنِهِ، وَنَفْتَكِرْ ذٰلِكَ عَيْنَهُ».

رومية 12: 16 و15: 5 غلاطية 6: 16 ص 2: 2

وَأَمَّا أي ومهما يكن الفرق في الافتكار بيننا في شأن ما ذكرته. طلب الرسول منهم في هذه الآية أمرين الأول أن يستمروا على التقدم في سبيل القداسة والثاني أن يتقدموا كلهم معاً.

مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ من الكمال في الحياة الروحية ومعرفة الواجبات والسلوك بمقتضاها.

فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذٰلِكَ ٱلْقَانُونِ أي قانون السلوك الروحي وهو نسيان ما هو وراء والتقدم إلى ما هو قدام وهو قانون الإنجيل. أراد الرسول أن ينتفعوا بما حصلوا عليه من النور السماوي ثم يسلكوا به.

وَنَفْتَكِرْ ذٰلِكَ عَيْنَهُ أي يجب أن لا ينفصل بعضنا عن بعض لاختلافنا في الرأي بل أن نتفق في خدمة المسيح والتمثل به وفي محبة بعضنا لبعض. لم يكن لكل من المؤمنين مقدار ما لآخر من العلم ولم يعتقدوا جميعاً اعتقاداً واحداً في كل الأمور ولكن ذلك لا يمنعهم أن يتفقوا على أتباع المسيح والتقدم في طريق الحق والاجتهاد في مد ملكوت الله في العالم. فلو كان جميع المسيحيين بدلاً من أن ينظروا إلى ما اختلفوا فيه وإن يبغض كل فريق الآخر ينظرون إلى ما يتفقون عليه في الإيمان والواجبات ويجتهدون أن يساعد بعضهم بعضاً على إتمام واجباتهم لكان السلام عظيماً في الكنيسة وكانت الكنيسة نوراً في العالم يبدد ظلماته.

وجوب أن يتمثل الفيلبيون بالرسول وأمثاله وأن يغايروا الذين تدل أعمالهم على أنهم أعداء صليب المسيح ع 17 إلى 19

17 «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، وَلاَحِظُوا ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ».

1كورنثوس 4: 16 و11: 1 وص 4: 9 و1تسالونيكي 1: 6 و1بطرس 5: 3

كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعاً أمرهم هنا كما أمر مؤمني كورنثوس (1كورنثوس 4: 16) ومؤمني تسالونيكي (1تسالونيكي 1: 6 و2تسالونيكي 3: 7). إن بولس تمثل بالمسيح ولذلك حق له أن يأمرهم بأن يتمثلوا به كما أبان لمؤمني كورنثوس بقوله «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضاً بِٱلْمَسِيحِ» (1كورنثوس 11: 1). وأراد بقوله «معاً» أن يتفقوا كشخص واحد على ما أوصاهم به.

لاَحِظُوا ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا نَحْنُ الخ كتيموثاوس وأبفرودتس ومن شاكلهما من رفقاء بولس. وزاد هذا على قوله «كونوا متمثلين بي» بياناً لتواضعه ودفعاً لتوهم أنه متكبر. وأراد بقوله «لاحظوا الذين» الخ أن ينتبهوا بسيرتهم ويسيروا مثلهم. وهذا مخالف لما أراده بالملاحظة في الرسالة إلى رومية إذ كان للاعتزال لا للتمثل (رومية 16: 17).

18 «لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً، وَٱلآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِياً، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ».

غلاطية 1: 7 و2: 21 و6: 12 وص 1: 15 و16

لأَنَّ كَثِيرِينَ المشار إليهم هنا ليسوا المعلمين المائلين إلى الرسوم الموسوية وذوي الغيرة للناموس والاتكال على البر الذاتي الذين ذكرهم قبلاً في هذه الرسالة بل هم الجسدانيون الذين افتخروا بسمو علمهم وحريتهم في المسيح وعاشوا على مقتضى شهواتهم كالذين ذكرهم بطرس الرسول في (2بطرس 2: 12 - 22) ويهوذا في (ع 4 و8 و12 و13) وهم المعروفون في تاريخ الكنيسة بالغنوسيين.

أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً حين كنت بينكم مبشراً.

ًوَٱلآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِيا حزناً لما نتج من تعليمهم من العار لاسم المسيح وتضليل غيرهم واتخاذهم الحرية المسيحية حجة على ارتكاب المحظورات. ومما زاد حزن بولس أنهم ادعوا من تعليمه التحرير من شريعة موسى أن المؤمنين محررون من الشريعة الأدبية. وكره الرسول ضلالهم وخطاياهم لم يمنعه من البكاء على الضالين الخطأة.

وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ بالفعل. هم ادعوا أنهم مسيحيون لكنهم لم ينكروا أنفسهم ويحملوا الصليب ويتبعوا المسيح ولذلك أضروا المسيح وكنيسته أكثر من شر المقاومين والمضطهدين وأضلوا إخوتهم الضعفاء بتعليمهم المذكور وكان سبباً لتجديف الذين أبغضوا المسيح وديانته.

إن «للصليب» في الإنجيل معنيين الأول ما حمله المسيح وصُلب عليه من أجل خطايانا وهو حمل ذلك وحده فعلينا أن نتمسك به ونخلص به ولكننا لا نستطيع أن نشاركه في حمله. والثاني ما يجب أن نحمله نحن وراء المسيح (متّى 10: 38 و16: 24). ونفعل ذلك بمشاركتنا المسيح في آلامه وتشبهنا بموته (ع 10). وجمع بولس المعنيين في قوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 14). وادّعى أولئك الذين حذر بولس الفيلبيين منهم أنهم قبلوا الصليب بالمعنى الأول إلى حد اعتقدوا عنده أنهم تبرّروا به مهما ارتكبوا من الآثام واستمروا على الخطيئة «لكي تكثر النعمة» (رومية 6: 1) فأبوا أن يحملوا صليب إنكار الذات ومنعوا غيرهم من حمله فبرهنوا بذلك أنهم أعداء الصليب. نعم إنهم أظهروا بكلامهم أنهم أصدقاء المسيح وصليبه لكنهم بأعمالهم أهانوهما. ففي تاريخ كل عصور الكنيسة لم يكن من أشد أعدائها الكفرة والمضطهدون بل الذين ادّعوا إنهم أصحاب المسيح وأحزنوه وأهانوه بحبهم للعالم وسلوكهم على خلاف وصايا المسيح وإنجيله.

19 «ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ ٱلْهَلاَكُ، ٱلَّذِينَ إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ».

2كورنثوس 11: 15 و2بطرس 2: 1 رومية 16: 18 و1تيموثاوس 6: 5 وتيطس 1: 11 هوشع 4: 7 و2كورنثوس 11: 12 وغلاطية 6: 13 رومية 8: 5

أظهر بولس في هذه الآية باعتبار كونه خادماً للمسيح غيظه الشديد على الذين «يُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلٰهِنَا إِلَى ٱلدَّعَارَةِ» (يهوذا 4) الذين «بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ... قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ» (2بطرس 2: 20 و22)

نِهَايَتُهُمُ ٱلْهَلاَكُ أي إن هلاكهم ثابت مؤكد كنهاية سائر الخطأة عند مجيء الرب خلاف ما توقعوه من الخلاص لأن مجرّد إقرارهم بالمسيح لا يخلّصهم بل يزيد إثمهم. قال بطرس في أمثالهم إن «هَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ» (2بطرس 2: 3). وقال بولس نفسه في أفعال أمثالهم «نِهَايَةَ تِلْكَ ٱلأُمُورِ هِيَ ٱلْمَوْتُ» (رومية 6: 21).

إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ هذا علة وفق قوله «هٰؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ» (رومية 16: 18). فإنهم فضلوا شهواتهم الجسدية على الله ولم يحيوا ليمجدوه بل ليرضوا أنفسهم. وفي أشكالهم قال بطرس «يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ» (2بطرس 2: 13). وقال يهوذا «هٰؤُلاَءِ صُخُورٌ فِي وَلاَئِمِكُمُ ٱلْمَحَبِّيَّةِ، صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعاً بِلاَ خَوْفٍ، رَاعِينَ أَنْفُسَهُمْ» (يهوذا 12).

مَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِم أي يخالفون قوانين الأدب ويفعلون أفعالاً توجب الخزي والعار طبعاً ويفتخرون بحرّيتهم في ارتكابهم ذلك بدعوى أنهم شديدوا الإيمان وبذلك دلوا على أنهم مرفوضون لأنهم لا يفعلون فقط ما يستوجب الموت بل يسرّون بالذين يعملون (رومية 1: 32).

ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ كالبهائم. إنهم كانوا يدعون أنهم روحانيون إلى حد أنهم لا يتدنسون بالشهوات الجسدية لكن أعمالهم كانت تبرهن إن كل مجرى أفكارهم وشهواتهم ومحادثاتهم من الأرض أرضي غير قابل التوجه إلى السماء إذ كانوا يجعلون الغنى والشرف واللذّات غاية حياتهم خلافاً لسنة الإنجيل القائل «إِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً، فَٱفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 10: 31).

بيان من يجب أن يتمثل الفيلبيون به ع 20 و21

20 «فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ».

أفسس 2: 6 وكولوسي 3: 1 و3 وأعمال 1: 11 و1كورنثوس 1: 7 و1تسالونيكي 1: 10 وتيطس 2: 13

أبان الرسول هنا الفرق بين هؤلاء الجسدانيين وأمثاله المخلصين.

سِيرَتَنَا معنى الأصل اليوناني الذي تُرجم «بالسيرة» هنا جاء في حاشية الإنجيل ذي الشواهد أنه «المملكة أو الدولة التي نحن رعيتها». كان بولس وأمثاله بدلاً من أن يهتموا بالأرضيات يهتمون بالسماويات فإنهم اعتبروا السماء وطنهم وأن أورشليم السماوية هي مملكتهم التي هم رعيتها وسائرون إليها كما في قوله «أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا، ٱلَّتِي هِيَ أُمُّنَا الخ» (غلاطية 4: 26).

كانت فيلبي مهجراً ولذلك حُسب أهلها من أهل رومية قصبة المملكة كذلك مؤمنو فيلبي حُسبوا من أهل السماء على وفق قوله «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ» (أفسس 2: 19).

من أعظم ما يمتاز به المؤمنون عن الدنيويين أنهم وحدهم يعتبرون الأرض منزلاً وقتياً والسماء وطناً أبدياً وهم لا يفتكرون في الأرضيات «لأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى ٱلأَرْضِ» (عبرانيين 11: 13)،

فِي ٱلسَّمَاوَاتِ قال ذلك وهم لا يزالون على الأرض لأن ملكوت الله الذين هم رعيته «قد أتى» إليهم وإن أكثر اهتمامهم بما هنالك على وفق قوله «ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي 3: 2).

مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ أي نتوقع بشوق شديد على ما هو في الأصل اليوناني وهذا مثل ما في (رومية 8: 19 و23 و25) وهذا مبني على وعد المسيح في قوله «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً» (يوحنا 14: 3). وقول الملاكين «إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (أعمال 1: 11 انظر 1تسالونيكي 4: 16).

مُخَلِّصاً ليتمم عمل الخلاص بفداء الجسد كما تدل القرينة.

كان إتيان المسيح ثانية موضوع آمال المؤمنين في كل العصور منذ صعود المسيح إلى السماء فكان يعزيهم في الضيقات ويحفظهم من تجربة الكسل ويحملهم على السهر والصلاة والنظر إلى السماء. ومن الآيات التي تثبت رجوعه ما في (متّى 24: 42 و44 و يوحنا 12: 37 و14: 3 وأعمال 1: 11 و1كورنثوس 4: 5 وكولوسي 3: 4 و1تسالونيكي 2: 19 و2تسالونيكي 2: 1 وعبرانيين 10: 37 ويعقوب 5: 7 و8 و1يوحنا 3: 2 ورؤيا 22: 7 و12 و20).

إن المسيحيين مختلفون في وقت رجوعه وفي أنه هل يملك على الأرض ملكاً مشاهداً أو لا لكنهم متفقون على أنه لا بد من أن يأتي ثانية ويصلّون بغية أن يأتي سريعاً.

21 «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ».

1كورنثوس 15: 43 و48 و49 وكولوسي 3: 4 و1يوحنا 3: 2 أفسس 1: 19 و1كورنثوس 15: 26 و27

أبان في هذه الآية كيف يتمم ذلك المخلص خلاصنا.

سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا أي جسدنا الحاضر. وقد أبان الرسول كيفية هذا التغيير في (1كورنثوس 15: 35 - 53). ومما قاله هناك أن هذا الفاسد سيكون بلا فساد ويُبدل هوانه بمجد وضعفه بقوة وحيوانيته بالروحانية ولم يقل سيلاشي شكل الجسد أو سيخلق جسداً جديداً بل سيغيّره عند إقامته فيكون بدلاً من أن يقبل الخطيئة والفناء طاهراً خالداً. وأضاف «الجسد» إلى «التواضع» لأننا ما دمنا في الجسد نظل عرضة للهوان والحزن والألم والموت. والخطيئة هي التي جعلته «جسد التواضع» لأن الله خلقه «حسناً جداً».

عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ أي أن أجساد المؤمنين يوم القيامة تكون كجسد المسيح على طور التجلّي. وكما هو الآن في السماء وكما هو سيظهر للجميع في مجيئه الثاني ويظهر ما له من المجد وما نربحه نحن منه مما قاله يوحنا في رؤياه (رؤيا 1: 13 - 16 و19: 12 و16 و20: 11). وأشار إلى هذا التغيير في رسالته بقوله «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2). وأشار إلى هذا بطرس واستنتج منه نفس النتيجة التي استنتجها بولس بقوله «لِذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هٰذِهِ، ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ» (2بطرس 3: 14).

بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أي بمقتضى قوة الله العظيمة ولا سيما القوة التي أظهرها بإقامة المسيح من الأموات (انظر أفسس 1: 19 و3: 7) والتفسير هنالك.

أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ هذا تصريح بأن قوة الله غير محدودة كقوة الإنسان بل أنها تفوق «كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ» (1كورنثوس 15: 24). وفي ما قيل هنا تلميح إلى أن تغيير أجسادنا ليس سوى واحد من مظاهر تلك القوة وجزء مما قد فعله الله لأجل خلاصنا ومما سيفعله أيضاً. والكلام مقصور هنا على إظهار قوة الله في خلاص المفديين ولكنه بُيّن في موضع آخر إظهار قوته تعالى في عقاب الاشرار الذين أبوا قبول الخلاص.

