العودة الى الصفحة السابقة

Table of Contents

الروح القدس

الروح القدس

«أَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس» (أعمال الرسل 1: 5)

في هذا اليوم المبارك تحتفل دنيا المسيحيين بعيد العنصرة وهو يوم مميز في تاريخ الكنيسة كما تميز يوم تجسد المسيح في بيت لحم. لان فيه تم وعد الله بانسكاب الروح القدس على تلاميذ الرب. وفقا لقول الرب في يوئيل: «وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى. وعلى العبيد وَعَلَى الْعَبِيدِ أَيْضًا وَعَلَى الإِمَاءِ أَسْكُبُ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ» (يوئيل 2: 28 و29).

فيا لعمق هذه الكلمات التي التقطها النبي الكريم وكتبت في سجل الوحي وعدا بسكنى روح الله القدوس في قلوبنا. لكي يجهزنا بالقداسة ويتيح لنا القدوم الى الآب في روح واحد. ويقينا ان الإنسان مهما كانت عواطفه الدينية شديدة، لا يمكنه ان يتصل بالله ويتعبد له ويبسط حاجاته قدامه بدون شفاعة الروح القدس، الرب المحيي.

يخبرنا لوقا الانجيلي ان يسوع قبل انطلاقه الى السماء، قال لتلاميذه: لا تبرحوا من أورشليم بل انتظروا موعد الاب الذي سمعتموه مني. لان يوحنا عمد بالماء أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس. وفي لحظة صعوده سجدوا له. ولما ارتفع عنهم الى السماء عادوا الى أورشليم بفرح عظيم. كانوا موقنين كل الإيقان بأن ما وعد به عن انسكاب الروح القدس سيتم حتما. والى جانب يقينهم مارسوا صلاة الإيمان المقتدرة كثيراً في فعلها.

ولعل صلاتهم كانت متأثرة بالدرس الذي تلقوه من يسوع، حين قال: من منكم وهو أب يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا؟ أو سمكة فيعطيه حية بدلاً من السمكة. أو اذا سأله بيضة أفيعطيه عقرباً؟ «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!» (متى 7: 11)

نقرأ في سفر الأعمال، «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى» (أعمال 2: 1-4). هذه هي الذكرى المجيدة، التي نحتفل بها اليوم. وانها لمناسبة طيبة للتأمل في شخص الروح القدس، الذي مع ان مجده يتجلى خلال صفحات الكتاب المقدس، فكثير من المسيحين لا يعرفونه حق المعرفة. وتبعا لذلك حرموا من امتياز التعبد لله بالروح والحق. ولعلهم أخذوا بضلالات أهل البدع الذين قالوا ان الروح القدس مجرد قوة من الله، وليس الأقنوم الثالث في شخص اللاهوت العظيم.

قد يتعذر على الإنسان الطبيعي المنحرف بضلالات أهل البدع ان يقبل الروح القدس إلهاً مسجوداً له مع الآب والابن. لأن العالم كما قال يسوع: لا يقبل الروح القدس لانه لا يراه ولا يعرفه. وقال الرسول بولس: ان الانسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لان عنده جهالة ولا يقدر ان يعرفه. ولهذا جنح الفكر بأهل البدع الى القول بأن الروح القدس هو مجرد قوة أو صفة قائمة في شخص الله. ولكن هذه التصورات تتلاشى أمام الحقيقة المعلنة في كتاب الله، الذي يتضمن أسماء وألقابا وصفات اطلقت على الروح القدس، ولا تطلق عادة إلا على ذات الله. كالقول روح الله، روح الرب، روح المسيح. وقد نسب الكتاب العزيز أعمالا للروح القدس لا تنسب الا لذات الله، منها القول:

«حَسَنًا كَلَّمَ الرُّوحُ الْقُدُسُ آبَاءَنَا بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ» (أعمال 28: 25).

وقول الرسول بطرس لحنانيا: «يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ ٱلْحَقْلِ؟. أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱلله» (أعمال 5 :3 و4).

وقول الرب يسوع للمرأة السامرية: «اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24).

وغير ذلك من الإعلانات التي حملت آباء الكنيسة على الاعتقاد بلاهوت الروح القدس ثم ادراج الاعتقاد في قانون الايمان هكذا:وأومن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الاب والابن المسجود له مع الآب والابن، الذي تكلم بالأنبياء.

وهناك ألقاب وصفات أخرى تؤكد لاهوت الروح القدس، منها:

  1. الروح القدس، والروح القدوس، وروح القداسة وروح الاب. ولسعادتنا ان هذه الالقاب وان كانت تعني التسامي والكمال المطلق، فللروح القدس علاقة مباشرة في تاريخنا ومصيرنا. فهو كقدوس لا يقر بالخطية، ولا يهادن الشر، بل كما قال المسيح: يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. ويقنع الخاطئ بالتوبة والقدوم الى يسوع لينال باسمه غفران الخطايا.

