العودة الى الصفحة السابقة

Table of Contents

الطريق الأفضل

الطريق الأفضل

وَأَيْضاً أُرِيكُمْ طَرِيقاً أَفْضَلَ (1كور 12: 31)

كانت كنيسة كورنثوس غنية بالمواهب الروحية حتى ان الرسول بولس امتدحها بقوله «استغنيتم في كل شيء، في كل حكمة وكل علم». ولكنها بالرغم من غناها في المواهب كانت تعاني خصومات وانقسامات.كان الاخوة يتسابقون ويتنازعون على المواهب: فواحد يريد التكلم بألسنة وآخر يريد أن يترجم والثالث يريد اخراج الشياطين والرابع يريد ان يتنبأ. وبسبب هذا التنافس حدثت بلبلة بين الاخوة ولم يلبثوا ان انقسموا أحزابا وكتلا، وكل يريد اظهار الموهبة الخاصة به.

ومن هنا أشرأب التفاخر والانتفاخ والتقبيح والظنون السيئة. ولهذا كان لا بد لغيرة بولس ان تتحرك لمعالجة الوضع السيء.إلا أن الرسول الكريم لم يشهّر بالاخطاء بل عالجها بروح ايجابية. وكبناء حكيم، لم يأمر بالكف عن اظهار المواهب تفاديا للتشويش. بل قدم علاجا ضمّنه أمرين مهمين جدا.

الأمر الأول: التحريض، فقد قال: جدوا للمواهب الحسنة. ولعل المتأمل في هذه الكلمة يندهش اذ كان يُتوقع ان يحذرهم الرسول من المواهب التي هي أصل النزاع بينهم واذ به يقول: جدوا للمواهب، جدوا للتنبوء، لا تمنعوا الالسنة.

هذه حكمة أُلهمها الرسول من فوق، لأن الخطأ لم يكن في المواهب ذاته بل كان في الافتخار بها، والتوكل عليها. أنت واعظ، أنت مبشر، أنت مرسل، أنت تشغل مركزا في كنيسة المسيح. اذكر ان الله أعطاك موهبة لا للتفاخر بها، بل لاستخدامها كوكيل على نعمة الله الموهوبة لك من الله.

قال الرسول بطرس: «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ ٱللهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ. إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ ٱللهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللهِ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح» (1بطرس 4: 10 و11) في يقيني ان غرض الله من إعطائنا المواهب هو استخدامها لنفع الآخرين، لبنيانهم في المحبة، وليس لأغراضنا الشخصية ولفت الأنظار إلينا، واكتساب التقدير.

الأمر الثاني: هو التوجيه فقد قال الرسول: «وَأَيْضاً أُرِيكُمْ طَرِيقاً أَفْضَلَ». هذه العبارة تذكرنا بقوله للتسالونيكيين، «امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ» (1تسالونيكي 5: 21). أما عن نفسه فقال: «أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (فيلبي 3: 13).

يعلمنا الاختبار ان انتقاد الغير لا يصلح أخطاءهم بل لعله يثير حفيظتهم. ولهذا نبذ الرسول فكرة الانتقاد وكانت طريقته إظهار الأفضل أي المحبة. لأنّ المحبة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع جمع المؤمنين في وحدة كاملة. فهي اذن حاجة الساعة، في كل زمن وخصوصا في زمننا وفي كنائسنا. التي لا تحتاج الى دكاترة في علم اللاهوت والفلسفة الاجتماعية بقدر ما تحتاج الى خدام امتلأت قلوبهم بالمحبة، كلماتهم كلمات المحبة وخدمتهم خدمة المحبة. صحيح ان المواهب يمكن ان ترفع الإنسان المؤمن الى مقام الرسل لكن المحبة ترفعه الى شركة الطبيعة الإلهية.

المحبة أعظم من الالسنة، بدليل قول الرسول: «إنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّو» (1كورنثوس 13: 1). وليس غريبا ان تكون المحبة أعظم من ألنسة الناس والملائكة لأنّ المحبة هي من الله ومن يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة.

نعم، المحبة هي مسلكة الفضائل بلا جدال ولا نقاش لأنه بدون المحبة يكون الإنسان كما قال الرسول كقطعة نحاس أو كصنج والصنج آلة موسيقية يمكنها أن تشنّف الآذان ولكنها لا تستطيع إشباع بطن الجائع، ولا إرواء غليل العطشان. انها تصدر صوتاً ولكن صوتها لا يخلص اللاعب بها ولا الذين يسمعونها. ومثلها صوت الواعظ الجهوري، إن كان كلامه غير نابع من المحبة. وما المنفعة من الكلام من اللسان المتكلم بالفصاحة والبلاغة إن لم يتكلم بلغة المحبة؟! المحبة هي روح الحياة، ومتى أبعدت المحبة من جو الحياة تصبح الحياة جثة محنطة.

لقب يوحنا رئيس أساقفة انطاكية بفم الذهب ليس لأنّ شفتيه كانتا من ذهب، بل لأنّ قلبه كان ممتلئا من ذهب المحبة. المحبة هي وصية المسيح الجديدة، إذ قال «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (يوحنا 13: 34) .

المحبة هي العلامة الكبرى لنوال الحياة الأبدية، فقد قال التلميذ الذي كان يسوع يحبه: نحن نعلم إنا انتقلنا من الموت الى الحياة لأننا نحب الإخوة. نعم الإخوة! يحب ان نذكر ان أسماءهم قد كتبت في السماء وعلى قلب المسيح.