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ

نصائح خاصة ونصائح عامة (ع 1 - 9) وتشكرات (ع 10 - 18) ودعاء (ع 19 و 20).

نصائح في الثبات والاتحاد وتوجيه النصيحة خاصة إلى المرأتين أفودية وسنتيخي (ع 1 - 3) نصائح في الفرح والحلم والسلام بناء على عناية الله بهم وكونه مستعداً لسمع صلواتهم ومنح سلامه للطالبين (ع 4 - 7). ونصائح في ممارسة كل الفضائل المسيحية متمثلين به (ع 8 و9).

نصائح خاصة ونصائح عامة ع 1 إلى 9

1 «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ وَٱلْمُشْتَاقَ إِلَيْهِمْ، يَا سُرُورِي وَإِكْلِيلِي، ٱثْبُتُوا هٰكَذَا فِي ٱلرَّبِّ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ».

ص 1: 8 و2كورنثوس 1: 14 وص 2: 16 و1تسالونيكي 2: 19 و20 ص 1: 27

يجب أن تكون هذه الآية جزءاً من الأصحاح الثالث لأنها نتيجة ما فيه.

إِذاً أي بناء على رجائكم المجد الآتي وعلى كونكم رعية السماء وانتظاركم مجيء المسيح ثانية ووجوب الاستعداد لذلك. وبمثل هذه الآية ختم بولس كلامه البليغ في القيامة في رسالته إلى مؤمني كورنثوس وهو قوله «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ» (1كورنثوس 15: 58).

يَا إِخْوَتِي خاطبهم بذلك لكونهم شركاء في الإيمان وأصدقاء أعزاء.

ٱلأَحِبَّاءَ إتيانه بهذا النعت مرتين في هذه الآية وقرنه به غيره من كلام الوداد دليل على شدة محبته لهم وشوقه لمشاهدتهم وسعيه في نفعهم وخشيته من أن يقعوا في التجارب ويسقطوا.

ٱلْمُشْتَاقَ إِلَيْهِمْ لوفرة محبتي لكم وطول مدة سجني وانفصالي عن أكثر أصدقائي.

يَا سُرُورِي علة كونهم سروره أنهم قبلوا الإنجيل بواسطته وكون سيرتهم طاهرة وصداقتهم لاذّة له. فإن أعظم سرور الراعي الأمين ناتج عن طهارة سيرة رعيته (3يوحنا 4).

إِكْلِيلِي الإكليل آية شرف وعلامة انتصار وحلية زينة بدليل قول الحكيم «اِسْمَعْ يَا ٱبْنِي تَأْدِيبَ أَبِيكَ، وَلاَ تَرْفُضْ شَرِيعَةَ أُمِّكَ، لأَنَّهُمَا إِكْلِيلُ نِعْمَةٍ لِرَأْسِكَ» (أمثال 1: 8 و9). وقوله في الحكمة «تُعْطِي رَأْسَكَ إِكْلِيلَ نِعْمَةٍ» (أمثال 4: 9). وقول إشعياء «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ يَكُونُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ إِكْلِيلَ جَمَالٍ وَتَاجَ بَهَاءٍ لِبَقِيَّةِ شَعْبِهِ» (إشعياء 28: 5). وقول الرسول في المجاهدين الجهاد الأرضي «أَمَّا أُولَئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى» (1كورنثوس 9: 25). وقول المسيح «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10) إن بولس حسب من الشرف أنه أسس كنيسة فيلبي ونظر إليها نظر ملك إلى إكليله وسر بها سرور المجاهد بإكليل الانتصار. وإنه اعتبر نجاح كنيسة فيلبي علامة رضى الله رسوليته وإن أعضاءها أجرة أتعابه وبرهان أنه ما سعى باطلاً (ص 2: 16). فيكون أولئك الأعضاء إكليل انتصاره عند مجيء المسيح كما كتب إلى أهل تسالونيكي أنهم «إكليل افتخاره» (1تسالونيكي 2: 19). وكما اعتبر مؤمني كورنثوس «ختم رسالته في الرب» (1كورنثوس 9: 2).

ٱثْبُتُوا هٰكَذَا فِي ٱلرَّبِّ أي اثبتوا في إيمانكم بالرب كما أثبت أنا والذين يسيرون سيرتي (ص 3: 17) وكما طلبت منكم سابقاً (ص 1: 27) وكما يليق بالذين هم رعية وطن سماوي (ص 3: 20 انظر تفسير ص 1: 27 وغلاطية 5: 1). وحذّرهم بقوله «في الرب» من أن يتوقعوا الثبات بقوة أنفسهم وأشار إلى أن ثباتهم لتكميل الواجبات أو احتمال الضيقات متوقف على ثقتهم بالمسيح واتحادهم به.

2 «أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْراً وَاحِداً فِي ٱلرَّبِّ».

ص 2: 2 و3: 16

أَفُودِيَةَ... سِنْتِيخِي ما ذُكر هنا كل ما نعلمه من أمرهما ومنه نستنتج أنهما من معتبرات النساء في فيلبي ولا يبعد عن الظن أنهما كانتا شماستين في كنيستهما. إن بولس أول من بشّر من أهل فيلبي النساء (أعمال 16: 13) وباكورة تعبه في أوربا امرأة وانتظمت كنيسة فيلبي في بيت امرأة (أعمال 16: 14 و40).

أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْراً وَاحِداً يستدل من هذا على أنه وقع اختلاف بينهما وبلغ نبأه بولس وأن ذلك الاختلاف أقلق الكنيسة. ومن المحتمل أن الكنيسة صارت به حزبين. ولا شيء في هذا النبإ يدل على أنهما لم تكونا مؤمنتين تغاران للحق بل ما يثبت إيمانهما وغيرتهما.

فِي ٱلرَّبِّ كما يليق بمن وقفتا نفسيهما لسيد واحد واعتمدتا باسم رب واحد. لأنه يجب على الذين يتحدون بالمسيح أن يتحد كل منهم بالآخر.

3 «نَعَمْ أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضاً، يَا شَرِيكِي ٱلْمُخْلِصَ، سَاعِدْ هَاتَيْنِ ٱللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي ٱلإِنْجِيلِ، مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضاً وَبَاقِي ٱلْعَامِلِينَ مَعِي، ٱلَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ».

رومية 16: 3 وص 1: 27 خروج 32: 33 ومزمور 69: 28 ودانيال 12: 1 ولوقا 10: 20 ورؤيا 3: 5 و13: 8 و20: 12 و21: 27

يَا شَرِيكِي ٱلْمُخْلِصَ الذي يستحق الثقة به لعدم الرياء. ولم نعلم من هذا الشريك. وظن بعضهم أنه لوقا لأنه ذُكر اسمه كثيراً مع ذكر حضور بولس في فيلبي لأن كلام لوقا في الأعمال على وصول بولس إلى فيلبي بصيغة المتكلمين وكلامه عند مفارقة بولس إياه ليس كذلك (أعمال 16: 10 - 17) فإنه عاد إلى تلك الصيغة حين رجوع بولس إلى فيلبي (أعمال 20: 5 و6). ومن ذلك استنتجوا أن لوقا كان يومئذ راعي كنيسة فيلبي. وذهب بعضهم إلى أن ذلك الشريك أبفرودتس ناقل هذه الرسالة فإنه كان وقت كتابة هذه الآية يملي عليه وهو يكتب فلم يخاطبه باسمه بل بلقب المودة. وارتأى غيره أن لفظة «سوجيجوس» المترجمة بشريك اسم رجل معروف في الكنيسة ونعته «بالمخلص» إشارة إلى أن اسمه على وفق مسماه.