  2. الروح المعزي، الذي يساند المؤمن في ضيقاته وينشئ فيه المحبة التي تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء وترجو كل شيء. وطرق الله في تعزيتنا متعددة، الا ان أقربها تناولا كلمته المقدسة. خذ مثلا المزمور الثالث والشعرين، فقد قال رجل الله هنري بتشر: ان هذا المزمور قد هدأ أحزاناً أكثر مما صنعته كل فلسفات العالم مجتمعة. وخلص كثيرين من أفكارهم وشكوكهم السوداء وأحزانهم المسرفة. وعّزى فقراء بلا عدد، وشدد جمهورا كبيرا من الفاشلين. وأرسل بيلسانه الى قلوب المرضى ونزلاء السجون. ولكم عزى من أرامل وأيتام في أحزانهم القاسية وعزلتهم الموحشة! ولكم شدد من عزائم جنود محتضرين في ساحات الوغى ليموتوا في سلام! والى الان لم ينته هذا المزمور بل سيعمل ويعمل الى أن يفنى الزمان. والروح المعزي يؤيد المؤمن في انسانه الباطن فينتصر على الخطية. قال رجل الله كجواوا: منذ أن تعمقت في معرفة الله بالروح القدس، وأنا أرى قوة الشر تذبل فيّ وقوة البر تقوى وتتعاظم عندي.

  3. روح الحق، فهو جوهر الحق وأساس الحق، وليس من حق بعيدا عنه. وهو ينير أذهان المؤمنين بمعرفة الحق. ويشدد ايمانهم ورجاءهم ومحبتهم في الحق.

  4. روح الصلاة، فهو يقودنا حين نتحدث الى الله حديث الشركة. وهو كما قال بولس، يصرخ فينا يا أبا الآب. وحين لا نجد الكلمات المناسبة للتعبير عن أشواقنا التعبدية فانه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها.

قال أحد القديسين: ان الروح القدس يرفعنا الى مورد الحياة وينبوعها فتصير صلواتنا صلوات المسيح وحينئذ نسأل ما نريد فيكون لنا. وقال آخر: ان الروح القدس هو الذي يصلي فينا، ولكن ليس دائماً بالكلام بل بحالة أعمق من أن تنطق ألفاظاً بشرية. المفروض فيك كمسيحي انك حاصل على هذه الامتيازات. وأن يكون كنهر سلامك، وفرحك في الرب عظيم لا ينطق به ومجيد.

ولكن ان كانت هذه الامتيازات ليست لك فأنت في حاجة الى معرفة أعمق من شخص الروح القدس لكي تستطيع بالتالي ان تتعامل معه في حياتك. والفرصة سانحة اليوم بعد أن سمعنا من المسيح ان الروح القدس يريد ان يكون معنا وماكثاً فينا. فلنسأل الرب إلهنا ان يحل بروحه القدوس في قلوبنا لكي يؤهلنا ويؤسسنا في المحبة، ويملأنا الى كل ملء الله.

أيها الأحباء

في هذه الأيام يبذل المخلصون جهوداً كبيرة في سبيل انعاش الكنيسة وإعادتها الى مركزها في المجتمع كعمود الحق وقاعدته. وكشاهدة لربها وفاديها في وسط جيل معوج وملتو، نورا للعالم وملحا للارض. ولكن عبثا تُبذل الجهود بدون تدخل الروح القدس لاعادتها الى خط دعوة الله العليا في المسيح يسوع. وهذا التدخل لا يتم إلا إذا جدد المؤمنون توبتهم ابتداء من القادة.

هكذا قال الله في يوئيل النبي: «ٱرْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِٱلصَّوْمِ وَٱلْبُكَاءِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ. لِيَبْكِ ٱلْكَهَنَةُ خُدَّامُ ٱلرَّبِّ بَيْنَ ٱلرِّوَاقِ وَٱلْمَذْبَحِ، وَيَقُولُوا: ٱشْفِقْ يَا رَبُّ عَلَى شَعْبِكَ وَلاَ تُسَلِّمْ مِيرَاثَكَ لِلْعَارِ! فَيَغَارُ ٱلرَّبُّ لأَرْضِهِ وَيَرِقُّ لِشَعْبِهِ وَيُجِيبُ ٱلرَّبُّ وَيَقُولُ ٱبْتَهِجُوا وَٱفْرَحُوا بِٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ، لأَنَّهُ يُعْطِيكُمُ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ عَلَى حَقِّهِ، وَيُنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَطَراً مُبَكِّراً وَمُتَأَخِّراً فِي أَوَّلِ ٱلْوَقْتِ. وَأُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ ٱلسِّنِينَ ٱلَّتِي أَكَلَهَا ٱلْجَرَادُ، ٱلْغَوْغَاءُ وَٱلطَّيَّارُ وَٱلْقَمَصُ» (يوئيل 2: 12 و17 و18 و19 و23 و25).

فلنتب الى الهنا لان «اللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (أعمال 17: 30). ان رسالة الله لنا بمناسبة ذكرى العنصرة هي رسالة طاعة. والكلمة في ذلك هي: ان الله ليس بكيل يعطي الروح القدس للذين يطيعونه. وهي رسالة يقظة والكلمة في ذلك: «اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ، فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ» (1بطرس 5: 8 و9). وهي رسالة ارتداء قوة من الاعالي، والكلمة لذلك هي «تَقَوَّوْا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. ٱلْبَسُوا سِلاَحَ ٱللهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيس» (فيلبي 6: 10 و11).

وهي رسالة بنيان وصلاة، والكلمة لذلك هي ابنوا نفوسكم على الإيمان الأقدس مصلين في الروح. وهي رسالة لانتظار والكلمة لذلك هي احفظوا نفوسكم في محبة الله، منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الابدية. وهي رسالة شهادة والكلمة لذلك هي: «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ»(أعمال 1: 8).