العودة الى الصفحة السابقة

الله ظهر في الجسد

«وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّي» (غلاطية 4: 4 و5)

تتوالى الأيام والشهور وتتعاقب السنون والأحقاب بسرعة مذهلة. ولكن في دوامة الزمن تستوقفنا ذكرى تجسد الكلمة في عمانوئيل ليصير الله معنا. انها تستوقفنا كما تستوقف الواحة الخضراء عابر القفر الذي أضناه التعب. وكما يجد عابر القفر مكاناً لراحته في أفياء الواحة الخضراء. هكذا تجد النفس المتعبة راحتها في ظل الميلاد السعيد. انها تجد علاوة على الراحة فرصة للتأمل وتجديد القوى للانطلاق في عالم الروح. والذكرى السعيدة في كل حول تهمس في آذاننا كلمات الرجاء لنمضي قدما في طريق البر التي ردنا الله اليها. فما عساها قائلة لنا اليوم؟ ما هي دعوتها؟ ما هي رسالتها لنا؟ في ختام عام آخر طواه الزمن من حياتنا؟

انها ولا شك تدعونا لزيارة المذود حيث تجسد الكلمة الذي كان في البدء عند الله، وتردد في آذان ذهننا صدى قوله الإلهي: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 28).

أما رسالتها لنا فهي القول الالهي: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (متّى 11: 29). الا أن هذه الكلمة حملت كثيرين على التساؤل: كيف يمكن أن يكون يسوع الها وانسانا معا؟! وليس من جواب سوى ما ألهم به بولس الرسول حين قال: «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْد»(1تيموثاوس 3: 16).

قال أحد الأتقياء: إن كان في الكتاب المقدس رسم الله، ففي المسيح الله نفسه، كما هو مكتوب: «فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كولوسي 2: 9). ويقيناً أننا كيف نظرنا الى طبيعة يسوع سواء الها، أم معلما عظيما فاننا لا نستطيع ان نشك في ان رسالته قد أعلنت طبيعة الله، وان أعماله أظهرت قدرة الله. أما لماذا جاء في الجسد؟ فهذا سؤال أجاب عليه الرسول بولس بقوله: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ..» (غلاطية 4: 4 و5) فغاية التجسد اذن هي الفداء، وبالفداء صار لنا البر، وبالبر ظهرت حكمة الله كما هو مكتوب: المسيح صار لنا من الله حكمة وبرا وفداء.

ولعلك تسأل: لماذا ذهب الإله المتجسد في اتضاعه الى الارتضاء بالفقر؟ فيأتيك القول الإلهي: «أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هٰكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُم» (إشعياء 55: 8 و9). لكأنه يقول: لقد شئت في حكمة الاتضاع ان أخزي غنى العالم الكاذب بفقري. وان أذل شموخ المسكتبرين بوداعتي وتواضع قلبي. وأن أقاوم استكبار طغات هذا العالم باخلاء نفسي وهبوطي الى الدنيا في هيئة انسان.

قال أحد الأفاضل ان سمعان بطرس مع انه لم يكن صاحب المجد في جبل التجلي، بل مجرد متفرج، إلا انه لم يشأ ان يترك المكان وينزل الى العالم المتألم. فقد قال ليسوع: يا رب جيد ان نكون ههنا. أما يسوع وهو صاحب المجد، «لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيب» (فيلبي 2: 7 و8).

حين دعي زعيم الهند المهاتما غاندي لزيارة أمريكا، حرص على أن يذهب بملابسه الوطنية التقليدية. واشترط ان لا يهزأ به أحد بهندامه الغريب. أما يسوع ملك الملوك ورب الارباب فقد أتى الى عالمنا بلا قيد ولا شرط لابساً جسدنا. ومن أجل سروره بخلاصنا لم يرَ ضيرا في أن يجرب في كل شيء مثلنا ماعدا الخطية. وارتضى أن يتحمل الفقر والهزء والتعيير والألم، والموت على الصليب.

الأمور التي لا تتفق مع عظمة وجلال القدوس الحق. الا ان يكون كما قال الرسول بولس: افتقر من أجلنا وهو الغني لكي يغنينا بفقره.

أيها الأحباء

ان للسعادة الحقيقية سراً والناس للأسف ما زالوا يفتشون عن هذا السر حيث لا يوجد. فيزدادون تعاسة فوق تعاسة بينما السعادة قريبة منهم. اذ يكفي أن يقبلوا رسالة التجسد بالايمان بالرب المتجسد مخلصا شخصيا.استفاقت فتاة مريضة من غيبوبتها فسألت الطبيب الذي جاء لعلاجها: يا دكتور أنت تؤمن بالله، أليس كذلك؟ فأجابها، طبعا طبعا. قالها مع أنه كان ملحدا، وانما لم يجد من الكياسة عن يصرح بالحاده أمام فتاة مائتة. فقالت الفتاة: اذن قص عليّ قصة الميلاد من فضلك! كان في طلب الفتاة إحراجاً له. فحاول التملص قائلاً: هذا من عمل القسيس وهو قادم اليك.