سَاعِدْ هَاتَيْنِ القرينة تدل على أن المساعدة المطلوبة هي الإتيان بأفودية وسنتيخي إلى الموافقة ولكن لا مانع من أنهما كانتا محتاجتين متضايقتين من اضطهاد أو فقر ومرض.

ٱللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي ٱلإِنْجِيلِ هذا ما حمل بعضهم على القول بأنهما كانتا شماستين في الكنيسة وفي قوله «جاهدتا» إشارة إلى أنهما شاركتا بولس في التبشير بالإنجيل في مجيئه الأول إلى فيلبي وأن خدمتهما كثيراً ما اقترنت بالمشقة والخطر.

مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ طلب بولس هنا من إكليمندس أنه يسعى مع «شريكه المخلص» في إنشاء الموافقة بين تينك المرأتين. ولا نعلم من أمره سوى ما ذُكر هنا وهو أنه كان يخدم الإنجيل مع بولس في فيلبي.

اشتهر بهذا الاسم واعظ في كنيسة رومية وعدّ في تاريخ الكنيسة من الأساقفة الأولين لكن لا دليل على أنه هو المذكور في الآية فإن ذلك الاسم كان شائعاً يومئذ.

وَبَاقِي ٱلْعَامِلِينَ مَعِي دعا هؤلاء أيضاً إلى أن يسعوا أيضاً في مصالحة المرأتين المذكورتين.

ٱلَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ ذكر من النساء أفودية وسنتيخي ومن الرجال اكليمندس وأشار إلى غيرهم ولم يستحسن أن يذكر أسماءهم لكنه أشار إلى أنه إن لم يذكرها في رسالته فهي مذكورة في سفر الحياة. ومن الإشارات إلى ذلك السفر في العهد القديم قول إشعياء «وَيَكُونُ أَنَّ ٱلَّذِي يَبْقَى فِي صِهْيَوْنَ وَٱلَّذِي يُتْرَكُ فِي أُورُشَلِيمَ يُسَمَّى قُدُّوساً. كُلُّ مَنْ كُتِبَ لِلْحَيَاةِ» (إشعياء 4: 3). وقول داود في الأشرار «لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ ٱلأَحْيَاءِ، وَمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا» (مزمور 69: 28). وقول موسى لله «وَٱلآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ وَإِلاَّ فَٱمْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ ٱلَّذِي كَتَبْتَ» (خروج 32: 32). وقول دانيال وهو أوضح إشارة إلى ذلك السفر «َفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ يُنَجَّى شَعْبُكَ، كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مَكْتُوباً فِي ٱلسِّفْرِ» (دانيال 12: 1). ومن الإشارات إليه في العهد الجديد قول المسيح لتلاميذه «ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (لوقا 10: 20). وقول الرسول «أَتَيْتُمْ إِلَى... كَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين 12: 22 و23). وكثيراً ما ذُكر في سفر الرؤيا (رؤيا 3: 5 و13: 8 و17: 8 و20: 12 و15 و21: 27 و22: 19). فإذا نُسيت أسماء أشهر الناس في تاريخ العالم فأسماء هؤلاء التي كُتبت في سفر الحياة تضيء كالكواكب إلى أبد الآبدين (دانيال 12: 3). اعتاد اليهود أن يكتبوا أسماء أسلافهم في جداول الأنساب بكل ضبط حسب أسباطهم كما يتبين من سفر الأيام الأول (1أيام ص 4 - 9) وسفر الأيام الثاني (2أيام ص 31: 16 - 19) وسفر نحيما (نحميا ص 7 وص 12) وإنجيل متّى (متّى ص 1) وإنجيل لوقا (لوقا ص 3) وأتوا ذلك إثباتاً لحقوقهم في أرض كنعان. واعتاد الرومانيون أن يسجلوا أسماء سكان المدن الحرّة ليعرف الذين لهم حق أن يدّعوا الحقوق الرومانية كما ادّعاها بولس (أعمال 22: 25) وذلك سهّل على الفيلبيين أن المراد بالذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحياة هم شعب الله بمقتضى العهد وإن لهم حقوق رعيته السماوية.

4 «اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً ٱفْرَحُوا».

رومية 12: 12 وص 3: 1 و1تسالونيكي 5: 16 و1بطرس 4: 13

اِفْرَحُوا إن الدعوة إلى الفرح في الرب أعظم مواضيع هذه الرسالة وسبق تفسير هذه العبارة في (ص 3: 1).

كُلَّ حِينٍ في وقت السراء ووقت الضراء ووقت الرحب ووقت الضيق.

أَيْضاً قال هذا لأنه دعاهم هنا ثالثة إلى الفرح وتكرار الدعوة دليل إلى أهمية المدعو إليه.

5 «لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفاً عِنْدَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ».

2تسالونيكي 2: 2 وعبرانيين 10: 25 ويعقوب 5: 8 و9 و1بطرس 4: 7 و2بطرس 3: 8 و9

لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفاً عِنْدَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ الحلم الإناءة والطمأنينة عند الغضب. أمرهم بأن يظهروه لكل من مضطهديهم (ص 1: 29) بالصبر والصلاة من أجلهم ولإخوتهم لكي يمتنعوا عن الخصومة والخلاف (ع 2) وللمعلمين الكاذبين المذكورين (ص 3: 18) فإنه حذّرهم منهم قبلاً فأبان هنا أنه لم يرد أن يظهر لهم القساوة والغيظ.

اَلرَّبُّ قَرِيبٌ أي مجيئه. ولمجيء الرب في الإنجيل ثلاثة معان الأول إتيانه لخراب أورشليم الثاني إتيانه إلى كل مؤمن عند احتضاره ليستقبل روحه. الثالث إتيانه لدينونة العالم. ولا نعلم يقيناً أي المعاني أراد الرسول والمرجّح أنه أراد الثالث لأنه يجوز أن ينسب القرب إلى كل أمر اعتُقد أنه لا بد من وقوعه في المستقبل وإمكان وقوعه في الساعة الحاضرة. وهذا إما علة ما مرّ لأمره إياهم بالحلم لان قرب مجيء الرب للانتقام من المضطهِدين ونجاة المضطهَدين يوجب الحلم والصبر في الضيقات. وإما علة لما يأتي من قوله «لا تهتموا» الخ. ولعل بولس اعتاد أن يذكر هذه العبارة تنبيهاً للغافلين وتعزية للمتضايقين. وخاطب هنا مؤمني كورنثوس بالآرامية فقال «ماران أثا» أي الرب يأتي (1كورنثوس 16: 22). والرب هنا هو المسيح. وهذا مثل قوله «مِنْهَا (أي من السماوات) أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (ص 3: 20). وقول يعقوب «إِنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ قَدِ اقْتَرَبَ» (يعقوب 5: 8) وقوله «هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ» (يعقوب 5: 9). إن المسيح لم يعيّن لتلاميذه زمن مجيئه ثانية لكن من الواضح أن أكثر المسيحيين الأولين كانوا يتوقعون سرعة مجيئه بعد صعوده. وإن المسيح قصد أن يكون المؤمنون به ينتظرون ذلك دائماً ويسهرون له (لوقا 21: 31 - 36). وكذلك رسله بدليل قول بطرس «إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ، فَتَعَقَّلُوا وَٱصْحُوا لِلصَّلَوَاتِ» (1بطرس 4: 7).