والمحبة أعظم من التنبؤ، لأن الرسول يقول «وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئًا» (1كورنثوس 2: 13). صحيح ان الكتاب العزيز يعلمنا ان النبوة من أهم مواهب الروح القدس، فالنبي يعبر عن الأفكار والمقاصد التي يريد الله ان يعلنها للناس. ولكن هذه الهبة الالهية مع عظمتها وأهميتها اذا تجردت من المحبة لا تنفع شيئا.

بدون المحبة تكون النبوة من نوع بلعام بن بعور التي تحولت الى ضلالة وتجنت على شعب الله لقاء أجرة الإثم. وقديما قال يسوع: احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان. وكذلك موهبة العلم والمعرفة بدون المحبة مهددة بخطر الزهو والاستكبار وقد قال الرسول العلم ينفخ لكن المحبة تبني. قد يحصل أحدهم على علم غزير، يستطيع به ان يلم بأسرار كلمة الله: ولكن بدون المحبة لا ينجح في خدمته، لأن وعظه لا تغذيه المحبة من قلب طاهر. والمحبة أعظم من الإيمان قال الرسول «إِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيء» (1كورنثوس 13: 2).

الإيمان بدون المحبة شيء قاس يعثر الأخ الضعيف. قيل ان رجلاً أحس بإعياء شديد ولما استشار الطبيب قيل له بأن قلبه متعب ويلزمه راحة، فاتصل برئيسه في العمل وسأله ان يمنحه إجازة. فأجابه هذا بجفاء وقال له: ان لي ايمانا قويا ويمكنني مواصلة العمل بدونك. هذه كلمات إيمان حقا ولكن إيماناً خاليا من المحبة. لذلك كانت الكلمات خشنة ومؤلمة جدا لذاك المريض. والمحبة أفضل من الإحسان، فقد قال الرسول: لو أطعمت كل أموالي ولكن ليس لي محبة فلا تنفع شيئا. وقد يكون المرء سخيا بتصدق بمبالغ كبيرة ينتفع بها المعوزون. ولكن إن لم تكن المحبة هي الباعث يصبح الإحسان أقسى مذلة على المحتاج. ورب متصدق يرافق صدقته بوعظة عن صنع الخير أمام الفقير، وعندها تصبح الصدقة تعبيرا عن الاستكبار، والاستكبار قاس لا يعرف المحبة.

«الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ»: أي أنها لا تغضب ولا تتسرع في الحكم على الغير بل تتعامل بتؤدة ولطف وطول أناة. قال أوريجانس انها عذبة مع الجميع. ان العيب عند كثيرين من المتدينين انهم قساة في القول والتصرف. كان فيليب الثاني ملك اسبانيا من أشد الناس تدينا ومع ذلك فقد أقام محاكم التفتيش في مملكته وأمر بذبح كل من يخالفه في المعتقد. المحبة لا تحسد: أي لا تحزن إذا حصل غيرها نفع لم تحصل هي عليه وقد شهد سليمان ان الحسد نخر للعظام، من يقف قدام الحسد. وهو الذي حمل اخوة يوسف على بغضه والمؤامرة عليه.

«الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ»: كالمدعي الفضل الطالب مدح الناس والشهرة. كان الامبراطور نابوليون يقول دائما: ان قداسة البيت والعبادة الجمهورية فضائل يجب ان يؤديها الجميع. أما عن نفسه المنتفخة، فقد قال أنا لست مثل الاخرين لان نواميس الاداب لا تنطبق علي أنا. هذا استكبار بشع وقد قال الكتاب: يقاوم الله المستكبرين.

«المحبة لاَ تُقَبِّحُ»: لانها تتسم بالوداعة وجمال الخلق الكريم ونكران الذات انها لا تأتي بما يجب الاستحياء منه أو يخالف اللياقة. «المحبة لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا»: أي لا تجعل مصالحها تطغو على مسؤوليتاتها.

قال أحد رجال الله: لو أن أناس فكروا في واجباتهم أكثر من حقوقهم لقبضوا على المفتاح الذي يمكنهم من حل المشاكل التي تواجههم كل يوم.

«المحبة لاَ تَحْتَدّ»: ولا تحنق على الغير ولا تسخط ولا تغتاظ على أحد. والحقيقة ان أدق اختبار يجوزه المؤمن هو اذا كان يستطيع السيطرة على طباعه.

«المحبة لاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ»: أي لا تتوهم ان الغير يريد الحاق الاذى بها: انها لا تحتفظ بالظنون السيئة التي تتجنى على الفضل وتنخر الثقة. وقد قيل ان من أعظم الفنون فن نسيان ما يجب نسيانه. المحبة لا تفرح بالاثم بل تفرح بالحق: الشيطان وأتباعه يفرحون بالاثم، أما محبو الله والقريب فيفرحون ويسرون بالحق وأصحابه. أهل المحبة يحزنزن اذا رأوا غيرهم يقعون في الشر ويصلون من أجل انها من الساقطين.

«المحبة تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ»: فتصبر على الأذى ولا تقاوم الشر بالشر بل تقاومه بالخير. المحبة تصدق كل شيء: تصدق كل شيء عن الناس حينما يعلنون التوبة والرجوع الى الله.

«المحبة تَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ»: ترجو كل خير للجميع وفي رجائها تحاول في هدوء إصلاح الأمور بدلاً من التشهير بها. المحبة تصبر على كل شيء: وفي صبرها تنتصر على الصعوبات وتخرج منها ممحصة كالذهب النقي.

«اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً»: لأن المحبة من الله، وهي دائمة بديمومة الله. قال أحد الأتقياء: المحبة اعظم من كل المواهب الروحية لمختصة بالحياة الحاضرة، لأنها مقترنة بالحياة الخالدة في السماء.

«أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّة» (1كورنثوس 13: 13).