فقالت: أنا أعلم بأنهم أرسلوا في طلبه، ولكني أخشى الذهاب قبل وصوله. لذلك أرجوك ان تقص عليّ قصة الميلاد. وها انا أغمض عيني وأعطيك كل سمعي. حينئذ تفرس الطبيب في وجهها واذا به يتألق بجمال ليس من هذا العالم. فانحنى وراح يسرد عليها قصة الميلاد كما تعلمها من أمه حين كان طفلا. بدأ كلامه بصوت جاف، ثم ما لبث ان انتقل من نبرة الجفاف الى نبرة مفعمة بالرقة. وبقدر ما كان يتقدم في القصة كان تعبير وجهه يبدو أكثر فأكثر لطفا. وأخيرا ختم القصة بقوله: ان المسيح جاء الى العالم لكي يخلصنا. حينئذ فتحت الفتاة عينيها وقالت: جاء لنقلنا من الظلمة الى النور ومن الموت الى الحياة. ثم أخذت يد الطبيب وشدت علهيا وقالت: لقد تجسد لأجلك ليخلصك. ثم توقفت عن الكلام فظن الطبيب انها انتهت ولكنها لم تلبث ان استأنفت بصوت خفيض: يا دكتور انه قريب منا انه يرانا. كان في نبرة الفتاة الضعيفة يقين صارخ هّز ضمير الطبيب وأحدث اضطرابا في نفسه. وأخيرا كفت الفتاة عن الكلام ولكن شفتيها كانتا تتحركان برسالة الى الطبيب. كأن تقولان له: افتقر من أجلك وهو غني لكي يغنيك بفقره. وبعد لحظة ارتخت يدها وأسملت الروح، فقام الطبيب وانصرف وقلبه يخفق بعنف. ولما صار في بيته قام صراع في نفسه، ولم يجد سبيلا الى الراحة حتى سلم نفسه ليسوع.

أيها الأحباء

ما أكثر الذين هم في مثل حال هذا الطبيب وهم في حاجة الى الإيمان بتجسد الإله، لكي ينالوا خلاصه. وعلينا نحن الذين أدركنا البر وصار لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، أن نعمل بكل وسيلة لاقتيادهم الى ينابيع خلاصه. قد يكون لنا أعزاء في مثل هذا الوضع، أولاد، أخوة، أصدقاء، زملاء في العمل، واجبنا بمناسبة الميلاد عيد الذكريات المقدسة ان نصلي من أجلهم وان نكلمهم عن تواضع يسوع في مذود بيت لحم. وخصوصا ان نحدثهم عن تحمل يسوع كل الآلام التي نجمت عن تجسده لكي يفتديهم من لعنة الخطية.

نقرأ في اشعياء 9 هذه العبارات: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ»(إشعياء 9: 6). فرئيس السلام هبط الى حضيضنا ليهبنا السلام ويمتعنا بفرح الفداء. انه يعطينا سلام الله الذي يفوق كل عقل. وفي سلام الله السعادة الابدية الكاملة بفرح الله وقد قال نحميا: «لاَ تَحْزَنُوا، لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (نحميا 8: 10).

قال ملاك الله للرعاة في روابي بيت لحم: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» (لوقا 2: 10 و11). يا لها من سعادة! انه مسيح ومخلص ورب ولكنه حبا بنا لأجل خلاصنا وضع نفسه وصار جسدا. فلنقبله بفرح ولننشد مع الجند السماوي: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). ولنقل له: يا رب كثيرا ما سمعت في مناسبة ذكرى التجسد انك قد أتيت ملكا ومخلصا أما اليوم فأجعلك ملكي ومخلصي أريد ان أتوجك على حياتي. أريد ان أتمثل بمجوس المشرق فأقدم لك هدية هو قلبي اقدمه لك ذبيحة حية مقدسة. فاقبل اللهم ذبيحتي هذه، التي أقدمها بروح التعبد الخاشع. لقد صممت اليوم أن أحيا فصاعدا لك، وقررت أن أحيا وديعا متواضعا مثلك، فأعني لكي أكون كذلك.

هذه هي رسالة التجسد أيها الأحباء ان الله أعطانا ابنه الوحيد فادياً ومخلصاً. انها عطية فائقة الوصف لم يجد الرسول في لغة الناس كلمات تستطيع ان تصفها فوصفها بالعطية التي لا يعبر عنها. فلنقبل عطية الله بقلوب متهللة وأفواه مسبحة للمنعم الجواد الذي أعطانا ابنه حكمة وبرا وفداء. ويدعى اسمه عجيبا، قال اشعياء. وحقا انه عجيب وفريد! فلأن كان قد ولد في ملء الزمان إلا انه سيد كل زمان وعلم التاريخ. وان كان ولد في أمة تنكرت له، إلا أنه صار مشتهى كل الامم ومعبود كل الشعوب. هذا هو السيد رب الجنود الذي نحتفل اليوم بذكرى تجسده ليصير الله معنا، ليصير واحدا منا. وحري بنا ان نشارك شعوب الأرض في السجود له بالروح والحق. ولكن هناك ما يؤلم الحقيقة حولنا. وهو أن أكثرية حاملي اسمه قد شوهوا معنى يومه العظيم. اذ جعلوا من أشرف ذكرى فرصة لصنع الشر وممارسة شتى ألوان المجون. الامر الذي يهين اسمه القدوس. فواخزيا لقوم قضوا ليلة الميلاد في بيوت اللهو اللابريء وفي أوكار القمار. ووأسفا على قوم حولوا بيوتهم الى مراقص وخمارات. ووأسفا على قوم عقلوا عن ذكر الله في يوم الذكرى المجيدة! ووأسفا على قوم لم يتجاوبوا مع متطلبات العيد بالسجود لعمانوئيل بل كان الههم بطنهم ومجدهم في خزيهم. ووأسفا على قوم لم يأخذوا من العيد إلا مغارة وشجرة لستر المظاهر.

كل هؤلاء عيدوا بعيدا عن أفراح السماء وابتهاج الأرض بالحدث السعيد. فخسروا الامتياز العظيم بمشاركة الملائكة في النشيد العلوي. «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».