6 «لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللّٰهِ».

مزمور 55: 22 وأمثال 16: 3 ومتّى 6: 25 ولوقا 12: 22 و1بطرس 5: 7

لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ أي لا تهتموا أكثر مما يجب بشيء من الأمور صغيراً كان أو كبيراً مختصاً بأنفسكم أو بعيالكم أو بالكنيسة أو بالعالم لأن كل شيء في يد الإله غير المحدود في القدرة وفي المحبة وهو الآب السماوي وهذا مثل قول بطرس «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (1بطرس 5: 7 انظر أيضاً تفسير متّى 6: 25).

إن زيادة اهتمام الإنسان بما في المستقبل يحرمه السعادة ويمنعه من نفع غيره ويدل على عدم إيمانه بالرب وثقته بمواعيده. فيجب على كثيرين أن يذكروا قول المسيح لمرثا «أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ» لئلا ينسوا أن «ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ» (لوقا 10: 42).

فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلدُّعَاءِ هذا أفضل علاج للاهتمام الزائد وذكر «الصلاة» معرّفة إشارة إلى الصلاة المعهودة بأنها موافقة للأحوال والحاجات. والفرق بين الصلاة والدعاء أن الصلاة أعم من الدعاء لأنها تشتمل على التسبيح والشكر والطلب والدعاء يختص بالطلب وحده. وأمرهم بأن يصلوا في كل شيء لأن ليس من شيء مما يهمنا زهيداً إلى حد لا يليق عنده أن يسأل الله فيه فكل ما يهمنا هو ذو شأن عنده فيليق أن نصلي بسببه. ومن أمثال الصلاة التي يجب علينا أن نأتيها صلاة يعقوب وهو خائف من ملاقاة أخيه عيسو (تكوين 32: 9 - 12). وصلاة حزقيا حين نشر أمام الله في هيكله الكتاب الذي أتاه من الملك سنحاريب يعيّر الله فيه (2ملوك 19: 14). وصلاة عزرا قبل أن يشرع في السفر من بابل إلى أورشليم.

مَعَ ٱلشُّكْرِ على ما حصلوا عليه من البركات لأن ليس لأحد حق أن يتوقع بركات جديدة إجابة لطلباته إذا لم يشكر الله على البركات السابقة إجابة لصلواته.

لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللّٰهِ أي مواضيع الصلوات أو الاحتياجات أفراداً. وعلم الله إياها ليس بحجة على أن نترك طلبها لأن الطلب شرط الإجابة بدليل قوله «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متّى 7: 7). وكثيراً ما جاء في رسائل بولس وجوب اقتران الشكر بالطلبات ومن ذلك ما في (رومية 1: 21 و14: 6 و2كورنثوس 1: 11 و4: 15 و9: 10 و11 وأفسس 5: 20 وكولوسي 2: 7 و3: 17 و1تسالونيكي 5: 18 و1تيموثاوس 2: 1). وافتتح كل رسائله إلا الرسالة إلى الغلاطيين بالشكر لله على آلائه.

7 «وَسَلاَمُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

يوحنا 14: 27 ورومية 5: 1 وكولوسي 3: 15

سَلاَمُ ٱللّٰهِ الناشئ عن تقديم الصلاة لله وإلقاء الهموم عليه. وأضاف السلام إلى الله لأن الله أصل السلام للنفس المتكلة عليه (يوحنا 14: 27 و16: 33). وعليه قول إشعياء «ذُو ٱلرَّأْيِ ٱلْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ» (إشعياء 26: 3).

ٱلَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ أي الذي لا يستطيع العقل البشري أن يدرك عظمته. وجاء مثل هذا المعنى في (1كورنثوس 2: 9 و10 وأفسس 3: 20). ومهما اهتمّ الإنسان بالمستقبل واستعد له لم يقدر أن يحصل على سلام كالسلام الذي يمنحه الله.

يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ فتكون كحصن يحرسه السلام فمهما هجمت المصائب على النفس فقدرة الله تجعل السلام مالكاً فيها بدليل قول داود «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ ٱلرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ... إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي» (مزمور 27: 1 و3).

وَأَفْكَارَكُمْ الفرق هنا بين القلوب والأفكار إن القلوب مركز الإرادة والأشواق وإن الأفكار مركزها العقل.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي أنه بواسطته يصير قلب المؤمن حصن الأمن والسلام. إن المتحد بالمسيح بواسطة الإيمان يشاركه في سلامه على وفق قوله «سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا 14: 27).

8 «أَخِيراً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هٰذِهِ ٱفْتَكِرُوا».

1تسالونيكي 5: 22

أَخِيراً شرع في الأصحاح السابق في ختم رسالته (ص 3: 1) وشرع فيه هنا ثانية وأتى في هذه الآية وما يليها بنصائح توافق أحوال حياة الفيلبيين ومن نُسبوا إليه ونُسب إليهم من والدين وأولاد رجالاً ونساء وأصدقاء وجيران وإخوة في الكنيسة وأهل العالم في خدمة الإنجيل وممارسة الأمور الدنيوية.

كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ عند الله والناس اعتقاداً وعملاً في العبادات والمعاملات.

جَلِيلٌ أي عظيم القدر والشأن.

عَادِلٌ أي موفٍ كل ذي حق حقه من الله تعالى إلى أدنى مخلوقاته.

طَاهِرٌ إن المؤمنين مكلفون بالطهارة لأنهم يخدمون سيداً طاهراً وقد أمروا بها في قول بطرس «نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (1بطرس 1: 15). وهم قاصدون أن يذهبوا إلى السماء الطاهرة ليجتمعوا في محفل مقدس فوجب أن يكونوا أطهاراً فكراً وقولاً وعملاً.

مُسِرٌّ يجلب إليهم محبة غيرهم لهم.

صِيتُهُ حَسَنٌ مشهور بين الناس بالحسن.

إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ أي كل ما أجمع الناس على أنه نافع وجيد وأمر به الله وعُرف بأنه فضيلة وجمع في «الفضيلة» و«المدح» الذي ذكره بعدها كل ما تقدم من الصفات.

إِنْ كَانَ مَدْحٌ أي كل ما هو مستحق المدح وما اتفق الناس على مدحه كإكرام الوالدين وإطاعتهما والصدق واللطف والإحسان إلى الفقراء والمصابين وأمثال ذلك. ولا يجوز للمسيحيين أن يأتوا ذلك رغبة في تمجيد الناس إياهم كما فعل الفريسيون (يوحنا 12: 43) بل رغبة في رضى الله.

فَفِي هٰذِهِ ٱفْتَكِرُوا أي انظروا في ما مر واعتبروا قيمته وكونوا مستعدين أن تفعلوه في كل فرصة.

9 «وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهٰذَا ٱفْعَلُوا، وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُمْ».

ص 3: 17 رومية 15: 33 و16: 20 و1كورنثوس 14: 33 و2كورنثوس 13: 11 و1تسالونيكي 5: 23 وعبرانيين 13: 2

ما أمرهم الرسول بأن يفتكروا فيه في آلامه السابقة أمرهم في هذه الآية بأن يفعلوه متمثلين به.

مَا تَعَلَّمْتُمُوهُ من التعاليم التي تعلمتها من الرب وهذا مثل قول لمؤمني كورنثوس «لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ ٱلرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً» (1كورنثوس 11: 23). وقوله «أُعَرِّفُكُمْ... بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ» (1كورنثوس 15: 1 و3 انظر أيضاً غلاطية 1: 12).

تَسَلَّمْتُمُوهُ أي أخذتموه عني باعتبار أنه إعلان الله بواسطتي.

وَسَمِعْتُمُوهُ من جهة سيرتي الموافقة لتعليمي بشهادة معارفي.

وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ باختباركم بالذات. ومضمون هذه الكلمات الأربع أن سلوكه وافق تعليمه وأثبته.

وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُمْ هذا إما خبر وإما دعاء فإن كان خبراً فمعناه أنكم إذا أطعتم كلامي حصلتم على هذه البركة كما علمت ذلك بالاختبار. وذكر «سلام الله» في الآية السابعة وذكر هنا «إله السلام» لأن الله هو منشئ السلام وأن حضوره مع المؤمنين يؤكد لهم السلام.

شكره للفيلبيين على هداياهم ع 10 إلى 18

10 «ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِٱلرَّبِّ جِدّاً لأَنَّكُمُ ٱلآنَ قَدْ أَزْهَرَ أَيْضاً مَرَّةً ٱعْتِنَاؤُكُمْ بِي ٱلَّذِي كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ وَلٰكِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ فُرْصَةٌ».

2كورنثوس 11: 9

ذكر الرسول بهذه الآية في شأن فرحه أمرين الأول أنه بالرب والثاني أنه فرح عظيم.

بِٱلرَّبِّ هذا كما في (ع 4 وص 3: 1). اعتبر الرسول أن الرب هو أصل اعتناء مؤمني فيلبي به فقبل هداياهم وسرّ بها كأنه أخذها من الرب رأساً. ومن العجب أن سجين رومية يفرح جداً ويدعو غيره إلى الفرح معه فلا يمكن أن يكون ذلك إلا من نعمة الرب وهي التي جعلته أن يترنم بالتسبيح يوم كان في سجن فيلبي (أعمال 16: 25).

ٱلآنَ بعد مرور مدة طويلة.

أَزْهَرَ أَيْضاً مَرَّةً اعتبر عنايتهم وغيرتهم في أمره كنبات وقف عن نموه مدة ولكنه أخذ حينئذ يزهر ويثمر.

كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ وَلٰكِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ فُرْصَةٌ قال هذا اعتذاراً عنهم ودفعاً للتوهم أنه لامهم بما قال. وصرّح لهم أنه حسب أن توقفهم عن مساعدته لم يكن إلا من عدم الفرصة لإظهارها. والمرجّح أن معناه أنه لم يكن في تلك المدة من أحد يذهب من فيلبي إلى رومية يمكنه أن يبعثوا معه بما يدل على حبهم له. ولعل السفر كان محاطاً بالأخطار براً وبحراً ولو لم يكن أبفرودتس شجاعاً ومحباً للرسول ما قدم إليه بهداياهم.

11 «لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ ٱحْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِياً بِمَا أَنَا فِيهِ».

1تيموثاوس 6: 6 و8

هذه الآية تفسير للتي قبلها.

لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ ٱحْتِيَاجٍ إن الرسول لم يفرح جداً بما أرسلوه لأنه كان حينئذ في شديد الاحتياج فخلص منه بواسطة هداياهم. نعم إنه لم ينكر كونه محتاجاً ومتضايقاً لكنه لم يكن من غايته بما كتبه أن يشير إلى ذلك.

فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ باختباري وأنا أجول مبشراً بالإنجيل نحو عشرين سنة بين أصدقاء وأعداء. لا أحد يرتضي طبعاً بالضيق كما يرتضي بالفرج لكن بولس لم يكن منه ذلك إلا بتعليم الروح القدس ولا بد من أنه احتاج أحياناً إلى القوت الضروري في أسفاره وسجنه لكنه اعتبر بالرضى من أجل المسيح لا أن يتخذ بيانه سبيلاً إلى تحريك شفقة إخوته عليه.

أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِياً بِمَا أَنَا فِيهِ بدون نظر إلى الأحوال الخارجية موافقة كانت أو مضادة. وفي هذا المعنى قال في ما كتبه إلى تيموثاوس «وَأَمَّا ٱلتَّقْوَى مَعَ ٱلْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ» (1تيموثاوس 6: 6).

سُئل سقراط الفيلسوف اليوناني يوماً «من هو أغنى الناس» فقال «الذي يقنع بالأقل». وجاء في أقوال الحكماء «القناعة غنىً» وقال الشاعر:

Table 1. 

جزى الله القناعة كل خيرفلا شيء أعز من القناعة    
فصيّرها لنفسك رأس مالومعها صيّر التقوى بضاعة    

ومما تعلمه الرسول في هذا الشأن أن التذمر على العناية الإلهية لا ينفع شيئاً وإنه إثم وإن الله يعوضه في السماء مما حرم منه هنا. قال الرسول لشيوخ كنيسة أفسس «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ. أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ» (أعمال 20: 33 و34). فأبى أن يأخذ من الكنائس التي خدمها ما يحق له أن يطلبه قياماً بنفقته (1كورنثوس 9: 14).

12 «أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ ٱلأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ».

1كورنثوس 4: 11 و2كورنثوس 6: 10 و11: 27

أَعْرِفُ باختباري في الأحوال المختلفة.

أَنْ أَتَّضِعَ من الحاجة إلى مقومات الحياة.

وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ حين أكون في حال حصولي على كل ما أحتاج إليه.

فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ ٱلأَشْيَاءِ أشار «بكل شيء» إلى اختباره في كل ما مر من حياته «ويجمع الأشياء» إلى الحوادث الخاصة التي اختبرها في أسفاره براً وبحراً بين الأعداء وبين الأصدقاء.

قَدْ تَدَرَّبْتُ أي تعلّمت بالممارسة.

أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ الخ كان أحياناً يحصل على كل ما يحتاج إليه من أسباب المعاش وأحياناً يتضيق من قلة وجودها. فكونه خادماً للمسيح ومبشراً بإنجيله لم يمنعه من كونه عرضة للمشقات كغيره فاحتاج كسائر المؤمنين إلى أن يتعلم الصبر والقناعة والخضوع لله وإنكار الذات والمشابهة للمسيح.

13 «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي».

يوحنا 15: 5 و2كورنثوس 12: 9 وأفسس 3: 16 و6: 10 وكولوسي 1: 11

أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ لا ريب في أن بولس اعتقد أنه استطاع إتمام كل الواجبات واحتمل كل المشقات بمعونة المسيح ولكن القرينة تدل أنه أشار هنا إلى احتمال الضيقات أكثر مما أشار إلى إتمام الواجبات.

فِي ٱلْمَسِيحِ تعلّم بولس أنه ضعيف بالذات وأن اتكاله على شجاعته ومعرفته وحكمته وثباته عبث. وأنه يجب أن يستند على المسيح الذي هو متحد به في حياته الروحية كما أبان بقوله «ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).

ٱلَّذِي يُقَوِّينِي هذا كقوله «أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا ٱلَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ» (1تيموثاوس 1: 12). وهو على وفق قول المسيح لتلاميذه «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 5: 15). وقوله لبولس «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9). وقول بولس لذلك «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِٱلْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحُلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 12: 9 انظر أيضاً أفسس 6: 10 و2تيموثاوس 2: 1 و4: 17). وما اختبره بولس من مساعدة المسيح له في الماضي جعله مطمئناً في أمر المستقبل فإنه يستطيع بواسطة ذلك المعين أن ينتصر على كل تجربة ويلاقي العدو الأخير أي الموت بلا خوف.

14 «غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَناً إِذِ ٱشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي».

متّى 25: 40 ورومية 15: 27 و1كورنثوس 9: 11 وص 1: 7

غَيْرَ هذا استثناء واستدراك فكأنه قال كان يمكنني أن أستغني عن هداياكم لأني تعلمت أن أكتفي بما لي ولأن المسيح يساعدني في كل أموري ولكن مع هذا الخ.

فَعَلْتُمْ حَسَناً إِذِ ٱشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي قال ذلك مدحاً لهم على كرمهم وشكراً لهم عليه. والفعل الحسن الذي أتوه هو اشتراكهم في ضيقته لأنهم اعتبروا ضيقته ضيقة عليهم واجتهدوا في أن يحملوها عنه بإظهارهم المواساة له وبإنكار أنفسهم لأجله ولأنهم أظهروا بذلك إيمانهم بالمسيح ومحبتهم له بما فعلوه لخادمه. وفرح الرسول بمواساتهم له أكثر مما فرح بهباتهم.

15 «وَأَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ أَيُّهَا ٱلْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ ٱلإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ ٱلْعَطَاءِ وَٱلأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ».

2كورنثوس 11: 8 و9

غاية الرسول من هذه الآية بيان أنه لم يقصد أن يلومهم في ما قاله في الآية العاشرة. وأنه لم ينس كرمهم ولن ينساه أبداً وأنه أخذ منهم ما لم يقبله من غيرهم من أعضاء الكنائس.

أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ فلا حاجة إلى أن أذكركم.

أَيُّهَا ٱلْفِيلِبِّيُّونَ خاطبهم هكذا لوفرة اعتباره وحبه لهم كما خاطب مؤمني كورنثوس (2كورنثوس 6: 11) ولأنهم امتازوا عن سائر الكنائس بالسخاء كما سيأتي.

فِي بَدَاءَةِ ٱلإِنْجِيلِ أي في أول إعلانه الإنجيل لهم وقبولهم إياه (أعمال ص 16). وفي هذا إشارة إلى أنه بشّرهم مراراً أخرى كما بُيّن في مقدمة هذه الرسالة (وجه 2).

لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ آخر مدينة مكدوينة زارها بولس هي بيريّة (أعمال 16: 14) واضطر أن يخرج منها سريعاً ويذهب إلى أخائية لهيجان اليهود عليه وكان ذلك منذ نحو اثنتي عشرة سنة قبل كتابة هذه الرسالة.

لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ في ضيقاتي حتى يرسلوا إليّ إعانة. وهذا يتضح أيضاً مما في (2كورنثوس 11: 7 - 9). ولم يذكر الرسول علة عدم المشاركة ألجهلهم احتياجاته ذلك أم لإبائهم مساعدته أم لإبائه أن يقبل منهم شيئاً لئلا يتوهم بعضهم أنه بشر بالإنجيل طمعاً في الأجرة. وما قيل في (2كورنثوس 11: 9) في قبول هدايا من مكدونية لا يناقض ما قاله هنا لأن ما كتبه لأهل تسالونيكي دلّ على أن تلك الهدايا التي أتته من مكدونية كانت من كنيسة فيلبي وحدها (1تسالونيكي 2: 9 و2تسالونيكي 3: 8).

فِي حِسَابِ ٱلْعَطَاءِ وَٱلأَخْذِ كان العطاء كله منهم وكان الأخذ كله منه لأن كلامه هنا مقصور على الجسديات على أن بولس أعطاهم الإنجيل الذي هو أثمن من كل هداياهم. ودل غيرهم على هذا المعنى بقوله «إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ ٱلرُّوحِيَّاتِ، أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ ٱلْجَسَدِيَّاتِ» (1كورنثوس 9: 11). لكن لا دليل على أنه قصد هنا الإشارة إلى مثل ذلك.

16 «فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضاً أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي».

فِي تَسَالُونِيكِي الخ وهي المدينة التي ذهب إليها من فيلبي وهي مدينة عظيمة غنية بقي فيها وقتاً كافياً لتأسيس كنيسة كبيرة ناجحة وعمل هنالك بيديه لتحصيل أسباب المعاش (1تسالونيكي 2: 9 و2تسالونيكي 3: 8). لكنه إما لكثرة أعماله في خدمة الإنجيل وإما لشدة المقاومة له لم يستطع أن يحصّل بتعبه ما يكفيه للمعاش فاضطر أن يقبل المساعدة الضرورية من فيلبي مرتين.

17 «لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ ٱلْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ ٱلثَّمَرَ ٱلْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ».

رومية 15: 28 وتيطس 3: 14

ما قاله في هذه الآية أيضاً قاله لدفع ما يُتوهم من كلامه في الآية العاشرة.

لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ ٱلْعَطِيَّةَ إن الرسول لم يسرّ بالعطية لأنها نافعة له ولا لأنه يطمع في المال كعادة أكثر الناس.

بَلْ أَطْلُبُ ٱلثَّمَرَ ٱلْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ لا بدّ من أن الرسول رغب في الثمر من الفيلبيين لحسابه لكون ذلك برهاناً على أنه لم يتعب باطلاً حين زرع بينهم بزور الإنجيل وهذا يتضح من دعوته إياهم «إكليله» في الآية الأولى ولكنه رغب أكثر في أن يثمروا كثيراً أثمار إنكار الذات والمحبة والسخاء والإيمان لحسابه لتيقنه أن الله يسر بتلك الأثمار وأنه «لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ ٱسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ» (عبرانيين 6: 10). وإن المسيح يجازيهم عليها في هذا العالم والعالم الآتي إلى الأبد على وفق قوله «كنت محبوساً وأتيتم إليه» وقوله «كنت مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ» وقوله «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى 25: 36 و40).

18 «وَلٰكِنِّي قَدِ ٱسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَٱسْتَفْضَلْتُ. قَدِ ٱمْتَلَأْتُ إِذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ».

ص 2: 25 عبرانيين 13: 16 و2كورنثوس 9: 12

ٱسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَٱسْتَفْضَلْتُ أي بعد أن أخذ هداياهم. وقال ذلك بياناً لشكره ولإزالة همهم به. ولم يظهر من الكلام ما هو الذي أرسلوه إليه أدراهم هو أم قوت أم كسوة لكن الذي تبين أنه كان كافياً ليقوم بكل حاجاته الضرورية.

قَدِ ٱمْتَلَأْتُ هذا بمعنى ما قبله فكرر المعنى توكيداً.

إِذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ (انظر تفسير ص 2: 25).

نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ لله تعالى.

ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً الخ (عبرانيين 13: 16 و1بطرس 2: 5). عبّر عن هداياهم «برائحة طيبة» و«ذبيحة مقبولة» لأنه اعتبرها كالبخور الذي كان يوقد لله في خيمة الاشتراع والهيكل (خروج 25: 6 و1أيام 6: 49). وكالطيوب التي أتت بها ملكة سبا إلى سليمان والتي أتى بها المجوس إلى المسيح وكذبيحة غير الذبيحة الدموية التي كانت تُقدم لتكفير الخطيئة فكانت كذبيحة الشكر المذكورة في (عبرانيين 13: 16). فالله يحسب كل خدمة حب لتلاميذه وإنكار الذات في خدمتهم كنسيم رائحة طيبة وذبيحة تقدم له ويثيب عليها بناء على حسبانه.

دعاء وتسبيح ع 19 و20

19 «فَيَمْلأُ إِلٰهِي كُلَّ ٱحْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي ٱلْمَجْدِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

مزمور 23: 1 وأفسس 1: 7 و3: 16

فَيَمْلأُ إِلٰهِي كُلَّ ٱحْتِيَاجِكُمْ الزمني والروحي في هذا العالم والعالم الآتي. فإنهم بذلوا الزمنيات فقط فأكد لهم الرسول أنهم يثابون بأعظم منها جداً. وهذا خبر لا طلب مبني على تيقنه إن الله يجازي الفيلبيين على عنايتهم بخادمه وإن المسيح صادق أمين لا يخلف الميعاد بدليل قوله «مَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متّى 10: 42). وأضاف «الإله» إلى نفسه إشارة إلى أنه خادمه وأنهم أكرموا إلهه بإكرامهم إياه. والكلمة اليونانية المترجمة «بيملأ» تُعني أنه يكافئهم بكثرة.

بِحَسَبِ غِنَاهُ إن أقدار تقدمات المحبة تُحد بقدرة المقدم فكثيرون من الوالدين الأرضيين يودون أن يعطوا أولادهم عطايا على قدر محبته لهم لكنهم لا يقدرون على ذلك. ولا ريب في أن الغنى الذي يعطي بحسب غناه يعطي أكثر مما يعطي الفقير بحسب فقره وأن الملك يعطي من خزائنه أكثر مما يعطي أحد عبيده. فكون إثابة الله للفيلبيين على إحسانهم إلى بولس بحسب غناه تعالى الوافر الحب والخيرات والقدرة يؤكد كونها عظيمة جداً وأعظم من كل ما يستطيعون تحصيله في هذا العالم ولا تدرك عظمتها إلا عند قبولها من الله في حضرته السماوية.

فِي ٱلْمَجْدِ هذا بيان لنوع المجازاة التي سينالها الفيلبيون فيه ليست زمنية فقط بل أبدية أيضاً يحصلون عليها في ملكوت المجد ويعطيها «أبو المجد» (أفسس 1: 17) ويكون ذلك عند مجيء المسيح الممجد «بالمجد الذي كان له منذ تأسيس العالم» والذي تكلل به باعتبار كونه منتصراً في عمل الفداء وهم يكونون شركاء له في ذلك المجد. ومما يزيد هذا الثواب عظمة أنه كان على إحسان الفيلبيين الزهيد.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ هذا بيان الواسطة التي بها ينالون الثواب وأن ذلك المجد لا يُحصل عليه إلا بالاتحاد بالمسيح الذي يستحقه فيهبه للذين يحبهم بحسب غنى نعمته. وأبان الرسول جزءا من ذلك الثواب بقوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (ص 3: 21). فمهما كانت عظمة الميراث الذي يشتركون فيه فعظمته كونهم مع المسيح وفي شبهه.

20 «وَلِلّٰهِ وَأَبِينَا ٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدَّاهِرِينَ. آمِينَ».

رومية 16: 27 وغلاطية 1: 5

نسب هنا «المجد» إلى الله الآب لأنه له وأنه يختص بجوهره مجد سام. منذ الأزل لا يستطيع أحد من براياه أن يشترك فيه. وبقوله «آمين» أبان أن المجد لله أبداً ويجب أن يكون له إلى الأبد.

اعتاد الرسول أن يأتي بكل من رسائله بمثل هذا التسبيح (رومية 16: 27 وغلاطية 1: 5 وأفسس 3: 21 و1تيموثاوس 1: 17 و2تيموثاوس 4: 18) ويصحب ذلك بقوله «إلى دهر الداهرين» أي إلى غير النهاية.

تسليم وبركة ع 21 إلى 23

21 «سَلِّمُوا عَلَى كُلِّ قِدِّيسٍ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. يُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ ٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ مَعِي».

غلاطية 1: 2

سلام الرسول في هذه الرسالة أقصر مما اعتاده في غيرها من الرسائل ويمتاز عنه بأنه لم يذكر اسم المسلِّم ولا المسلَّم عليه.

كُلِّ قِدِّيسٍ (ص 1: 1 وأفسس 1: 1). سلّم على كل فرد من مؤمني فيلبي لبيان أنه يحب الجميع. ولا بد من أن بعضهم دخل الكنيسة جديداً بعد مفارقته إياها فسلّم عليهم جملة.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ هذا كما في (رومية 16: 22 و1كورنثوس 16: 19).

ٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ مَعِي أشار بهذا إلى الذين كانوا رفقاءه في السفر ومساعديه في التبشير. ومنهم تيموثاوس ولوقا وأرسترخس وتيخيكس وأبفراس ومرقس ابن أخت برنابا ويسوع المدعو يستس وديماس وعرفنا أسماءهم من الرسالة إلى كولوسي التي كتبت في نحو زمن كتابة هذه الرسالة (كولوسي 4: 7 - 14).

22 «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ».

ص 1: 13

جَمِيعُ ٱلْقِدِّيسِينَ أي أعضاء كنيسة رومية. وإرسال سلام مؤمني رومية إلى مؤمني فيلبي دليل على وحدة كل المؤمنين بالمسيح وكونهم أهل بيت واحد روحي.

وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ أي بيت نيرون الملك فإن قيصر كان لقباً لكل من الملوك الرومانيين. وفي هذا دليل قاطع على أن بولس كان حيئنذ في سجن رومية لا سجن قيصرية كما توهم بعضهم. ومن هم المشار إليهم «بالذين من بيت قيصر» وكيف اجتمعوا به حتى تنصروا ذلك لم نعلمه إنما نعلم أنهم مؤمنون بالمسيح وأنهم رغبوا في إرسال سلامهم إلى إخوتهم في فيلبي لأنهم سمعوا نبأ حبهم لبولس وعنايتهم به ولعل أبفرودتس أنبأهم بأمور أولئك بالتفصيل. ولعل بعضهم كان من العسكر وتعلموا الإنجيل من بولس ويده مربوطة بيد كل منهم في نوبته أو حين كانوا حراساً للسجن. وكان سجن بولس قريباً من بيت قيصر (ص 1: 13) ولعل ذلك سهّل على عبيد الملك وعتقائه الخادمين في صرحه أن يزوروا الرسول ويستفيدوا من تعليمه كما فعل أنسيمس (فليمون 10 و16).

23 «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ».

رومية 16: 24

هذه الآية كالآية السادسة من الأصحاح السادس من رسالة غلاطية فارجع إلى التفسير هناك.

وما كُتبت في آخر هذه الرسالة من أنها كتبت إلى أهل فيلبي من رومية على يد أبفرودتس ليس من الوحي ولكنه لا شك في صحته.

 
Call of Hope  
P.O.Box 10 08 27  
D-70007 
Stuttgart 
Germany